شهرزاد

١

– ألو!

– الأستاذ محمود شكري؟

– نعم يا فندم، من حضرتك؟

– لا تُؤاخِذني على إزعاجك دونَ سابقِ معرفة.

– العفو، مُمكِن أتشرَّف؟

– الاسم غير مهم، ولكني واحدةٌ من الآلاف اللاتي يَعرضن عليك مشاكلَهن.

– تحت أمرك يا آنسة.

– سيِّدة من فضلك.

– تحت أمركِ يا سيدتي.

– ولكن حكايتي طويلة.

– لعلَّ من الأفضل أن تكتبي لي؟

– ولكني لا أُحسِن الكتابة.

– هل تَتفضَّلين بزيارتي في المجلة؟

– لا أجد الشجاعةَ الكافية، على الأقل الآن.

وقَف انتباهُه عند «الآن» لحظات. ابتسم وهو يَستطعِم صوتَها الرخيم، ثم تساءل: وإذن؟

– أطمع في أن تَأذَن لي بدقائقَ كلَّ يوم، أو كلما سمَح وقتُكَ الثمين.

– طريقةٌ طريفة، تُذكِّرني بطريقة شهرزاد!

– شهرزاد! اسم جذَّاب، اسمح لي باستعارته اسمًا لي مؤقتًا.

فضحك وقال: ها هو شهريار يُصغِي إليك.

ضحكت أيضًا فوجد ضحكتَها ممتعةُ كصوتها، أمَّا هي فتابَعَت: لا تَتوقَّع أن أعرض عليك مشكلةً معيَّنة محددة، إنها حكايةٌ طويلة كما قلتُ لك، وهي تعيسة أيضًا.

– أرجو أن تَجِديني عند حُسن ظنِّك.

– وأرجو أن تُوقِفني بأي طريقة إذا جاوَزتُ الوقتَ الذي تَهَبه لي.

– تحت أمرك.

– ولكني أخذتُ اليومَ من وقتِكَ قدرًا لا يُستهان به، فَلْنؤجِّل الحديثَ إلى غد، حسبي الآن أن أعترف لك بأن قلمَكَ الإنساني هو الذي جذَبني إليك.

– شكرًا.

– ليس قلمك فقط، ولكن صورتك أيضًا!

تَساءَل باهتمامٍ زائد: صورتي؟!

– أجل، قرأتُ في عينَيكَ الواسعتَين نظرةً ذكية رحيمة إنسانية، جديرة بأن تدعو الملهوفين على العزاء.

– أكرِّر الشكرَ .. (ثم وهو يضحك) .. كلامُكِ لطيفٌ كأنه غَزَل.

– إنه إعرابٌ عن أملِ أن يَكونَ في الدنيا — بعدُ — أمل.

أعاد السمَّاعة، ابتسم، قطَّب مُفكِّرًا، عاد يبتسم.

٢

– ألو.

– شهرزاد!

– أهلًا، أنا في انتظارك.

– سأدخل في الموضوع رأسًا كيلا أضيِّع وقتَك.

– ها أنا مُصغٍ إليكِ.

– نَشأتُ يتيمةَ الأم، وقد تزوَّج والدنا — أعني أنا وشقيقةً تَصغُرني بعامَين — فأمضينا طفولتَنا وصِبانا محرومتَين من الحنان والعطف، ولم نَنَلْ من التعليم إلا القليل، ولما مات والدنا انتقَلْنا إلى بيت خالنا، وكان لكلٍّ منَّا مَعاش حوالي الخمسة الجنيهات.

– لعلَّه تاريخٌ قديم؟

– بعضَ الشيء، ولكنه ضروري لا غِنى عنه. لم نكن سعداءَ في بيت خالنا، كان يَعُدنا عِبئًا حقيقيًّا، شعرنا بغُربةٍ وألم، نزلنا عن آخِر مليم من معاشنا، وقمنا بخدمةِ البيت دونَ اعتراض، المسألةُ كانت سُوءَ حظٍّ لا أكثر ولا أقل.

– مفهوم، ويا للأسف!

– ثم كان أن تقدَّمَ لطلب يدي ضابط، وكنا وَرِثنا عن أبينا بيتًا قديمًا، فباعه خالي، وجهَّزَني بنصيبي جهازًا عاديًّا، وقد فهم زوجي من أول الأمر حقيقةَ وضعِنا فلم يَتراجَع، والواقع أننا عشنا قصةَ حبٍّ كما تقولون، واستمرت حتى فيما بعد الزواج.

– تُرى، هل ينمُّ حديثُكِ عنها — قِصة الحب — على شيءٍ من التحفُّظ؟

– ما علينا، المصيبة أنه كان مُسرِفًا، يُنفِق ما في الجيب بسَفَهٍ ودونَ تقديرٍ للعواقب، ولم أعرف كيف أُعالِجه، حاوَلتُ وحاوَلتُ ولكن بلا نتيجة.

– عن هذه النقطة .. أعني .. أَلَا تَتحمَّلين شيئًا من المسئولية؟

– كلا، صدِّقني كنتُ راغبةً في الحياة الزوجية، حريصةً عليها بكلِّ قوةِ حبي، وما قاسيتُ قبل ذلك من بؤسٍ وذُل ويأس.

– معقول!

– كأنكَ لا تُصدِّقني! ما زلتُ أذكر آراءَك عن مسئوليةِ الزوجة عن انحرافِ زوجها، ولكن ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ تَوسَّلتُ إليه بالملاطَفة والتحذير والاحتجاج، طالَبتُه بإعطائي المصروفَ الضروري للبيت في أول الشهر، وكان جوابه المعتاد أن يَجِيئني بزُمرةٍ من أصدقائه، وهات يا أكل وهات يا شُرب حتى مَطلع الفجر، نُمسِي في وليمةٍ ونُصبِح على الحديدة!

– وكيف كانت تمضي الأمورُ بقيةَ الأيام؟

– يُطالِبني بأن ألجأ إلى خالي، وكان ذلك مستحيلًا، أو أن أَقترِض من أختي، وكان ذلك مستحيلًا أيضًا؛ إذ كانت مُوشِكة على الزواج، ومن ناحيةٍ أخرى كان هو يقترض من أهله، فانقلبَت حياتُنا مَسخًا مُزريًا يستحق الرثاء!

– هذا حق.

– فشل الزواج وانتهى إلى مصيره المحتوم وهو الطلاق، فانتقلتُ إلى بيت أختي، وقد خسرتُ معاشي لأُعانِي حياةً مريرة ذليلة.

– لعلَّ هذه هي المشكلة؟

– صبرك، نحن ما زلنا في الماضي، ولن أُطِيل عليك، فقد دعاني زوجي — مُطلِّقي — بعد مرور عام على طلاقنا لمُقابَلته، كاشَفَني برغبته في استئنافِ حياتنا الزوجية، مُؤكِّدًا لي أن الحياةَ أدَّبته وهذَّبته، ومضى بي إلى بنسيون يُقِيم به في شارع قصر النيل لنرسم خطةَ المستقبل، وبمجرَّد أن ردَّ بابَ حُجرته ضمَّني إلى صدره مُردِّدًا أنه لم يَذُق للحياة طَعمًا بعد فراقي.

– واستسلمتِ؟

– لم أشعر بأنني أُعامِل رجلًا غريبًا، وجعَلْنا نناقش أكثرَ الوقت إجراءاتِ زواجنا من جديد، وافترَقْنا وهو يَعِدني بزيارةِ خالي في اليوم التالي مُباشَرة.

– صوتُكِ يهبط ويَتغيَّر!

– أجل، ثبَت لي بعد ذلك أنه دعاني إلى مُقابَلته وهو كاتبٌ كِتابَه الثاني، وتمَّت دُخْلته بعد لقائنا بأسبوع، وأن المسألة كانت مجردَ نزوةٍ أراد أن يَتحرَّر منها قبل أن يبدأ حياتَه الجديدة.

– يا له من وغد!

– أجل، ولكني لن أُثقِل عليك أكثرَ من ذلك، فإلى اللقاء.

٣

– ألو.

– شهرزاد!

– أهلًا.

– تُرى، هل أُضايِقك؟

– بالعكس، استمرِّي من فضلك.

– أقمتُ عند أختي زمنًا، ولكنني شعرتُ مع الأيام بأنها إقامةٌ غيرُ مرغوبٍ فيها!

– لِمَ؟

– ذاك كان شعوري، وهو لم يُخطِئ.

– كيف، وهي أختُك التي قاسَمَتكِ في الماضي العذاب؟

– قُدِّر فكان!

– زوجها؟!

– تقريبًا!

– ضاق بوجودكِ في مسكنه؟

– تقريبًا، المهم أنني اضطررتُ إلى مُغادَرة البيت إبقاءً على رابطةِ الأُخوَّة.

– ولكنكِ لم تَذكُري السببَ صراحةً، دَعِيني أخمِّن. لعلها الغيرة؟!

– وَهْم الغيرة، وهو الأصح!

– ذهبتِ إلى خالك؟

– كان قد تُوفِّي، فاستأجرتُ شقةً صغيرة.

– ولكن من أين لكِ بالنقود؟

– بعتُ ما يمكن بيعه من جهازي، ورحتُ أبحث عن عمل، أي عمل، كانت فترةَ بحثٍ عقيم وجُوع، صدِّقني لقد عرفتُ وحشيَّةَ الجوع، كان اليومُ يمضي بلا طعام، أو بلا طعام يُذكَر، ووجدتُني سأُلبِّي مرةً ما إحدى الدعوات — إيَّاها — التي تُوجَّه إليَّ في الطريق، ولكني كنتُ أُؤجِّل الاستسلام؛ آمِلةً أن تُدرِكني رحمةُ الله قبل أن أَهوي، وكنت أُطِلُّ من النافذة في سكون الليل، فأنظر إلى السماء وأهتفُ من أعماقي: «يا إلهي الرحيم، إني جائعة .. إني أموتُ جوعًا!» وكنت أزور أختي كلما خارت قُواي؛ لأَتناوَل وجبةً مُتكامِلة، ولكنَّ أحدًا لم يَسألني عن حالي؛ خشيةَ أن يُحمِّله الجوابُ مسئوليةً يريد أن يَتجاهَلها!

– فظاعة لا تُصدَّق!

– ويومًا قرأت إعلانًا يطلب مُدبِّرةَ منزلٍ لرجلٍ عجوزٍ نظير أجر، غير الإقامة والغذاء والكساء.

– نجدةٌ من السماء.

– سارَعتُ إليه بلا تردُّد، وأجَّرتُ شقتي.

– نهايةٌ رحيمة، وبخاصة إذا كان العجوزُ في حاجةٍ للرعاية وحْدَها، أعني دونَ غيرها!

– كان طاعنًا في السن، فخدَمتُه بإخلاص، وأنا ماهرةٌ بكل معنى الكلمة في شئون البيت، كنت الطاهيةَ والخادمةَ والمُمرِّضة، وحتى الجريدة كنتُ أقرَؤُها له.

– جميل .. جميل.

– شبعتُ بعد جوع، واطمأنَنتُ بعد خوف، ودعوت اللهَ أن يمدَّ في عمره إلى الأبد.

– تُرى، ماذا جَدَّ بعد ذلك؟

– كنت أقرأ له الجريدة عندما وقَعَ بصري على إعلانٍ يطلب مدبِّرة منزل لرجلٍ عجوز، ويُحِيل قارِئَه إلى عنوانِ منزلنا!

– كلا؟!

ندَّت عنه بدهشة واستنكار.

– بلى، وقد ذُهلت، تَلَوتُ عليه الإعلانَ فحوَّل عني عينَيه، ولكنه لم يُنكِره، سألته لِمَ يريد الاستغناءَ عني؟ ماذا ضايَقه مني؟ ولكنه لم يفتح فمه.

– شيءٌ غريب حقًّا! ولكن لا بدَّ من سبب؟

– لا سببَ من ناحيتي إطلاقًا!

– أَلَم يكن بينَك وبينَه سوى التدبير المنزلي؟!

– تقريبًا!

– ما معنى تقريبًا؟! .. صارِحِيني من فضلك؟

– كان يَطلُب مني أحيانًا أن أَقِف أمامَه عاريةً!

– ورفضتِ؟

– كلا .. أذعنتُ لإرادته.

– إذن، لماذا يطلب أخرى؟

– من أين لي أن أعلم؟ قال إنه رغب في التجديد، وأيًّا ما كان أمرُه فقد تَوسَّلتُ إليه أن يعدل عن رأيه، قلت له إنني وحيدة وفقيرة، وليس لي في الدنيا سِواه، ولكنه أصرَّ على الرفض والصمت، بدا لي كريهًا كالموت، فلم أَجِد بدًّا من الذهاب.

٤

– ألو!

– شهرزاد تُحيِّيك يا أستاذ!

– أهلًا أهلًا، حكايتُكِ أصبحَت شغلي الشاغل يا شهرزاد.

– شكرًا يا أستاذ، الحقُّ أن قلبي لم يَخدَعني عندما دَلَّني عليك، والآن فَلْنواصِل حكايتنا. عدت إلى مسكني وقلت لمُستأجِره — مُوظَّف بسيط في الأربعين — إنني في حاجةٍ إليه، رفَضَ فكرةَ إخلاءِ الشقة، ولما وقف على حقيقةِ حالي، قال لي ببساطة: «أقيمي معي!» فلم أَتردَّد في القبول، الواقع أن إرادتي تحطَّمَت، وهان أيُّ شيء.

– أفهمتِ من دعوته …؟

– نزل لي عن إحدى الحجرتَين اللتين تَتكوَّن منهما الشقة، وكان كلُّ شيءٍ مفهومًا بعد ذلك!

– المرة الأولى؟

– نعم، والحقُّ أنه كان رجلًا لطيفًا وَدودًا وإنسانًا.

– عظيم.

– صبرك، فهي السجايا التي بسببِها فقدتُه!

– حكايتُكِ حكاية!

– قال لي ذاتَ يوم: «أنتِ مُتعلِّقة بي وأنا كذلك، وعليه فيجب أن نَفترِق!»

– نَفترِق؟!

– أجل «نَفترِق» .. تَوقَّعتُ أن يقول «نَتزوَّج»، ولكنه قال: نَفترِق.

– فوق ما يَتصوَّر العقل!

– استوضحتُه عمَّا يَعنيه، فقال بلهجةٍ قاطعة: «عندي من الأسباب ما يَمنَعني من الزواج، وعليه فيجب أن نفترق.» فقلت له بضراعة: «لَم أُطالِبك بالزواج، ولن أُطالِبك به، فَلْنَبقَ كما نحن.» فقال: «كلا، إنها حياة شاذة، وستَجِدين نفسَكِ يومًا ما وحيدةً طاعنةً في السن بلا مورد ولا حقوق، فلا مفرَّ من الافتراق.»

– رجل غريب! ظاهِرُه طيِّب، ولكنه أناني أو ماكر.

– المهم، إنه ذهَب، فوجدتُ نفسي مرةً أخرى وحيدةً مُهدَّدة بالجوع.

– يا للأسف!

– ومررت بتجارِب مُرَّة، أنت فاهم طبعًا، ولكنني سمعتُ عن قانونٍ جديد للمَعاشات يَسمح بإعادةِ المعاش للمُطلَّقة أولَ مرة، وتَبيَّن أنه ينطبق عليَّ.

– حمدًا لله!

– هو دون الكفاية بلا شك، ولكنني اعتدتُ التقشُّف، وقد تَعلَّمتُ التفصيل، فأصبح لي موردُ رزقٍ بسيط، ولكنه — بالإضافة إلى المَعاش — حماني من الموت جوعًا أو التدهور في الطُّرقات.

– وصلنا أخيرًا إلى برِّ السلامة.

– الحمد لله، غير أني وصلت أيضًا إلى المشكلة الحقيقية!

– المشكلة الحقيقية؟!

– إنها تتلخَّص في كلمةٍ واحدة: الوَحْدة.

– الوحدة؟

– لا زوج ولا ابن ولا صديق ولا حبيب لي، نهاري وليلي حبيسة شقةٍ صغيرة، محرومة من كافة أنواعِ التسلية، وقد يمرُّ شهرٌ طويل لا أَتبادَل فيه كلمةً مع مخلوق، دائمًا كئيبة مُتملمِلة مُقطِّبة، أخاف أحيانًا أن أُجَن، وأخاف أحيانًا أن أنتحر.

– لا لا، لقد تحمَّلتِ ما هو أمَرُّ من ذلك بشجاعة، وسوف يَرزُقكِ الله يومًا بابن الحلال.

– لا تُكلِّمني عن ابن الحلال، لقد طلَب يدي رجل، أرملُ وأبو طفلَيْن، ولكني رفضتُه بلا تردُّد، لم تَعُد لي ثقةٌ في أحد. والطلاق الثاني يعني قَطعَ المعاش، وهو رأسمالي الحقيقي.

– ولكنَّ رجلًا هو أبٌ لطفلَيْن لا شكَّ يحرص على الزوجة بقدرِ حاجته إليها.

– إني أمقت فكرةَ الزواج، إنها تقترن في ذهني بالغَدْر والجوع.

– عاوِدي التفكير.

– مستحيل، أي شيء إلا الزواج، لا شجاعةَ عندي لدخولِ التجرِبة من جديد.

– وكيف إذن تَتخلَّصين من الوَحْدة!

– هذه هي المشكلة!

– ولكنَّكِ ترفضين حلًّا مُوفَّقًا؟

– أي شيء إلا الزواج!

وتَفكَّر قليلًا، ثم سألها: ما رأيك في أن نتقابل؟

– يحصل لي عظيمُ الشرف!

ابتسم، سرَح به الخيال وهو يبتسم، إنها بكلِّ بساطةٍ تَدعوه إلى مُصادَقتها، وتُطمئِنه في ذات الوقت بأنها لن تُطالِبه يومًا بالزواج. إنه ليس غبيًّا، وهو في حاجةٍ إلى مُغامَرة جديدة أيضًا. لِمَ لا؟ المهمُّ أن تكون جميلةً كصوتها، ولكن ما حقيقة قِصتها؟ قد تكون حقيقية، لا شيءَ بمستحيل، وقد تكون مختلَقة من أساسها أو في بعض مُضاعَفاتها. السينما فجَّرت القوى الخلَّاقة في النساء. قد وقد وقد، المهم أن تكون جميلةً كصوتها، وعند ذاك سأقدِّم لها تجرِبةً جديدة تُضِيفها إلى تجاربها السابقة، لن تخلو من حلاوة، وستنتهي بالمرارة التي لا بدَّ منها لكلِّ شيءٍ في هذه الدنيا. وجعل يبتسم وهو ينقر على سومان مكتبه بإصبعه.

•••

وجاءت شهرزاد.

تَفحَّصها بنظرٍ ثاقب وهو يستقبلها، ثُم وهو يدعوها للجلوس، في الثلاثين من عمرها، لا بأسَ بها بصفة عامة، يلفُّها جوٌّ يَنضَح بالمرارة بطريقةٍ ما، حتى نظرتها الباسمة لا تخلو من حزنٍ ونُضج أليم، ولكنها في جملتها لا بأسَ بها، بل هي مقبولة لدرجةٍ محترمة، ليس ببعيد أن تكون قصتها حقيقية، ولعلها لم تكذب إلا في صياغة رأيها عن الزواج، فهي لا يُمكِن أن تَمقُته، ولكنها مضطرةٌ لإعلان ذلك؛ التماسًا للصداقة التي تودُّها بحنينٍ صادق غالبًا.

لكن، ما له هو وذلك كله؟ هي ليست بالمرأة التي تليق به، لا شكلًا ولا موضوعًا، لا فكرةَ لها — المسكينة — عن الفُرَص المتاحة له؛ وإذن، فعليه أن يُدارِي خيبةَ أمله، وأن يُعامِلها بجِدِّية.

– أهلًا أهلًا، الحقُّ أن قصتَك أثَّرَت في أعماقي.

تَنهَّدَت قائلةً: إني ممتنَّة يا أستاذ.

– ولكن عليكِ أن تُواجِهي حياتك بشجاعتك المعهودة.

– ولكني …

فقاطَعَها قائلًا، وقد ألحَّت عليه رغبةٌ مفاجئة في إنهاء المقابَلةِ بأسرع ما يمكن: أَصغِي إليَّ، إنك سيدةٌ عظيمة، من فَضْل الشقاءِ علينا أحيانًا أن يجعل منَّا عُظماء، إنك سيدة عظيمة، وكنتِ عظيمةً حتى في عَثراتك العابرة، وأنتِ عظيمة في وَحْدتك، وستتحقَّق عظمتُك أكثر عندما تَقْضين على وَحْدتك بضربةٍ شجاعةٍ فائقة. سيدتي، لا قيمةَ لحياتنا، لا معنى لها، لا جدوى من استمرارها إلا بالإيمان بالناس مهما يُصِبْنا من الناس، والإيمان بالله سبحانه وتعالى إيمانًا لا يَتزعزع، مهما وكيفما جَرَت مَقادِيره!

ونظَر في عينَيها، فتَلقَّى نظرةً مغرورقة بالخيبة والإخفاق، إنها ذكية أيضًا، أذكى مما قدَّر، وها هي تبتسم ابتسامةً خفيفة، ولكنها أخجلَته لدرجةٍ ما، وتمتمت: إني مؤمنة بالله يا أستاذ.

فلوَّح بيده في حماس، وقال: كلُّ ما عَداه باطل، سبحانه وتعالى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤