الفجر في ميناء بيروت

كان ميناء القراصنة مكونًا من ثلاث مساحات واسعة … الأول مياه البحر الممتدة أمامه … ثم سور طويل من الحجر يمتد من المدينة حتى يمرَّ أمام قلعة كيرينيا، ثم المدينة الصغيرة نفسها … وعندما وصل اليخت الكبير مقلًّا «يكن» ورجاله … والفتيات الثلاث … كان الظلام يُغطي الميناء إلا بعض الأنوار المُتناثِرة هنا وهناك، ووقف اليخت بجوار السور الذي يفصل البحر عن الميناء الهادي.

وسرعان ما كان رجال «يكن» يقتادون «إلهام» و«زبيدة» و«هدى» فوق السور الحجري … وفُتح باب في جانب القلعة … واختفى الجميع داخله …

كانت مفاجأةً ما شاهدَتْه الفتيات الثلاث داخل القلعة … كانت الغرفة الحجرية الضخمة مفروشة بأفخر الأثاث … وعلى جدرانها القديمة عُلِّقت أثمن اللوحات … ولاحظت «إلهام» على الفور أن بين اللوحات أكثر من لوحة بريشة «جوزيف سليم» …

وأشار «يكن» إلى الفتيات فجلسْنَ، وقال: سيذهب رجالي الآن للبحث عن «هانز» ورجاله، فإذا ثبت صحة ما سمعتُه منكنَّ … فسوف أُعطيكنَّ مكافأةً سخية، وستَعُدن إلى بيروت على طائرة الصباح.

وما كاد «يكن» يُغادر الغرفة، حتى أسرعت الفتيات الثلاث لفحصِ المكان … لقد عرفْنَ أن ما قالته «إلهام» لم يَكُن صحيحًا كله … وسوف يتمكَّن رجال «يكن» خلال ساعات قليلة من اكتشاف الحقيقة … وساعتها سوف يكون حسابهنَّ عسيرًا.

كانت الساعات القليلة القادمة هي فرصتهنَّ الوحيدة … في غياب أكثر رجال «يكن» وقبل اكتشاف الحقيقة … وأخذت كل واحدة منهنَّ جزءًا من الصالة الكبيرة التي يجلسن فيها … وسرعان ما قالت «هدى» هامسة: خلف هذه السجادة الفخمة المعلَّقة على الحائط باب سرِّي!

وأسرعت «هدى» و«زبيدة»، وبأصابع مدرَّبة أخذت «إلهام» تجسُّ الحائط … وتقيس أبعاده. ثم قالت: هذا صحيح … المهم من أين يُفتح؟

دارت الفتيات الثلاث بعيونهنَّ في الصالة الواسعة … وأخذت كلٌّ منهن تجسُّ بيديها النتوءات الموجودة في الحائط … وتُحاول إدارتها … ولكن الباب ظل مغلقًا … وفجأة وقع بصر «زبيدة» على تمثال قريب من الباب السرِّي … كان التمثال لقرصانٍ أعورَ قد أشهر في يده خنجرًا وهو يقفز إلى الأمام … وأسرعت «زبيدة» إلى التمثال وأخذت تتحسَّس أجزاءه بيدَيها … ولاحظت أن رأس التمثال مقسوم إلى نصفين … وإن اختفى ذلك تحت طاقية القرصان النحاسية … وأدارت «زبيدة» الجزء الأعلى من رأس التمثال … ودقَّ قلبها سريعًا عندما دار الرأس معها … ونزعت الجزء الأعلى ثم مدت يدها داخل الرأس، ووجدت مفتاحًا يُشبه الصليب وأدارت المفتاح وهي تنظر إلى الحائط … ودار الباب السري ودارت معه السجادة الفخمة …

أعادت «زبيدة» الجزء الأعلى من الرأس مكانه ثم أسرعت الفتيات يجتزْنَ الباب، وأغلقنَه خلفهنَّ …

كان أمامهنَّ سرداب مُظلِم … ولكن ضوءًا خفيفًا كان يأتي من نهايته بدَّد بعض الظلمة خاصةً بعد أن اعتادَت أعينهن على الظلام.

•••

وفي هذه الأثناء … كانت ثلاثة أشباح سريعة الخطو تَجري فوق سور القلعة العلوي ولم تكن الأشباح الثلاثة سوى «عثمان» و«أحمد» و«بو عمير». وكان الشياطين الثلاثة قد انتظروا عودة الفتيات طول النهار … وعندما لم يَعُدن فقد تحرَّك الثلاثة من نيكوسيا إلى كيرينيا وعرفوا من الصيادين أن الفتيات الثلاث خرجْنَ في نزهة مع «بوز» في يخته … وجلسُوا خلف صخرة يرقبون البحر حتى عاد اليخت، وشاهَدُوا الفتيات وهنَّ يدخُلن القلعة تحت الحراسة المشددة، ثم خروج سبعة من رجال «يكن» مُسرعين.

لم يكن الشياطين الثلاثة يعرفون ما حدث في البحر ولا تطوُّرات الأحداث وما قالته «إلهام» ﻟ «يكن» … كل ما كان يُهمُّهم الآن هو تخليص الفتيات من قلعة القراصنة … وانتظروا فترة بعد دخول الفتيات وخروج الرجال السبعة، ثم تسلَّقوا سور القلعة وبدءوا يَجرُون فوق السور، ثم وقفوا فجأةً وشاهدوا منظرًا غريبًا.

كان تحتهم مباشرةً صالة مكشوفة … وكان «بوز» يقف في طرف منها مُمسكًا مدفعًا سريع الطلقات … وكانت الفتيات الثلاثة يَقعن في الطرف الآخر للصالة … وكان «بوز» يضحك بشراسة قائلًا: إنَّ «يكن» الآن مشغول بفرنكاته الذهبية ولن يُنقذكنَّ مني أحد.

قالت «إلهام»: ولكن يا «بوز» … إنَّ والدك فهمَ كل شيء … إننا نبحث عن صديق لنا يُدعى «كريم»!

بوز: إنني لا أصدق حرفًا مما قلتِه لأبي … وسوف يعود الرجال الآن بالحقيقة!

إلهام: وماذا تُريد منا؟!

ضحك «بوز» بوحشية وقال: ستَعرفين فورًا ما أريد!

وأشار «بوز» بيدَيه فتقدم رجل لم يَكُن ظاهرًا، وأمسك بالمدفع، بينما تقدم «بوز» من «زبيدة» وقال: ألم يكن عيبًا يا آنسة أن تَستظهري قوَّتك أمام أبي؟! لقد آنَ الأوان لأريك من هو «بوز»!

وتقدم «بوز» من «زبيدة» … وفي هذه اللحظة انطلقت كرة «عثمان» الجهنمية في خط مستقيم وأصابت الرجل الذي يَحمل المدفع … وفي نفس اللحظة أيضًا قفز «بو عمير» قفزة هائلة، وسقط فوق «بوز»، وظهر رجلٌ ثانٍ مُمسكًا بمسدس ضخم … ولكن «إلهام» كانت قد انطلقت هي الأخرى كالصاروخ … وضربتْه بقدمها الطائرة … ثم التحمَت معه … وتحوَّلت الصالة الحجرية إلى أجساد متشابكة بعد أن قفز «أحمد» و«عثمان»، وانضم عدد من رجال «بوز» إليه في الصراع.

كانت اللَّكمات تَهوي كالمطارق والأنَّات تَرتفِع … والشياطين الستة يستعرضون فنون قتالهم، وفجأةً وجد «عثمان» نفسه أمام «بوز»، وقال له بصوت مَرِح: حاوِلْ أن تُدافع عن نفسك يا فتى!

واندفع «بوز» كالثور الهائج في اتجاه «عثمان»، وعاجَلَه «عثمان» بضربة قوية على رأسه، ولكن «بوز» لم يسقط، بل التحَمَ ﺑ «عثمان»، كان قويًّا فأطبق بيدَيه على رقبة «عثمان» ولكن «عثمان» بكل ما يملك من قوة، ضربه في بطنه ضربةً مُوجِعة بيده اليمنى، بينما كانت يده اليسرى تدقُّ رقبة «بوز» بلكمة أطارت الهواء من حنجرته ثم انحنى «عثمان» وحمَلَه … ودار به عدة دورات ثم قذَفَه بجوار الحائط فسقط وقد تراخى جسده مثل قطعة قديمة من القماش.

انتهت المعركة الصاخبة دون أن يصدر عنها ما يلفت الأنظار … ووقف الشياطين الستة يُصلحون ثيابهم، وحملوا ما استطاعوا من أسلحة … ثم اجتازوا دهليزًا واسعًا مُضاءً ومضوا فيه … وفي نهايته شاهَدُوا منظرًا لا يُنسى … كان ثمة رجل يربط بعض الصناديق الحديدية ويُدلِّيها من فتحة في الماء الذي كان يتلاطم تحت القلعة. وهمست «زبيدة»: إنه «يكن» والد «بوز»!

رد «أحمد» في همس: وهذه هي الفرنكات الذهبية التي دار حولها الصراع الدامي!

زبيدة: هل «يكن» هو …

قال «أحمد»: بالتأكيد إنه الرجل الثالث … وبالتأكيد أيضًا ليس اسمه «يكن». إنه ألمانيٌّ ومِن الواضح أنه استطاع أن يَخدع زميلَيه اللذَين كانا يَعرفان سرَّ الكنز … البحَّار الذي مات في بوسطن … و«جوزيف سليم» الذي مات في عدن … لقد استطاع «يكن» بواسطة أعوانِه أن يَستخرِج الكنز من مكانه … وأن يَحتفظ به لنفسه.

وقف الشياطين صامتين حتى انتهى الرجل من ربط الصناديق، ثم أغلق الباب الحجري عليها. ورفع رأسه وقد بلَّل العرق وجهه … وشاهد الشياطين الستة يقفون أمامه، وقد امتدت ناحيته فوهات المسدسات والمدافع السريعة الطلقات.

بدَتْ في عينَي الرجل نظرة وحشية غادِرة … وبدأ ينظر حوله. ورأى «أحمد» في نظرته ما ينبئ أنه ينوي شيئًا … وكان يعرف أن هذه القلاع القديمة مليئة بالفخاخ … وليس من المستبعَد أن يتمكَّن الرجل بحركة واحدة أن يُغلق عليهم بابًا أو يُسقطهم في البحر.

قال «أحمد» محذرًا: لا داعي يا سيدي لأن تتصرَّف بحماقة!

ثم التفت إلى الشياطين وقال: تفرَّقوا حوله … لا تقفوا جميعًا في مكان واحد.

ثم عاد «أحمد» يقول: إننا نعرف كل شيء عنك، وعن كنز الفرنكات الذهبية الذي كان في الغواصة … لقد مات اثنان ممَّن يعرفون السر … وبقيتَ أنت وحدك بعد أن خدعتهما وحصلت على الكنز وحدك … ولعلك كنت تَدفع ﻟ «جوزيف سليم» بعض المال ليعيش حياة هادئةً ليرسم وينسى الكنز …

قال «يكن»: اسمعوا … ما زال عندي ما يكفي لكي أدفع لكم ما يكفيكم جميعًا مدى الحياة … كونوا عقلاء … فلن يَستفيد أحد من كشف هذا السر.

أحمد: فكرة طيبة يا سيدي … ولكننا نعمل من أجل العدالة … وليس من أجل النقود!

يكن: إنها حماقة!

أحمد: ولكنها الحماقة الوحيدة المعقولة في هذا العالم!

ثم التفت «أحمد» إلى الشياطين وقال: قيِّدوه … وأخرجوا الصناديق!

إلهام: ماذا ستفعل؟

أحمد: سنأخذه والكنز في اليخت الكبير إلى بيروت.

إلهام: ولكن رجال «يكن» قد يعودون في أي لحظة … لقد ذهبوا للقضاء على عصابة هانز.

أحمد: سوف يستغرق ذلك بعض الوقت، وسنكون قد رحلنا!

•••

بعد نصف ساعة كان اليخت الكبير يشقُّ عباب الماء مسرعًا مبتعدًا عن قبرص، يحمل الشياطين الستة … وصناديق الكنز المملوءة بالفرنكات الذهبية … والرجل الثالث …

وقالت «إلهام» وهي تقف بجوار «أحمد»: هناك سرٌّ لم نَكشِفْه حتى الآن.

أحمد: ما هو؟

إلهام: زوجة «جوزيف» … أين ذهبت؟

أحمد: من يدري؟! ربما عادت إلى وطنها ألمانيا … وعلى كل حالٍ لعل رقم «صفر» قد حصل على معلومات عنها … وسنَعرف ذلك عندما نصل إلى المقر …

•••

وعندما كان الفجر ينتشر فوق بيروت … كان اليخت الكبير يقترب من الميناء الهادئ … وكانت «إلهام» تنام على كتف «أحمد» وهو جالس في مقدمة اليخت ينظر إلى الأفق الذي انتشر اللون الأحمر في جنباته معلنًا عن مقدم يوم جديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤