صورة

يسري عبد المطلب يتناول فطورَه المكوَّن من قطعةٍ من الجبن القريش والخبز المحمَّص وفنجال قهوة، وفي قبالته جلسَت زوجتُه مُنهمِكة في مُطالَعة الجريدة، وتنفَّسَ جوُّ الشقةِ هدوءًا كهدوء الشيخوخة، هو طابعها دائمًا أبدًا، عدا أيام الزيارات التي يُحيِيها الأبناء. وقرَّبت المرأةُ الجريدةَ من عينَيها في اهتمام طارئ، ولكن الرجل رمَقها في غير اكتراث، ونادرًا ما يثير اهتمامَه شيءٌ مُذ أُحيل إلى المعاش، وتمتمَت المرأة في رثاء: مسكينة!

وقال لنفسه: دائمًا صفحة الحوادث أو صفحة الوَفَيات! ومدَّت له يدَها بالجريدة، وهي تقول في حسرة: شابة، وجميلة .. انظر.

يا فتَّاح يا عليم! جثة مُلقاة على الرمال، الوجهُ واضحُ المعالم، وسيمٌ يافع، مُغمض العينَين إلى الأبد. ونظر في الجريدة دونَ أن يتناولها، وتَساءَل: قتيلة؟

– في الصحراء، وراء الهرم، مُؤخر الرأس مُهشَّم، لم يُسرَق منها شيء، مجهولة.

فقضم لقمة وهو يقول: قصةٌ قديمة مُعادة.

– لكنها لم تُسرق!

– حب، زفت، أي شيء، لم تُقتل طبعًا بلا سبب.

– جميلة وشباب، المسكينة!

وأمعَنَت النظر في الصورة، وقالت: يا قلب أمِّها!

ووضعت الجريدة على السُّفرة، واستطردت: إني أعجب كيف يُقدِم إنسانٌ على قتلِ إنسان!

فقال باسمًا: لا تُنكِري أنكِ عاصرتِ حربَين عالميتَين، وعشراتِ الحروب المحلية.

– الحربُ شيءٌ آخَر، ليس كأنْ تقتل إنسانًا وجهًا لوجه، بقصدٍ وغَدْر وقسوة، والمسكينة — ولا شكَّ — ذهبَت مع القاتل وهي مُطمئِنَّة.

– اللعنة، ولماذا ذهبت معه؟

تَنهَّدت المرأة قائلة: الله أعلم، والله غفور.

•••

وفي شقة بالعمارة رقم ٥٠ بشبرا، كانت فتاة تنظر إلى صورة القتيلة بذهول، لا تكاد تُصدِّق عينَيها، ثم هرعت إلى أمها بالجريدة هاتفة: ماما .. انظري!

نظرت الأم إلى الصورة، وقرأت الخبر، ثم رفعت عينَيها إلى ابنتها مُتسائِلة، فقالت هذه بانفعال: شلبية يا ماما، أَلَا تذكرين شلبية؟!

أعادت المرأة النظرَ إلى الصورة بإمعان، حتى اتَّسعت عيناها دهشةً وانزعاجًا، وصاحت: يا ربي! هي هي شلبية، شلبية دون غيرها.

قالت الفتاة برثاء وتأثُّر: كانت عندنا منذ خمس سنوات.

– أجل، تُرى كيف ولِمَ قُتلت؟!

غمغمت الأم بكلامٍ غير مفهوم، ولم يسكن انفعالُ الفتاة، فقالت: كانت طيِّبة جدًّا يا ماما، تَتلقَّى أيَّ أمرٍ بصبر وابتسام، وكانت تغنِّي في الحمَّام أغانيَ ريفيةً بصوت ساذج لطيف.

ثم بنبرة كالعتاب: وقد طردناها بلا سبب!

– هي مسكينة، ربنا يرحمها، ولكنا لم نظلمها.

– كانت لطيفة وساذجة ومؤدَّبة، ولكني لم أَدرِ لأيِّ سببٍ طُرِدت!

فقالت الأم بوجوم: لم تُطرَد بلا سبب، وكلُّ شيءٍ قسمة ونصيب.

فتَنهَّدت الفتاة قائلة: لعلها لو بقيت عندنا لَمَا …

فقاطَعَتها بحدة: أنتِ مجنونة؟! .. أليس كلُّ شيءٍ بإرادة الله؟

فانخفض صوتها وهي تقول: مسكينة، كنتُ أحبها، وبابا لم يرغب أبدًا في طردها.

وقطَّبت الأم عند ذِكر «بابا»، وغامت عيناها بذكريات مُقلِقة فيما بدا، وقالت بصوت جاف: كفى، الله يرحمها، وكفى.

وأعادت النظر إلى الصورة، وتمتمت: ليست الملابسُ بملابسِ خادمةٍ.

– لعلها …

فقاطَعَتها قائلة: ليكن السبب ما يكون، ولكنني لم أظلمها، والله يرحمها.

وساد صمت، ثم قالت الفتاة: البوليس يُناشِد مَن يَتعرَّف على الصورة أن يَتقدَّم للإدلاء بمعلوماته.

فقالت الأم بحزم: لقد انقطعَت صِلتها بنا منذ خمسة أعوام، ولن نفيد التحقيقَ شيئًا، وأنتِ لا تَتصوَّرين المتاعب التي يَتعرَّض لها مَن يذهب إلى البوليس.

ورمت بالجريدة بعيدًا، وهي تقول: أيُّ صباحٍ هذا يا ربي؟!

•••

ووقع بصَرُ السيد أنور حامد على الصورة، وهو يَتصفَّح الجريدةَ في فترةِ استراحة قصيرة في أثناء عمله بإدارة التفتيش. حملق فيها بانزعاجٍ لم يَخفَ عن زميله في الحجرة، فسأله: خيرًا إن شاء الله!

فطوى الجريدة وهو يتمالك نفسَه، قائلًا: صديقٌ تُوفِّي.

ولكن اجتاحه اضطرابٌ لم يُفارِقه طوالَ الوقت، شلبية العاملة بالمشغل، الجميلة العذراء، التي اضطرَّ آخِرَ الأمر إلى أن يَتزوَّج منها زواجًا عُرفيًّا، وبسوءِ نِيةٍ اشترط عليها ألَّا تَنقطِع عن العمل، ولما حملَت اغتصَب منها مُوافَقةً على الإجهاض، وقالت وهي تبكي: أنت لا تحبني، ولا تَعُدني زوجة!

فقال مُلاطِفًا: بل أنتِ زوجتي، ولكني لا أريد خلفًا!

ولما تَنغَّص العيش في الأيام التالية، حزم أمرَه وسرَّحها، وصديقه عبيد رئيس الحسابات كان الشاهد وحافظ السر، ومن شدة اضطرابه انتقل إلى حجرته، فأطلعه على الصورة، وهزَّ الرجل رأسَه وتمتم: مسكينة، تُرى كيف قُتلت؟

– سنعرف غدًا أو بعدَ غد، وليس من العسير تخيُّلُ ذلك.

وتبادلا نظرةً لم يَرتَح لها أنور حامد كثيرًا، فقال: كانت عنيدة، فماذا كان يُمكِن أن أفعل؟!

فقال المدير بنبرةٍ مخففة: كانت تحبك جدًّا، ورغبَت في الأمومة.

– ولكن الناس والأهل! .. لا يَخفى عليك ذلك.

– طبعًا، فَلْيغفر الله لنا جميعًا!

امتعض مليًّا، ثم تساءل: هل أذهب إلى البوليس؟!

– أظن هذا.

– ولكن، أَلَا يجرُّ ذلك إلى متاعب، وأنا شارعٌ في الزواج؟

فتَفكَّر الرجل قليلًا، ثم قال: إذن لا تذهب، وإذا جاء ذِكرُك في التحقيق مستقبلًا، فادَّعِ أنك لم تَرَ الصورة.

•••

ولم يطَّلِع حسونة المغربي على الصورة إلا حوالي العصر، وهو موعدُ استيقاظه من النوم عادةً كلَّ يوم، وفرَك عينَيه كأنما لا يُصدِّق، وقال: درية! .. يا للشيطان!

وأدام النظر إلى الصورة، ثم غمغم: لماذا قُتلت؟!

ومضى إلى الحمَّام وهو يَتجشَّأ حموضةَ الخبر، وسرعان ما استردَّ هدوءَه، فقال: ولكنكِ شيطانةٌ مُجرِمة!

ثم مُواصِلًا، وهو يغسل وجهه: الجزاء من جنس العمل.

وراح يَحلق ذقنَه، ويقول وكأنه يخاطب صورتَه في المِرآة: عرفتُكِ مطلَّقةً ذليلة، بعدَ أن جرَّبت شهامة الأفندية، أعطيتُكِ الحبَّ وجعلتُكِ نَجْمةً في هذا البيت، وعشقك أحسنُ ناس في البلد، وماذا كان الجزاء؟ .. هربت، أجل هربتِ لكي تُقتلي في الصحراء، فإلى الجحيم.

وحوالي التاسعة مساءً، جاء الرجال وجلسوا حول مائدة القمار، ودارَت عنايات وبهيجة بالويسكي والمزات، وعلموا بالخبر، فقال فهمي رمضان: قد تُجرُّ إلى التحقيق يا حسونة.

فقال باستهانة: لكنني لم أرَها منذ عام.

– ولو!

وقال سعيد الإمام بحذَر: من الحكمة أن نَمتنِع عن الحضور، حتى يقبضوا على القاتل.

فصاح حسُّونة بقلق: لا شأنَ لي بالجريمة.

فقال حسني الديناري: اذهب إلى البوليس، وأَدلِ بمعلوماتك.

فتَساءَل الرجل بذهول: أتريدني على أن أعترف بأنها كانت تعمل هنا؟

فقاطَعه: كلا .. قُل فقط إنها كانت صديقتك، واختفت منذ عام.

– وإذا سُئلت عن عملي .. أو بطاقة الشخصية .. أو تَحرَّوا عن مسكني؟!

– في السكوت خطَرٌ أفدحُ.

فلوَّحَ بيده بغضبٍ وسخط، وهتف: كان ضروريًّا أن تُقتَل لتُربِك حياتي!

فقال الرجل في غيظ: ياما نصحتُك! .. ولكنك كنتَ وحشًا في مُعامَلتها! كنتَ وحشًا رغم تَفانيها في حبِّك.

•••

واستيقظت فتحية السلطاني حوالي المغرب، في الحجرة التي تُقيم فيها مع دولت ونعمات وأنيسة وعلية، وكانت درية (شلبية) أول ما خطر ببالها، وانفجر في رأسها بركان من الغضب لم يُفارِقها طيلة الوقت الذي قضته في الحمَّام، وهي تغيِّر ريقها، ثم وهي واقفة أمام المرآة تَتبرَّج: الخنزيرة .. الكلبة .. ماذا تظن بنفسها؟!

وتَثاءَبت دولت، وقد أدركت مَن تعني، وقالت وكأنما تعتذر عن الأخرى: كانت سكرانة!

– ولو! .. إنها تشرب البرميل فلا يدور لها رأس.

ونسيت الموضوع دقائقَ وهي تروِّض شَعرَها المتمرِّد، ثم عادت تقول: نظرَت إليَّ من فوق! .. العفو .. العفو يا مولاتي! .. أنسيتِ عرشَكِ تحت الجاموسة؟

وقالت نعمات: كانت سكرانة وهي غير معتادة، ورغبت في مُداعَبتك، تُرى أين باتت ليلتَها؟

– في أي داهية مع أي جربوع، وستعرف الليلةَ مَن أنا!

وذهبت أول الليل، فتجوَّلَت طويلًا على كورنيش النيل دون ثمرة، ثم قصدت حلواني كوكب الشرق، فاتَّخَذت مجلسَها المعهود بالدور الثاني، وأخذت ترامق الموجودين وتنتظر، ومن آنٍ لآخَر تنظر نحو المدخل، وهي تَتوثَّب للقاء غريمتها. ولما مرَّ النادل سألته: ألم تَرَ درية؟

فأجاب دون أن يتوقَّف: زمانها جاية.

•••

وأمضى عادل اليومَ متسكِّعًا بين الحدائق على شاطئ النيل، لم يذهب إلى الكلية، ولم يَنَم ليلةَ أمسِ ساعةً واحدة، وتأبَّط الجريدة، وكلما وجد نفسه في خلاء، فتح صفحة الحوادث وأدام إلى الصورةِ النظرَ، وقال إنه سيسقط آخِرَ الأمر من شدة الإعياء، وقال إن ريقه جافٌّ ومُر، وتنفُّسه بطيء، وها هي الزوبعة الهوجاء قد سكتت، والأسئلةُ المندلِعة قد خمدت، والنية المبيَّتة قد نُفِّذت، ومع ذلك فلا يشعر مطلقًا بأنه حقَّق مَطلبًا، أو بلغ أملًا. لا شيء، خواء، انهيار، وقد قُضي عليك. ولا مهرب، فإن يكن البقاء خطرًا فالهرب أشد، وأين تهرب؟ وكم من راءٍ يُحتمل أن يكون رآك وأنت ماضٍ بها؟ وخُيِّل إليك أن صوتًا ناداكَ في المرقى إلى الهرم، وفضلًا عن هذا وذاك، فالبوليس كالهواء يملأ الأماكن المغلقة.

– إلى أين تسير بي؟

– ما أجمل أن نبتعد في الصحراء!

هم يسألون عنك في الكلية، وينتظرونك حول البيت. ما أعجزنا عن أن نرجع دقيقةً واحدة إلى الوراء!

– درية .. أنتِ دائمًا تكذبين!

– أنا لا أكذب، ولكنك لا تُصدِّق.

– كم أحببتُكِ من كل قلبي، ولكنكِ لا قلبَ لك.

– ما أشدَّ الظلام حولنا!

– قاسية كالحجر.

– عادل .. صوتك متغيِّر .. وأنا لا أحب الظلام.

– لن تَرَي بعد الساعة إلا الظلام.

انتهى كل شيء، وها أنتِ تنكِّلين بي في موتكِ كما نكَّلتِ بي في حياتك، لم تكوني امرأة، ولا آدمية، ولم ينبض قلبُك بالحب أبدًا. قوة شريرة خُلقت من الشر لتُمارِس الشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤