نبوخذنصر

حُكِيَ أن نبوخذنصر ملك بابل كان ذات يوم يتمشى في جنينة القصر وعدوُّه الأكبر ذلك الذي يدعى في لغات الناس الغضب، فالغضب ونبوخذنصر وحدهما وطِئَا تلك الليلة ثرى البستان. مثِّلْ لنفسك الملك العابس في بستانه الضاحك وقل لي فيما إذا كان مشهد الأضداد لا يثير الشجون. هاك نبوخذنصر بين السنط والنخيل ساكنًا متبسلًا، بل قلقًا مضطربًا يحسب نفحات الورد نارًا ونسمات الليل إعصارًا. إن كل شيء في السماء ساكن باهر جميل، وإن كل شيء على الأرض — في قلب الملك — مظلم مضطرب.

والسبب في ذلك قصة — سأقصها عليك — حدثت في بابل قبل الميلاد بنحو سبعمائة سنة.

خرج نبوخذنصر ذات يوم إلى الصيد، فركب كعادته قاربًا فخمًا على شاطئ نهر الفرات تصحبه حاشيته وكلابه، وبعد قليل بينما كان القارب يمخر مياه ذلك النهر المجيد قديمًا، الحقير اليوم، رأى الملك أسدًا مضطجعًا على الشاطئ بين القصب، فأمر الصيادين بأن يرسلوا عليه الكلاب، فأفلتت من سلاسلها فسبحت إلى البر إلى عرين الأسد. وكانت وقعة بين هذه الكلاب وملك الغاب، ثم رأى الملك الفريسة تجر في النهر إلى القارب الملكي، جرتها الكلاب المنتصرة وقد تركت وراءها أثرًا من الدم، وإذا أجيزت لنا المبالغة نقول: استحالت المياه دمًا من جروح الأسد المأسور، وإذا أذن الشعراء نقول: قد تكوَّن من دم الأسد بين الأمواج الزرقاء بحيرات من الياقوت المذاب.

كل هذا جميل، وكل هذا يسر الملك في غير هذا اليوم، أما اليوم فلا شيء في العالم يبدد غيمة الغضب التي تعلو جبينه، لا شيء في العالم يعيد إلى صدره الراحة والسكينة.

إن شيئًا صغيرًا أغضب نبوخذنصر، وقلَّما تغضب الكبائر الملوك، أما إذا غضب نبوخذنصر فليغضب لغضبه الوزراء وتضطرب الأمة … اللهم عونك، اللهم سترك، أزل اللهم هواجس مليكنا وهمومه، واصرف عنا وعنه شر عواقبها. تشاور الوزراء وابتهلت الأمة.

أما نبوخذنصر فلما عاد ذاك اليوم من الصيد دخل غرفته الخصوصية هو وعدوه الغضوب، ورمى بنفسه على مضطجع فخم مفروش بالطنافس الهندية، والجلود المرقطة، وحشايا الريش والحرير.

وبعد هنيهة جاء الخدم بالطعام، فحاولوا فتح شهوته بلذيذ الألوان وأنواعها وقد وضعت في أطباق من الفضة على مائدة كبيرة من الرخام.

وها قد جاءوا بالتين والعنب والليمون وبضروب من الحلوى، يعقبهم الساقي بمسك الختام؛ بخمر أرمني معتق لا ند له في غير قصر الملك.

جلس نبوخذنصر إلى المائدة والنفس منه في هواجس تضيع عندها الشهوة للطعام، نظر إلى المائدة نظرة الاشمئزاز، ثم رمق الخمر بنظرة العطف والولاء، فأكل قليلًا وشرب كثيرًا ثم انطرح على ديوان النشوة تحت ستار الرقاد.

فهل يا ترى ينقذه النوم من براثن الهواجس والغضب؟ هلا تشمله وهو نائم تلك السكينة التي تشمل أحقر النيام من العباد؟

خذ الجواب من الخدم والعبيد، اسمعهم وهم يتكلمون: لا راحة له في اليقظة ولا في المنام، هو ذا في عالم الأحلام يجهش ويئن، إنها لأحلام مخيفة، تراه يئن منها ويصيح، تراه يرغي ويزبد كأنه على العرش.

نعم، إن نبوخذنصر لفي عالم الأحلام، وما حلمه ظاهرًا بأمر خطير، هو يحلم بشاب فلاح ذبح الفتاة التي أحبها، ذبحها لينقذها من ثالث غير كريم؛ هو يحلم ببالادان الذي ذبح معشوقته زبيبة لينقذها من الملك نبوخذنصر الذي أمر بأن تكون من نساء القصر، وبعث بخصيانه ليجيئوا بها إليه.

ولما أفاق نبوخذنصر من رقاده كانت الشمس قد مالت إلى المغيب، وأذيالها تفيض على الأفق نورًا ذهبيًّا يوشي الضباب اللازوردي، ويحيط بالاثنين هنا وهناك خطوط حمراء من النار، فنهض من مضجعه وصعد على أجنحة هواجسه إلى شرفة عالية يطل منها على المدينة؛ على بابل العظيمة وما فيها من القصور الشاهقة، والمعابد الفخمة، والجنائن المعلقة، ومن التماثيل والجسور والأبراج.

أطل نبوخذنصر على بابل — على بابله — وهتف قائلًا: ومن يتجاسر أن يغيظ سيدك الأكبر؟

ثم طوق الشرفة بنظرة من نظراته الملتهبة، فشاهد هناك الورد والياسمين والفل والمنثور نامية زاهرة في أفخر الآنية وأجملها، فتنشق من روائحها المنعشة، ولكنه لم ينتعش، ثم نظر إلى السماء فتجلى له البدر من وراء غيمة فضية الحواشي، فأنار الأرض وما فيها، وما أنار وجه الملك!

وكان بالقرب من هذه الشرفة قاعة كبيرة معدة للرقص والطرب تجيء الغيد بإشارة من الملك فيرقصن فيها رافلات بأثواب مهلهلة، ويضربن على الأعواد والطنابير فيحولن القصر إلى جنة لم يحلم بها غير نبي واحد من الأنبياء.

ولكن قلب الملك ذي الليلة في عالم لا يعرف النور والسرور، ولا محل فيه لبابل ولقيان بابل ولجنائن وعرصات بابل، لا محل فيه للقمر ولا مكان فيه لزهرة من الياسمين.

هاكه في شرفته يحترق من غيظه كأنه يقول متسائلًا: «متى ينتهي العالم الذي وجدت فيه مكدرًا؟»

وقف يتأمل قباب الهياكل القائمة على أكتاف الثيران، ثم الخنادق والخلجان التي يبدو ماؤها كالفضة في ضوء القمر. وما الفائدة وما الخير في عمل لا ينسيه ما هو فيه؟ خيال يمر أمام عينيه فيود لو كانت حقيقته بين يديه، وما رآها غير مرة فجاشت وما زالت تجيش في صدره الشهوات.

جدف نبوخذنصر وأقسم بأرباب آشور كلها.

– أتموت هذه الفتاة هربًا من شرف يغشيها؟ أيقتلها حبيبها لأني اشتهيتُها؟ ونمرود العظيم!

طرق إذ ذاك أذنه وقع أقدام قريبة. ومَن يتجاسر أن يقرب من الملك في هذه الساعة غير رئيس الوزراء؟

هو الوزير الأكبر جاء يكلم مولاه في أمر عرفت أهميته من اهتمام الملك له، ولكن بعد أن تكلم الوزير ازداد نبوخذنصر غضبًا فقطب حاجبيه، ولمع البرق في ناظريه، وصرخ قائلًا: أيحتقرني هذا العبد الخسيس؟ أيتجاسر أن يغار على الفتاة التي أحبها قلبي؟ ألا تعلم، أيها الوزير، بأن هذا الشقي أراد أن يفهمني بأن استحساني جمال زبيبة هو عار عليها؟ فكيف إذن تطلب مني أن آمر بقتله؟ أف عليك يا تفلاط. في الأمس ارتجفت يد أحد الخصيان وهو يضع على رأسي التاج، فلو أمرت بقتله لكان في ذلك شيء من العدل، أما هذا الانتقام الذي ينتهي سريعًا بالموت فأي عدل فيه؟ أتريد أن أريح العبد من حياته المؤلمة؟ إنك يا تفلاط لشفوق رحيم!

كان تفلاط عالمًا بأن بالادان في السجن ينتظر الموت، وكان عالمًا بما لغضب نبوخذنصر من مثل هذه العواقب، فعجب أن الشاب الفلاح لا يزال حيًّا، ولكنه بعد أن سمع كلام الملك أدرك السبب؛ فزال العجب.

– أنت يا تفلاط داهية في السياسة، ولكنك راسخ أيضًا في علمي العقاقير والسموم، فهات إذن طريقة جديدة ننتقم بها من هذا الشقي.

– طريقة جديدة؟

– نعم يا تفلاط، أنت تعرف أنواع سموم الهند والحبشة ومادى وغيرها من البلدان، وأنا أريدها لغرض الآن، فإن موت هذا الشاب موتًا بسيطًا لا يعجبني، لا يعجبني قطعًا، هو لا يخشى الموت؛ فقد كان شجاعًا جسورًا في قتل معشوقته، وهو يظهر الآن شجاعة تذكر في احتماله لوعة الفراق الأبدي، فماذا يهمه بعد ذلك الموت؟ لا أسألك أن تعذبه عذابًا جسديًّا، فهو ولا شك يحتمل أشد العذابات، ناهيك بأن العذاب الجسدي لا يقضي به إلا على المجرم الأثيم، وبالادان هذا هو أكبر من الأثيم المجرم؛ فقد جدف على آلهة آشور في تمرده على مولاه ومليكه، إذن يجب أن يكون بين الذنب والقصاص نسبة في الهول والفظاعة.

فخضع الوزير قائلًا: أمرك يا مولاي، سأباشر العمل إن شاءت الآلهة.

وفي اليوم التالي حل بالادان من قيوده، وجيء به إلى مجلس الملك، فدهش الشاب لوجوده في حضرة نبوخذنصر ملك بابل وآشور؛ لوجوده حرًّا. كيف لا وقد جاء ليسمع الحكم بالموت، فسمع بدله الأمر بالحياة، سمع نبوخذنصر يخاطبه قائلًا: أنت حر يا بالادان.

فبأي دهشة تلقى بالادان هاتين الكلمتين؟! إنه ليصعب علينا الحكم فيما إذا كان حزنه على معشوقته أعظم من دهشته هذه، وفيما إذا كان الذنب الذي اقترفه أعظم من حزنه!

وبعد أن قال الملك لبالادان: أنت حر، وهبه قصرًا يسكن فيه، وأعطاه من الملابس أفخرها، ومنحه لقبًا عاليًا، ثم جعله من المقربين.

– إني يا بالادان أُكبِرُ الشجاعة وأُجلُّ الإخلاص، وقد أظهرت في حبك لزبيبة منتهى الفضيلتين، فاخدم مولاك بما أحببت معشوقتك.

ثم قال: ستتناول الطعام معي هذا المساء، وستجلس إلى يميني، وسيقدم لك وزيري تفلاط الخمر بيده؛ وذلك مني جزاء وفائك ومروءتك.

ومع أن هذا التعطف الملكي الكبير أثار في قلوب الوزراء البغض لبالادان والحسد منه، فقد تكهنوا في غرض الملك الخفي، وقالوا بين بعضهم: «سيسمه ولا شك، وقد تفاوض وتفلاط في هذا الأمر … نعم، نعم سيكون لغضب مليكنا نهاية مخيفة مرعبة؛ لننظر ولنصبر.»

وكان الوزراء من الصابرين، ولكنهم سُقِط في أيديهم، فلا تمَّت النبوءة ولا تحققت الآمال.

جلس بالادان تلك الليلة إلى المائدة الملكية فأكل وشرب وقام سالمًا، بل هناك ما هو أعجب من ذلك، فقد قررت الإنعامات عليه فأصبح في اليسير من الأيام نديم نبوخذنصر ورفيقه المحبوب. قلت: إن هذا الشاب كان فلاحًا حقيرًا، وقد كان كذلك يتيمًا فقيرًا، فتبناه أحد علماء آشور ولقنه مبادئ العلوم، وهذبه في الفضائل المدنية، فصار في مقدمة أولئك الذين يتذوقون الآداب ويتأنقون في أسباب العيش.

وكان الملك بعد أن يعود من الصيد يجلس كعادته على المضجع المفروش بالطنافس الهندية وجلود الأنمار، ويطلب إلى بالادان أن يقرأ على مسمعه أشعار الأولين، فقرأ عليه ذات يوم قصيدة لشاعر آشوري يمدح فيها الملك أزوبار، الصياد العظيم، الذي فقد في آخر أيامه صديقه الحميم هياني، وفيها يصف الشاعر شدة تأثر الملك ويقول: إنه كان يصلي إلى الآلهة، ويبتهل ويضرع على الدوام من أجل صديقه، فاستجابت الآلهة طلبته، وأجارت نفس الحكيم من النار.

وبينما هو يقرأ ذات يوم على عادته ونبوخذنصر يسمع مصغيًا، ضعف صوته ثم انقطع دفعة واحدة، فنظر إلى الملك نظرة العظيم الحائر وقد اصفر وجهه وذهب النور من ناظريه. فسأله الملك قائلًا: «لماذا لا تكمل القراءة؟» فأجاب بالادان مرتجفًا لا متكلمًا، وقد حاول التكلم ثانية فكان صوته يصل إلى حنجرته ويموت هناك.

دعا الملك إذ ذاك وزيره تفلاط فحضر في الحال، وتبادل الاثنان نظرة فيها علم وفيها ارتياح، ثم قال الملك لبالادان: إنه محزون جدًّا لما أصيب به، وإنه سيبحث عمَّا فيه الشفاء.

وكان الخدم يروِّحون لبالادان وهو مضطجع على الحشايا الدمقسية وبينها، فسأل أحدَهم أن يجيئه بأدوات الكتابة، فأخذ القلم وكتب على الورق: لا تحزن أيها الملك العظيم على الحقيرينَ مثلي؛ أنا لا أخشى الموت ولا أخشى الحياة، قد قتلت خطيبتي خوفًا من ظلمك، وقد كنت أيها الملك العظيم جميلًا في حلمك فغفرت ذنبي، فلا تحزن إذن عليَّ، بل عجل بالموت إذا كنت حقًّا ممن يرحمون.

وبعد هنيهة عادت إلى بالادان قواه فنهض عن المضجع مستبشرًا، وطفق يتمشى في القاعة، أما الملك فبعد أن قرأ مبتسمًا ما كتبه بالادان خاطب الوزير قائلًا: لقد أحسنت؛ فإن الشاب لا يخشى الموت ولا يخشى الحياة، فاقتلْ فيه الحواس، هذا الذي يسرني؛ لنروِّعه إذا كان لا يُروِّعه الموت. وماذا يجيء بعد الخرس؟ العمى؟ …

– العمى يا مولاي، إن شاءت الآلهة.

– الآلهة يا تفلاط؟ وما دخل الآلهة في تركيباتك الكيماوية الخفية؟

– إن للآلهة يا مولاي العلم والقوة كل القوة.

هز الملك رأسه مرتابًا فيما قاله الوزير، ولكنه بعد أن أطرق قال: «إنك مصيب يا تفلاط، ومتى يجيء العمى؟»

– غدًا أو بعد غد بإذن الآلهة.

– سأترقب قدومه، ومتى أمسى الشاب أبكم أعمى أُعلِمه بقصاصي وأعيده إلى السجن ليقضي هناك بقية أيامه؛ ليعش هذا الخسيس في ظلمات السجن وظلمات الحياة، ليعش هنالك طويلًا فيتأمل ويتألم، كذلك يكون قصاص مَن يهينون بمثل إهانته سيد بابل وآشور.

خضع الوزير بين يدي الملك فلم ير ما غشى وجهه من أمارات الخوف والارتياب. وفي صباح اليوم التالي قبل أن ورد الفجر الآفاق كان نبوخذنصر يتمشى في رواق القصر، فجاءه أحد العبيد يقول: «أيها الملك العظيم، قد أصيب بالادان بالعمى.»

– وأي متى كان ذلك؟

– قبل انبثاق الفجر يا مولاي غشاه العمى بغتة كما تغشى زوبعة الرمل عابر الصحراء!

– عوفيت يا تفلاط عوفيت!

قال ذلك ومشى توًّا إلى منزل بالادان، فرآه جالسًا على كرسي محني الرأس، مشحوب اللون، والعبيد واقفون حوله وبين يديه، فأمرهم الملك أن ينقلوه إلى المضجع وينصرفوا، فامتثلوا الأمر، فتقدم إذ ذاك إلى الشاب الضرير الأبكم وكلَّمه قائلًا: اعلم يا بالادان أني لم أعفُ عنك قط، قلت لي: إنك لا تخشى الموت، وأما الآن وقد سلبت النور والكلام، أفلا تخشى الحياة؟ هذا هو قصاصي وعدلي، بل هذا هو حلمي، وستبقى حيًّا في ظلمات السجن إلى ما شاءت الآلهة. إن نبوخذنصر لا يعارض بما سيكون بعد اليوم من أمرك.

بعد أن فاه بهذه الكلمات، وبدت على وجهه أمارات الفوز، وقف هنيهة ليرى ما يكون من تأثيرها في الشاب، وقف ينظر إلى الوجه الذي وجه إليه كلامه؛ فإذا هو هادئ ساكن جامد لا يغشاه شيء من الغم، ولا يحركه شيء من الجزع! فخطر للملك إذ ذاك أن يناديه باسمه، فراح نداؤه سدًى، ناداه ثانيًا وثالثًا فكأنه ينادي شخصًا من الرخام، فدنا الملك منه وجثا عند رأسه وصرخ في أذنه كمن يصرخ في وادٍ مناديًا رفيقًا تاه فيه، فما حرك بالادان شفتيه بكلمة أو بإشارة.

نبوخذنصر سيد بابل وآشور يخرُّ راكعًا أمام هذا العبد المجرم ليسمعه كلمات فيها وحدها القصاص الأكبر، نبوخذنصر ينادي بالادان وقد جثا أمامه ليسمعه الصوت الذي همسه في أذن الآلهة، وليريه القلب الذي حجبته أفانين الانتقام. أوَترتاب بقوة الآلهة أيها الملك العظيم؟ إن الآلهة — على ما يظهر — أعظم منك وأطغى، وإن لهم على ما يظهر يدًا عاملة قاهرة في سموم تفلاط الغربية.

أجل، أيها الملك العظيم، إن بالادان الآن أرفع منك لأنه تجرد عن الحواس التي تقيد النفس وتعذبها، إنه بعيد عن صدى صوتك، بعيد عن هول غضبك، بعيد عن ظلمات سجنك، بعيد حتى عن اليد التي ترتجف حول معصمه، الطمه بدل أن تجس النبض منه، كلمه بيدك أو بسيفك، وهو مع ذلك لا يجاوب، لا يتنازل أن يجاوب سيد بابل وآشور، هو سعيد لأنه لا يراك ولا يسمع صوتك ولا يستطيع أن يخاطبك!

بعد أن جس الملك نبض بالادان وتأكد أنه حي تعاظمت حيرته، وتفاقم وجده، فبعث يطلب وزيره الأكبر، فجاء تفلاط متأبطًا ظنونه ومخاوفه وكأنه أدرك ما قد يكون لسمومه من أوابد التأثير، وما قد يجيء في تركيباته الخفية من النكبات غير المقصودة.

وقف تفلاط أمام نبوخذنصر مشتت الفكر، مضطرب البال، وعندما دنا من بالادان كلمه متجاهلًا حقيقة الأمر الذي كان يتوقعه ويخشاه، ثم خاطب الملك قائلًا: أيها الملك العظيم قد عصتني سمومي، وقد يكون للآلهة يد في ذلك العصيان، فتغيرت نتائج تركيباتي الخفية، أو أنها تجاوزت الحد الذي كنت أرمي إليه. أي مولاي، إن السموم التي أعطيتها هذا الشاب لتقتل فيه حاسة النظر سَرَتْ في العروق المجاورة وقتلت فيه كذلك حاسة السمع، سرت بالرغم عن علمي الواسع في ماهية ما أعطيت، وبالرغم عن الاحتياطات التي اتخذتها، وبالرغم عن العقاقير المضادة، وأخشى أن تكون سرت في عروقه كلها فتميته موتًا متدرجًا هادئًا دون أن يشعر بشيء يذكر من العذاب.

صعق الملك، وبعد هنيهة خاطب الوزير قائلًا: هل سمعتك تقول: إن بالادان سيموت موتًا هادئًا خاليًا من العذاب؟ أهذا الذي طلبته منك؟ أهذه هي مقدرتك في مزج السموك وتركيبها؟ أهذا هو علمك في أنواعها وخاصياتها؟ يموت هذا العبد الصعلوك دون أن يشعر بشيء من الألم ويموت معه في نفس الساعة عدلي وانتقامي؟ مَن ذا الذي يعارض مشيئة نبوخذنصر؟ من ذا الذي حرك يدك حينما كنت تمزج سمومك الغريبة؟ من ذا الذي مزج معها خمرة الموت الهادئ؟ من ذا الذي يتجاسر … من هو؟ من هو؟ … تموت زبيبة لتنجو من غرامي، ويموت بالادان فينجو من انتقامي، وأنا نبوخذنصر الملك أتحرق في غضبي، وأشتعل في هيامي؟! لا والآلهة، فإما أنك خائن، وإما أنك جاهل، وفي كلتا الحالتين إنك لأثيم.

– بحلمك أيها الملك العظيم، لك أن تقول ما شئت عن ضعف وزيرك وجهله، أما الخيانة — آه يا مولاي! — أتظن أن عبدك يدنس بالخيانة حياته؟ أيشوب بالخيانة شيبه؟ أيبيع ماضيه الباهر الطاهر لفلاح حقير مجرم؟ إني أعترف أمامك وأمام الآلهة بجهلي. نعم، إن جهلي أكثر جدًّا من علمي، وإن في الطبيعة أسرارًا لا يدركها غير الآلهة. كان يخامرني في الماضي شيء من الريب بجهلي، وأما الآن فلا أرتاب إلا بعلمي. نعم، إن للآلهة وحدها كل القوة، وكل المجد، وكل العلم، ويظهر يا مولاي أن نواميس الكون لا تخدم مشيئة الملوك، فها إني أحاول خدمة هواك فترتجف فوق السموم يدي، فهل أنا الملوم؟ إذا أغمضت الآلهة جفن الفيلسوف وأغلقت دونه أسرار نواميسها، أفيعد الفيلسوف مجرمًا، وهل يقاصُّ على ما يظن ويفترض توصلًا إلى غرضه الذي هو غرض مليكه؟ خفف عنك يا مولاي، ووطد بالآلهة إيمانك، فلعل خلاصي وخلاصك في موت هذا المسكين على هذه الحال.

– كفى، كفى. إليك عني أيها الخبيث! إليك عني واعلم أني آذن لك بخمسة أيام لتخرج من بابل؛ فإذا لم تخرج قبل انبثاق الفجر في اليوم السادس تظل أسيرًا فيها بقية حياتك.

– لا بأس بذلك يا مولاي، فالآلهة تدخل حتى قلوب الملوك في بعض الأحايين، فتسكن الغضب فيها، وتنير ظلمات الانتقام بأنوار الندامة، بيد أنه إذا طلبتني بعد أن تشعل الأنوار، أيها الملك العظيم، فلا تجدني.

قال هذا وخرج مسرعًا، أما نبوخذنصر فظل يمشي في القاعة مطرقًا، ثم وقف فجأة متنبهًا كأنه أوحي إليه بشيء يسرُّ، وقد رأى بالادان يحرك رأسه ويشير بيده، فخطر له أن يكلمه بالإشارة، ونسي أنه ضرير، ثم دنا من المضجع ليحدق النظر بفريسته، فإذا بالضياء قد استحال ظلامًا.

رفع الملك يده إلى عينيه لظنِّه أن الغشاء عليهما لا على ما حوله، وأن هناك غشاء ولكنه تحت الجفون فلا تصل إليه يد بشرية. ادلهمَّ المكان فهمَّ الملك بالخروج، فأحسَّ أن في رجليه أصفادًا من الحديد، ولا أصفاد هناك غير الخوف والذعر، فهل تسربت إليه سموم تفلاط؟ هل سرت في عروقه السموم التي قتلت في بالادان الحواس؟ إن الآلهة لأعلم بذلك، ونحن لا نعلم إلا أن نبوخذنصر هو الآن من أشد الناس غمًّا وبلاء، وأن بالادان من السعداء المحبورين.

والدهر في الناس قُلَّب. أجل، وقد دارت على الباغي الدوائر؛ كان في نفس نبوخذنصر من الغم والغضب أضعاف ما كان فيها ليلة كان يتمشى في البستان ساعة علِم بما اقترفه بالادان.

وفي فجر اليوم التالي، بينما الطيور تسبح في الأفنان بحمد ربة النور والحياة، وبينما ربة النور والحياة ترسل على الأرض فيضًا من بركاتها السماوية، كان نبوخذنصر واقفًا في شرفة القصر يتأمل الأحداث المفجعة التي حدثت في الأسبوع الغابر، وكان تفلاط خارجًا من بابل وهو آسف عليها وعلى مليكها، وكان بالادان قد أسلم الروح وعلى شفتيه الذابلتين الرضى والحبور.

ومما يجب علينا تسجيله من حقائق هذه القصة: أن وجه بالادان كان يزداد بهاء وجلاء بعد أن ماتت فيه الحواس الثلاث، كأن القوة في تلك الحواس تتحول ولا تموت، فتجري في البواطن مجراها، فتزيد بقوة ذاك الحس الخفي السري الذي لا يذكره علماء الفيزيولوجيا في كتبهم، والذي بواسطته نرى ما لا تراه العين المجردة، ونسمع ما لا تسمعه الأذن.

وكأن بالادان بعد أن تجرد بعض التجرد من المادة صار يرى معشوقته زبيبة رؤية البصر، ويسمع وهي في عالم الأرواح صوت حبها ووفائها؛ أوليس الحبور الذي يغير وجهه نتيجة ظاهرة لتلك الكلمات الذهبية التي كانت تقع من شفتي نفس بعيدة على أذن هذه النفس الواقفة في باب قفصها المادي وهي على وشك الخروج منه؟ ليس من ريب إذن أن بالادان مات سعيدًا، وليس من ريب أنه في الأقل نجا من انتقام نبوخذنصر. إن أطباء القصر وعبيده يشهدون على ذلك، وهم يشهدون أيضًا أنه مات وعلى شفتيه بسمة الرضى والحبور. أما القصد من التأكيد في تسجيل هذه الحقيقة فسيظهر فيما بعد.

نعم، قد مات بالادان، وقد خرج من هذا العالم مثلما خرج تفلاط من بابل، كلاهما آسف عليها وعلى مليكها العظيم. وقد جيء بالخبر؛ خبر خروج الاثنين إلى الملك وهو في شرفة القصر، فاقتبله ساكتًا هادئ البال، وظل كل ذاك اليوم وقد خلا بنفسه مثلما كان في الصباح، فلم يأمر حتى بدفن بالادان، ولم يقابل رئيس الكهنة الذي جاء يخاطبه بشأن تفلاط، ولم يأذن لأحد من وزرائه بالمثول بين يديه. ولنا أن نقول: إذا كان بالادان قد نجا من انتقام نبوخذنصر، وتفلاط من غضبه، وزبيبة من شهواته، فالنفس في نبوخذنصر لم تنج من الغم والهواجس والأوهام.

إنك تعلم، أيها القارئ، بأن نبوخذنصر لا يزال أسير الغم والغضب، ولكنك لا تعلم بأنه أمسى كذلك فريسة للأوهام والأباطيل، فلا تظنه محزونًا مضطربًا لأنه نادم على طرد وزيره الأكبر من بابل، أو لأن ذاك الشاب الفلاح مات موتًا سعيدًا. لا، لا، فقد أمست جميع هذه الأمور عنده في خبر كان.

إنما الذي يقلق نبوخذنصر الآن ويشغل أفكاره ويعذبها هو شيء صغير يتعلق به وبالآلهة؛ أوليس هو القائل أن لا قوة فوق قوته؟ فلا ملوك الأرض ولا آلهة السماء تقوى على نبوخذنصر!

أما إذا قال هذا القول الآن، فالسموم تكذبه، ويكذبه كذلك الموت، فكيف تتدخل الآلهة في شئونه وتعترض مشيئته الملكية؟ كيف يغمضون جفن وزيره ويرجعون فوق البوتقة يديه؟ وما هي قوة الآلهة؟ وبأية طريقة يتدخلون في شئون الدنيا؟ … هي الأفكار التي شغلت قلبه وذهنه كل ذاك اليوم فسلبته شهوة الأكل ولذة الرقاد.

وظل كذلك إلى أن أشعل الليل مصابيحه في السماء، فدخل إذ ذاك مخدعه ورمى بنفسه على السرير، ثم أمر الخدم بإطفاء الأنوار والانصراف. وما كانت الظلمة لتعين نبوخذنصر على الأرق، فظل يتقلب على فراش الهواجس حتى الهجعة الرابعة من الليل.

وفي تلك الساعة تراءى له طيف إلى جانب الحائط، فنهض من سريره منذهلًا مذعورًا ونادى العبيد، فجاءوا مسرعين، فأمرهم بإشعال الأنوار فأشعلوها، ثم أمرهم بإطفائها فأطفئت.

وانصرف العبيد، وعاد الملك إلى سريره يغالب السهاد، إلا أنه سمع وهو على وشك النوم وقع أقدام في مخدعه، ففتح عينيه وإذا بالطيف الذي تراءى له قرب الحائط قد صار في وسط القاعة، فنهض ثانية ونادى العبيد، فجاء هؤلاء مسرعين وبأيديهم المصابيح المشعلة، أما الطيف فكان قد اختفى قبل دخولهم، ثم عاد بعد أن خرجوا من القاعة، فوقف إلى جانب السرير الملكي.

فغر الملك المسكين فاه صارخًا، ثم جلس مرتعبًا وقد قبض بيديه على الوسادة والغطاء وجمع ما تبقى فيه من الرشد والشجاعة ليحدق في الطيف نظره.

هل في زمانك، أيها القارئ، نظرت إلى وجه ميت وقد كفن بضوء القمر؟ إذن ما رأيت قط شيئًا مرعبًا، وخير لك ألا ترى وجه نبوخذنصر حينما وقع نظره على نظر الطيف الواقف أمامه. وإننا من أجلك نضرب صفحًا عن مثل هذه التفاصيل، ولا نقول سوى أن الملك حرك شفتيه فنطق الرعب فيه يخاطب الطيف أمامه.

– ألست بالادان؟

– أنا هو.

– ولكنك حي.

– حي بالروح أيها الملك.

– أولم تمت صباح البارحة؟

– مات الجسد الذي حاولت أن تسومه صنوف العذاب، أما الروح التي تخاطبك فما مسَّها شيء من سمومك.

– والقصد من مجيئك الآن؟

– جئتك يا نبوخذنصر من عالم الأموات، بل عالم الأرواح، أحمل إليك نبأ من أسلافك ملوك بابل وآشور. فاعلم، أصلحت وعوفيت، أني بعد خروجي صباح أمس من هذا العالم مررت بواد عميق مخيف مظلم يجري فيه نهر أسود من الزفت الذائب، وعلى شواطئه عمد كبيرة من الحديد الذي ذهبته النيران، وجادات من الجمر المتأجج وقد تصاعد منه اللهيب والدخان، وفي تلك الجادات رأيت أناسًا كثيرين يمشون ذهابًا وإيابًا، عراة يمشون مطأطئين الرءوسَ مُحنِينَ الظهورَ، وعلى أكتافهم أحمال غريبة الأشكال، وفي أيديهم سلاسل من حديد تقطر من اللحم الذي يذوب عليها، ومن هؤلاء أناس يمشون في عزلة عن سائر الناس كأنهم كانوا في العالم من الأعيان والكهان والملوك، وقد رسا في وجوههم من آثار المجد والعز ما يذهل الغريب ويروعه، ناهيك بأن الأصفاد في أيديهم وأرجلهم أثقل من سواها، والأحمال على ظهورهم من الفولاذ الملتهب، فيذوب اللحم تحتها ولا تنفد أدهانه.

خنقني الغم إذ وقفت أمامهم، وقد خاطبني أحدهم سائلًا: من أين أتيت؟ وإلى أين أنت سائر؟ فأجبته: إني عابر طريق، وإني من بابل، فصرخ إذ ذاك صرخة هائلة وطفق يبكي كالطفل الفطيم، ثم خاطبني بصوت كصوت الصغير فقال: أنت من بابل؟ بابل مدينتي، بابل مملكتي، بابل سبب هلاكي وبلائي! قال ذلك وهو يجهش، ثم طفق يبكي فأبكاني، وكدت مما ملكني من الحزن ومن الاحترام لما هو فيه، كدت أقول: عليك السلام. ولكن الأرواح تخجل مما تكون قد ألفته في العالم، تخجل من كل شيء سوى الحب، ثم خاطبني آخر فقال: اعلم أنك أمام ملوك بابل ونينوى، ومعنا كثيرون من الصيارفة والكهان، وبما أن الذين يتعذبون في هذا الوادي لا يُؤذَن لهم بالعود إلى العالم، فأسألك أنت، أيها الغريب، أن تعود إلى بابل، وتخبر نبوخذنصر بما رأيت وما سمعت؛ هي ذي حياتنا في وادي النار واللهيب، انظر كيف يذوب اللحم تحت الحديد المشتعل ولا يفنى، وكيف يملأ الدخان العيون فتحرقها الدموع الغالية، واعلم أنه محتوم على كل منا أن يقضي ليله جالسًا على عمود من هذه العمد الحامية، وفي الصباح يقذف بنا زبانية النار إلى نهر الزفت، ثم نخرج من النهر ونمشي في هذه الجادة الملتهبة نجر أوزارنا، وبعد ذلك يصعد كل منا إلى عموده. أما ساعات الليل، أيها الغريب، فهي أمرُّ ساعات الجحيم، نقضيها في السهاد والعذاب، فتتساقط من عيوننا الدموع الغالية، ومن شفاهنا اللعنات والأنين. آه ثم أواه! وقد قيل لنا: إننا بعد مضي ألف سنة في وادي النار نخرج مكبلين بالسلاسل مثقلين بالأحمال؛ لنسوح في العالم ليلًا، ونعود في النهار إلى وادي النار. فعُدْ، أيها الغريب، إلى بابل وقل لنبوخذنصر: إن رئيس الكهنة قد رثى لحالك، وأحب أن ينقذك من العذاب الذي هو فيه، فاغتنِم الفرصة قبل فواتها، اغتنمها قبل أن تأتيك حشرجة الموت. هذا الذي رأيت وسمعت، هذا هو الخبر الذي أحمله، فاذكره يا نبوخذنصر واذكرني. الوداع ثم الوداع.

عندما انتهى الطيف من كلامه غاب عن نظر الملك، فصاح يناديه: قف، قف يا بالادان. وعبثًا كان ينادي، فقد لباه بدل بالادان العبيد، فطردهم من الغرفة، وقد وثب من سريره كالمجنون وطفق يتمشى ذهابًا وإيابًا وهو يناجي نفسه: أملوك بابل وآشور في نار الجحيم، ورئيس الكهان، أخي، أخي في النار؟! كذب المخبر، كذب بالادان؛ إنه لوهم وخرافة، الميت لا يعود إلى العالم، والملوك لا تهلك. لا، لا، كله كذب واختلاق … الملوك لا تهلك …

فجاء صوت من الخارج يقطع عليه كلامه ويقول: اذكر ما قلته لك واذكرني.

– هو صوته، هو لا يزال قريبًا مني، هو يذكرني وينذرني، ينذر نبوخذنصر، ماذا تقول يا رجل؟ أين أنت الآن؟ وهل أنت الملك؛ ملك بابل وآشور؟ أهذه يدك؟ أفي هذا الصدر قلبك؟ أفي هذا الرأس عقلك؟ أهذا هو الجبين الذي تنيره كواكب السماء؟ أوَأنت الآن في قصرك؟ وأين صولجانك، وأين تاجك، وأين حسامك؟ إذن لِمَ لا تتحرك؟ من يتجاسر أن يدخل عليك في الليل؟ أنت نائم أم أنت في حلم؟ استيقظ يا نبوخذنصر استيقظ … حسامك، استرجع بحسامك شتات مجدك.

تناول السيف وهمَّ بالخروج فخانته خطاه، فاصطدم بالحائط.

– آه ثم أواه، أيضمحل مجدي أمام خيال زائل؟ أتنهد قواي من كلمة سمعتها؟ أيسكتني بالادان وهو ميت بعد أن احتقرني وهو حي، ثم ينذرني بالهلاك؟ الهلاك لنبوخذنصر والموت السعيد والسعادة الخالدة للصعاليك؟ لا والآلهة! الملوك لا تهلك. أين بالادان؟ أين أنت أيها الخيال اللعين؟

وكأنه رأى الخيال عائدًا فهجم وقد استل سيفه عليه، ولكنه وقف جامدًا كالخشبة عندما سمع الصوت ثانية يقول: اذكر كلامي واذكرني.

– لا حاجة إلى القول: إن نبوخذنصر لم ينم تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي خرج من القصر مبكرًا وظل يمشي حتى وصل إلى شاطئ الفرات خارج المدينة، فجلس في ظلال مقصبته هناك يستريح، فرثى النوم لحاله وحلَّ في جفنه ضيفًا كريمًا.

قد شاهدته، أيها القارئ، وهو في سكرة الغضب، فانظر إليه الآن؛ إن نبوخذنصر في البستان هو الغضب المجسم، هو الشر المستطير، هو الظلم في أفظع مظاهره، ونبوخذنصر النائم الآن على شاطئ النهر هو الحب في طفولته، هو الخير في فجره، هو الرحمة في مظهر جديد، هو الصلاح في أطمار الفقراء، هو الندامة في مسوح المتنسكين.

وهو الآن على شاطئ الفرات يحلم حلمًا جميلًا، فهل يمحو بعمل واحد آثامه ومظالمه كلها؟

ولكنه لا يزال في بحر من الهواجس مضطرب الأمواج، فتراه واللون في وجهه يتحول أصفر أحمر فينم على ما هو فيه من الاضطرابات؛ هو مركب تتقاذفه الرياح، بل هو ذبابة في عنكبوت رتيلاء الحيرة، أتقتله الرتيلاء أم يخرج من عنكبوتها فائزًا الفوز المبين؟

زمجر الأسد في عرينه فاستفاق نبوخذنصر، وكانت الشمس قد تكبدت السماء، وتحولت أشعتها العمودية على وجه النهر حجارة كريمة تشع كالألماس، واشتد في اشتداد الحر صرير الجنادب.

ما عدا ذلك فالسكون كان عميقًا، وقد استقر في كل شيء كأنه الفصل الأول من فصول الحياة، أو كأنه يعد للطبيعة المقيل، ففرش لها أغصان الدلب الذهبية، وأغصان الحور الفضية، وحشايا القصب اللازوردية، وسكن لها حتى النسيم الذي كان يلاعب الأسل على الشاطئ والكلأ في الحقول.

وكان الملك لا يزال تعبًا، فجلس يتأمل ما كان عليه في الصيف الماضي من الكدر والغم، ولكن غمه في الصيف الماضي كان قصير الأجل، ولم يكن سيئ العاقبة، فأولئك الذين أثاروا غضبه أخرجوا سريعًا من مسرح الوجود، وما كان ليُسكن غضب نبوخذنصر إلا مثل هذا الانتقام العاجل. وأما الآن فبالادان على ما يظهر من المحبورين، وتفلاط من المغبوطين؛ لأنه بعيد عنه، والآلهة على العروش خالدون، وملوك بابل مع رؤساء الكهنة في النار، ونبوخذنصر. آه ثم أواه!

استفاق وهو يتأوه، ونهض وهو يلطم جبينه بيده، ثم سار مسرعًا مستبشرًا وعاد إلى القصر، فجمع أمامه الوزراء والموظفين والعبيد ورؤساء الكهان وخاطبهم قائلًا: اعلموا أن للآلهة القوة كل القوة، والعظمة كل العظمة، والعلم كل العلم، وما ملوك بابل وكهانها غير خدم للآلهة، وإني آمر الآن بأن تطلقوا سراح المسجونين في مملكتي كلها، وتطلقوا كذلك سراح الحريم في القصر، وترسلوا إلى وزيري الأكبر تفلاط أن يرجع بأمر مليكه إلى منصبه، وتدفنوا بالادان بكل احترام في المعبد الملكي، وليكن زمام الملك بيدك أيها الوزير إلى أن يعود تفلاط، هذه هي أوامري، هذه هي مشيئتي.

ثم أمَّ المعبد فدخل إلى مخدع رئيس الكهنة فيه، وأقام هناك حتى المساء، فعاد إذ ذاك إلى القصر، وكان قد أمر أحد العبيد بأن يجيئه بقميص من الخيش، فخلع أثوابه الدمقسية والأرجوانية، واستشعر القميص الخشن. لبس نبوخذنصر المسح وصار من النساك الزاهدين المتعبدين.

وظل على هذه الحال يأكل قليلًا ويصلي كثيرًا، فنحل جسمه، وخارت قواه، واحتل منه مقر الفكر والنهى، وبينما كان عائدًا ذات يوم من المعبد أغمي عليه أمام القصر وتحت الشرفة التي كان يطل منها على بابل، فنقله العبيد إلى داخل القصر، وبادر إليه الأطباء، ولكن الطبيب الأكبر سبقهم جميعًا فشفى نبوخذنصر من أمراض الحياة كلها … ودفنوه عملًا بمشيئته الملكية في المعبد الملكي إلى جانب بالادان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤