صوت مزعج

كان بمجلسه الصباحي بكازينو الشجرة، يحتسي القهوة ويدخِّن سيجارة، ينظر إلى مياه النيل الساكنة أو ينظر إلى سماءِ يوليو الصافية والباهتة من حِدة إشعاع الشمس، ويفكِّر بقلق، ويُغمِض عينَيه إمعانًا في التفكير، ثم يفتحهما فيرى كراستَه المفتوحة على صفحةٍ بيضاء، وقلمَه الرَّصاص مطروحًا عليها بالعَرض رهْنَ الإشارة. ويُجِيل بصره في الحديقة، فيرى اثنين هنا واثنين هناك، ولا أحدَ ثمة غيرهم، والنادل نفسه قعد فوق السور المطل على النيل في شِبه عطلة. هو وحده يجيء للعمل، ليستوحي نهار يوليو المشاكس المعانِد موضوعًا جديدًا، يملأ به صفحة «أمس واليوم» بمجلته الأسبوعية، وهو موضوع يجب أن يَتجدَّد أسبوعًا بعد أسبوع، وإلى ما لا نهاية، وعلى توفيقه فيه، تعتمد سعادةُ شقته الأنيقة وزوجته وطفله البالغ عامَين وسيارته الأوبل، فضلًا عن جرسنييرة بعمارة الشرق مُعَدَّة للطوارئ.

– يا سماء جُودِي بالأفكار.

وامتدَّ بصره من خلال النظَّارة إلى قصر قائم قبالته على الشاطئ الآخر، مُغلَق النوافذ والأبواب، مُتوهِّج الجدران بالأشعة المتدفِّقة، ولا حركة واحدة تدبُّ في ركنٍ من أركانه، حتى أشجاره استكنَّت وجمدت كأنها تماثيل.

– أن تعيش في قصر! غير مُطارَد بمَطالِب الرزق، ولا همَّ لك إلا التأمل!

وتَنهَّد وقال وهو ينظر إلى نفاية القهوة الراسبة في قعر الفنجان: عندي أفكار، عندي مشروعات، ولكنني أبدِّد العمر في تسجيل ملاحظات فارغة، واقتراحِ حلولٍ معروفة لمشكلات معروفة .. أف!

وباغَته صوت رقيق من فوق رأسه، قائلًا: أستاذ أدهم، صباح الخير.

الْتَفت إلى الوراء، مُداريًا انزعاجَه بابتسامة، ثم قال مستخلصًا نفسَه من أفكاره: نادرة! .. فرصة سعيدة حقًّا.

تَصافَحا، ثم جلست تجاهَه وهي تضع حقيبتها البيضاء فوق الصفحة البيضاء.

– رأيت ظهركَ من الطريق فعرفتك.

– متى تعرفينني من وجهي كما تعرفينني من ظهري؟

فقالت مازِحة: ولكنَّ وجهكَ مطبوعٌ في صدري!

ورنا طيلةَ الوقت إلى بنائها الدقيق التكوين، ووجهها المتألِّق بالصبا، ورغم تلاحُم الطفولة بالشباب في عمرها، فإن الزخرف شمل بشرتها والعينَين والجفنَين والرموش والأظافر والحاجبَين، وسألها دون اكتراث لمزاجها: كنتِ ذاهبة إلى ميعاد أم راجعة؟

– لا أحب مواعيدَ الصباح، ولكني كنت أتسكَّع بالسيارة بلا هدف.

بلا هدف! اصطلاحٌ وبائي، غير أنكَ في الخامسة والثلاثين، وهي في السابعة عشرة، وهي متحرِّرةٌ لدرجةٍ تثير إعجابَ أيِّ شخصٍ يملك جرسنيرة، وقارئة مُولَعة بفرانسوا ساجان، وكم أثارت دهشتَه ليلةَ تعرَّفَ بها في مجلس من الزملاء بسان سوسي! مُحدِّثة بارعة في الفن والحياة، ولا تجد بأسًا عند الضرورة من التندُّر بنكتة مكشوفة، وهي تدرس السيناريو مُذ أهملَت دراستها الجامعية، ولعلها تتطلَّع إلى سماء النجوم، ولها مُحاوَلات فنية، فشلت رغم جمالها في نشرها بالمجلة أو الإذاعة. وفي آخِرِ لقاءٍ معًا، وبحضور بعض الزملاء، أعلنت إعجابَها بالوجودية الإلحادية!

– ماذا أطلب لكِ؟

ثم مستدركًا بلهجةٍ شبهِ جِدية: أم نؤجل ذلك لحين ذهابنا إلى شقتي الخصوصية؟

– اطلب قهوة، ولا تحلم.

قدَّمَ لها سيجارة وأشعلها، وراحت تشرب القهوة غير مُكترِثة لإلحاحِ عينَيه، حتى سألها مُداعِبًا: كيف حال القلق الوجودي؟!

– عال، ولكنني لم أنَم أكثرَ من ساعتين.

– فِكر وفلسفة؟

– شجارٌ مع ماما وبابا كما تَعلَم.

تَذكَّرَ بقلق الموضوع الذي جَدَّ في البحث عنه، أمَّا هي فاستطردَت مُقلِّدة لهجةَ الوالدين: كمِّلي تعليمك .. تزوَّجي .. لا تَسْهري كالشبان.

أسطوانة معادة، لكن البنت جميلة والجلسة موحية، ومن يدري؟! غير أنه يجب الانتهاء من الموضوع اليوم، ولو ألغيت مواعيد المساء، وتساءل: من أين لهما أن يَفهَما فيلسوفةً صغيرة؟

حذَّرَته — بتقطيبةٍ — من التمادي في العبث، وقالت: لا يريد أحدٌ أن يعترف بأنني أجاهد لتكوين نفسي، ولكنني أُعاشِر أهلَ الكهف!

وتَذكَّرَ أكثرَ من حديث لوالدها في التليفزيون، فقال: ولكنَّ والدَكِ رجلٌ عصري.

– عصري!

– على الأقل بالقياس إلى والِدَيَّ.

وهي تداري ضحكة: بالقياس إلى العصر الحجري؟

رمى بنظرة إلى بعيد كالحالم، وقال بافتتان: العصر الحجري! .. لو نرجع إليه ساعةً واحدة، لَحملتُكِ على كتفي دون زاجر، ولَمضيتُ بكِ إلى كهفي بعمارة الشرق!

– قلتُ لك لا تحلم، ودَعْني أحدِّثك فيما جئتُ من أجله.

– آه! .. إذن لم نتقابل مُصادَفة؟

– أنت تعرف أنني أعرف أنك تكتب هنا كلَّ صباح.

فقال بجدية مازحًا: إذن، هيا بنا إلى عمارة الشرق لنجد مكانًا مناسبًا لحديثٍ هام!

أشعلَت سيجارةً من سيجارة، وقالت: أَلَا ترى أنني لا أهزل؟

ثُم وهي تحدجه بنظرةٍ ثاقبة من عينَيها الصافيتَين كالشهد: وعدتَني مرةً بأن تعرِّفني بالأستاذ علي الكبير.

فقال باهتمام: أكنتِ جادَّة؟

– كلَّ الجد.

– لا شكَّ أنك معجبةٌ به كممثِّل!

– طبعًا.

وتبادلا نظرة، ثم قال: إنه في الخامسة والأربعين!

– مفهوم، أَلَم تسمع عن سِحر الزمن؟

– كلا، ولكنني سمعتُ كثيرًا عن مأساة الزمن.

– قد تُحتمَل كواعظ في صفحة «أمس واليوم»، أمَّا هنا …

– وما دوري أنا في القصة؟

– أنت صديقه الأول.

– له بنت في سِنِّك.

– أجل، أظنها بكلية الحقوق.

وتَفكَّر مَليًّا، ثم سأل: كاشِفيني بأفكارك، هل تفكِّرين مثلًا في تخريبِ بيته والزواج منه؟

ندَّت عنها ضحكة، وقالت: لا أفكِّر بتاتًا في الخراب.

– مجرَّد حب؟

فهزَّت منكبَيها دون أن تنبس.

– طريقٌ إلى الشاشة؟

فقالت بازدراء: لستُ انتهازية.

– وإذن؟!

– عليكَ أن تَفِي بوعدك.

وثمل رأسه بفكرةٍ طارئة، فهتف: ألهمتِني موضوعًا!

– ما هو؟

فكَّر بأناة، ثم قال: حريةُ الحبِّ بين الأمس واليوم.

– زِدْني.

فقال مدفوعًا بعنف لم يحاول هدهدته: إليكِ مثالًا من نقاط الموضوع، قديمًا عندما كانت تزلُّ فتاة، كان يُوصَف سلوكها بالسقوط، اليومَ يُوصَف بأنه قَلَق العصر، أو قَلَق فلسفي.

فقالت بحِدَّة: أنت مُتحجِّر رغم ادِّعاءاتك المتقدِّمة.

– ماذا تَتوقَّعين مِن خَلَفٍ لسَلَفٍ من العصر الحجري؟

– أَلَا تستطيع أن تنظر إليَّ كإنسانٍ مثلك تمامًا؟

– إذا كنت نرجسيًّا.

– ها أنت تهزل، كما أن أبي يزعق.

– وأنتِ؟

– ما زلتُ أُطالِبكَ بالوفاء بوعدك.

– دَعِيني أُعطِكِ فكرةً عنه أولًا؛ هو فنانٌ كبير، ممثِّلُ الشاشة الأول في تقدير الكثيرين، وله سياسةٌ معروفة لا يَحِيد عنها، فإذا تَعرَّف إلى فتاةٍ مِثلِك أخَذَها من فوره إلى مَسكَنه الخاص بالهرم، ثم يبدأ من حيث ينتهي غيرُه.

– أشكرُكَ على جميلِ وِصايتك.

– أَمَا زلتِ عند طلبك؟

– بلى.

فقال مُتحدِّيًا: حسن، ولكني أُطالِب بالثمن مقدمًا!

فتَساءَلت بحركةٍ من رأسها، اضطربت لها خصلةٌ سوداء من شعرها، معقوصة في دائرة فوق حاجبها.

– أن تَشفِيني بزيارةٍ في عمارة الشرق.

ابتسمت دونَ تعليق، ودونَ تصديق.

– مُوافِقة؟

– أنا واثقةٌ من أنكَ أنظفُ تفكيرًا من ذلك.

– لكني مُصاب بشيءٍ من القَلق العصري!

– لا .. لا تَخلط بين الهزل والجد.

ثم بأسف: بدَّدتُ وقتَكَ الثمين.

وأشعلَت سيجارة ثالثة، وتَبادَلا نظرةً طويلة، وابتسما معًا، وعاوَدَ التفكيرَ قليلًا في موضوعه، وصَفَا الجوُّ تمامًا من سُوء الظن، ورجع الإحساسُ المضطهد بالحرارة والرطوبة، وداعَبَته قائلة: أنتَ رَجْعيٌّ بقشرةٍ عصرية.

– كلا، أنتِ لا تُصدِّقين نفسَك، ولكنكِ ممتعةٌ وتَلذُّ مُداعَبتك، سيتم التعارُف في مكتبي بالمجلة، فتَعالَي يوم الأربعاء — مُصادَفةً — الساعةَ التاسعة مساءً.

– شكرًا.

– أنا مَدِين لكِ بمقالةِ الأسبوع القادم.

– سأرى كيف تُعالِجه.

– ولكني عند الكتابة أتقمَّص شخصيةً جديدة!

فضحكَت قائلة: وتُراعِي حتمًا ما يجب أن يُقال، ولو بالكذب على ضميرك.

– ربما، الحقُّ أن خيرَ ما فيَّ لم يُعبِّر عن ذاته بعدُ.

ولما رأته ينظر في الكرَّاسة، أقلعَت عن مُناقَشته، وأخذَت حقيبتها إلى كرسيٍّ خالٍ، ومدَّ بصَرَه مرةً أخرى إلى القصر النائم الغارق في فخامته المغلقة، أُعجِب بشُرفته المتصلة بالحديقة، وأُعجب أكثر بشُرفة الدور الأعلى القائمة على عمودَين كمَسلَّتَين. ما أحلى الجلوس في الشُّرفة في ضوء القمر، والتفكير الحر غير المُقيَّد بمواعيدَ ولا بتقاليد! أو يخت يَطُوف بك البحار لتعرف أناسًا وبلدانًا بلا حدود، وتحت شرطِ أن تَبقى زوجتُك في القاهرة! واللعب بالورد في جُزر هاواي، ونَبْذ موضوعاتِ الأمس واليوم، وسائرِ مشكلات الفقر والجهل والمرض، والتطلُّع للمجهول وطَي التاريخ البشري في لحظة واحدة، وأنت لا تخلو من شكٍّ في موهبتك، ولكنَّ الانفجاراتِ تغطِّي على الشك؛ انفجاراتٍ غريبةً مثيرة للدهشة، مُتخطِّيةً لأيِّ مسئولية، لا تُفهَم ولا تُسأل، ويَتعذَّر الحكم عليها، ويَتطوَّع المفسِّرون لتفسيرها من الحانات والغرز!

– ما رأيُك يا نادرة في اللامعقول؟

فقالت بحماس: معقولٌ جدًّا!

– إنه يُلاعِبني كحلم.

– وأنا أفكِّر في كتابةِ مسرحيةٍ لا معقولة لمسرح العرائس.

وتَنهَّدَت في حسرة، وقالت: لولا أبي، لَكتبتُ قصةً جنونية عن تجاربي.

وغلبه المزاح، فقال: ويا حبذا لو تَضمِّينني إلى التجارب!

– لا تهزل، وتخيَّل النجاحَ الجدير بها.

وانطوَت فترة تخيُّل ممتعة، وغابا في صمتٍ طويل.

وبغتة، انفجَر صوتٌ حاد انخلَع له قلباهما في لحظةٍ واحدة؛ صوت آدمي صاح: «هو!» ورأيا رجلًا يشدُّ مركبًا مَطْويَّ الشراع، كأنه واقفٌ لا يَتحرَّك، أو يتحرَّك في بطءٍ شديد ثقيل كالوقوف، يكاد يلتصق بالسور من الخارج، متأخرًا عن مجلسهما مترَين، ويجذب المركبَ بحبلٍ طويل ملفوف حول منكبَيه، وهو يُلقِي بنفسه إلى الأمام، شادًّا على عضلاته بكلِّ قوةٍ وإصرار، والمركب يزحف أبطأَ من سلحفاة فوق ماءٍ راكد وفي هواءٍ ميت، وقد نهض في مقدمتها عجوزٌ مُجلْبَب مُعمَّم، تابَعَ صراعَ الآخَر ببصرٍ كليل وإشفاق. ذهب الرعبُ وحلَّ محلَّه في صدرَيْهما حنقٌ وغيظ، ولكنهما لم يَنبسا بكلمة، وظلَّ الرجل يَهَبُ عملَه الشاق جميعَ حيويته في عناءٍ مُضْنٍ حتى حاذى مجلسهما. شابٌّ في العشرين، غامق اللون، غليظ القَسَمات، عاري الرأس حليقه، حافي القدمَين، يرتدي جلبابًا لا لونَ له، يكشف عن أعلى الصدر، وينحسر عن ساقَين بارزتَي العروق من الحَزْق، وقد جحظت عيناه، وتصلَّب شِدْقاه، وأحنى رأسَه ليُجنِّب وجهَه شمسًا حامية، وكلما أعياه الجهد، تَوقَّف لحظةً ليأخذ نفَسًا عميقًا، فيصيح به العجوز: شد حيلك.

فيصيح بدروه: هو.

ويُواصِل نِضالَه القاسي الفظ، وفي الدقائق التي حاذاهما فيها، لفَحَتهما رائحتُه الآدمية الملبَّدة بالعَرَق والتراب، فتقلَّص وجهاهما، وأخفَت نادرة أنفَها الدقيق في منديلٍ مُعبَّق بشذا جميل، ولكنهما تَجاهَلا تَقزُّزهما وانزعاجهما وهما يُراقِبان النضالَ الأليم، وراقَبَاه خطوةً خطوة، حتى أرهَقَتهما المشارَكة، فحوَّلا عنه عينَيهما، وتَبادَلا نظرة، ثم ابتسما في رثاء، وأشعلا سيجارتَين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤