مزرعة جارسيا

منذ الصباح الباكر، اصطف جميع مَنْ في المزرعة على جانبي الطريق المؤدي إلى الفيلا في انتظار وداع الكولونيل جارسيا، الذي اعتزم القيام بإحدى رحلاته البعيدة والتي لا يعلم أحدٌ وجهتها أو الغاية منها. مَضَتْ على وقفتهم هذه ساعات، وبينهم من هو متعب أو ساخط أو ضجر، لكن الرهبة كانت تملأ القلوب فما كان أحدهم يجرؤ على التعبير عن استيائه أو رفضه لطابور العذاب هذا، الذي يتكرر في كل مرة يرحل فيها الكولونيل أو يعود من أسفاره، فالتشريفة والزي العسكري هما الإرث الذي يعتد به الكولونيل ويذكره بمجده الغابر، ويرضي شغفه بالسطوة والتعالي.

من وقتٍ لآخر كان كارلوس، خادم السيد وذراعه الباطشة، يخرج من القصر ليتفقد طابور الشرف، وهو اليوم على غير العادة لا يحمل معه سوطه، لكنه لا يبخل بلكمةٍ في الوجه أو رفسة بقدمه يستقيم معها ما اعوجَّ من أمرٍ؛ انحراف عن الصف، التفاتة، طفل يبكي على صدر أمه، رجل يطرد ذبابة حطت على عينِه، شيخ استسلم لانحناء ظهره. وعندما يعود كارلوس أدراجه يتراجع الخوف وتلح أوجاع البدن، فيلتوي الصف وينحني يسارًا ويمينًا، وتتراخى السيقان والأذرع، ويتحرَّك الساكن.

تخطَّت السيارة بوابة المزرعة فاتجهت كل الأنظار إليها وانفرجت الأسارير، فعمَّا قريب ينتهي هذا الموقف الذي لا يجرؤ أحد على استهجانه حتى بينه وبين نفسه فقط. توقف السائق في نهاية الممر الفاصل بين الصفين المتراصين، ثم أطلق بوق سيارته يعلن عن وصوله، بعدها هبط من السيارة ووقف إلى جوار بابها الخلفي. أطل كارلوس من النافذة العريضة للقصر ثم اختفى، وأطبق الصمت على المكان.

بعد دقائق ظهر الكولونيل جارسيا خارجًا من باب القصر، وعلى مسافة خلفه يسير كارلوس وزوجته التي ارتسمت على وجهها لوعة الفراق، أما كارلوس فبدا متجهم الوجه متوترًا على غير ما اعتاد في مثل هذه الاحتفاليات، يتلفت حوله بين لحظة وأخرى، وينتبه لكل حركة أو صوت، ويتوقف لثوانٍ ثم يواصل سيره.

تقدم جارسيا بضع خطوات ثم توقف يتأمَّل المكان ومن فيه، فاستقرَّتْ كل العيون عليه، رجل قارب على السبعين من عمره، طويل القامة أميل إلى السمنة، أحمر الوجه عريض الشارب، يرتدي معطفًا رماديًّا وحذاء طويل الرقبة، وعلى رأسه قبعة سوداء يعدل موضعها من حين لآخر، يخطو مختالًا في مشية عسكرية صارمة، ويجاهد لإخفاء عرج خفيف في ساقه اليسرى.

نفث الكولونيل دخان غليونه، وسار وئيدًا بين الصفين وأنفه الروماني يناطح السحاب. تعمد الجميع، كما في كل المناسبات السابقة، أن يُسمعوه كلمات الدعاء وأمنيات العودة السالمة الغانمة، واندفع قليلون يقبلون يده وحذاءه، فتركهم يفعلون دون أن تبدر منه أي التفاتةٍ نحوهم. أما كارلوس فكان يتفحص وجوه كل من اقترب من الكولونيل ثم يبعدهم، بغير خشونة هذه المرة!

تحرك السائق ليفتح للسيد باب السيارة، وفجأة، ومن خلف الصف الأيسر ارتفع صوت ينادي جارسيا دون ألقاب، توقف الكولونيل مندهشًا وتلفت حوله، وتحولت كل الأنظار نحو رجل أسود البشرة يخترق الصف شاهرًا مسدسه، ثم اندفع نحو الكولونيل وأطلق عليه بضع رصاصات. وقعت المفاجأة على الرءوس كالصاعقة فلم يُسمع لأحدٍ صوت، ولم يتحرك أحد من مكانه إلا بعد أن ولى الفاعل الأدبار، صرخ البعض: كوفي، كوفي، إنه كوفي.

حالف الحظ الكولونيل جارسيا فكان ضابطًا في الجيش المنتصر، ولأن النياشين والأنواط العسكرية لا تكفي في كثير من الأحيان، فقد قبض الكولونيل ثمن اشتراكه في الحرب نقدًا، عندما استغل نفوذه كقائد لحامية في إحدى المستعمرات واشترى مساحة أرض شاسعة لقاء مبلغ زهيد. أرسل له زملاء السلاح في مستعمرات أخرى أفواجًا من الأفارقة اشتراهم بثمن قليل ليستصلحوا الأرض ويزرعونها. ولأنه اعتاد أن يأمر فيطاع، فقد استعان الكولونيل بعدد من الجنود المرتزقة من أصحاب البشرة البيضاء، ليُكرهوا السود على العمل تحت ضربات السياط.

ولأن الجنود في الحقول لا عمل لهم، فقد انشغلوا بارتكاب كل الفظائع، وتباروا في التنكيل بالعبيد، يشحذون عقولهم في ابتكار وسائل جهنمية لتعذيبهم وسحق إرادتهم، ويمنون نفوسهم المريضة بالمزيد من صرخات الألم ونزيف الدماء، ونظرات التذلُّل في أعين من لا حول لهم ولا معين.

حصد الكولونيل سريعًا ما زرعه العبيد، فعزم على الاستمرار في مشروعه المربح، لكن المرتزقة البيض كانوا العقبة الكبرى؛ فقد بالغوا في ابتزازه حتى أوشكوا أن يستولوا على كل ما تربحه المزرعة، لقاء ما يقومون به من أعمال قذرة، وربما طمعوا في أن يشاركوه ملكية المزرعة، وكان لا بد من التخلص منهم. كان جارسيا كغيره من النخاسين يخشى تمرد العبيد إن غاب من يردعهم، ولكي يستقر له الأمر قرر أن يستبدل استغلاله الخشن لجهد العبيد باحتيال أقل خشونة، يمكن تحمله ويوفر له كثيرًا من النفقات. استغنى جارسيا عن العمالة البيضاء المكلفة، وأنفق فقط نصف ما كان يدفعه للجنود لتحسين ظروف حياة العبيد، فمنحهم كمية أكبر من الطعام الرديء، وبنى لهم حظائر لتأويهم، وأشترى لهم إناثًا ليتزوجوا وينجبوا، ليستهلكوا ما تبقَّى لهم من قوة، ويوردون في الوقت ذاته مزيدًا من الأيدي العاملة. وانتقى الكولونيل من عبيده أقواهم بنية وأكثرهم جلدًا وجعلهم حراسًا على مداخل المزرعة ومخازنها، واستعان بهم لتأديب الخارجين على النظام.

رأى الكولونيل أن استعباد الروح يجعل العبيد أكثر صبرًا على تحمُّل أوجاع الجسد، فصنع من نفسه كاهنًا يفعل كل ما يفعله سياسي مستبد، يعلم الناس كيف يكونون عبيدًا صالحين، ينتقي من الدين كل حقوق السيد، ويتنكر لكل حقوق الرعية. وقد مكنه جهل العبيد بدينهم الجديد من أن يعبث بتعاليمه كيفما شاء، حتى إنه أوهمهم في بعض المواضع في الكتاب المقدس أن لفظة «السيد» في بعض المواضع تشير إلى أمثاله من مالكي العبيد ولا تشير إلى الرب، وأنهم لن ينالوا الغفران حتى يرضى الكولونيل عنهم. وقد قبله العبيد كاهنًا كرهًا وطوعًا؛ فهو في أسوأ الأحوال يجعل من مذلتهم واستكانتهم مظهرًا لطاعة أوامر السماء، وثمنًا يتحتم عليهم دفعه لقاء جنتهم الموعودة بعد الموت.

في سلامٍ تامٍّ مع النفس أذاق جارسيا عبيده كل صنوف العذاب، من استكان منهم، قبل من ظهرت على وجهه علامات الضيق، كان لا يرضى منهم بغير الإذعان الكامل لمشيئته.

لم يتزوج الكولونيل، واستحل من اشتهى من نساء المزرعة وفتياتها، فهو حر في أن يفعل ما يشاء بمن يملكه. وكانت الجميلة إيلينا زوجة كارلوس هي مطيته المفضلة التي يعتليها وقتما رغب، بالطبع في غياب زوجها الذي كان نادرًا ما يدخل القصر قبل منتصف الليل. وفي تبجح يلائم طبعه وقناعاته، كان جارسيا لا يجد حرجًا في أن يطلب من إيلينا أن تنتقي له من نساء المزرعة من تراها توفي بالغرض، ويبدو أنها وهي البيضاء الجميلة لم تتملكها روح الغيرة على سيدها ومعشوقها، ولا تمانع في أن يستعمل إحدى جواريه في بعض الأحيان. وسار الأمر على هذا النحو إلى أن أحضرت بين يديه نانا.

لم تكن نانا كسابقاتها، فقد بدت نافرةً رافضة، ولم تفلح شتائمه وسورة غضبه وضربات سياطه في إخضاعها، حتى أوشك أن يفتك بها غير مصدق لموقفها تجاهه، لكن إيلينا أفلحت معها عندما أخبرتها بأن الكولونيل لن يتورع عن قتل أطفالها وزوجها إن هي أبت الانصياع لرغبته.

مكرهة رضيت نانا أن تمنح جسدها جثة هامدة لمغتصبها، وكان الكولونيل جارسيا أعلى مقامًا من أن تشعر به كذكر، فكانت لقاءاتهما صامتة باردة. وهو، هذا العاشق المسن المتعجرف واهن القوى، لا يثق في ذكورته، ويقبل أن ينحدر إلى مستوى عبيده فتشتد عليه الغيرة على نانا، ويُنكِّل بزوجها كوفي أشد تنكيل؛ يضع الأصفاد الثقيلة في قدميه أينما حل، ولا تشفى جراح ظهره من أثر ضربات السياط، ويضعون الكمامة على فمه كما لو كان كلبًا مسعورًا، ويجر على وجهه في التراب كعتاة المجرمين.

صبر كوفي طويلًا على العقاب جراء ذنبٍ لا يعرف ما هو، وخاب رجاء نانا في عفو العاشق عن زوجها، فتململت بين ذراعيه، ليتحمل كوفي مزيدًا من العذاب.

نهشت الغيرة قلب إيلينا، فهي لم تَعُد المعشوقة الأثيرة عند جارسيا، إن لعابه يسيل عند رؤية نانا، هذا الشيخ المخرف، كيف قسا قلبه فأمرها أن تشرف بنفسها على نظافتها وملابسها وزينتها، كيف لها أن تقبل بأن تكون خادمة لهذه الجارية السوداء؟! ولكن هل تجرؤ على إظهار رفضها، إن جارسيا لا يقيم وزنًا لشيء، وهو لن يتردَّد لحظةً واحدة في جلدها وطردها هي وزوجها من المزرعة.

لم تعدم إيلينا الحيلة، سنحت لها الفرصة لإعمال مكيدتها عندما طلب الكولونيل منها ذات مرة إحضار نانا إلى مخدعه، فذهبت لكوفي في الحقل تطلب منه أن ينصح زوجته بألَّا تقدم على إثارة غضب الكولونيل حتى لا يفتك بها أو به. وتعمَّدت المراوغة حينما طلب منها كوفي توضيح الأمر، واكتفت بأن أخبرته بأن زوجته تعلم جيدًا ما يريده السيد منها.

لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أثارت شكوك كوفي في زوجته الجميلة، لقد أصبحت أكثر نظافة عما كانت عليه في الآونة الأخيرة، وفاحت منها عدة مرات رائحة عطر لم يسبق أن خبره طوال عشرته معها، وأصبح القصر يطلبها من وقت لآخر للخدمة فيه بعد أن ظلت عشر سنوات لا تدخله قط. حاول كوفي أن يدفع عن نفسه تلك الشكوك، عندما ظن أن جارسيا ما كان له أن يضطهده على هذا النحو لو أنه اتخذ من زوجته عشيقة له. لم يخطر بباله قط، وهو العبد، أن سيده يمكن أن يشعر بالغيرة منه. لم يكن واثقًا من طهارة زوجته أو دنسها، كان ساخطًا حانقًا ثائرًا يحتار في أمره، كانت غيرته على زوجته كذكر أشد وقعًا عليه من اقترافها للزنى الذي عده الدين الجديد من الخطايا. هل معاشرة السيد لإحدى جواريه خطيئة؟ لم يكن يدرك ما هو الخطأ، ولا يعرف بالتالي ما الذي يتوجب عليه فعله؛ ولذا فقد وجد كوفي ألف ذريعة أخرى لكي ينهال ضربًا على نانا ليل نهار، ولم تسأله امرأته عن السبب ولو لمرة واحدة.

لم تكن نانا لتتوقف طويلًا أمام اغتصاب الكولونيل لها؛ فقد اعتادت تحرش الذكور بها في موطنها الأصلي الذي كان متسامحًا مع الأمر، واعتادت بعد أن تم اصطيادها وبيعها أنها والذكور من أمثالها سواء، مجرد حيوانات لا يستر لها عورة، ألقي بها لتنام وتتعرى وسط الذكور، ويعتليها منهم من يشاء. نانا لا تختلف كثيرًا عن النساء العبيد، لكنها عاشت من قبل تجربة مغايرة؛ فقد كانت ضمن ممتلكات أحد السادة البيض قبل أن تباع لجارسيا، وكان سيدها القديم أقل وحشية، أو ربما أكثر تعاليًا، فلم يسمح لنفسه أن يتواصل مع عبيده، رجالهم ونسائهم، عن قرب. وكان مالكها السابق متشددًا في دينه أيما تشدد، فوضع قواعدَ للتحريم لم يسمح قط بمخالفتها. هكذا التبس الأمر على نانا، فأضحت لا تدري أي نموذج من السادة هو السائد والصحيح، وأي مسلك ينبغي لها أن تسير فيه، ولهذا السبب، ربما، كانت علاقتها مع جارسيا مضطربة لا تستقر على حال.

لم يكن دينها الجديد بحلاله وحرامه قد استقر في أعماقها بعد. وظلت المرأة، كما اعتادت من قبل، طرفًا سلبيًّا في هذه العلاقات، سواء رغبت أو كرهت، تتمنَّع ما أمكنها كأنثى أي حيوان، ثم تستسلم وتنسى بعد قليل ما حدث. أما والكولونيل، السيد، هو الذكر هذه المرة، فالأمر مربك تمامًا، فهي لا تستطيع أن تجزم بأن ما يفعله ولي النعمة ليس حقًّا أصيلًا له.

نانا مُوقنة فقط بأن زوجها كوفي لا يرضى بالأمر، وهي لهذا لن تخبره مطلقًا بما يفعله الكولونيل معها، وتبذل ما في وسعها كي لا تغضبه.

مست الشرارة التي أطلقتها إيلينا زوجها، تعجب كارلوس من أوامر الكولونيل المشددة والمتكررة بإيقاع العذاب بكوفي، لم يكن كارلوس ملاكًا، بل كثيرًا ما أذاق عبيد المزرعة ألوانًا شتَّى من العذاب، لكن الحيرة تملكته هذه المرة، فالعبد كوفي لم يعصِ أمرًا ولم يتقدَّم أحد بشكوى من سلوكه، وهو كما عهده لسنوات، كان يبادر بتقديم العون لمن يحتاجه دون طلب، ولم يكن كارلوس ليتصور أن قائده وسيده يمكن أن ينشغل طويلًا بحال عبد مثل كوفي. لا بد وأن سببًا خفيًّا يوجد خلف تصرفات الكولونيل، هكذا فكر كارلوس.

أمر جارسيا بحبس كوفي في قبو تحت الأرض ومنع أي طعام أو شراب عنه لثلاثة أيام. نفذ كارلوس الأمر، لكن نداءً داخليًّا عميقًا كان يلح عليه أن يرفض وأن يتبين سبب ما يحدث. في وقتٍ متأخر ليلًا فتح كارلوس الزنزانة ووضع طعامًا وشرابًا أمام كوفي الذي جحظت عيناه من الدهشة، ثم انكب على طعامه وشرابه ككلب جائع مذعور، وما إن انتهى حتى أمره كارلوس بألا يخبر أحدًا مطلقًا بما فعل. تعجب كوفي: أتخشى الكولونيل كما نخشاه؟!

– بل أكثر. مالك المزرعة، أبيض كان أم أسود اللون، هو الحر الوحيد، وما نحن إلا عبيد بيض نخدم أسيادنا بطريقة مختلفة عنكم.

– ألست مواطنًا حرًّا في بلدك؟

– حر في أن أشكو ضيق ذات اليد، وأن أصرخ كما أشاء من الألم، وأن أختار من بين السادة أقلهم قسوة فأعمل في خدمته، وأن أسير في الطرقات وقتما أشاء كأي كلب.

– لماذا تعاملوننا إذن على هذا النحو؟

– لا تظن أننا جميعًا مرضى ننتشي بتعذيبكم، نحن مجبرون على القيام بالأعمال القذرة التي يتأفَّف منها السادة. هناك أفارقة يؤدون نفس العمل.

بدا أن كوفي لا يستوعب كل ما يقال، فاكتفى بالصمت. قال كارلوس: سأساعدك بشرط أن تخبرني بالسبب الذي يجعل الكولونيل ساخطًا عليك إلى هذه الدرجة.

– لا أدري.

صرخ فيه كارلوس وهو يهم بمغادرة القبو: سأتركك إذن تموت في قبرك هذا.

استوقفه كوفي.

تعمَّد كارلوس أن يدخل القصر في غير الأوقات التي اعتادها، كان يراقب زوجته، ولم يدُم الأمر طويلًا؛ فسلوك زوجته يثير الريبة من اللحظة الأولى، إنه لم يضبطها عارية ترقد أسفل جارسيا، لكنه خشي أن يواجه هذا الأمر يومًا ما، فبنى لنفسه كوخًا بعيدًا عن القصر، وأمر زوجته بأن تأوي إليه بعد أن تنهي عملها في خدمة الكولونيل. استشاط جارسيا غضبًا من فعلة خادمه، الذي تجرَّأ فاتخذ قراره دون الرجوع إليه وأَخْذ موافقته.

لم يصدق كارلوس نفسه عندما قيده حراس المزرعة السود إلى شجرة، ومنعوا عنه الطعام والشراب. أهكذا يتنكر هذا الجاحد لكل ما بذله كارلوس من أجله؟ لقد حمل جارسيا فوق كتفه لأميال عندما أصيب في أحد المعارك، كان جنديًّا مخلصًا للكولونيل قبل أن يكون أيضًا خادمًا مخلصًا. ورغم هذا فقد هزأ به مرارًا، وصفعه مرة أمام زوجته إيلينا، وركله بقدمه وسط المزرعة وعلى مرأًى من العبيد، ولم يتورع عن جلده لهفوة صغيرة غير مقصودة، وها هو الآن ينكل به على أيدي الحراس السود. أدار كارلوس شئون المزرعة لسنوات طويلة ولم ينل منها سوى أجره الزهيد فقط، ورضي بأن تكون زوجته خادمة في قصر الكولونيل، أما جارسيا فلم يكتفِ بخدمة المرأة في قصره. لم يبقَ لكارلوس سوى شرفه، لكن جارسيا أهدره غير مبالٍ.

بفضل كارلوس أعتق كوفي من سجنه بعد شهرين، وعندما ألمت بكارلوس النازلة وغضب الكولونيل عليه لم يتردَّد كوفي رغم المحاذير من رد الجميل للرجل. ما حدث لكارلوس أفزع حراس المزرعة، فها هو المدير الأبيض ينكل به، فما الذي يشفع لهم وهم العبيد السود؟ كوفي وكارلوس أمام مالك المزرعة سواء، لا يختلفان إلا في لون البشرة؛ ولذا فقد كان من السهل على كوفي أن يتفق مع الحراس على أن يأتي كل مساء، فيحل وثاق كارلوس ويقدم له الطعام والشراب، ويظل بجانبه حتى ينال قسطًا من النوم قبل أن يعيده لحالته السابقة.

بعد عذابٍ طويل تدبَّر كارلوس أمره، وقرر أن يقبل قدمي الكولونيل حتى يعفو عنه. منحه الكولونيل الفرصة لكي يهزأ به ويمرغ أنفه في التراب ويجثو خاشعًا ذليلًا أمام سيده، فأمره أن يعود هو وإيلينا ليقيما في القصر، وكأنه يأمره بأن يحمل له زوجته بنفسه ويأتي بها إلى مخدعه. لم يكن كارلوس قادرًا على تحمُّل ذلك الهوان مهما حاول، لكنه نفذ الأمر وتعمد أن يبدي امتنانه!

دخل كوفي على زوجته ليرى المولود الجديد، وما إن وقعت عيناه عليه حتى عبثت برأسه كل الشياطين، كان المولود فاتح البشرة تختلف ملامح وجهه عن إخوته ووالديه. لم يكن الأمر غريبًا على عبيد المزرعة فقد حدث نفس الشيء مرارًا من قبلُ لأسر أخرى، لكن الشكوك التي كانت تنهش عقل كوفي جعلته ينهال على زوجته ضربًا مبرحًا دون أن ينطق بكلمة، جرَتْ نانا لتحمل طفلها وتهرب من المكان، وما إن رآها تحمله حتى اختطفه من يدها وقذف به إلى الأرض، ومات الضحية.

أمضى كوفي في سجن المستعمرة ثلاث سنوات، لم يأتِ أحدٌ لزيارته خلالها سوى كارلوس، الذي كان يحمل له معه في كل مرةٍ أصنافًا من الطعام والشراب ويمنحه بعض النقود. عندما سأل كوفي عن زوجته في الزيارة الأولى، أخبره كارلوس بأنها ما زالت تتردد بانتظام على القصر، فلم يسأل عنها بعد ذلك.

عندما قتل جارسيا، ظل كارلوس لبعض الوقت يتأمل جثة الكولونيل وهي بعدُ ما زالت ملقاة على الأرض، وحانت منه التفاتة نحو زوجته فرآها تذرف الدمع على الفقيد، فركلها بقدمه أمام الجميع، ثم دعا الحراس فحملوا الجثة إلى القصر، وتبعهم.

بعد دقائق خرج كارلوس من القصر يحمل حقيبةً في يده، صعد إلى السيارة، وطلب من السائق الإسراع علَّهُما يلحقان بالقاتل ويمسكان به. في الطريق توقفت السيارة وهبط منها كارلوس، ثم أشار إلى السائق بأن يمضي إلى حال سبيله.

وسط المزارع كان كوفي بانتظاره، تصافح الرجلان، ثم انطلقا معًا.

(تمت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤