السكران يُغنِّي

خلَتِ الحانةُ من الزبائن تمامًا، ومسح الجرسون العجوزُ على صلعته وهو يَتثاءب بصوتٍ مرتفع كالتوجُّع، ومضى يُكوِّم المقاعدَ الخشبية والمناضد العارية، ومشى صاحب الحانة بين أرجائها المتقاربة مُتفقِّدًا الأركانَ والمرحاض، وعدَّ القروش على مهل، وأغلق الأدراجَ المدسوسة تحت الطاولة، ودرج منضدة الماركات، ثم أطفأ المصباح المدلَّى فوق الطاولة، فانخفض الضوء بالمكان وزاده كآبةً على كآبة، وقال مخاطبًا الجرسون: أَسرِع، فالساعة تدور في الثانية صباحًا.

فانتهى الرجل من تكويم المقاعد والمناضد، ثم خلَع المريلةَ المتَّسِخة في أكثر من مَوضع، وعلَّقها بمسمارٍ منغرز في الجدار، وسار نحو الباب يجرُّ قدمَين ثقيلتَين مدفونتَين في حذاءٍ من المطاط، وجسمه النحيل يَتأرجح في جلبابٍ فضفاض. وأطفأ صاحبُ الحانة المصباحَ الآخَر، فساد الظلام، وغادر المكانَ إلى الخارج، ثم أغلق البابَ وذهب، باعثًا من حذائه الثقيل أطيطًا مُتواصِلًا كدَّرَ صمتَ الطريق.

ثَمةَ رجلٌ لابِدٌ تحت البرميل الأوسط يَترقَّب ذهابَ الرجلَين بفارغ الصبر، تَسمَّع أطيطَ الحذاء حتى سكن، وتَنهَّد في ارتياح، ثم زحف خارجًا من تحت البرميل. وقف في ظلامٍ دامس، يُحملِق في الظلام ولا يرى شيئًا، ولا شبحَ شيء، أعمى بكلِّ معنى الكلمة، وضائع كأنما أُلقِي به في عالَم الغيب، ولكن إذا كان البرميل الوسطاني وراءَك فالبار إلى اليسار، وعند طرف البار يرقد صندوقُ النقود، وسار بحذَرٍ إلى اليسار مادًّا ذراعَيه حتى مسَّت أصابعُه الطاولة، ثم مشى بحذائها مُعتمِدًا عليها حتى المنضدة العالية، ورائحةٌ قوية من مزيجٍ من المخلل والسردين والجبن تملأ أنفَه. ضائع تمامًا، ولكن ها هو الدُّرْج المنشود، ها هنا توجد نقودُ مانولي التي يَكسبها من بيع أقداحِ النبيذ المقطَّر من نيران الجحيم، وأخرَجَ من جيبه آلةً كالمبرد، ومضى يُعالِج بها القُفلَ حتى فتحه، واقتحمَته عطسةٌ آتية من الخارج فشلَّت يده، وفي سرِّه سبَّ ولَعَن، وتخيَّل حانقًا المتسكِّعَ في الشارع الضيِّق، شبه المُظلِم، الذي يضيئه فانوسٌ واحد في طرفِ منحدره عند اتصاله بشارع البواكي. ودسَّ يده في الدُّرْج بلهفة، وتحسَّس أرضه من طرفٍ إلى طرف، ولكنه لم يَعثر على شيء، لا شيء البتة. يا مانولي الكلب، أتأخذ الإيرادَ معك؟ أَلَا تترك مليمًا؟ أليسَت الحانةُ آمَن على النقود من الطريق والبيت؟ وقطَّبَ في غيظٍ وحنق، واشتدَّ ضِيقُه بالظلام. هل تضيع المغامرة هباءً! ويهزأ الفراغُ من الحيلة والعدَّة ودَهاء التدبير! ودفَعه الغيظ إلى فتحِ أدراج الطاولة جميعًا، ولكنه لم يَعثر إلا على بقايا الجبن الرومي والزيتون والفول النابت. ولبث واقفًا وراء الطاولة بمكان العجوز الداهية يُفكِّر في لا شيء، ويتناول حبَّاتٍ من الفول بلا تذوُّق. وسلَّم أخيرًا بهزيمته، ولكنه عزَم على الترفيه عن نفسه قبل أن يُعالِج النافذةَ ليَفرَّ. مدَّ يده وراء ظهره إلى الرف، فتناوَل زجاجةَ نبيذ، فضَّ سِدادتها وأطبَقَ عليها فاه، وراح يشرب بشراهةٍ ونَهَم حتى أفرغها. وركَّزَ انتباهَه ليُتابِع تقلُّبَ الدوَّامة في جوفه. رهيب .. جليل .. لا مثيلَ له .. ولا يُقدَّر بثمن. ولا وجهَ لإنفاقِ النقود خيرٌ من الخمر، فلا مُوجِبَ للزعل. المؤسفُ حقًّا أن يفوت عربتك الكارو موسم القرافة غدًا، فلعنةُ الله عليك يا مانولي. ومدَّ يدَه فتَناوَل زجاجةً ثانية، ما أفظعَ الظلام والعماء! ليشرب حتى يُروى، وليُؤجِّل الشروعَ في الهرب حتى يقوم العسكريُّ بدورةِ المرور، ولكن الظلام يقوم كالسد، وله أنفاسٌ مخمورة وقبضةٌ من الصخر، وها هي زجاجةٌ ثالثة من المياه النارية، ويجب أن تجلس وليكن فوقَ البار. مضى مانولي والنقودُ معه، فإلى الجحيم يا مانولي. وليس ألعن من الجحيم إلا الظلام، وتنحنح بلا حَذَر، فسَرَت النحنحةُ في ظلام الحانة، ولكنه لم يُبالِ كثيرًا. لا يُبالي أن يُبالي، والحقُّ أنك عدوُّ الظلام. إني أعمل في الشمس، وأنام تحت النجوم، وفي ليالي الشتاء يُضيء فانوس الحارة حجرتي في البدروم، وضربتُ من الرجال عددًا يَفُوق الحصر، وأرمي بجسدي على العصي بلا خوف، ولكني أخاف أن يمزِّق جلبابي الوحيد. وحماري يجرُّني وهو عارٍ، فلا يَتعرَّض له أحد، أما أنا فلا غِنَى لي عن الجلباب والخمر. ورفع الزجاجة الرابعة، فقرقر صوتُ الشراب وهو يَنصبُّ في حلقه، ويجلجل بين الجدران الغارقة في الصمت والظلام، وقال لي الشيخ زاوي لا تسكر، فقلت له أنا سلطان الترك والعجم، فقال لي عليك لعنة الله، فحلفتُ يمينًا لَأُسمِّينَّ حماري بالزاوي، وراح يدندن بصوتٍ سري «أوان الوصل»، ولما تَناوَل الزجاجةَ الخامسة اضطجع على راحتَيه ومد ساقَيه فوق الطاولة، وتَذكَّر شاعرَ الربابة، فتَساءَل لماذا تختفي الأشياءُ الجميلة، واندفع يُغنِّي كأنه في بيته:

أوان الوصل قرَّب بالتهاني.

وتلوَّت النغمةُ المخمورة، ولكنه هزَّ رأسه في إعجاب، وعند الهنك ارتفع صوته إلى طبقة عالية، واعتدل في جلسته وراح يصفِّق بيدَيه.

وإذا بقبضةٍ تهوي على الباب، وصوت العسكري يصيح: مَن بالداخل؟

ولم يكفَّ أولَ الأمر عن الهنك، ولكن تتابُع الخبط أزعجه، فأمسك وهو يتمتم بغيظ: «لا منكم ولا كفاية شركم»، وتساءل في عظمة: مَن أنت؟

– أنا العسكري.

– وماذا تريد؟

– عجيبة! .. قل مَن أنت؟

فأجاب وهو يضحك: زبون!

– الدنيا نامت، فكيف بقيتَ أنت في الداخل؟

– وما شأنُك أنت؟

– يا سكير، يا عربيد، ستدفع ثمن وقاحتك.

– ليس معي مليم واحد!

– إني أعرف صوتك، رغم السكر فإني أعرف صوتك.

– مَن الذي لا يعرف أحمد عنبة!

– عربجي الكارو!

– بعينه .. هل من خدمةٍ يا شاويش؟

وصفَّر العسكري، فأرهب سكونَ الليل، وتحسَّس الرجلُ الجدارَ فوق الطاولة حتى عثر على مفتاح الكهرباء، فأضاء المصباح، وقطَّب وهو يضيِّق عينَيه، ومضى يتفحَّص المكان بعناية، حتى استقرت عيناه الحمراوان الجاحظتان على موقد الجاز وصفيحة الجاز، ودار رأسُه ودارَت به أفكارٌ في سرعة، فلم يَكَد يُمسِك بإحداها ثانيةً واحدة، وكاد ينسى العسكري وصوته، ولكن ترامت إليه من الخارج ضجةٌ وضوضاء. آه! .. ضابط النقطة، وعساكر، وسكان الأرصفة من جامعي الأعقاب، وآخرون، وميَّز صوتَ مانولي، فصاح بغضب: مانولي!

فقال الرجل باضطراب: أنا مانولي يا عم أحمد.

– لا تفتح الباب .. عند أول حركة في الباب، ستصبح حانتُك شعلةً من النيران.

– لا .. لا تحرق نفسك!

– لا شأنَ لك بي يا مانولي، الجاز في كل مكان، فوق الأرض والبراميل والمقاعد والمناضد، وها هو عود الكبريت في يدي .. احذر يا مانولي.

قال الرجل باضطراب واضح: هدِّئ أخلاقك، لن أفتح حتى تأمر.

– من أين لك هذا الأدب يا مانولي؟!

– طول عمري مُؤدَّب .. هدِّئ أخلاقك، وقل لي ماذا تريد؟

– عندي كلُّ ما أريد.

– ألا تريد أن تخرج؟

– ولا أن يدخل أحد.

– لا يُمكِن أن تبقى في الداخل إلى الأبد!

– ممكن جدًّا، عندي كلُّ ما أريد.

– أنا آسف، لقد أغلقتُ البابَ عليك خطأ!

– أنت تكذب، وأنت تعرف أنك كاذب.

– ولكن ذلك حصل بالفعل.

– تعرف أني هنا لأسرق!

– لا شيء عندك يستحق السرقة.

– وبراميل النبيذ السام؟

– كل ما شربتَ هديةٌ مني إليك.

– ولا مليم في الدرج!

– ليس الدرج للنقود.

– لماذا تُغلِقه إذن يا مانولي؟

– عادة سيئة، هدِّئ أخلاقك ولا تحرق نفسك.

– أنت خائف عليَّ؟

– طبعًا .. البراميل طظ، ولكنك روح.

– كذَّاب يا مانولي، وسَلِ العساكرَ حولك.

في أثناء ذلك قام رجال الشرطة بنشاطٍ واسع، أخلَوا البيتَ الذي في أسفله الحانة، واتصلوا بأصحاب الحوانيت الملاصِقة للحانة من تجار الخشب والبوية والخردوات، العاملين في الطريق المهدَّد بالدمار، وسرعان ما أقبلَت سياراتُ الحريق وأخذت أهبتها، وقهقه أحمد عنبة طويلًا، وصاح: العود في يدي يا مانولي.

فقال الرجل بانكسار: لا ذنب لي، هدِّئ أخلاقك.

– شربتُ خمسَ زجاجات في صحةِ خرابِ بيتك.

– اشرب السادسة، ولكن لا تحرق نفسك.

وراقَته الفكرة، فمدَّ يدَه إلى الرف، ثم استأنف الشرب، وشعر بأنه يستمتع بآخِر وقتٍ طيِّب متاح، وجاءه صوت هادئ يقول، وقد سكنت الضوضاء: يا أحمد!

آه .. لا يمكن أن يُخطِئ هذا الصوتَ العميق الغليظ.

– حضرة الضابط؟

– نعم.

– أهلًا وسهلًا.

– يجب أن تعقل، وتتركنا نفتح الباب.

– لِمَ؟

– ليَتسلَّمَه صاحبُه.

– الخمارة لمَن يشرب!

– اعقل يا أحمد.

– وأنا؟

– ستخرج آمِنًا سالمًا.

– وبعد ذلك؟

– لا شيءَ البتة.

– حتى أنتَ تكذب كمانولي!

– ستُسأل عن وجودِكَ في الحانة، ولكن واضح أنك نمتَ من السُّكْر، وفقدتَ وعْيَك، ولا ذنبَ عليك.

– والأدراج المكسورة؟

– فعلتَ ذلك دون وعي، وتحتَ تأثيرِ السُّكْر.

– آه منك! .. والصَّفْع والضرب والسَّب والسجن؟!

– لا .. لا .. أَعِدُك بأحسن مُعامَلة.

وأفرغ الزجاجة أو كاد، ثم صاح: أحمد عنبة سلطان الترك والعجم، وكلكم ركش.

– الله يسامحك.

– يا حضرة الضابط أنا فاهمك.

– الله يسامحك.

– أتذكر يوم بال الحمارُ أمام النقطة وأنت خارج؟

– لم أفعل شيئًا.

– تركتَ الحمار وصفعتَني أنا.

– مجرَّد مُداعَبة.

– جاء دوري في المُداعَبة!

– ولكن لا تقتلْ نفسك.

– نفسك! .. هل تهمُّك نفسي حقًّا؟

– طبعًا! وتهمُّني سلامةُ الناس والدكاكين.

– الناس في الخارج والدكاكين أشياء لا أتعامل معها.

– ولكنك تخاف الله.

– أنت لا تخاف الله!

– وتكره الأذى.

– أنت تحب الأذى.

– الله يسامحك.

– عود الكبريت في يدي، فابتعدوا عن الباب.

وأتى على بقية الزجاجة، وراح يغني «في العشق ياما كنت أنوح»، ولما انتهى من المقطع الأول جاءه صوت الضابط: أحسنتَ يا عم، ولعلك عدتَ إلى عقلك.

فأجاب ساخرًا: قضيتُ على الزجاجة السادسة.

– ستقتل نفسك.

– اسمع، كلمة أخيرة.

– نعم؟

– قل «أنا مَرَة».

– لا يُرضِيك ذلك.

– يُرضِيني كلَّ الرضا، وهذا شَرْطي لكي أترككم تفتحون.

فصاح مانولي: أنا مَرَة.

– أنت مَرَة بلا شرط، ولكن على الضابط أن يقولها.

– عيب يا أحمد!

وقهقه طويلًا، ثم صاح بلهجةٍ آمِرة: اهتفوا بحياتي.

وانقضَت دقيقةٌ من الصمت، ثم دوَّت عاصفة من أصوات الغلمان والأهالي: «ليَحْيَ أحمد عنبة!» وتَواصَل الهتاف، فوثَب إلى أرض الحانة وراح يرقص في زهو وابتهاج، ودار في الفراغ المحدود، فدارت معه المقاعد والمناضد والسقف والدنيا جميعًا. وانفتح البابُ فجأةً في غفلةٍ منه وانقضَّ الجنود، ووقف يَترنَّح بين أيديهم القابضة على جلبابه وساعِدَيه وعُنقه. ورغم ذلك كله، ألقى على الجميع نظرةَ سلطنةٍ مُتعاظِمة، كأنما هي هابطة من السماء، وقال بنبرةٍ ثقيلة نائمة، كأنها مُسجَّلة بالتصوير البطيء: ليس معي عودُ كبريتٍ واحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤