الرجل السعيد

استيقظ من نومه، فوجد نفسه سعيدًا، تساءل: ما هذا؟! لم يحظَ بكلمةٍ هي أدق وأصدق في التعبير عن حاله من «سعيد»، وهي حالةٌ تُعَد غريبةً بالقياس إلى الأحوال التي تنتابه عند الاستيقاظ من النوم؛ عادةً ما يستيقظ مُثقَلَ الرأس من طول السهر في الجريدة، أو مُرهَق الأعصاب والمعدة لإفراطٍ في الأكل والشرب في حفلة ما، ودائمًا تَنْثال عليه همومُ اليومِ السابق وشواغلُ يومه الراهن، فيستقبل الحياةَ في معاناة وتفكير، ثم ينهض من فراشه وهو يشحذ همَّته لملاقاة المتاعب وتحدِّي المصاعب. أما اليوم فهو سعيد، مترع بالسعادة، وبحالٍ لا تَقبل المناقَشة، ولا تمتحن ذكاءَه للبحث لها عن صفةٍ مناسبة، فهي من القوة والوضوح بحيث تَفرض ذاتَها فرضًا على الحواس والعقل جميعًا. أجل، إنه سعيد، وإذا لم تكن هذه هي السعادة فماذا تكون؟ إنه يشعر بأن أعضاءَه كاملةُ البناء، كاملةُ الوظيفة، وأنها تعمل بانسجام رائع مع بعضها البعض، ومع الدنيا حوله، وهو يجد في باطنه قوةً لا تُحَد، وطاقةً لا تفنى، وقدرةً على تحقيق أي شيء بثقةٍ وإتقان وفوز مبين، وقلبه يفيض بالحب للناس والحيوان والأشياء، وبإحساسٍ غامر بالتفاؤل والبِشْر، وكأنه لم يَعُد يحمل همًّا — أي هم — حيال الخوف والقلق والمرض والموت والمنافسة والرزق، وهناك ما هو أخطر من ذلك كله، وما يَتعذَّر تحليله في نفس الوقت، إنه إحساس مُتغلغِل في كل خلية من خلايا جسده وروحه، يعزف لحن البهجة والرضا والطمأنينة والسلام، ويُناغِم في طربه البديع همساتِ الكون المضنون بها على غير السعداء.

ثمل بنَشْوته، تَذوَّقها في تمهُّل وعجب، تَساءَل من أين وكيف جاءت، لا الماضي يفسِّرها، ولا المستقبل يبرِّرها، فمن أين وكيف جاءت؟! وحتى متى تبقى؟ هل تصاحبه حتى الإفطار؟ هل تُمهِله حتى يذهب إلى الجريدة؟ ولكن مهلًا، إنها حالٌ لا تدوم؛ لأنها لا يُمكِن أن تدوم، ولو دامت لإنسانٍ لانقلب مَلاكًا أو شيئًا فوق ذلك، فَليُمعِن في تذوُّقها، في مُعايَشتها، في تخزين رحيقها قبل أن تصبح ذكرى لا سبيلَ إلى إثباتها، أو حتى التأكُّد منها.

تناول إفطارَه بشهية، لم يصرفه عنه شاغلٌ ما، ونظر نحوَ عم بشير وهو يقوم على خدمته بوجهٍ مُشرِق باسم، حتى ساوَرَ الرجلَ شيءٌ من القلق والتساؤل، فهو لا ينظر نحوَه عادةً إلا لإلقاءِ أمرٍ أو استجواب، وإنْ عامَلَه في أغلب الأحوال معاملة لا بأس بها. وسأله: خبِّرني يا عم بشير، أأنا رجل سعيد؟

ارتبك الرجل، أدرك سرَّ ارتباكه، فهو يخاطبه — لأول مرة — كزميل أو صاحب، وشجَّعه على الخروج من ارتباكه، فطالَبه بالإجابة بإلحاحٍ غير معهود، حتى قال الرجل: سيدي سعيد بحمد الله وفضله.

– تعني أنني يجب أن أكون سعيدًا؛ فمَن يشغل مركزي، ويقيم في مسكني، ويَتمتَّع بصحتي، يجب أن يكون سعيدًا، هذا ما تودُّ قوله، ولكن هل تراني سعيدًا حقًّا؟

وبإلحاح جديد منه أجاب الرجل: سيدي يُجهِد نفسَه أكثر مما يحتمل البشر …

وتوقَّفَ كالمتردِّد، فأشار إليه أن يأتي بما عنده، فقال: ويغضب كثيرًا، المناقَشات الحامية التي تدور مع زوَّارك …

فقاطَعه بضحكة عالية، ثم سأله: وأنتَ .. أليس لديك هموم؟

– طبعًا! لا يخلو الإنسان من هموم.

– تعني أن السعادة الكاملة مَطلَبٌ مستحيل؟

– هذا هو الغالب على حال الدنيا.

من أين له أن يَتخيَّل سعادته العجيبة؟ هو أو سواه من البشر؟ إنها سعادة غريبة فريدة؛ كأنها سر قد خُصَّ به وحْدَه. وفي بهو الاجتماعات بالجريدة، رأى منافِسَه الأول في هذه الدنيا جالسًا يتصفح مجلة، الرجل سمع وقْعَ قدمَيْه، ولكنه لم يرفع عينَيه عن المجلة، لا شك أنه لمحه بطريقةٍ ما؛ ولذلك فهو يتجاهله محافَظةً على راحة باله. إن الخلاف يحتدم بينهما في الاجتماعات الدورية حتى يتطاير الشرر، ويتبادلا أقسى الكلمات فلا تبقى إلا خطوة واحدة على التشابك. ومنذ أسبوع نجح منافسه في انتخابات النقابة وسقط هو، باء بطعنة حادة سامة، واسودَّت الدنيا في عينَيه، ها هو يقترب من مجلسه، فلا يستفزُّه منظره، ولا تعكِّر ذكريات النضال صفْوَه. إنه يقترب بقلبٍ خَلِي صافٍ، ثَمِلًا بسعادته العجيبة، طافح النظرة بالتسامح والغفران، كأنما يُقبِل على إنسانٍ آخَر لم تَقُم بينهما عداوةٌ قط، أو لعله يَعِد بصداقة جديدة. ولم يجد حرجًا البتة وهو يحيِّيه قائلًا: صباح سعيد.

رفع الرجل عينَيه في دهشة، صمت لحظات قبل أن يفيق من دهشته، ثم ردَّ تحيته بإيجاز، وكأنما لا يصدِّق أُذنَيه وعينيه. جلس على مقربة منه، وهو يقول: الجو بديعٌ اليومَ!

فقال الآخَر بتحفُّظ: فعلًا.

– جو يقذف بالسعادة في القلوب.

تفحَّصه بإمعانٍ وحذر، ثم تمتم: يسرني أنك سعيد.

فقال ضاحكًا: فوق ما يَتصوَّر العقل.

فقال الرجل بلهجة متردِّدة بعض الشيء: أرجو ألَّا أعكِّر صفْوَك عند اجتماع مجلس الإدارة.

– كلا البتة، رأيي معروف، ولكن لا بأس من أن يأخذ الأعضاءُ برأيك، لن يُفسِد ذلك عليَّ سعادتي!

قال الرجل باسمًا: لقد تغيَّرتَ كثيرًا ما بين يومٍ وليلة!

– الحق أني سعيد، فوق ما يَتصوَّر العقل.

سأله وهو يتفرَّس في وجهه بعناية: أُراهِن أن نجْلَكَ العزيز قد عدل عن فكرةِ الإقامة في كندا!

ضحك عاليًا، وقال: أبدًا، أبدًا يا عزيزي، ما زال عند رأيه.

– ولكن كان ذلك مصدرَ حزنِكَ الأول.

– أجل، طالما رجوته أن يعود رحمةً بوَحْدتي وخدمةً لوطنه! ولكنه أخبرني بأنه سيَفتح مكتبًا هندسيًّا مع شريك كندي، بل ودعاني إلى اللحاق به، فَلْيَعِش حيث يَطِيب له المقام، وها أنا — كما ترى — سعيد، سعيد فوق ما يَتصوَّر العقل.

لم تخلُ نظرةُ الآخَر من ارتياب، ولكنه قال: شجاعة نادرة المثال!

– لا أدري ما هي، ولكني سعيد بكل معنى الكلمة.

أجل، ها هي السعادة، دسمة متينة ذات وزن وكينونة، راسخة كقوة مطلقة، ذائعة كالهواء، عنيفة كالشعلة، ساحرة كالشذا، خارقة للطبيعة فلا يمكن أن تدوم.

وآنس الآخر إلى تودُّده، فاستنام إليه، وقال: الحق أني أتصوَّرك دائمًا إنسانًا ذا طبيعة حادة عنيفة، من شأنها أن تُشقِي صاحبَها، وأن يَشْقى بها.

– حقًّا؟!

– لا تعرف المهادَنةَ ولا الحلولَ الوسطى، تعمل بأعصابك، بنخاع عظامك، تُقاتِل قتالًا عنيفًا؛ كأنَّ أيَّ مسألة إنما هي مسألةُ حياةٍ أو موت!

– أجل، هذا حق.

تَقبَّلَ النقدَ ببساطة، بصدرٍ واسع، انداحت موجتُه في محيط من السعادة لا محدود، وغالَبَ ضحكةً صافية بريئة، حتى غلبها أن يفسِّرها الآخَر تفسيرًا بعيدًا عن بواعثها النقية، وتساءل: إذن، فأنت ترى أنه لا بدَّ من قدْرٍ من التوازن أمام الأحداث؟

– طبعًا، أذكر على سبيل المثال مناقشتَك أول أمس عن العنصرية، إن رأينا فيها واحد، وهي جديرة بالحماس لحد الغضب، ولكن أي نوع من الغضب؟ غضب فكري، غضب تجريدي لدرجةٍ ما، وليس الغضب الذي يزلزل الأعصاب، ويُفسِد الهضم، ويهبط بنبض القلب، أليس كذلك؟

– واضح ومفهوم.

وغالَبَ ضحكة ثانية حتى غلبها، قلبه يأبى أن يفرِّط في قطرة واحدة من أفراحه. العنصرية .. فيتنام .. أنجولا .. فلسطين .. أي مشكلة .. عجزت جميعًا عن اقتحام حصن السعادة الذي يطوِّق قلبه، لدى تذكُّر أيِّ مشكلةٍ يقهقه قلبه. إنه سعيدٌ سعادةً جبَّارة، مستهينة بكل تعاسة، باسمة لأي شقاء، تريد أن تضحك، أن ترقص، أن تغني، وأن توزع ضحكاتها ورقصاتها وأغنياتها على مشكلات العالم.

وضاق بحجرته في الجريدة، ولم يجد أيَّ رغبة في العمل، عاف مجرد التفكير في يومياته، وعجز عجزًا تامًّا عن استنزال عقله من معتصمه في ملكوت السعادة. وكيف يَتأتَّى له أن يكتب عن غرق التروللي باس في النيل، وهو ثَمِل بهذه السعادة المخيفة؟ أجل، إنها لَمخيفة، كيف لا وهي بلا سبب، عنيفة لدرجة الإنهاك، مُشِلَّة للإرادة، فضلًا عن أنها ما زالت تصاحبه نصف نهار دون أن تخفَّ حدتُها درجةً واحدة؟! ترك الأوراق بيضاء، وراح يقطع الحجرةَ ذهابًا وإيابًا وهو يضحك ويفرقع بأصابعه.

وساوَره شيء من القلق، لم يَغُصِ القلقُ في أعماقه فيُفسِد سعادته، ولكنه تردَّد فوق سطح العقل كفكرة مجردة، وخطر له أن يستحضر مآسي حياته ليمتحن أثرها في سعادته؛ لعلها تُعِيده إلى توازُنه أو تُطمئِنه في الأقل إلى أن سعادته قابلةٌ للفتور. تَذكَّر على سبيل المثال وفاةَ زوجه، بكافة ظروفها ومُلابَساتها، فماذا حدث؟ تراءى له الحدَثُ سلسلةً من الحركات بلا معنى ولا تأثير؛ كأنه حدَثُ امرأةٍ أخرى، زوج رجلٍ آخَر، وقع في عصر من عصور التاريخ البعيدة، بل لم يخلُ من أثرٍ سار، داعٍ للابتسام، بل مثير للضحك، وما تمالك أن ضحك، وإذا به يقهقه ها .. ها .. ها.

تكرَّر ذلك، وهو يتذكر أولَ خطاب جاءه من ابنه مُعلِنًا عن رغبته في الهجرة إلى كندا، أما عن قهقهاته وهو يستعرض مآسي العالَم الدامية، فلولا سُمْك جدران حجرته، لَجذبَت إليه العاملين في الجريدة والسائرين في الطريق. لم يَنَلْ شيءٌ من مناعةِ سعادته. لاطَمَته ذكرياتُ الأحزان كما تُلاطِم أمواجُ البحرِ المستلقيَ فوق رمال الشاطئ تحت الشعاع الذهبي، وغادَر الجريدة دون أن يكتب كلمة، مُعتذِرًا في ذات الوقت من عدم حضور مجلس الإدراة. وهجع إلى فراشه — كالعادة — عَقِب الغداء، ولكنه لم يَنَم، بل شعر أن النوم مستحيل، ليس ثمةَ ما يبشِّر باقترابه ولو على مهل، إنه يثوي في مقامٍ مشتعل متوهج يضجُّ باليَقَظة والأفراح، لا بدَّ له من هدوء وسكينة وشيء من فتور الحواس والأعضاء، وأين منه ذلك؟ وضاق بالرقاد فغادَر فراشه وراح يُدندِن وهو يتمشى في مسكنه، وقال لنفسه إنه إذا استمرَّت هذه الحال، فسيَتعذَّر عليه النوم كما تعذَّر عليه العمل أو الحزن. وأزف موعدُ ذهابه إلى النادي، ولكنه رغب عن لقاء أيِّ صاحب. ماذا يعني تبادُل الرأي في الأمور العامة والهموم الشخصية؟! وكيف يكون الرأي فيه إذا وجدوه يضحك من كلِّ كبيرة وصغيرة؟ ماذا يقولون؟ كيف يَتصوَّرون الأمر؟ كيف يُفسِّرونه؟ كلا، لا حاجةَ به إلى أحد، ولا رغبة عنده للسَّمَر، عليه أن يخلو إلى نفسه، أن يمشي طويلًا ليتخلَّص من بعض فائض حيويته، وأن يفكر في أمره، ماذا حلَّ به، كيف دهمته هذه السعادة العجيبة، وحتى متى يحملها فوق كتفَيه، وهل تصرُّ طويلًا على حرمانه من عمله وأصحابه ونومه وراحة باله؟! هل يستسلم لها؟ هل يترك نفسه للتيار يعبث به كيف شاء هواه؟ أو أن عليه أن يلتمس لنفسه مخرجًا، بالفكر أو بالعمل أو بالمَشُورة؟

•••

وقد شعر بالحرَج وهو يُدعى إلى حجرة الكشف بعيادة صديقه الباطني الكبير، وشمله الطبيب بنظرة باسمة، ثم قال: لا يبدو عليك أنك تشكو المرض؟!

فقال له بصوتٍ متردِّد: لقد جئتك لا لأني مريض، ولكن لأنني سعيد!

فنظر في أعماق عينَيه متسائلًا، فقال مؤكدًا: أجل، لأنني سعيد!

مضت فترةُ صمتٍ مشحونة بالقلق من ناحية، والتساؤل والدهشة من الناحية الأخرى.

– إحساسٌ عجيب لا يُمكِن تعريفه بصفةٍ أخرى، ولكنه جدُّ خطيرٍ.

ضحك الطبيب، مسَّه مُداعِبًا وهو يقول: أتمنى أن يكون مرضُك مُعدِيًا.

– لا تأخذ الأمر ببساطة، إنه جدُّ خطير كما قلت لك، وإليك قصته.

وقصَّ عليه قصته مع السعادة منذ استيقاظه صباحًا، حتى اضطرَّ إلى زيارته.

– ألم تتناول مخدِّرًا أو شرابًا أو عقارًا من العقاقير المهدِّئة؟

– لا شيء من ذلك مطلقًا.

– هل صادَفَك توفيقٌ في مجال هام مثل العمل .. الحب .. المال؟

– لا شيءَ من ذلك مطلقًا، ولديَّ من أسبابِ الكدر أضعافُ ما لديَّ من أسباب السرور.

– لعلك لو صبرتَ قليلًا.

– صبرتُ النهارَ كله، وأشفقتُ من قضاء الليل هائمًا.

كشف عليه بدِقة وعناية وشمول، وقال له وهو يهز منكبَيْه في حيرة: إنك مثالٌ جيد للصحة والعافية.

– وإذن؟

– يمكن أن أنصحك بتناوُل منوِّم، ولكن من الأفضل أن تستشير أخصائيَّ أعصاب.

وتكرَّر الكشف في عيادة أخصائي الأعصاب بنفس الدقة والعناية والشمول، وقال له الطبيب: أعصابك سليمة، وبحالٍ تُحسَد عليها!

فسأله برجاء: أليس لديك تفسيرٌ مُقنِع لحالي؟

فهزَّ رأسه نفيًا، وقال: استَشِر طبيبَ غدد!

وتكرَّر الكشف لثالث مرة في عيادة أخصائي الغدد بنفس الدِّقة والعناية والشمول، وقال له الطبيب: أهنِّئك على سلامة غددك!

ضحك، اعتذر عن ضحكه وهو يضحك، وكان الضحك وسيلةً للإعراب عن قلقه ويأسه.

غادَر العيادة وهو يشعر بأنه وحيد، وحيد بين يدَي سعادته الطاغية، بلا معين ولا مرشد ولا صديق، وإذا به يتذكَّر لافتة الطبيب التي يراها أحيانًا من نافذة حجرته بالجريدة. أجل، إنه لا يثق في الأخصائيين النفسيين رغم اطِّلاعه على مضمون التحليل النفسي. فضلًا عن ذلك، فهو يعلم بأن حبالهم طويلة، وأنهم يُلزِمون مَرضاهم بنوع من المعاشَرة الطويلة. وضحك وهو يتذكَّر طريقة العلاج بالتداعي الحر، وما تكشف عنه في النهاية من عُقَد. كان يضحك وقدماه تحملانه إلى العيادة النفسية، وتخيَّل الدكتور وهو يستمع إلى شكاته العجيبة من السعادة، هو الرجل الذي اعتاد الإصغاء إلى الشاكين من الهستيريا والفصام والقلق … إلخ.

– الحق يا دكتور أنني جئتك لأنني سعيد!

ونظر في وجه الرجل ليمتحن أثر قوله فيه، ولكنه رآه محافظًا على هدوئه، فباح بعض الشيء، وقال بلهجة اعتراف: إني سعيد، فوق ما يتصوَّر العقل.

وشرع في قصِّ قصته، ولكن الدكتور أوقَفه بإشارة من يده، وقال بهدوئه: سعادة غامرة، عجيبة، منهكة …

رمقه بذهول، همَّ بالكلام، ولكنَّ الطبيب سبقه إليه قائلًا: سعادة جعلتك تُضرِب عن العمل، تزهد في الأصدقاء، تعاف النوم.

هتف: أنت معجزة!

فتابَعَ الرجل في هدوئه: وكلما ارتطمت بشقاءٍ ما، أغرقتَ في الضحك.

– سيدي .. أأنتَ مُطَّلِع على الغيب؟

ابتسم قائلًا: كلا، لستُ من ذلك في شيء، ولكن عيادتي تستقبل حالةً مماثِلة مرةً على الأقل كلَّ أسبوع!

فهتف: أهُو وباء؟

– لم أقل ذلك، ولا أزعم أنه أمكن تحليلُ حالةٍ واحدة حتى الآن إلى عناصرها الأوَّلية.

– ولكنه مرض؟

– جميع الحالات ما زالت تحت العلاج.

– ولكنك مُقتنِع بلا شك أنها حالاتٌ غير طبيعية؟

– هو فرض ضروري للعمل ليس إلا.

فسأله بقلق: هل لاحظتَ على أحد منهم أن به خللًا أو اضطرابًا في …

وأشار إلى رأسه بخوف، ولكن الدكتور قال بيقين: كلا البتة، أؤكد لك أنهم جميعًا عُقلاء بكل معنى الكلمة.

وتفكَّر الدكتور مليًّا، ثم قال: يلزمنا جلستان في الأسبوع؟

فقال بتسليم: ليَكُن.

– لا يصح أن تجزع أو أن تحزن.

الجزع، الحزن؟! ابتسم، اتَّسعَت ابتسامته لغير نهاية، أفلتَت ضحكةٌ منه، وما لبث أن أغرق في الضحك، صمَّم على ضبط نفسه، ولكنَّ مُقاوَمته انهارت تمامًا، فراح يُقهقِه عاليًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤