إكليل العار

ما ودع حين ولى، ولا أحد من رفاقه الجالسين حول منضدة مربعة بساطها أخضر رفع إليه نظرًا أو فاه بكلمة دعاء أو عداء. نقفَ أحدهم المنضدة بأنامله والوجه منه أصفر من السهر والهم، فماثله الآخر، فرمى الثالث الورق من يده، وزادُ كلٍّ منهم ما اجتمع في وسطها من حجارة العاج أو الأزلام السوداء والحمراء والبيضاء. أدير الورق واستؤنف اللعب، وأخذت الأزلام تنتقل من أطراف المنضدة إلى وسطها. «احترق» الثاني ولكنه ظل في كرسيه يراقب الجولة الأخيرة بين رفيقيه.

والسكوت سائد كأن غرفة القمار معبد أو بيت مهجور دخله اللصوص، تحسس كل من اللاعبينِ ورقه والعين منه جامدة غائرة واليد ترتجف، نظر كل منهما إلى صاحبه نظرات منكرات مختلسات فيها تفرس وفيها افتراس، وشرع كل منهما يضاعف أزلام الآخر حتى كاد ينفد ما بين يديه منها، غربل كل منهما حظه من الورق الذي بيده، فأسقط الأول ورقة، وأسقط الثاني ورقتين، وبينا هو يفعل ذلك حانت منه التفاتة، فخامره منها الريب، فاستشاط على الفور غيظًا ونهض واقفًا يهم بالخروج.

فسأله صاحبه: ما بالك؟

فأجاب وقد رمى الورق من يده: قد تواطأتم علي.

– أنت مجنون.

– أنت قليل الشرف.

– احفظ أدبك؛ أنا — والله — لا أبيع شرفي بمال العالم.

– بعته الليلة بعشرين دولارًا. عيب عليك.

– من كان مثلك لا يستحق أن يلعب مع الناس.

– من كان مثلك أنت …

وانحنى فوق المنضدة ليكمل الإهانة بيده، فحال دونه صاحب المنزل لائمًا مؤنبًا.

– عيب علينا يا ناس، واجب أن نقتدي بتوفيق زيدون المقامر الشريف النفس؛ فإنه إذا خسر سكت، وإذا ربح لا يتبجح … عيب عليكما.

وبينما هو يؤنب صديقه، وكل منهما — وقد ثاب إلى رشده — يعد أزلامه، كان توفيق زيدون نازلًا الدرج منكس الرأس، كاسف البال، يده في جيبه الفارغة، ونفسه الملتهبة في يده.

وما قيمة نفسه وهو لا يملك فلسًا واحدًا؟ وماذا عساه يصنع وقد لجأ إلى آخر الحيل فكان فيها مدحورًا؟ إلى أين يذهب بهذه النفس المحترقة المتقلصة السوداء؟ سؤالات كان يرددها وهو خارج من البيت لاعنًا القمار والمقامرين.

راح تائهًا في أسواق المدينة كمركب لا شراع له تتقاذفه الرياح، وقف على منعطف الشارع فشاهد الأرتال تمر أمامه كأنها أشباح وكأن ضجيجها أصوات العفاريت، رفع رأسه وإذا بالساعة في الكنيسة تعلن الثانية بعد نصف الليل.

أيعود إلى غرفته؟ أيلجأ إلى وحشة الوحدة وظلامها؟ أيداوي نفسه ببلسم الرقاد؟ لا، لا، رصاصة تسرع به إلى الجحيم خير من هذا.

والحقيقة أنه استحب الموت ومر في قلبه خاطر الانتحار مرور السحاب، فظل برهة أسير هواجس مريعة تتجاذبه نزعات أثيمة لا تخلو من قصد شريف، على أن قصده الشريف كان كغنمة بين ذئاب كاسرة، أو كملاك بين زمرة من شياطين أفكاره.

لبط الأرض برجله واللعنة تخرج من فمه، وشياطينه تومئ إليه أن اتبعنا، تبعها صاغرًا فنزل الدرج إلى سكة الحديد تحت الأرض وركب القطار السريع الذي يخترق قلب المدينة، بل ينساب كالحية تحت أضلاعها. وكانت نفس توفيق زيدون مثل ذاك القطار تتسارع أمواجها السوداء بين أنوار لقصد شريف صفراء ضئيلة، تبدو وتختفي كالبرق، مثلما ترقص أنوار النفق الزرقاء والحمراء، والقطار بين صفوف منها يقعقع ويضج، فتردد صداه الألوف من عمد الحديد القائمة تحت قصور المدينة.

نزل في محطة وسط البلد واجتاز بضعة شوارع ثم وقف عند باب في أحدها يقرع الجرس.

أطلت بعد هنيهة فتاة من الشباك تسأل: من الطارق؟ فهمس توفيق باسمه، فراحت متأففة تكبس زرًّا يفتح الباب ولم تلبس غير قميص النوم لتستقبل صديقها.

ما سلَّم توفيق حين دخل المنزل، بل سار توًّا إلى غرفة فيه مفروشة بالسجاد، أثاثها يجمع بين البساطة والفخامة، ورمى بنفسه على كرسي قرب البيانو وهو لا يدري ما يقول.

أخذ الفتاة العجب فسألت قائلة: ما بالك تجيئني هذه الساعة؟

– لأنني …

ووقف يشعل سيكارة.

– ماذا جرى يا عزيزي؟ هل أنت مريض؟

– بل يائس من الحياة.

– أطلعني على شيء جديد من أحوالك.

– سقطت أسعار الأسهم اليوم فخسرت كل مالي.

فقالت لوسيل باسمة وهي لم تزل واقفة أمامه في سربالها الشفاف: جئت تمزح إذن.

– ليس وقت مزاح.

– وما علمي يا عزيزي توفيق أنك ذو ثروة!

– ثروة؟ ثروة؟ إن مائة دولار عند مثلي ثروة كبيرة، فقد تجلب المائة دولار ألوفًا من الدولارات.

– وقد تجلب …

فقاطعها قائلًا: ما لم أطلعك عليه فيما مضى.

– قد أطلعتني مرارًا في مثل حالك الآن على المهم من أمرك، هل لك رغبة في كأس من الوسكي؟

– لعن الله الوسكي! كيف أحوالك اليوم؟

– كما ترى نمت باكرًا فأيقظتني باكرًا. هذا من قواعد الصحة.

– وماذا يهمني من ذلك؟ كيف أحوالك المالية؟

– أسوأ من حالك يا عزيزي.

– تكذبين، تعالي قبليني.

– أقبلك إذا كنت لا تهينني.

– أريني إذن حافظة نقودك؛ أما زارك أحد هذه الليلة؟

– قلت لك: إني نمت باكرًا وأقسم بالله …

– يمينك لا تقنعني؛ أريني حافظتك.

دخلت لوسيل غرفتها وعادت بعد هنيهة بحقيبة صغيرة رمتها في حجره، ففتحها توفيق وأجال فيها يده وعينيه، ورماها إلى الأرض غاضبًا ناقمًا.

– أنت كذابة محتالة.

– وأنت قليل الشعور قليل الإيمان، بل أنت بربري، وقد سألتك أن لا تزورني في آخر الليل سترًا لحالي؛ أفلا تعلم أني أشتغل في النهار فتاة محصنة مكرمة ولا أحد يظن بي ظنًّا سيئًا؟ واجب أن أحافظ على شرفي وأصون عرضي تجاه من أشتغل عندهم في الأقل، لست مستهترة مثلك، ولي أمل بالتخلص مما أنا فيه خارج عملي اليومي، ولو كانت أجرتي تكفيني لألبس على الأقل مثل سائر البنات لما تنازلت إلى عمل ليلًا آتيه آسفة حزينة، بل لما ملت إلى غيرك من الشبان، قلت لك ذلك مرارًا وأنا عالمة أنه لو كان بإمكاني أن أكتم حبي لكان خيرًا لي وأنفع، ولكني صريحة القول سليمة القلب، وهذه بليتي. لست خداعة ولست كذابة ولست محتالة، أنت تعلم ذلك ولا يردك هواك عن إهانتي، ألم أسعفك فيما مضى؟ ألم أقاسمك ما كنت أملكه من المال؟ بل طالما أفرغت حافظتي بين يديك. والآن تجيئني في آخر الليل فتشتمني وتهينني لأن حافظتي فارغة، صدقني يا عزيزي توفيق إذا قلت: إني لا أقوى على ردك وصدك، ولو كان لدي ريال واحد الآن لأعطيتكه مسرورة.

اقتربت لوسيل من صديقها فجلست على ركبته تلاطفه وتداعبه، وقد كانت تخشى أن تغيظه لأنه مطلع على حقيقة أمرها.

توفيق زيدون شاب شديد البنية، أسمر اللون، أسود العين والشعر، وسيم الوجه، طويل القامة، طويل الأنف دقيقه، في فمه سيماء الشهوة والخشونة، وفي ذقنه القصير المائل إلى عنقه ما يدل على ضعف الإرادة.

ولوسيل فتاة أميركية صافية البشرة، ذهبية الشعر، زرقاء العين، دقيقة الأطراف، متناسبة الأعضاء، لا تتجاوز العشرين من العمر، في شفتها السفلى بروز يجعل فمها كفم الطفل فيه سذاجة وجمال، وهي لطيفة المزاج سهلة المراس، نفسها في الحب كجدول من الماء المعين نهارًا، وكالنهر الطامي ليلًا. اجتمع بها توفيق زيدون في المخزن الذي تشتغل فيه، فشغفت به ومحضته حبها، وأطلعته بعدئذ على خفي أمرها، فشجعها على ذلك بدل أن يردعها، وكان إذا خسر في القمار يلجأ إليها.

أما لوسيل فمثل سائر أخواتها من الشقر الحسان تهيم بحبيبها ساعة يكون معها، وتكاد أن تنساه إذا غاب، وهي مخلصة في كلا الأمرين، عاملة بناموس طبيعي يملك قلبها ومزاجها.

فلما جلست على ركبة توفيق تداعبه ألانت من نفسه، وأنسته بعض بلائه، فرفع إلى صدرها يدًا راغبة كأن النار تتوقد في أناملها، وقام وفي عينيه رغبة أشد اتقادًا.

وبينا هو في السرير أمال نظره من جمالها الذهبي إلى المرآة وراء السرير يتأمل جمالها الخيالي، فرأى هناك خزانة الثياب منعكسة فيها، وعلى بابها الذي نسيت لوسيل أن تقفله تمامًا لفافة زرقاء من الأوراق المالية كانت قد أخرجتها من حقيبتها لتضعها في جيب ثوب لها، فأخطأت المقصد ولم تدرِ فسقطت اللفافة على الأرض.

ولما نهض توفيق ليلبس ثيابه خرجت لوسيل من الغرفة، فسارع إلى باب الخزانة فالتقط ما كان على الأرض من المال ووضعه في جيبه قائلًا في نفسه: كذابة، عاهرة.

ولما عادت لوسيل إلى الغرفة قبلها قبلة باردة وودع.

ركب القطار تحت الأرض ولم يكن فيه تلك الساعة غير رجل واحد، فأخرج المال ليعدَّه، عده فرحًا مستبشرًا وهو يردد في نفسه: كذابة، عاهرة.

ثم وضعه في جيب صدرته، وأخذه النعاس من شدة الضنك والتعب فنام، فوقعت من اهتزاز القطار قبعته على الأرض، فالتقطها رفيقه متلطفًا ووضعها قربه.

ولما وصل توفيق إلى غرفته كان عقرب الساعة في قبة الكنيسة مائلًا إلى الرابعة، فنام مطمئن النفس هادئ البال حتى ظهر اليوم الثاني، فنهض إذا ذاك يلبس ثيابه، ثم ذهب إلى المطعم ليتناول الغداء، فأكل هنيئًا كما نام، ومد يده إلى جيبه ليدفع ما عليه، ففتش عن المال ثم فتش فلم يجده.

يخسر المرء نصف ثروته في الأشغال أو في القمار ولا يأسف، ويبذل الكثير في سبيل ملذاته أو في ضيافة أصحابه مسرورًا، ولكنه إذا أضاع ريالًا واحدًا يقوم له ويقعد، ويظل أيامًا حائرًا لا يحسن عملًا.

أما توفيق زيدون فلم يكن في أية حال من الأحوال ليحسن عملًا إلا إذا استثنينا القمار، وقد طالما خسر آخر فلس في اللعب وهو مالك نفسه، صابر على تمرد حظه، ولكن خمسين ريالًا التقطها من غرفة حبيبته، بل سرقها ثم أضاعها بلبلت البال وشتتت منه ما بقي من آمال.

عاد إلى غرفته كالمجنون يفتش زواياها علَّ المال سقط من جيبه وهو ينزع أو يلبس ثيابه — وهذا معقول، إلا أن في المعقول ظنًّا يخطئ أحيانًا — ثم فتش في جيوب أثوابه المعلقة في الخزانة كأن يدًا سرية سحرية نقلت المال إليها، ثم فتش في دروج خزانة أخرى وهو لم يزل متمسكًا بخيط من الأمل رفيع انقطع عند الدرج الأخير الذي لم يكن فيه غير مسدس صغير.

أخذ يدير المسدس بين يديه، ووضعه أمامه على المائدة، ثم جلس على كرسي يتأمل الماضي والحاضر من حاله؛ عشر سنوات قضاها في أميركا ولم ينجح فيها بعمل من الأعمال، شارك أخاه في التجارة فصرف فوق حصته في دوائر القمار والخلاعة وانفصل عنه، وهو يكره أخاه كرهًا شديدًا، بل البغض متبادل متساوٍ بين الأخوين، وأخته سليمة التي تبيع البضاعة الشرقية في المصايف طالما مدته بالمال، على أنها اعترضته يومًا في أمر فتاة ولع بها فأغلظ لها الكلام وطردها من بيته. أما أصحابه، بل رفاقه في اللعب، فهو مدين لأكثرهم، ولم تعد له الجرأة أن يسألهم حاجة، والحق يقال: إن أبواب الفرج أقفلت كلها في وجه زيدون إلا بابًا واحدًا طرقه ليلة أمس، ولولا الصدفة لعاد من بيت لوسيل كما خرج من بيت القمار، على أن الصدف مثل الدهر متقلبة خائنة، فلم تكد تريه باب الفرج حتى أقفلته في وجهه، أعطته خمسين ريالًا في آخر الليل وسلبته المال في الصباح!

الصدف؟ إنما هي يد القضاء. دخل توفيق زيدون نفسه يجدد النظر في ذكريات هناك، مثلما يعود العاشق الولهان إلى رسائل حبيبته يقرؤها ويمزقها، مزق ذكريات أخيه غير آسف عليها، مزق ذكريات أخته، مزق ذكريات ألعابه وخلاعته، محاها كلها من لوح نفسه الأسود العتيق، ولكن ذكرى أبوية استرعته فوقف عندها واليد منه ترتجف، فقد أوصته أمه قبل سفره إلى أميركا أن لا يقترب من منضدة القمار، وقد طالما قال أبوه: المال الحرام لا يثمر؛ ذلك لأن داء القمار كان متفشيًا في آل زيدون في الوطن، ولكن توفيقًا لم يكترث بوصية والديه، وما فكر فيها آسفًا حزينًا قبل هذه الساعة.

القمار، والموبقات التي هو فيها من جراء القمار، وتلك الفتاة المسكينة التي كانت تبيع جسدها لأصحابه وتقاسمه كسبها. الله منها! أتوفيق زيدون يصل إلى هذا الحد من السفالة؟ لم يكن قبل اليوم ليفكر بحقيقة فعلته، لولا خسائره في القمار لما التجأ — والحق يقال — إلى لوسيل، على أنه أفاق في هذه الساعة من سكرته، نفر من ضلالته، وود أن يبتعد عن الموبقات التي طالما خاضها طربًا حبورًا. انفتحت فيه فجأة عين الروح فهاله من ذلك أمره؛ رأى نفسه ابنًا عاقًّا، رأى نفسه سافلًا. يا للفضيحة ويا للعار!

جلس على الكرسي وأخذ المسدس يديره بين يديه، وبينا هو يداعب الموت؛ يراود رصاصة فيها الخلاص مما هو فيه، قرع بابه قرعات سريعة شديدة، فوضع المسدس على المنضدة وراح يفتح الباب، فإذا بلوسيل والاضطراب باد في عينيها. أخذته من رؤيتها الدهشة، بل أحس بقشعريرة في جسده كأن كأس ماء بارد سكبت على نفسه الملتهبة، فأطفأت فيها نزعة الانتحار، وردته إلى حاله كسيد الفتاة وولي أمرها، أما لوسيل فلم تمهلها أن يسأله الغرض من مجيئها، دخلت غرفته تقول: أنت لص، أنت مجرم، وقبل أن أشكوك إلى البوليس جئت أعطيك فرصة لتخلص نفسك. كذبت الليلة البارحة، فقوصصت على كذبي. خبأت ما كان لدي من مال فتلصصتني وسرقت، لم يزرني أحد سواك بعد ليلة البارحة، نعم أنت سارق مالي، وإذا كنت لا تعيده إليَّ الآن أشكوك إلى البوليس.

– أنتِ مجنونة.

– لا يهمني، أسألك أن تعيد إليَّ مالي وإلا …

– أجئت تهدديني في بيتي؟ والله لأشُجَّنَّ دماغك إذا كنت لا ترعوين.

واقترب إذ ذاك من المنضدة يمد يده إلى المسدس فخافت لوسيل وغيَّرت لهجتها.

– يا عزيزي توفيق، أنا في حاجة الآن إلى المال أكثر منك، قد رهنت في الشهر الماضي خاتمًا هو أعز الأعلاق لدي؛ هو هدية من أمي يوم ميلادي؛ آخر ميلاد قضيته وإياها، وأحب أن أسترجعه؛ فإني منذ رهنته والنحس يكتنفني، فأشفق عليَّ واكتفِ بما أسلفتُك من الحب.

وتناولت منديلًا وأخذت تمسح الدموع المتساقطة على وجنتيها الورديتين، ثم قالت: مذ عرفتك حتى الآن لم أسألك دولارًا واحدًا، بل أنت مدين لي.

– يا بنت الخنا، جئت تهينينني في بيتي؟! والله …

– لا، لا، لا أحب أن أذكرك بذلك، ولو كنت تستطيع القيام بمعاشي لما ملتُ إلى أحد سواك، بل لما قبلت في بيتي غيرك من الناس. والآن جئت أرجوك أن تعيد إليَّ ما أخذته مني الليلة البارحة، هبْ أني أسألك قرضًا في ساعة ضيقتي؛ فإني لم أدفع أجرة منزلي منذ شهرين — أقسم بالله — وصاحب البيت يهددني بالطرد؛ فإذا كنت لا ترثى لحالي، فما معنى صداقتك، بل ما معنى حبك؟ أخذت مني خمسين دولارًا، أعِد إليَّ نصف القيمة على الأقل.

– اعلمي أني لم آخذ منك دولارًا واحدًا، وإذا عدتِ إلى هذه التهمة أبعثر دماغك برصاصة من هذا المسدس، وإذا كان هذا قصدك من زيارتي فتفضلي.

وأومأ بيده إلى الباب.

– يجب أن أدفع أجرة غرفتي.

– صاحب البيت ينتظر.

– يجب أن أشتري فستانًا لأمي.

– لست موكلًا بأمر أمك.

– أتطردني إذن من بيتك؟

– اشكري ربك إذا خرجتِ سالمة، أنت أول من اتهمني بالسرقة، وقد عفوت عنكِ. اخرجي ولا تريني وجهك فيما بعد.

اقتربت لوسيل من المنضدة وفي نيتها أن تقبض على المسدس اتقاء للشر، فكان توفيق أسرع منها، فقبض على يدها بيمناه، ولطمها بالأخرى على وجهها.

– يا بنت الخنا، تحاولين قتلي أيضًا.

– تسلبني مالي وتهينني وتضربني وتطردني من بيتك. ستندم يا توفيق زيدون على فعلاتك هذه، ستندم يا لص، يا وحش، يا …

وخرجت من غرفته مسرعة.

ناداها توفيق، فتح الباب وسألها أن تعود فلم تجبه، لبس قبعته وتبعها، ولكنه لم يرها في الشارع، راح إلى بيتها فوجد الباب مقفلًا، فبات ينتظر أمام الباب علَّها تعود فخاب أمله، فعاد إلى غرفته يائسًا وقد أخذه شيء من الندم على ما فعل.

حدثته نفسه ثانية بالانتحار، فكتب كلمة إلى أخته يودعها ويستغفرها، وأخذ المسدس قائلًا: على الدنيا السلام، ولكنه حين رفع آلة الموت إلى رأسه مترددًا. دق جرس التليفون فوضع المسدس وفي نفسه بعض الارتياح إلى صدفة وقفته مرة ثانية عن قصده، وراح يجيب للنداء.

الصوت صوت لوسيل.

– ماذا تريدين؟

– ندمت على ما بدا مني، اغفر لي، تعال الليلة تسمع ما يسرك.

– ماذا جرى؟

– سأخبرك عندما تحضر.

أخذه العجب من أمرها، هل تضمر له الشر؟ هل تدعوه لتغدر به؟ أو هل هي صادقة فيما تقول؟ إن كان الأول فتوفيق زيدون لا يخشى تهديد فتاة أو غدرها، وإن كان الثاني فقد يكون له في شدته سبيل إلى الفرج، ثم عاد إلى نفسه يؤنبها على ما فعل، ندم ندامة حقيقية على معاملته لوسيل تلك المعاملة، فقال يحدث نفسه: خلصتني من الموت مرتين، فينبغي أن أحسن في الأقل معاملتها، ولكنه أخذ العدَّة لكل ما قد يحدث، فراح يقابلها تلك الليلة والمسدس في جيبه.

•••

عادت لوسيل إلى شغلها في المكتب أصيل ذاك النهار برغم ما جرى في منزل توفيق زيدون، عادت إلى شغلها برغم اضطراب ملَك نفسها، وبرغم يأس كاد يذهب برشدها — على أنها وقفت هنيهة في باب دائرة الشرطة ولم تدخل، وقفت خائفة وذهبت حائرة — فدخلت المكتب كليمة الفؤاد، مشتتة البال، أسيرة الغم والهواجس، وإذ جلست إلى الآلة الكاتبة لتباشر عملها أحست بصداع شديد غشى بصرها، فبدت صفوف الأحرف أمامها كالأزرار البيضاء وقد ذاب سواد ما نقش فيها، فلم تكد تميز الألف من الباء، ولا الأعداد من أحرف الهجاء.

كتبت سطرًا فعضت شفتها غيظًا، ونزعت الورقة من الآلة ومزقته. حاولت العمل ثانية وأناملها ترتجف، فمزقت الصفحة الثانية، ثم الثالثة والرابعة. توقفت عن العمل وأخذت تصعد الزفرات، وشرعت تفرك يديها وجبينها علَّها تنتعش فتملك حواسها، ثم أخرجت من حقيبتها القلم الأحمر وعلبة المسحوق والمرآة الصغيرة، فدهنت شفتيها وطلت خديها وهي تحاول أن تزدري همها وتنسى ما حل بها.

وكانت رفيقتها تنظر إليها شذرًا، وتضحك في سرها هازئة، ثم همست في أذن الكاتب كلمة فأجابها قائلًا: ولا ريب بذلك، لم تنم الليلة البارحة.

أما الكاتب هذا، فكان قد استطلع خبر لوسيل، عملًا بإشارة المدير، وتحقق أمرها، فنهض حين رآها في هذه الحال ودخل على المدير يقول: يظهر أن هذه الفتاة مريضة أو أنها لم تنم الليلة، وهي لا تستطيع قط عملًا.

فأمر المدير بأن يأتيه بحسابها، ثم ناداها إلى غرفته.

– لماذا لم تجيئي إلى المكتب صباح هذا النهار؟

– كنت مريضة ولم أزل أحس بصداع شديد أليم.

– الأحسن إذن أن تعودي إلى بيتك، وقد تكونين في حاجة إلى المال لتستشيري الطبيب، فهذا ما تبقى من أجرتك.

أخذت لوسيل المال وهي تشكر المدير الذي استأنف كلامه قائلًا: ولم نعد في حاجة إليك.

هذا ما كانت تتوقعه، فلم تسأل المدير السبب في طردها ولا همها أمره، على أنها تيقنت أن الكاتب قد وشى بها، وفضح أمرها بعد أن تظاهر بحبها واكتسب ثقتها.

أجل، قد تحققت لوسيل السبب في طردها، وشعرت لأول مرة بحقيقة حالها وسوء مصيرها، فخرجت من المكتب وهي لا تكاد ترى ما حولها من شدة الغيظ واليأس والكمد، وذهبت توًّا إلى منزلها، فرمت بنفسها على السرير واسترسلت إلى البكاء، بكت كطفل فبللت الوسادة دموعها.

حياتان؛ حياة خير وحياة شر، لا تجتمعان في شخص واحد.

جلست تؤنب نفسها وهي تردد هذه الكلمات، وشرعت تفكر فيما جرى في يوم واحد من حياتها المزدوجة؛ سُرق مالها، أهينت، ضربت، فقدت وظيفتها، وصاحب البيت فوق ذلك يهم بطردها إذا لم تدفع المتأخر من ثلاثة أشهر.

وماذا لديها من المال؟ خمسة دولارات فقط، خمسة دولارات لا تكفي أجرة النقل إذا أذن لها صاحب البيت أن تنقل فرشها، وإذا نقلت إلى بيت آخر، فماذا عساها تفعل؟ أتبحث عن وظيفة أخرى؟ لم يعطها المدير شهادة بحسن السلوك، ولم تزل تذكر كم قاست من العذاب أول مرة بحثت فيها عن عمل في المدينة.

حياتان؛ حياة صلاح وحياة إثم، لا تأتلفان في نفس واحدة.

ستهرب إذن من الخدمة — من المكاتب — من المديرين واستبدادهم، ثم ماذا؟ أتستمر في مسيرها المشين المعيب في طريق الإثم والعار؟ أفي السوق وفي القهوة تطلب رزقها؟ فكرت في ثمار ليلها، وفي الحلو والمر من كأس إثمها، فكرت فيمن أخلصت له الود وكيف يسرقها ويهينها ويضربها ويطردها من بيته، من وثقت به يخونها، ومن اشتروا جسدها يهينونها ويزدرونها. أجل، إن الشبان الذين يطاردون البنات في الأسواق، ويستغوونهم في القهاوي، لكذاك الكاتب الخائن، ولكذلك اللص توفيق زيدون، فماذا عساها تفعل؟

حياتان؛ حياة طهر وحياة عهر، لا تجتمعان في امرأة واحدة.

أتعود إذن إلى بيتها؟ أتحتمي في ظل أمها مستغفرة مسترحمة؟ إنها تخشى أمها ولا تستطيع أن تقيم وإياها. فلما كانت في البيت كان أخوها الوحيد سلواها هناك، أما وقد سافر إلى أميركا الجنوبية فقد سئمت الإقامة فيه، وخرجت غير آسفة تؤم المدينة، ناهيك بأن الإقامة في القرية لم تعد تروقها وقد ألفت العيش في المدينة.

إذن لا العمل نهارًا في المكتب، ولا السير ليلًا في طرق الإثم والعار، ولا الرجوع إلى البيت، فكرت لوسيل مليًّا في أمرها، وطنت النفس أن تظل في المدينة. أجل، تشكو توفيق زيدون إلى الشرطة، ستشكوه إلى الشرطة، ولكن الريب ملكها في كل شئونها، التردد أقعدها، الخوف قيد منها العزم والنشاط، فهي إذا شكت السوري تفضح أمرها بيدها. طال النزاع في صدرها فكاد يقتلها، وكل نزاع نفسي لا يجلو الروح والفكر يولد اليأس والقنوط، واليأس في مثل هذه الحال أشد من الإيمان قوة، وأعظم من الموت هولًا.

أشهر اليأس سيفه في لوسيل، فنهضت ملبية. أجل، ستقتص بيدها من السوري اللئيم، سينال من يدها جزاء فعلاته. خمسة دولارات هي كل ما تملك، وستحسن استخدامها. قد أُغلقت أبواب الرزق والفرج في وجهها، فستموت في الأقل شريفة النفس، ستموت بعد أن تذيق السوري جزاء إثمه.

لبست قبعتها وأسرعت إلى مخزن تبتاع مسدسًا بالمال الذي قبضته أجرتها، وعادت إلى البيت فخاطبت زيدون بالتليفون تسأله أن يزورها تلك الليلة، ولو علمت بقصده تلك الساعة لندمت على إفسادها عمله، لو كان لها أن تراه والمسدس بيده لتركته وشأنه وشكرت ربها، ولكنها الأقدار تلعب بالناس لعب الأكر.

دخلت لوسيل مطبخها الصغير لترى ما عندها من حواضر البيت للعشاء، فوضعت إبريق الشاي على وجاق الغاز، وبينا هي تفتح علبة من الفاصوليا المطبوخة لتسخنها، قرع الجرس فراحت تفتح الباب؛ فإذا هناك رجل حياها تحية الأحباب هاتفًا: «هالو» لوسيل.

وقفت لوسيل مدهوشة وهي لا تكاد تصدق نظرها.

– وليم. وليم.

ورمت بنفسها عليه تعانقه، فعانقها وقبلها تكرارًا.

– ثم دخلت وهي آخذة بيده، فأجلسته على الديوان وجلست إلى جانبه، فقبلها وليم ثانية وهو يردد اسمها ويربت خديها.

وليم أخو لوسيل شاب لا يتجاوز الثلاثين سنًّا، طويل القامة، نحيف الجسم، عصبي المزاج، حاد النظر، روحاني العين، خطواته تدل على ثقة له بنفسه، وحديثه يدل على إيمان له بالناس، وهو يحب لوسيل أخته الوحيدة حبًّا جمًّا، ولا يريدها بعيدة عنه إلا إذا كانت متزوجة وسعيدة في زواجها.

وشد ما كانت دهشة لوسيل، وشد ما كان ابتهاجها بمشاهدة أخيها بعد تغيب طويل الأجل!

– وليم عزيزي، متى عدت؟ وكيف علمت أني هنا؟ ومن أعطاك عنواني؟

– عدت في الأسبوع الماضي، ومنذ وصولي وعلمي أنك تركتِ البيت وأنا أبحث عنكِ، الفتاة التي تهرب من بيتها يا عزيزتي لا تراسل أحدًا في قريتها، ولكن ابن القسيس جارنا هجر القرية أيضًا، والقسيس أبوه عالم بمقرك، وبما أنتِ تصنعين.

اضطربت لوسيل هنيهة عند سماعها: «وبما أنتِ تصنعين.» فامتقع لون وجهها، ولكنها اطمأنت حين واصل أخوها حديثه قائلًا: وهل أنت راضية بوظيفتك وبأجرتك؟ يظهر من هذا البيت ومفرش منزلك وأثاثه أنك في يسر وإقبال، إلا أنه مهما كانت أجرتك؛ خمسة وعشرين ريالًا أو خمسين في الأسبوع، فأخوك وليم لا يرضى بها، ولا يريد أن تقيمي في هذا البلد بعيدة عنه. جئت يا أختي الحبيبة لأعود وإياكِ إلى البيت، واعلمي أني نجحت نجاحًا باهرًا في سفري إلى البرازيل؛ لذلك وطنت النفس أن أؤسس عملًا لنفسي، فأحب أن تكوني معي إلى حين زواجك، أنا عالم بأشراك المدينة يا عزيزتي لوسيل وبموبقاتها، وقلما تسلم ابنة غريبة فيها.

صعدت لوسيل الزفرات واغرورقت عيناها بالدموع.

– ما بالك تبكين؟ ألا تعودين إلى البيت؟ أولست ترغبين في بيت تكونين سيدته؟

– لا يا أخي وليم، لا أعود إلى البيت.

– ولماذا؟

– لألف سبب.

– سبب واحد يقنعني، وقولي لي: لماذا تبكين؟

– هل تعشيت يا عزيزي؟

– لا.

إذن تشاركني العشاء الذي كنت أحضره لنفسي عند وصولك، وبعدئذٍ أقص عليك قصتي.

وراحت لوسيل إلى المطبخ تحضر العشاء لها ولأخيها، وبينا كان وليم ينتظر في غرفة الاستقبال وهو يجيل الطرف فيما فيها من الأثاث والأعلاق استوقف نظره صورة على ظهر البيانو، فإذا هي صورته وهو صبي، وإلى جانبها بل وراء إطارها الفضي، المسدس الذي ابتاعته منذ ساعة. فتحه وليم فإذا فيه ست رصاصات، ثم أعاده إلى مكانه دون كثير اكتراث.

وبعد برهة جاءت لوسيل تدعوه إلى غرفة الطعام.

– فرش منزلي ينبئ باليسر، ولكن مائدتي يا عزيزي وليم كما ترى.

– أتجوعين نفسك لتكسي جسدك مثل سائر البنات؟

– ربما كان الأمر كذلك.

– ولمَ لا نذهب إلى أحد المطاعم؟ قومي تعالي معي.

– لا لا، أفضل أن أكون وإياك وحدنا.

– لتقصي قصتك. حسنٌ هاتيها إذن.

أحنت لوسيل رأسها ثم رفعت منديلًا إلى عينيها.

– ما بالك؟ وما الداعي إلى هذه الدموع؟ أخبريني يا عزيزتي لوسيل ولا تكتمي شيئًا؛ فإنك تعلمين مقدار حبي لكِ. نعم، أنا لكِ في كل حين، إذا كنتِ في شدة فقد جئت أساعدك، وإذا كنتِ في محنة …

ونهض إذ ذاك يقبلها ويربت خديها.

– أطلعيني على أمرك، اكشفي سرك، ولا تخفي عني شيئًا، وكل ما أستطيع عمله من أجلك فأنا فاعله مسرورًا؛ تكلمي.

نهضت إذ ذاك لوسيل وراحت إلى ردهة الاستقبال ثم عادت والمسدس بيدها، فوضعته على المائدة أمام وليم.

– هذه هي قصتي.

– لوسيل!

– نعم، هذه هي قصتي.

– وما معنى ذلك؟ هل تنوين شرًّا بنفسك أو بأحد من الناس؟ إذن قد جئت في الوقت المرغوب فيه. نعم، جئت أخلصك من نفسك. حيف عليكِ، حيف أن يفكر مثلك بهذه الأمور؟ فإذا كانت هذه قصتك فقومي بنا نذهب إلى المسرح.

– لا، لا، إني أنتظر رجلًا هذا المساء.

– رجلًا تنتظرين؟ ومن هو؟ مَن تنوين قتله يا ترى؟

قال وليم قوله ضاحكًا، أما لوسيل فظلت ساكتة.

– كلميني يا عزيزتي، فقد حيرني أمرك والله، وهل لي أن أعرف من هو الرجل، وما عسى أن يكون شأنه؟

اسمع يا عزيزي وليم، أخبرك بما جرى ليلة أمس واليوم، ولكني أستحلفك أن لا تسألني أن أطلعك على سوابق حالي، وأرجوك أن لا تؤنبني ولا تغير ظنك بي، فأنا أعلم مقدار حبك لي، ولكنك قد تجهل مقدار حبي لك، رسمك دائمًا أمامي، وذكراك أثناء تغيبك لم تذهب يومًا من قلبي، ليس لي سواك في هذا العالم ولا …

فقاطعها وليم قائلًا: لا حاجة لهذه الديباجة، أخبريني ماذا جرى ولا تكتمي شيئًا.

أجابت لوسيل طلبه فأعلمته بما حدث في عشرين ساعة مضت، منذ مجيء توفيق زيدون الليلة البارحة حتى أصيل ذاك النهار، وكان وليم وهو يستمع حديثها جالسًا في الكرسي جامد العين، أصفر اللون، بل كان كتمثال من الشمع، ثم نهض من الكرسي فورًا وطفق يتمشى في الغرفة منكس الرأس، ويداه مضمومتان وراء ظهره. ظل كذلك بضع دقائق لا ينبس ببنت شفة.

تقولين: إنه سرق مالك وضربك وهم بقتلك، وطردك من بيته؟ لوسيل عزيزتي، وعدتك أن لا أستطلع ماضيك في هذا البلد، وعدتك ألا أؤنبك. ارفعي رأسك لوسيل ولا تبكي، كل ما أقوله يا حبيبتي هو ذا: ليس الرجل وحده ملومًا، ولكن غلطة الفتاة تغتفر قبل غلطة الشاب، وأنت أختي، أختي الحبيبة، لا شيء يزعزع حبي لكِ، ولا شيء يغير حسن ظني بكِ، على أني أسألك أمرًا واحدًا، ولا أقبل منكِ فيه رفضًا وإلا نسيتك، أنكرتك، محوت من قلبي رسمك وذكرك، أسألك يا لوسيل أن تعودي معي إلى البيت حالًا. قولي: نعم، عديني بذلك.

ولكن قبل أن تفوه لوسيل بالجواب قرع جرس الباب، فذعرت وهتفت قائلة: هو ذا.

– مكانك. أنا أقابله.

فصاحت: لا، لا، وقد أمسكت بيده.

– مكانك يا أختي، وسكني روعك.

– ولكن أعطني المسدس، أعطنيه. وقابله إذا شئت.

– ليس هذا من شأنك؛ فقد انتهى أمرك والرجل وابتدأ أمري.

– أرجوك أن تعطيني المسدس.

– أرجوكِ أن تجلسي وتسكتي.

تفلَّت من يديها وراح يفتح الباب، فإذا برجل هناك، فخاطبه بصوت هادئ قائلًا: أنت توفيق زيدون؟

– نعم.

– أنا أخو لوسيل، جئت أخبرك أنها لا تستطيع أن تقابلك.

وهي تهديك هذا المسدس علَّك تكون في حاجة إلى المال فتبيعه وتتصرف بثمنه. خذه، خذه.

لبث زيدون جامدًا كالصنم، فلم يمد يده ولا حرك شفتيه، أما وليم فوضع المسدس في جيبه ولطمه على خده بقفا يده.

– نذل، لص، جبان، إذا لم تكن في حاجة إلى المال فأنت في حاجة إلى المسدس، خذه، تصرف به كيف شئت. قال ذلك وأقفل الباب، ثم عاد إلى لوسيل يقول: إذا كان لا خير البتة في هذا المخلوق فالمسدس ألزم له، إذا كان لم يزل في نفسه بذرة صلاح واحدة فالمسدس لا يضره. لننسه الآن، انسيه يا عزيزتي لوسيل، انسيه وتعالي إليَّ، تعالي أقبلك.

رمت لوسيل نفسها على صدر أخيها، فطوقها بذراعيه يقبلها وتقبله، وعاشت ما تبقى من حياتها قربه.

أما توفيق زيدون فعاد إلى منزله يقول: وهذا إكليل العار. لا يتنازل أخوها أن يقتلني، لا يدنس يده بي. هذا إكليل العار يا توفيق، ولكني لا ألبسه، لا والله ولا أقتل نفسي قبل أن أصلحها، بلى سأضحي بها من أجل بلادي.

وكتب كتابًا إلى لوسيل يستغفرها، ثم ذهب إلى الدائرة العسكرية في حيه، فتطوع في الجيش وسافر بعد بضعة أشهر في فرقته إلى ساحة القتال، إلى خطوط النار.

•••

دخل إلياس نادر البيت متهللًا وكانت ابنته الوحيدة سلمى تعد له العشاء، فهرول إليها والجريدة بيده يقول: «قد عاد من فرنسا.»

– «من يا ترى؟ توفيق؟»

– «قد عاد توفيق سالمًا ظافرًا، راح نفرًا مقامرًا وجاء ضابطًا، على كتفه شريط الشرف، كما ترين، والوسام (صليب الحرب) على صدره.»

نظرت سلمى إلى الصورة ووجهها يتلألأ سرورًا.

– «وأين هو الآن؟»

– «كلمني بالتليفون من المحطة وقريبًا يكون هنا، هل يليق عشاؤك ببطل من الأبطال؟»

– «ويلي! لم أطبخ غير الأرز والبامية.»

– لا بأس، ارفعي هذا «المشمع» وضعي مكانه غطاء الكتان، ورتبي المائدة بما عندك من الذوق. سأرجع حالًا.

قال هذا وخرج مسرعًا إلى دكان صديقه بتروكنتي الطلياني، ثم عرج على اللحَّام، وعاد وفي كلتا يديه رزمة كبيرة.

– «خذي يا بنتي، توفيق يستحق مأدبة ولكن خير الجود الموجود، كما يقول المثل.»

ثم قال خافضًا صوته: «هل زارك أنطونيو اليوم؟»

– «لا، لم أره منذ أسبوع.»

– «إذا زارك غدًا يجب أن تكلميه بلطف يا بنتي، هؤلاء الطليان أشرار عند الغيظ.»

– «أنا لا أخشاه، أنا لم أعده بشيء. نعم ذهبت وإياه إلى المسرح مرة واحدة، كما تعلم، ولكني لم أقبل منه هدية ما، حتى ولا سلة تفاح صغيرة، ويوم جاءنا مكتوب من توفيق وعلمنا بقرب رجوعه قلت لأنطونيو بصراحة: إني لم أعد أستحسن ولا أستحل مقابلته.»

– «وماذا قال؟»

– «أخذ يهذي على عادته، ولكني أعرفه، هو رجل طيب القلب.»

عند ذلك قُرع الباب ففتحه أبوها، فإذا بتوفيق زيدون واقفًا هناك ينزع قفَّازه، فصاح إلياس به مرحبًا، وأخذ بيده فجرَّه إلى وسط القاعة هاتفًا: سرجنت زيدون، يا لطيف يا ستار — ولطمه لطمات على كتفيه ظهر تأثيرها في ركبتيه — كنت محدوب الظهر يا … قبل دخولك الجندية، فصرت كالرمح، وكان صدرك مثل القوس فصار مستويًا منفوخًا، وتلك السحنة الصفراء … وقرصه في خده وهو يكمل كلامه: «ما أحلى الورد!» ثم لطمه على ظهره لطمة تلو الأخرى مستمرًّا في ذا التحبب: «ما شاء الله، وصار يلبس القفاز، يا عيني، ويمسح حذاءه، ويحلق كل يوم.»

بعد ذلك كله طوقه بذراعيه وطفق يقبله في وجنتيه.

فقال توفيق ضاحكًا وهو يحاول الإفلات منه: «ما أحلى ساحة الحرب يا إلياس! وما ألطف رش المدافع! أليس في البيت غيرك يا ترى؟ دعنا نُسلِّم.»

فقالت إذ ذاك سلمى: «الحق مع توفيق يا أبي، وهل هو لعبة يا ترى؟ أرح يديك في الأقل.»

– «يا قرد، أيلام المشتاق إذا بث أشواقه؟» فقال توفيق وهو يصافح سلمى: «وكسر أضلاع المشتاق إليه، لا بأس، لا نلومه إذا كان لا يلومنا.»

فضحكت سلمى وهي تتقدمه إلى الديوان وتقول: «اجلس وقص عليَّ قصتك كلها من الألف إلى الياء.»

– «قصة طويلة يا سلمى، ولا شك أنه جائع مثلي، فبعد العشاء — إن شاء الله — غدًا وبعد غدٍ يقصها عليك بالتتابع. هاتي لنا العرق الآن وشيئًا من الماذا.»

امتثلت سلمى أمر أبيها، وراحت تخدم الاثنين كأنها جارية وكأنهما أميران، بل كانت في نظرهما وهي تروح وتجيء كطيف من أطياف الجنة، خفيفة الحركة، رشيقة القوام، ساحرة اللحظ والابتسام، فلا لوم على إلياس نادر إذا غالى في حب ابنته وإعجابه بها، ولا عجب إذا قبل توفيق من أجلها كل لطمة من لطماته، وضحك لكل نكتة من نكاته، فعند الكأس والحب والشوق واللقاء لا يرى المرء على الأرض غير ما في السماء، ولو سئل سرجنت زيدون رأيه في الكون بعد أن عاد من فرنسا وتعددت زياراته إلى بيت نادر، لقال ولا شك ناسيًا لوسيل والقمار وويلات الحرب: «الكون عالٍ من الطبقة الأولى.»

أما أنطونيو كاتالان بياع الثمار والحلوى في الدكان الصغير أمام بيت نادر، فجلُّ ما يقال فيه أن رأيه في الكون لا يليق بالنقل والنشر، ولا عجب؛ فقد حدث في عالم أنطونيو يوم عاد السرجنت زيدون من فرنسا حادث خطير غيَّر في نظره نظام الكائنات، فأمست الحياة كثمرة بالية بين يديه، أو كقشرة موز تحت قدميه.

أما في أثناء تغيب توفيق فقد كان موفقًا في عمله، سعيدًا في يومه، أرباحه كثيرة، وآماله كبيرة، وكل مصاعب الحياة لديه صغيرة حقيرة، كيف لا وكان إذا نظر من باب دكانه إلى الشباك في البيت الذي أمامه تجلت له آيات السحر والجمال في لواحظ فتانة سرقت من سماء سوريا النور، ومن فجر سوريا السهام؟! وكم مرة وهو يصفف تفاحاته وموزاته رآها في الشباك تنفض البساط، وخدها كالتفاح، وجبينها كجبين الصباح! وكم مرة وقف وسلمى في الباب عند المساء وكان الكون أمامها بابًا للسعادة مفتوحًا على مصراعيه! بل حدِّثْ ولا حرج عن ساعات جلس فيها وإياها على الديوان، فخيل إليه أن الأفلاك تدور تحت قدميه.

أما الآن، فالويل لمن أقفل الأبواب، والويل لمن أفسد عليه نظام الكائنات، والويل لك أيتها الفتاة السورية الناكرة الوعود، العابثة بالعهود، الويل لك من غضب أنطونيو كاتالان، والويل لمن تربع مكانه على الديوان، وحل محله في أعلى الجنان.

فها هو ذا مسرع إلى بيت صديقه القديم بتروكنتي البقال وعينه تقدح نارًا، ورأسه يلتهب بالمقاصد السامية لإصلاح الكون. أجل، ليس أنطونيو من الذين يخضعون مستسلمين إلى الأقدار، أو يسكتون عمن يلعب على حسابهم بالنار.

وصل إلى الدكان فوجد من فيه ممن هم في نظره آفات الزمان مشتغلين كل بما يهمه؛ بتروكنتي يعد نقوده، وامرأته تقشر البطاطا للعشاء، وابنهما الصغير القذر متربع على الأرض وهو يكسر بيديه ورجليه لعبة من اللعب، فود أنطونيو لو أن الكون كهذه اللعبة بين يديه.

– مساء الخير يا كاتالان. كيف حالك؟

– لا يهمني حالي، عندما تنتهي من عدِّ أموالك أكلمك.

– انتهيتُ، وأنا مُصْغٍ إليك.

فدنا أنطونيو منه وانحنى فوق صندوق الزجاج قائلًا: أمر مهم.

ففتح بترو بابًا صغيرًا بين رفوف الدكان وأدخله إلى غرفته الخصوصية.

أما بتروكنتي هذا فقد كان قبل الحرب العظمى عضوًا عاملًا في جمعية (اليد السوداء)، وكانت وظيفته أن يصنع لإخوانه ما يحتاجون إليه من أدوات التدمير والفناء، على أنه فتح أثناء الحرب مخزنًا لبيع المأكولات، فربح أرباحًا كثيرة، ثم تزوج وندم على ذنوبه، فصار بعد ذلك أبًا صالحًا وتاجرًا محترمًا، فلا عجب إذا عقد والكون معاهدة سلم أبدية، ولا عجب إذا اكفهر وجهه عندما سمع أنطونيو يقول: «اقترعنا مساء أمس.» وادعى أنه لم يفهم معناه.

– «قد هجرت الجمعية يا كنتي ونسيتها، ولكن إخوانك لم ينسوك، وهم وإن كانوا ناقمين عليك يغفرون ذنبك إذا أجبت الآن طلبهم … بل قد فرض عليك … لا تخف؛ فالقرعة لنسف المعمل أصابت غيرك.»

فقال بترو وهو يحك رأسه بسبابته: «وماذا تريدون مني؟»

– ما لا يحسن عمله سواك؛ قنبلة صغيرة مدمرة توضع بعلبة من علب الشيكولاته، وإليك الأجرة.

قال هذا أنطونيو وهو يخرج من جيبه لفافة من الورق، فعد له عشر دولارات، فابتسم قلب بترو لمرأى المال، ونسي أنه ندم وتاب إلى الله.

– يجب أن تسرع في العمل.

– سيتم بعد أسبوع.

– حسن جدًّا بعد أسبوع. إلى الملتقى.

فتصافح الطليانيان المدمران للكون، وخرج بياع التفاح راضيًا حتى على آفة الكون زوجة كنتي التي كانت تقشر البطاطا عند الباب، فسلم عليها، فردت السلام دون أن تنظر إليه.

– ما أجمل ابنك يا مسز كنتي! تعال إليَّ يا كنتي الصغير؛ سأعطيك لعبة جديدة إذا كنت تُقبِّلني.

وما كاد أنطونيو يُقبله حتى وثبتْ الأم كاللبؤة عليه فانتشلت ابنها من بين يديه. إن السيدة كنتي تكره كاتالان كرهًا شديدًا، وتتشاءم فوق ذلك منه، ومن عجيب تشاؤمها أن ابنها وقع ذاك المساء فجرح في وجهه، فنسبت ذلك إلى قبلة أنطونيو، ولما سألت زوجها عمَّا يريد قال: جاء يستدين بعضًا من المال، فصاحت قائلة: لا تعطه دولارًا واحدًا، لا معاملة بيننا وبين كاتالان.

ولكن بتروكنتي وإن كان يحب امرأته ويعمل غالبًا بنصيحتها لا يخلف وعده، وبينا كان يشتغل في اليوم الثاني في غرفته الخصوصية تعثر ابنه بصندوق في الدكان فوقع وشُجَّ رأسه، فصاحت الأم مستجيرة بكل قديسي إيطاليا، فخرج الأب كنتي يسب الشيطان وأعوانه في الأرض جميعًا.

وهُمْ في تلك الحالة جاء إلياس نادر يشتري بعض الأغراض لبيته، فساعد الأب والأم في تضميد جرح الصغير، ثم اشترى من كنتي أشياء كثيرة وفيها خمسة صناديق من البيرا.

فقال بترو: ولماذا هذا الإسراف يا إلياس؟

فقال إلياس: عُرس بنتي يا بترو! لي ابنة وحيدة وهي عندي بما في الدنيا، وسيكون عرسها لائقًا بها.

– وهل ترضى هي أن تقترن بأنطونيو كاتالان؟

– لا، لا، نحن لم نعد أنطونيو بشيء، عريسها ابن بلدها السرجنت توفيق زيدون، ويجب أن تحضر العرس يا بترو في الأسبوع القادم؛ جئت خصوصًا أدعوك، وإذا كنت لا تحضر أقتلك والله.

– سأحضر العرس، والله سأحضر.

وبعد أن خرج إلياس نادر من الدكان لبس بترو قبعته، وراح يستطلع خبر أنطونيو ليخفف ما بدأ يخامره من الريب، فلما وصل إلى الدكان رآه واقفًا في الباب كالمعتوه وهو ينظر إلى السيارة أمام بيت نادر، السيارة التي جاء بها السرجنت زيدون ليخرج بسلمى إلى النزهة.

– ما بالك يا كاتالان؟

فأجابه مبهوتًا: لا شيء، لا شيء.

– هل علمت أن سلمى نادر ستقترن بابن بلادها السرجنت زيدون؟

فهز أنطونيو كتفه ولعن نفسه باطنًا لأنه لم يتمكن من إخفاء غمه واضطرابه، ثم قال وقد تأججت النار فجأة في عينه: هل باشرت العمل؟ عجِّل به عجِّل.

– سأعجل به يا أنطونيو.

وعاد بترو إلى بيته يضحك ويقول: ما أجمل المعمل الذي تريد نسفه يا كاتالان!

وفي اليوم الثالث بعد هذه المقابلة، مرض ابن كنتي بالحمى، فنذرت أمه النذور للقديسين من أجله وهي تلعن أنطونيو كاتالان وتود أن تنظف الأرض منه، فشاركها زوجها بالصلوات واللعنات، وتجاوزها إلى التأملات؛ تأمل ما حدث لابنه الصغير يوم جاءه كاتالان بطلب من «الجمعية»، وفكر فيما أصابه في يوم كان يعمل ليلبي طلب الجمعية، وها هو ذا اليوم فريسة الحمى طريح الفراش، فسأل كنتي نفسه قائلًا: أذلك لأني قلت: يجب أن أبر بوعدي لكاتالان؟ الله ينتقم منك يا كاتالان.

ثم خطر لكنتي خاطر فيه الكفارة عن ذنوبه كلها، فجاء في آخر الأسبوع بعد أن زال الخطر عن صغيره إلى دكان أنطونيو بعلبة مختومة بالشمع الأحمر ودفعها إليه قائلًا: هذا آخر عمل أصنعه للجمعية، قد انتهيت من هذا العمل، أفهمت يا كاتالان؟ انتهيت، انتهيت تمامًا، وإياك أن تفتح العلبة؛ إن في فتحها قضاء الغرض.

فقال كاتالان متهللًا: أشكرك يا كنتي، أشكرك ثانيًا باسم الجمعية.

وفي ذلك اليوم كانت الأهبة للعروس قائمة في بيت نادر، فلبث أنطونيو في دكانه ينتظر قدوم السرجنت زيدون؛ لأنه لم يشأ أن يخص الفتاة وحدها بغضبه، ولما جاء السرجنت العريس استأجر أنطونيو رسولًا وأعطاه العلبة قائلًا: خذها بعد نصف ساعة إلى سلمى نادر وسلمها إياها يدًا بيد، بعد نصف ساعة؛ ثلاثين دقيقة.

وكان أنطونيو قد باع ثماره وحلواه كلها استعدادًا لهذه الساعة السعيدة، فأقفل الدكان وذهب توًّا إلى محطة سكة الحديد … ها هنا تنتهي وظيفتنا وتبتدئ وظيفة رجال الشرطة.

لما وصلت العلبة إلى سلمى نادت والدها لتطلعه على ما فيها، وهي تقول: هدية من أنطونيو؛ كنت دائمًا أقول، ولا أزال أقول: هو رجل طيب القلب.

على أن والدها عندما همت بفتح العلبة وقفها قائلًا: هؤلاء الطليان شياطين؛ قد يكون فيها ديناميت، أنا أفتحها خارج البيت.

وفي تلك الآونة، قبل أن يصل إلياس نادر وهو يحمل العلبة إلى الخارج دخل اثنان من رجال الشرطة السريين يوقفان باسم الشرع حفلة العرس.

ثم قال أحدهما مخاطبًا رب البيت: وأين الهدايا التي جاءتكم؟

فأشار إلياس إلى مائدة وقد وضعت عليها هدايا العرس.

– وهل جاءكم هدية من أنطونيو كاتالان؟

– هاكها.

وقدم إلياس نادر العلبة وهو يتنفس الصعداء، فاستلمها الشرطي متحذرًا وهو يقول: اشكروا الله أنكم نجوتم من الهلاك جميعًا.

– ألم أقل لكِ يا سلمى: إنه قد يكون فيها ديناميت؟ يا خبيث يا كاتالان، ستنال جزاء ما اقترفت يداك، فالقضاء لا يرثي للمجرم ولا يحابي في عدله.

وكان في دائرة الشرطة مشهد آخر في تلك الساعة له صلة بعرس سلمى نادر وبحبيبها السابق أنطونيو كاتالان.

وهاكم أنطونيو، وهاكم صديقه كنتي أمام المدير؛ الأول يحترق كمدًا ويتحفز انتقامًا وهو ينظر إلى ابن بلاده نظرات كأنها الخناجر، والثاني يضحك في سره وهو هادئ النفس مطمئن البال.

وكيف وصل الاثنان إلى دائرة الشرطة؟ وكيف علمت الدائرة بما كاد يحل ببيت إلياس نادر من الدمار والهلاك؟ هي الحلقة السرية في هذه القصة، ولكننا لا نكتم القارئ حتى أسرار من هم حراس الأمن العام وأمناء الهيئة الاجتماعية؛ يوم جاء أنطونيو إلى دكان بتروكنتي كان من حسن الاتفاق أو من سوء الاتفاق لأنطونيو أن جاء بعده أحد رجال الشرطة يزور صديقه القديم، فلم يجده، فاستقبلته زوجة الطلياني وأكرمت وفادته؛ إنها تعلم أن سعادتها الزوجية تتوقف على حسن صلتها بهؤلاء الناس.

وقد وعدت السيدة كنتي الشرطي عندما زار الدكان في اليوم التالي أن تساعده في استكشاف الغرض الغامض من زيارة أنطونيو لزوجها، وكان أن مرض ولدها — كما أسلفنا القول — فتشاءمت كما تشاءم زوجها بأنطونيو، وألحت عليه بأن يطلعها على الحقيقة بشأن زيارته، فأخبرها بنصها ولم يكذب: قد اشتريت له بعض المواد لصنع قنبلة صغيرة.

– للجمعية؟ لبيت نادر؟ لمن؟

ها هنا وقف الرجل قائلًا لامرأته: ما تعودت أن أبوح بأسرار الجمعية.

أما المرأة فبادرت سرًّا إلى دائرة الشرطة تطلعهم على الخبر وقد كتمت أن زوجها هو صانع القنبلة.

بيد أن رجال الشرطة لا يجهلون تاريخ «اليد السوداء» في تلك المدينة، فسارعوا إلى بيت نادر ليدفعوا عنه البلاء، وألقوا القبض على أنطونيو في محطة سكة الحديد ساعة كان يشتري تذكرة السفر، وكذلك على بترو كنتي المشهور بصنع القذائف والقنابل لجمعية «اليد السوداء».

وها هما أمام المدير، الواحد يضحك في سره، والآخر يود لو أن بيده تلك القنبلة فيقذف بها ذلك المكان متمثلًا بقول ذلك الذي هدم الهيكل في قديم الزمان: «عليَّ وعلى أعدائي يا رب.»

وها هو ذا الشرطي وقد عاد من بيت نادر يحمل العلبة الجهنمية.

فعندما رآها أنطونيو صاح كالمجنون: «هي علبتي، هي تخصني، أنا دفعت ثمنها، أعطوني إياها فأُعلِّمكم كيف يكون العدل، وكيف يكون الموت.»

قال هذا وهو يحاول الإفلات من أيدي الشرطة، فألزموه مكانه.

ثم تكلم بتروكنتي، فصدق مدير الشرطة الخبر، قصَّ القصة كلها وختم كلامه قائلًا: «افتحوا العلبة فتتأكدوا من صدق كلامي، وإذا كنتم تخشون فتحها؛ فأعطوني إياها واخرجوا من القاعة، فأنا أفتحها وأتحمل عاقبة أمرها.»

فقال المدير: «لا نكلفك ذلك يا كنتي؛ فقد برهنت مرة على توبتك الصادقة، وأنا الآن أفتح العلبة بناء على ما قصصت.»

قال ذلك وفض ختم العلبة، فقطع الشريطة المربوطة بها ثم فتحها؛ فإذا هي ملآنة من الأرز الذي يذرُّونه في تلك البلاد على العروسين تبركًا وتيمنًا، وعلى وجه العلبة المال الذي دفعه أنطونيو، العشر دولارات، ومعها ورقة كتب عليها: «يهنئك أنطونيو كاتالان، ويرجو أن تقبلي منه هذه العشر الدولارات فتشتري بها هديتين؛ الواحدة لكِ والثانية لزوجك.»

وكان أنطونيو في أثناء ذلك غائصًا في لجة الهواجس، فرفع رأسه بعد أن سمع هذه الكلمات وخاطب بتروكنتي قائلًا: ما أشرفك يا ابن بلادي! وما أكرمك! وما أعظم فضلك! وأنا اليوم أتوب توبتك، وأرجو أن أكون على شيء قليل من فضائلك في المستقبل. إني تائب أيها المدير، تائب توبة خالصة صادقة، وبرهانًا على ذلك أترك هذه العلبة بين يديك لتصنع بها ما تشاء، ولكني أتمنى إرسالها إلى صاحبتها.

وكانت الكلمة الأخيرة للعروس إذ عادت العلبة من دائرة الشرطة في ذلك اليوم بعد الإكليل إليها: «ألم أقل: إن أنطونيو كاتالان رجل طيب القلب؟!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤