الحديث في سيارة

كان «بو عمير» عندما وصل إلى السيارة قد وجد مفاجأة في انتظاره … لقد أفرغت الإطارات الأربعة من الهواء وأصبحت السيارة غير صالحة للسير … وعاد «بو عمير» مسرعًا والخمسة يقتربون من «أحمد» و«عثمان» وقد أشهروا خناجرَهم، وقبل أن يُشهر «بو عمير» مسدسه حدث الاشتباك، قفز «أحمد» في الهواء … وبضربتَين بارعتَين من قدمه سقط اثنان من المهاجمين بينما انطلقت كرة «عثمان» في ضربة داوية أصابت أحد الثلاثة الباقين … ثم وجَّه لكمةً لواحد من الاثنين، ونزل «أحمد» من قفزته على صخرة صغيرة، فأصيب بالتواء في قدمه ووقع على الأرض، وانقضَّ عليه الشاب الباقي، بينما وقف الثلاثة الذين أصيبوا، عدا الرابع الذي أصابته كرة «عثمان» فلم يقف بعدها.

أسرع «بو عمير» ينضم إلى الصراع الدائر … وكان في إمكان الشياطين الثلاثة أن يحسموا الصراع سريعًا، ولكن ما حدث لم يكن في الحسبان، أقبلت سيارة مسرعة أضاءت بأنوارها ميدان المعركة، ثم توقَّفت على مقربة، وفرقع صوت مدفع رشاش في يد رجل قال بصوت مُرتفِع: هذا يكفي يا «بوز»!

قال «بوز» ساخطًا: ما الذي جاء بك؟

رد الرجل: لقد اتَّصل شخص تليفونيًّا بأبيك وقال إنك ستُثير المتاعب هذه الليلة، وقد أمرني أن أُحضرَك فورًا.

توقف الصراع وقال «بوز» مُهدِّدًا: أنصحكم أن تُغادرُوا الجزيرة فورًا، إنني لن أترككم!

وانسحب الأربعة بعد أن حملُوا الخامس الذي أصابتْه كرة «عثمان» الجهنمية.

كانت إصابة «أحمد» تعوقُه عن الوقوف … فتمدَّد على الأرض مُمسكًا بقدمه الملتوية.

وقال «بو عمير»: لقد أفرغوا إطارات السيارة … ولن نتمكَّن من العودة بها. سأذهب إلى الكازينو وأبحث عن تاكسي.

أحمد: سنَنتظرُك. فلا تتأخر!

انصرف «بو عمير» وبقي «عثمان» بجوار «أحمد» بعد أن عثَر على كرته … قال «عثمان»: هل إصابتك خطيرة؟

أحمد: لا أعتقد … إنها مجرَّد التواء في مفصل القدم … سأَعرج يومًا أو يومَين ثم يعود كل شيء إلى حاله.

عثمان: آسفٌ جدًّا لإثارة هذه المتاعب.

أحمد: لقد كان هذا اﻟ «بوز» يستحقُّ هذه العلقة التي أعطيتَها له … ولولا رغبتي في قصر المعركة عند حد … لتركتُكَ تمسح به الأرض.

عثمان: كنتُ أتمنى أن أصيبه بكرة في رأسه … لينسى غروره إلى الأبد.

أحمد: لقد حطَّمتَ غروره أمام كل الناس، وقد لاحظتُ أنهم كانوا سعداء بما فعلت، ويبدو أنه مكروهٌ جدًّا في هذه الأنحاء.

سمعا صوت سيارة تَقترب، ثم توقفت أمامهما، ونزل «بو عمير»، وساعد «عثمان» «أحمد» على المشي حتى السيارة … كانت سيارة قديمة، يقودها سائق عجوز يضع في طرف فمه سيجارًا رفيعًا أسود.

وركب الثلاثة، وبدأت السيارة تقفز فوق الطريق كالإوزة العرجاء، ونظر «أحمد» إلى السائق، كانت تبدو على ملامحه الطيبة فقال له: هل تعرف المدعو «بوز» هذا؟

ردَّ الرجل وسيجاره يلعب في طرف فمه: كل مَن هنا يعرفه.

أحمد: ما هو معنى «بوز»؟

السائق: إنها كلمة تركية تعني الذئب.

عثمان: إنه اسمٌ ينطبق عليه!

السائق: من الأفضل على كل حالٍ أن تبتعدوا عنه … إن والده أغنى رجل في الجزيرة … وله أعوانٌ كثيرون … واعتمادًا على ثراء والده ونفوذه يقوم «بوز» بدور البلطجي … في الجزيرة كلها … وكل الناس يَتحاشَونه.

أحمد: وما هو عمل والده؟

تردَّد السائق قليلًا ثم قال: إنه يملك أسطولًا من سفن الصيد … ولكن ثروته لا تقف عند هذا الحد …

بو عمير: لقد هدَّدَنا بأنه سيطاردنا … هل يفعل ذلك؟

ابتسم السائق العجوز ثم قال: إنه لن ينسى لزميلكم الأسمر ما فعله به … فهذه أول مرة يتجرَّأ شخص على ضرب «بوز»!

أحمد: هل شاهدتَ المعركة؟

السائق: نعم … كنت أقف بجوار الباب وشاهدتُ كل شيء … إن زميلكما الأسمر غاية في القوة والمرونة … وسيكون غدًا حديث الجزيرة كلها.

قال «بو عمير» موجهًا إلى «عثمان»: لقد أصبحتَ بطلًا أيها الشيطان!

عثمان: إنني بطل رغم أنفه … فلستُ أحب المعارك مع أطفال … من أمثال هذا اﻟ «بوز»!

ومضت السيارة العجوز تشقُّ طريقها في اتجاه نيكوسيا العاصمة … وتفكَّر «أحمد» ما جاءوا من أجله فقال للسائق: هل تَعمل هنا منذ فترة طويلة؟

قال السائق العجوز: منذ أربعين سنة أو تزيد.

أحمد: لم تسمع مطلقًا عن شخص يُدعى «جوزيف سليم»؟

نظر السائق فترة طويلة ثم قال: لا أظنُّ أنه في الجزيرة من يُدعى بهذا الاسم.

عاد الصمت يلفُّ السيارة من جديد، ثم عاد «أحمد» يسأل: لقد كان هنا منذ فترة طويلة.

السائق: لا أذكر.

أحمد: لقد كان رسَّامًا … وقد رسم بعض اللوحات لقلعة كيرينيا …

عاد السائق إلى التذكُّر … ولم يَعُد هناك سوى صوت المحرِّك القديم وهو يُكركر في الصمت. وعدل السائق سيجاره في فمه ثم قال وهو يتنهَّد: إن عددًا كبيرًا من الفنانين يأتي إلى الجزيرة ولكنَّني لا أعرفهم.

أحسَّ «أحمد» بالضيق … فقد ضاعت ليلة في صراع لا معنى له … بل ربما كان حضورهم أصلًا إلى الجزيرة بلا جدوى … وبدأت أضواء العاصمة تبدو من بعيد والسيارة تمضي في طريقها بمشقة … حتى وصلوا إلى فندق «كارلتون»، حيث ينزل الشياطين، ثم نقدُوا السائق أجره وشكروه.

وقبل أن يُغادر «أحمد» السيارة مُتحاملًا على نفسه بسب مفصلِه المُلتوي، قال السائق العجوز فجأةً: هل من المهم جدًّا أن تعرفوا شيئًا عن هذا الرجل الذي تسألون عنه؟

قال «أحمد»: نعم … إنَّ هذا يُهمنا للغاية.

قال السائق: اسألوا «باتساليدس».

أحمد: من هو «باتساليدس»؟

السائق: كل الناس في الجزيرة تعرفه، إنه صديق كل الفنانين الذين يأتون إلى الجزيرة. وهو تاجر يَبيع ويَشتري كل شيء خاصةً الأشياء الجميلة، ومنزله قرب فندق «بنجاريا» أعلى قمة في قبرص.

أحمد: لماذا لا تأتي غدًا لاصطحابنا إليه؟

ابتسم الرجل العجوز، ونحَّى سيجاره لأول مرة جانبًا، ثم قال مشيرًا إلى سيارته: هذا الحصان العجوز لا يستطيع الوصول إلى قمَّة بنجاريا، إنكم تحتاجون إلى سيارة قوية.

شكر «أحمد» السائق، ووضع في يده بقشيشًا مُضاعفًا، ثم تساند على «عثمان» واتجه الشياطين الثلاثة إلى غرفتهم الواسعة … ولم يكد «أحمد» يستلقي على الفراش حتى ظهرت الفتيات الثلاث … وأسرعت «إلهام» إلى «أحمد» الذي كان واضحًا عليه الألم ولكنَّه ابتسم لها مُشجعًا وقال: لا شيء … مفصل مُلتوٍ فقط.

جاءت «زبيدة» بأدوات الإسعاف التي لا تَتركها، وسرعان ما كانت تدلك موضع الإصابة وتضع عليها شريطًا لاصقًا. في نفس الوقت الذي كان «أحمد» يقصُّ عليهنَّ فيه ما حدث في الساعات الخمس التي قضَوها في كيرينيا.

وقالت «هدى» مُبتسمة: قام «عثمان» إذن بدَور روميو.

أحمد: لا … لقد قام بدور درتانيان في الفرسان الثلاثة … فكان عاشقًا ومحاربًا وفارسًا يَجذب الانتباه.

وبعد فترة من الأحاديث المتبادلة … اتَّفق الشياطين أن يذهبوا في اليوم التالي للبحث عن «باتساليدس».

•••

وفي الصباح الباكر أسرع «بو عمير» إلى محل السيارات التي استأجروا منه السيارة الأوبل وأخطرهم بمكان السيارة في كيرينيا، ودفع مبلغًا إضافيًّا، وتسلَّم سيارةً قوية، من طراز بونتياك، وسرعان ما كانت تصعد بهم سلسلة الجبال إلى قمة بنجاريا حيث يقع منزل «بتساليدس»، ولم يجدوا كبير عناء في الوصول إليه … فكل الناس فعلًا في هذه المنطقة كانوا يعرفون التاجر الشهير.

وعندما توقفت البونتياك في هذه الساعة المبكرة من الصباح … عرَف الشياطين أنهم كانوا أول زبائن «باتساليدس» … فقد كان ثمَّة رجل يَجلس في ظل شجرة يُطالع في كتاب قديم … ولم يكد يسمع صوت وقوف السيارة حتى التفتَ ناحية الشياطين مبتسمًا.

قال «أحمد»: أعتقد أنه الرجل الذي جئنا من أجله.

ووقف الرجل العجوز ذو الشعر الأبيض مُبتسمًا … وتقدم منه الستة، و«أحمد» يعرج خفيفًا … وبعد أن تبادَلُوا التحية منه قال: هل تشربون شيئًا؟

قالت «إلهام»: شايًا إذا أمكن؟

رمقها الرجل بنظرة مُعجبة وقال: كل شيء مُمكن يا جميلتي … هل أنت من لبنان؟

ابتسمت «إلهام» مندهشة وقالت: كيف عرفت؟

رد «باتساليدس»: ليس هناك بلدٌ في هذا العالم خاصة في العالم العربي لم يرها «باتساليدس» … إن لي زبائن في كل الدنيا.

وصفَّق «بتساليدس» وظهرت سيدة عجوز ظريفة على باب المحلِّ الكبير الذي كان يشغل الدور الأرض من منزل التاجر وقال «باتساليدس» لها: شاي لسبعة لو سمحت.

واختفت العجوز والتفت «باتساليدس» إليهم فقال «أحمد»: لقد جئنا …

وقاطعه «باتساليدس» ضاحكًا: لن نتكلم في العمل الآن … سنشرب الشاي أولًا ثم ندخل المحل.

ودار حديث ضاحك بين التاجر الفنان، وبين الشياطين … وكان «أحمد» يقود الحديث بمهارة في اتجاه الهدف الذي حضروا من أجله … ودون أن يوضح ماذا يُريد بالضبط … وجاء الشاي مع بعض الشطائر الصغيرة اللذيذة … ثم آنَ الأوان لدخول المحل.

كان المحل واسعًا … تَحتشِد فيه آلاف الأشياء … لوحات … فساتين من طراز قديم … لعب أطفال من أنواع نادِرة … أطباق … سجاجيد … غلايين … سيوف … خناجر … مسدسات قديمة … وأخذ الشياطين ينظرون في كل اتجاه … وتسمرت عينا «زبيدة» عند لوحة اختفى جزء كبير منها خلف فستان من الحرير الأزرق … وانتهزت فرصة انشغال «باتساليدس» بالحديث مع «بو عمير» عن مسدس من طراز نادر … ثم أشارت إلى «أحمد» أن ينظر إلى اللوحة … ونظر «أحمد» إلى حيث أشارت «زبيدة» وأدرك أنها على حق … فلم يكن هناك شكٌّ أن الرسام الذي رسمها هو نفس الرسام الذي حملُوا لوحاته الخمس من الفيلَّا الأنيقة على شاطئ خلده في لبنان … كانت لوحة لمشهد طبيعي عن قبرص بريشة «جوزيف سليم» وهذا ما كان يبحث عنه الشياطين الستة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤