المجنونة

ما أكثر المعارك في حارتنا! للسبب الخطير والتافه على السواء تنشب المعارك في حيِّنا، ما من ساعة من نهار أو ساعة من ليل إلا وتتطاير شتمة أو سخرية أو طوبة، يتشاجر اثنان أو أكثر، يستوي في ذلك الصغار والكبار، والويل لنا إذا طالت معركة فاتَّسعت دائرتها، وانضمَّ إلى كل شخص فريق، فانتشرت كالنار والتهمت الأرجاء، وإذا كانت المعارك لا تدوم، أو لا يمكن أن تدوم، فإن رواسبها لا تزول أبدًا، ومُضاعَفاتها تستفحل يومًا بعد يوم، حتى أمسى جونا مشحونًا بالتربص والحَذَر والكراهية والخوف، جو سريع الاشتعال قابل في أي لحظة للانفجار، ربما لمجرد نكتة أو غمزة عين أو نحنحة.

من بين المعارك التي ابتُلينا بها، برزت معركة بروزًا داميًا لا يُنسى، معركة غريبة فظيعة غامضة، غطَّت على جميع ما سبق أو لحق بها من المعارك، فلذلك سُميت بالمجنونة، وجرت في تاريخنا أسطورةٌ من الأساطير.

في ذات يوم اجتاحَت الحارةَ معركةٌ شاملة، اشترك فيها جميع مَن اتفق وجودهم على أرضها من عاملين وعاطلين. تَضارَبوا بادئ الأمر بالأيدي والأرجُل والرءوس، وكلما جذبت إليها أحدًا بدافعٍ من حب الاستطلاع، أو الاطمئنان على عزيز، أو المُصالَحة بين مُتخاصِمين، وجد نفسه بعد حين مشتركًا فيها بطريقةٍ أو بأخرى، واشتدَّ القتال وتضخَّم، واستعمل وسائل جديدة كالطوب والكراسي والعِصِي والآلات الحادة، وقد استمرت حوالي الساعتين قبل أن يترامى نبَؤها إلى القسم، ولما جاء رجال الأمن، وجدوا أرض الحارة مُغطاة بالقتلى والمحتضرين والمصابين إصاباتٍ قاتلة، وقد علا الصوات واحتدَم اللطم. لم يسلم رجل واحد، وما من أسرة إلا وفقدَت رجلًا أو أكثر، وكان للخبر وقْعٌ شديد لدى الجهات المسئولة، وبمجرد نشره في صحف تلك الأيام مصحوبًا ببعض الصور الدامية، اهتزَّ الرأي العام هزةً عنيفة غاضبة، ووقف رجال الأمن حَيارى. هل تقتصر مهمتهم على دفن الموتى؟! ما السبب؟ مَن البادئ؟ مَن المسئول؟ ومَن عسى أن يُجيب بعد أن سوَّى الموتُ بين المعتدي والمعتدى عليه، وحتى متى تُرتكَب هذه الفظائع بلا خوف أو اكتراث أو تقدير للعواقب؟!

– علينا أن نصل إلى الحقيقة مهما كلَّفنا الأمر.

ولكن أي جدوى تنتظر من وراء ذلك، وأي جديد هناك؟! ثَمةَ عداواتٌ قديمة وجديدة، ومُنافَسات على الفتونة، ولكن قد هلك الجميع بلا استثناء، لم يَبقَ شخص واحد من الذين اشتركوا في المعركة، لم يَنجُ إلا مَن كان يسعى وراء رِزقه خارج الحارة، ولدى أوبتهم اكتشف كلٌّ أنه فقَدَ ابنًا أو أبًا أو عمًّا أو خالًا.

– يمكننا أن نتصوَّر كيف تبدأ المعارك وكيف تتَّسع، ولكن مَن المحرِّك الأول؟ مَن المسئول؟

قالت امرأة: خرجتُ من بيتي لأرمي ماء الغسيل في الحارة، فرأيتُ العجل يجري وهو يحلف بأيمانه ودينه لينتقمنَّ.

ينتقم ممَّن ولمَن؟ لم تسمع أكثر من ذلك، عادت إلى حجرتها، وبعد وقت قصير ارتفعت ضجة كبيرة.

– نظرتُ من الشباك، فرأيتُ عددًا من الرجال لا يُعَدُّ ولا يُحصى، يَضرِبون ويُضرَبون ويسقطون!

– أرأيتِ العجل بينهم؟

– كان يُقاتل والدماءُ تغطي وجهَه وصدره.

– ومَن الآخر الذي قاتَله؟

– كان من المستحيل أن أعرف مَن مع مَن، أو مَن ضد مَن.

حسن، محتمل أن تكون المعركة قد بدأت بالعجل، ومحتمل أن تكون بدأت قبل ذلك، وأنه جرى لينتقم للجانب المعتدى عليه، ولكن مَن هو العجل؟! هو دقَّاق طعمية، ومن رجال عجرمة، فهل ترجع المعركة إلى العداوة التقليدية بين رجال عجرمة ورجال المناديلي؟! ولكن شهد كثيرون بأن العلاقات بين عجرمة والمناديلي كانت تنعم بما يشبه الهُدْنة، وإن يكن من المستحيل التأكد من هذه النقطة بعد أن قُتل العجل وعجرمة والمناديلي جميعًا.

– إذن، مَن هم الأشخاص الذين يخاطر العجل بروحه للانتقام لهم؟

أجاب كثيرون: شقيقه حتحوت.

وتَبيَّن أنه كان بيَّاع بطاطة، وقد قُتِل أيضًا في المعركة.

– فمَن هم أعداؤه؟

– جميع رجال المناديلي، وقد قُتِلوا عن آخرهم.

وسُئل من ضحايا المعركة مَن استطاع أن يتكلم، قبل أن يُسكِته الموت، قال أحدهم: رأيت صديقًا في المعركة، فانضممتُ إليه، ولكني لم أعرف أسبابَها.

وقال ثانٍ: ظننتُ أن المعركة تدور بين عجرمة والمناديلي، فانضممتُ إلى رجال المناديلي بطبيعة الحال.

وقال ثالث إنه اشترك في المعركة لأنه لا يستطيع أن يشهد معركة ويُقاوِم إغراء الاشتراك فيها.

وقال رابع إنه لمح بين المتعاركين غريمًا له في حب امرأة، فهاجَمَه بلا تردُّد.

وخامس قال إنه كان يغادر بيته، فأصابته طوبة عمياء، فراح يرمي بالطوب على غير هدًى، حتى أصابته سكين.

وهكذا وهكذا، حتى تبيَّنَ أن شخصًا هاجَم آخر، لا لشيء إلا أنه يتشاءم برؤية وجهه، وعلى كثرة ما قيل، فإن التحقيق لم يَفد منها شيئًا ذا بال، ظل دَوْر العجل محوطًا بالغموض، وظلت الأسباب الأولى للمعركة مجهولة.

– ألم يَرَ أحدكم العجل وهو يقتل أحد ضحاياه، أو عندما قُتل؟

قالت امرأة: رأيت العجل وهو يقتل القللي.

وقالت أخرى: رأيت العجل وهو يقع قتيلًا بيدِ دقلة.

إذن، فالعجل قد قتل القللي، ودقلة قد قتل العجل، وليس عجيبًا أن يقتل دقلة، وهو من رجال المناديلي، رجلًا كالعجل من رجال عجرمة، ولكن لماذا قتل العجل القللي، وكلاهما من رجال عجرمة؟!

وتحاور المحققون: إنه لَلغز!

– إنه لَلغز!

– أجل، ولكن قد نجد في حلِّه الحلُّ الأخير للمسألة.

تركَّزَ اهتمام الباحثين على القللي، فدلَّت التحريات على وجودِ شقيقٍ له على قيد الحياة يُدعى الزين، وسُئل الزين عن علاقة شقيقه القللي بالعجل، فأجاب ببساطة: ثلاثتنا من رجال عجرمة، وكنا أصدقاء.

– ألم تتغيَّر علاقتهما في الأيام الأخيرة؟

– كانا صديقين حتى اللحظة التي تركتُ فيها الحارة، في صباح اليوم المشئوم!

ثم أدلى بما لديه من معلومات، فقال: خرجت في الصباح الباكر بعَرَبتي لأبيع الفول، وعادةً ما يذهب معي حتحوت شقيق العجل، وهو بيَّاع بطاطة، فنسرح معًا أو نستريح من تَجْوالنا معًا.

– متى علمت بالمعركة؟

– رجعت إلى الحارة ظهرًا، كان كل شيء قد انتهى، ووجدت أخي والعجل وحتحوت بين القَتْلى.

– قلت إن حتحوت كان معك، فكيف قُتِل في المعركة؟

– وقع له حادث اضطره إلى العودة مبكرًا عن ميعاده.

– كيف كان ذلك؟

– من عاداتنا — أنا وهو — أن نتسلَّى في أوقات الفراغ بالمصارَعة، تَصارَعنا كالعادة، وإذا به يسقط مُغمًى عليه، رششتُ الماء على وجهه حتى أفاق، وعند ذاك اعترف لي بأنه مسطول وأنه يشعر بخَوَر، فلذلك رجع إلى الحارة وهو لا يدري أنه ذاهب إلى حتفه!

ما زال اللغز لغزًا، لِمَ قتَل العجلُ القللي وهو صديقه، وكلاهما ينتميان إلى فتونة واحدة؟

هل كان هو الرجل الذي أقسم العجل لينتقمنَّ منه، أو أن القللي تصدَّى للدفاع عن الآخَر الذي اندفع العجل للانتقام منه؟!

وتطوَّعَ للشهادة رجل ليس في الأصل من أهل الحارة، ولكنه من زبائن العجل، قال: ذهبت إلى دكان العجل لأدق طعمية، فرأيته يغادرها مُسرعًا غاضبًا وهو يهتف: «يقتلك المجرم! .. الويل له!»

ها هي شهادة أخرى تؤكِّد شهادة المرأة الأولى، وتضيف إليها تفاصيلَ جديدة، العجل تبعًا لهذه الشهادة يريد أن ينتقم لشخصٍ قد قُتل، شخص قُتل قبل أن تبدأ المعركة، ربما في اليوم السابق لها، أو في أثناء الليل، وتابَع الشاهد المتطوِّع قائلًا: جلست أنتظر في الدكان دقائق، ثم حدَّثني قلبي بأن أحداثًا ستقع، وكنت أعرف كيف تشتعل النار في الحارة لأوهى الأسباب، فذهبتُ مُؤثرًا السلامة.

– ألم تَرَ أحدًا في الدكان؟

– رأيتُ غلامًا في العاشرة يقف في مدخلها، فسألته عن المكان الذي ذهب إليه العجل، ولكنه تراجع كالخائف، ثم جرى بسرعة حتى اختفى.

وعُرِض عليه جمْعٌ من غلمان الحارة، ولكنه لم يَتعرَّف على الغلام المَعْني، واتجه البحث إلى معرفة القتيل الذي هبَّ العجل للانتقام له. مَن كان ذلك الرجل؟ هل قُتل أحد من أهل الحارة أو من أصدقاء العجل قبيل المعركة؟ كلا، لم يُقتل أحدٌ من هؤلاء قُبَيْل المعركة، سواء بساعات أو بأيام!

– أنظل ندور وندور حول أنفُسنا دون أن نتقدَّم خطوة واحدة؟!

وإذا بالتحريات الدقيقة تَقطع بأن المحور الذي دارت حوله المعركة كان في الخرابة الواقعة لقاء مقلى القللي، وإذن فمن المحتمَل أن العجل جرى إلى القللي في المقلى ليعتدي عليه فنشبت معركة، واتَّسعَت مندفعةً نحو مجالها الطبيعي في الخرابة؛ وإذن، فلعل القللي هو الذي قتل الشخص الذي جاء العجل للانتقام له، ولكن كيف يُؤخَذ بهذا الاستدلال ولم يثبت بعدُ مقتلُ أحدٍ قبل المعركة؟!

– لعلنا نقترب من الحقيقة، وما علينا إلا أن نعثر على الخيط الذي يجمع أشتاتها.

لقد علم العجل بأن القللي قَتَل أو حرَّضَ على قتلِ شخصٍ ما عزيز عليه، فغادر دكانه إلى المقلى لينتقم من قاتله، لم يجد المكان خاليًا ولا القللي لقمة سائغة، فتدخَّل كثيرون بينهما، بدأت معركة، اشترك فيها كثيرون لأسباب شتى، انجرَّ إليها عن سُوءِ نِية أو سُوءِ فَهْم رجالُ عجرمة والمناديلي، ثم سرعان ما اجتاحت الحارةَ كلها، حتى أهلكت جميع مَن اشتركوا فيها. حدث ذلك كله انتقامًا لمصرعِ شخصٍ مجهول، لم يثبت مصرعه حتى الآن؟!

وتَحاوَر رجال الأمن: ولكن مَن الغلام الذي كان في دكان العجل؟

– لقد جِيء بغلمان كثيرين، فلم يتعرَّف الشاهد على أحد منهم.

– لعله غلامٌ غريب عن الحارة!

– ولعله الخيط الذي نبحث عنه!

– ماذا كان يفعل في الدكان؟

– ولماذا جرى كالخائف؟!

وأكَّد تلك الظنون رجل من غير أهل الحارة، ولكنه يبيع الكنافة في المنعطف المُوصل إليها.

قال في شهادته: رأيت غلامًا في العاشرة يجري نحو الحارة، وهو يصيح يا عم عجل .. حتحوت أخوك قُتِل!

انفجرَت تلك الشهادة كالقنبلة، جمعوا غلمان الحارة وعرضوهم عليه، ولكنه لم يتعرَّف على الغلام المقصود. ماذا يعني قول الغلام؟ إن حتحوت شقيق العجل قد قُتِل حقًّا، ولكن في المعركة، لقد جاء والمعركة مستعرة بشهادةِ شهودٍ كثيرين، ثم رأى جثةَ أخيه العجل، ولما علم بأن قاتله هو دقلة، حمل عليه حتى قتله، ثم قُتِل بعد ذلك!

وسُئل بياع الكنافة: أرأيت الغلامَ قبل المعركة أم في أثنائها؟

– قبل المعركة.

– أتستطيع أن تعطينا فكرة عن الوقت الذي مضى بين رؤية الغلام وبدء المعركة؟

– حوالي ربع ساعة.

وتحاوَرَ رجال الأمن.

– لا شك أن ذلك الغلام هو الذي أشعل الفتيل!

– بلى، جرى إلى العجل فأخبره بمقتل شقيقه!

– ولكنَّ شقيقه كان في ذلك الوقت حيًّا يُرزَق!

– كيف؟ ولِمَ كذب الغلام؟!

– لعل شخصًا حرَّضه على ذلك لغرضٍ في نفسه؟

– ولكن، أين اختفى؟

– لعله ليس من غلمان هذه الحارة.

– ولا شك أنه نفس الغلام الذي رُئي في دكان العجل.

طال التحقيق وتشعَّب، ولكنه لم يَنتهِ إلى نتيجةٍ مريحة أو مُقنِعة. وأخيرًا، قال المأمور لرجاله، وقد أنهَكَهم البحث والتفكير: لقد راجَعتُ التحقيقَ والتحريات، فاقتنعتُ بأن الحقيقة أفلتَت منَّا إلى الأبد، ولكني أتخيَّل أنها ربما جرت على الوجه الآتي:

الزين (شقيق القللي) وحتحوت (شقيق العجل) سرحا معًا كعادتهما كلَّ يوم، وكعادتهما أيضًا تَصارَعا في وقت الفراغ طلبًا للترويح عن النفس، اجتمع حولهما نفرٌ من الغلمان ليَتفرَّجوا على المصارعة، سقط حتحوت مُغمى عليه من أثَرِ المخدِّر الذي تَعاطاه، رآه الغلامُ المجهول فاعتقد أنه قُتِل في المصارَعة، جرى إلى الحارة ليُبلغ العجل، أخبره أن الزين قتل أخاه، صدَّق العجل الخبرَ دون أن يَتثبَّت منه، فوقع فريسةً للغضب والجنون، غادَر دكانه لينتقم لأخيه، ولما لم يكن له من سبيلٍ إلى القاتل الذي حدس هربه، فقد قصد إلى شقيقه القللي؛ ليصبَّ عليه انتقامه. تَعارَك الرجلان، انضمَّ إلى كلٍّ رجالٌ من صحبه، ظنَّ رجالُ عجرمة والمناديلي أنهم المدعوَّون للمعركة، فرموا بأنفسهم فيها، ثم اشترك كثيرون لأسبابٍ شخصية أو عَرَضية حتى شملت المعركةُ الحارةَ كلها، ثم كان ما كان من هلاكِ جميع مَن اشتركوا فيها!

دُهِش رجالُ المأمور وهم يصغون إليه، ومع أن تخيُّلَه لم يكن إلا فَرْضًا، إلا أنه جاء مُقنِعًا ورابطًا بين الحقائق المُتناثِرة، ويمكن على أساسه حلُّ لغز المعركة.

– يا له من خيالٍ صادق!

– وإذن، هلكت الحارة لغباءِ غلام!

– أو غباء رجل وهو الأرجح!

– بل هو غباء الحارة، وهو الأصدق!

وجرى خبر المعركة مجرى الأمثال والأساطير، وركَّز الرُّواة على دور الغلام المجهول فيها، لا لاطمئنانهم إلى حقيقته، ولكن لطرافته قبل كل شيء. أمَّا سِرُّها، فقد ضاع إلى الأبد، مخلِّفًا وراءَه ذكرى مغلَّفة بالسواد والأحزان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤