قبل الطوفان

رغم أن الجميع كانوا منشغلين بمباراة كرة القدم، إلا أن عدد المصلين في الجامع كان كبيرًا، فحمدت الله على أن دنيانا ما زالت بخير. فرغت من أداء صلاة العصر، وأسرعت نحو بائع الفاكهة لأشتري لأحفادي ما يشتهونه، فهم نادرًا ما يجتمعون عندي. لمحته يضع حبات عطنة داخل الكيس، أنَّبْتُه: كنت معي في الجامع منذ دقائق، ومن المؤكد أنك سمعت أن الدين ينهانا عن الغش.

أفرغ الرجل ما في الكيس في قفص الفاكهة، وقذفه في وجهي، وصاح وهو يتلفت يمينًا ويسارًا وكأنه ينذر الجميع: تشتري الفاكهة مرة في السنة، وتريد أن تلقنني درسًا في الدين؟!

ثم أمطرني بوابل من السباب، ورفع كفة الميزان ولوح بها مهددًا بضربي، نظرت حولي فوجدت عددًا من الناس وقد تجمعوا يرقبون ما يحدث، لكن أحدًا منهم لم يحاول حتى تهدئة الرجل. استعذت بالله، وخطوت مبتعدًا.

كأننا في يوم عيد، أحفادي يجرون ويقفزون ويتشاجرون ويضحكون ويقلبون المنزل رأسًا على عقب، ولداي حسن وعلي يلعبان النرد في ركن من الصالون، ويصرخان من آنٍ لآخر لرمية زهر موفقة أو نقلة خاطئة، ولا يكفان عن نداء أمهما مطالبين بسرعة إعداد الطعام قبل بداية المباراة. ابنتي الكبرى ليلى مع أمها تعتكفان في المطبخ لا تغادرانه ولا تكفان عن الثرثرة، الصغيرة سمية لم تصل بعد فقد اعتادت ألا تكلف نفسها عناء شيء، وهي في مثل هذه المناسبات تحضر مع زوجها وابنتها في اللحظات الأخيرة وتكون كذلك أول من ينسحب، أما زوجتا حسن وعلي فكانتا منشغلتين بمناكفات الأطفال وإعداد المائدة.

حضر زوج ابنتي ليلى مثقلًا بحمل أكياس الفاكهة وأصناف مختلفة من الحلوى والمأكولات التي يفضلها الأطفال، فوجدت أخيرًا شخصًا أتحدث معه؛ فمصطفى طيب القلب، مهذب مثقف، وله العديد من الاهتمامات. جلسنا لفترة نتبادل الحديث، وعندما اقترب موعد المباراة استأذن وانضم لحسن وعلي، فنهضت مستسلمًا ودخلت غرفتي واستلقيت على السرير أتابع نشرات الأخبار.

فجأة ساد الهدوء المنزل، فأيقنت أن المباراة قد بدأت، وبعد دقائق قليلة اشتعل المنزل بالتعليقات والاحتجاجات والصيحات والسباب والتصفيق، وكأنه تحول إلى أحد مدرجات الملعب. نهضت إلى الشرفة أستطلع حال الشارع، فوجدته خاليًا أو يكاد، فعدت أدراجي.

اهتزت صورة التليفزيون مرات، ثم توقف بث النشرة الإخبارية، وظهرت على الشاشة لوحة تشير إلى إذاعة نبأ عاجل. نهضت واعتدلت واتسعت عيناي. مهرولًا دخل حسن إلى غرفتي يخبرني مندهشًا بأن بث المباراة قد توقف، وما إن رأى ما كُتب على الشاشة حتى صاح يستدعي أخاه وزوج أخته.

صمت الثلاثة وظلُّوا يحملقون في الشاشة. أبديت ملاحظةً يبدو أنهم كانوا غير ملتفتين إليها: الإرسال لم يتوقف في مصر وحدها، فأنا أشاهد قناة غير مصرية.

وما هي إلا لحظات حتى تسرب الخبر إلى كل من في المنزل، فاجتمعوا يتكومون في الحجرة حولي ويلتزمون الصمت، حتى الأطفال الصغار انتابهم القلق لرؤية آبائهم وأمهاتهم على هذا الحال، فصمت بعضهم، وبكى غيرهم فأجبروا على الصمت. عقب علي: الأطفال مذعورون فلا تزيدوهم رعبًا. كل ما في الأمر أن مسئولًا كبيرًا قد وافته المنية، رحمه الله. كتب علينا أن نتحملهم أحياء وأمواتًا!

عقب مصطفى: خبر كهذا لن تذيعه كل القنوات المصرية وغير المصرية.

ظللت لدقائق أقلب القنوات، قلت: مصطفى محق، لننتظر حتى يخبرونا بحقيقة الأمر.

نهض حسن ودخل الشرفة يستطلع الأمر في الشارع، وعاد من فوره وظل يحملق في وجهي، قال: لا أحد في الشارع على الإطلاق.

لم يمضِ وقت طويل حتى ظهر على الشاشة أحد المذيعين معلنًا أن بيانًا هامًّا جدًّا سوف يذاع بعد دقائق، قال هذه الكلمات وكأنه يؤبن عزيزًا لقي مصرعه في حادث مأساوي، سرت همهمات بين الحضور ربما تستهجن التأخير، ثم وجم الجميع وتعلقت كل العيون بشاشة التليفزيون.

دق جرس الباب، لم يبرح أحد مجلسه، فنهضت الأم تستقبل القادمين، كانت سمية وزوجها وابنتهما. لاحظت سمية أن استقبال أمها لها كان فاترًا، دخلت وجالت بعينيها في أرجاء الصالة والصالون فلم تشاهد أحدًا ممن توقعت وجودهم، تساءل زوجها: لا صوت ولا حركة، أين عمي؟ ألم يحضر أحد؟

اكتفت الأم بأن دعتهم إلى حجرتي، وعندما دخلوا انفرجت أساريرهم وألقوا السلام على الحضور، فجاء الرد مقتضبًا جافًّا غير مرحب، أبدَتْ سمية تعجبها من اجتماع شمل الجميع بحجرة والدها، فلم يعلق أحد. حاول زوجها حث الآخرين على الحديث: هل انتهى الشوط الأول؟

فأشرت إلى شاشة التليفزيون. كان المذيع قد عاود الظهور.

باقتضابٍ ذكر البيان أن محطات الرصد الفلكي في أنحاء متفرقة من العالم أجمعَتْ على أن كويكبًا صغيرًا سوف يصطدم بالأرض بعد ساعات، ومن المتوقع أن يُحدث هذا الصدام دمارًا هائلًا، وطلب البيان من المواطنين الهدوء والدعاء إلى الله أن يرفع عنا هذا الخطر.

لطمت الأم خديها وكذلك فعلت سمية، وهُرع الأطفال إلى أحضان أمهاتهم يرتعدون، أما الرجال فقد أخذ كل منهم ينظر إلى صاحبه دون أن يتفوه بكلمة. ومن الشرفة المفتوحة هبَّت صرخات وصيحات وتكبيرات وأدعية، فانتفض مَن في البيت وأسرعوا نحو الشرفة.

خلال دقائق هُرع الناس إلى الشارع لا يلوون على شيء، وكأنهم بُعثوا من مرقدهم، كانوا مذهولين زائغي الأعين يتطلَّعون إلى السماء في رعب. بعد دقائق أخذوا يتبادلون الأحاديث، وعلَت الصرخات والصياح والعويل والدعاء، وانفضت جموع منهم وسارت في اتجاهاتٍ شتى.

صاح حسن فيمن وقفوا في الشرفة: ماذا تنتظرون؟ هل أعجبكم المشهد؟!

وكأنهم أفاقوا من غفلتهم فأسرعوا بالدخول والتفوا حوله. أربكه تطلعهم إليه وكأنهم ينتظرون المخلص، قال: ينبغي أن نبحث سريعًا عن حل.

تدخل مصطفى هادئًا: لا يبدو أن هناك حلًّا، لننتظر قليلًا لعل التليفزيون يفيدنا بشيء.

تحول منزل العائلة إلى مأتم؛ فقدت بناتي سريعًا تماسكهن، فاحتضنت كلٌّ منهن صغارها وانفجرت بالبكاء، وتعالَتْ صرخات الأطفال الذين لا يدركون ما يجري حولهم، وغطت زوجتي وجهها بكفيها تبكي وتسأل الله اللطف في قضائه، وانسحب الرجال يلتفون في وجوم حول التليفزيون الذي ظل يكرر نفس البيان.

اهتزَّت شاشة التليفزيون مرات، وقطع الإرسال وعاد بعد ثوان، ثم ظهر على الشاشة رجل ينبئ مظهره بأنه ليس مذيعًا ولم يسبق لأحد أن رآه على الشاشة من قبل، بلهجة أقرب للعامية قال الرجل وقد تملكه الغضب: هناك نبأ واحد مؤكد، هو أن عددًا من الأثرياء وكبار رجال الدولة قد حملوا على متن غواصة حربية انطلقت بهم إلى أعماق البحار.

جرى تعليق ساخر وقح على لسان حسن لم أستهجنه، وانتفض علي هاتفًا: نلجأ إلى البحر.

أجلسه مصطفى بهدوء.

– حتى لو كان البحر بعيدًا عن نقطة الاصطدام؛ فالموجات العاتية «التسونامي» سوف تكتسح ما في البحر وما فوق الأرض. لقد هرب الكبار إلى الأعماق وهي بالفعل قد تكون أكثر أمانًا، لكن هيهات أن يبلغها أمثالنا.

علق علي: أولو الأمر نفضوا أيديهم من الأمر.

وظل علي يقلب القنوات، وتوالت الأنباء كارثية: هروب المسئولين والأثرياء على متن سفن وطائرات إلى أماكن غير معلومة، حوادث قتل، سرقات لبنوك ومحلات كبيرة، اقتحام مساكن، حوادث طرق بالجملة. ثم بدأ الإرسال التليفزيوني ينقطع تمامًا لقناة إثر أخرى.

دخلت سمية على جماعة الرجال صارخة: هل اكتفيتم بمشاهدة التليفزيون؟! ألَا تبحثون عن مَخْرج؟

انقطع التيار الكهربائي، قلت إن المياه ستنقطع بالضرورة، ورفع حسن سماعة التليفون ثم جرب تليفونه المحمول، وبصوتٍ خفيض أخبرنا أن الاتصالات التليفونية قد قطعت.

جذبت سمية زوجها من ذراعه وكذلك ابنتها واتجهوا نحو باب المنزل، فتحته قائلةً إنهم سيُسافرون بسيارتهم إلى أي مكان، وبعد أن همَّت بالخروج توقفت تخاطب أمها: لم تعد بكِ حاجة لمصوغاتك الآن، لكننا سوف نحتاج إليها في ظرف كهذا.

قلت مستهجنًا: هل قررت أننا سوف نموت وستبقين أنتِ على قيد الحياة؟!

سبَّها حسن ثم استطرد صارخًا: هل الذهب ميراث خاص بكِ وحدك؟

نظرت زوجتي إليَّ دون أن تنطق تستأذنني فيما عزمت على فعله، استشفت موافقتي، فأسرعت إلى حجرتها وعادت تحمل صندوق مصوغاتها وقذفَتْ به نحو سمية، فتبعثرت محتوياته تحت أقدامها، مالَتْ سمية فالتقطت بعضها وجرَّت زوجها وابنتها جرًّا وخرجت وصفقت الباب خلفها. تقدم حسن فجمع متلهفًا ما تبقَّى، ثم مترددًا وضعه على المائدة، واستدعى زوجته وأبناءه واقتادهم إلى خارج المنزل دون أن ينطق بكلمة.

تهالكت على أحد المقاعد أكاد أفقد وعيي، فأحضرت لي الأم كوبًا من الماء. سألني علي: ما العمل الآن يا أبي؟

أجبت مستسلمًا: لا رادَّ لقضاء الله.

حوَّل علي وجهه نحو زوج أخته مصطفى. قال مصطفى: البقاء داخل المنازل خطر مؤكد، وقد تكون الأماكن المكشوفة أقل خطرًا، والأمر من قبل ومن بعد بيد الله. خذ زوجتك وأولادك يا علي واتجه إلى الميدان في نهاية الشارع، وسوف نلحق بكم.

حول علي عينيه نحوي يلتمس المشورة، وبإيماءة يائسة وافقت على ما رآه مصطفى. فاض الدمع من عين زوجتي وأحاطت بذراعيها أطفال علي وزوجته فتشبثوا بها ينتحبون، خلصهم علي برفق واقتادهم إلى خارج المنزل، وهو يُردِّد بلا انقطاع: سترك يا رب.

طلبت من مصطفى أن يلحق بهم، فرفض الخروج إلا بصحبتي أنا وجدة الأطفال.

كان الليل قد هبط وأخذ ضجيج الشارع في الخفوت، تبقت لدينا شمعة وحيدة تبعث الأمل وسط ظلام المنزل الحالك. كنا على وشك الخروج عندما ارتجَّ باب المنزل بشدةٍ ثم فُتح قسرًا، اقتحم المنزل أربعةٌ من الشبان يحملون سيوفًا ومطاوي وسكاكين كبيرة، ولا يظهر منهم إلا ظلال ملامحهم القبيحة. وقفنا في ذهولٍ نرقب ما يحدث، وتعالَتْ صرخات الأطفال وقد تعلَّقُوا برقبة ليلى. لمح أحدهم الذهب الموضوع على المائدة فأسرع يجمعه في جيبه، وبلهجة آمرة: أين النقود؟

نهرتهم ليلى: سنموت جميعًا بعد قليل. هل يفيدكم الذهب والمال بعد الموت؟!

تقدم نحوها أحدهم، قال: لمَ العجلة؟ مكاننا محجوز في جهنم، فلنستمتع في الساعات التي تبقَّت من عمرنا بالمال و… والجمال.

واقترب الشاب من ليلى وشدها إليه وهم باحتضانها، فاندفع مصطفى نحوه وقبض على عنقه، فأسرع نحوهما زميل له طعن مصطفى طعنةً شقَّت بطنه وأخرجت أحشاءه فسقط صريعًا. رفعت كرسيًّا وهاجمت به الشاب فخلص الكرسي من يدي وقذف به بعيدًا، وبمطواة حادة أحدث بوجهي قطعًا طويلًا. تعالَت صرخات ليلى وأمها والأطفال، فأسرع الأشقياء الأربعة بالخروج.

كان الدم يتدفَّق من جرحي بغزارة، لكن عيني كانتا مثبتتين على مصطفى وقد أحاطه الجميع يصرخون ويلطمون خدودهم. كنت مهزومًا، ضعيفًا، يائسًا، يتملكني الإحساس بالعار لعجزي عن الدفاع عن أسرتي، تمنيت لو أمتلك سلاحًا ناريًّا أعوض به وهن عضلاتي. وما هي إلا لحظات حتى أحسست بقدمَيَّ ترتعشان وتخوران من تحتي، وتهاويت على الأرض.

عندما استيقظت، أبصرت زوجتي تمسح وجهي بمنديل رطب، وليلى إلى جواري يحيط بها أحفادي. أفقت، سألت: ألم يحدث شيء حتى الآن؟

قالت ليلى: لم نجد أحدًا ليساعدنا. أنت في حاجةٍ إلى طبيب.

وأنا أنهض متثاقلًا قلت: جميعنا في حاجة إلى طبيب.

هل أصبح كثيرًا عليك يا مصطفى حتى أن تدفن كما يدفن الآلاف كل يوم؟! لا عليك يا بني، فعمَّا قريب تصير الأرض كلها قبرًا. عسير عليَّ أن أتركَك على هذا الحال، وقد أبيت أنت منذ ساعتَيْن فقط أن تتركنا وتذهب إلى حالك، علك تنجو وأسرتك من كارثة وشيكة. عشت رجلًا ومت رجلًا يا مصطفى، رحمك الله يا صديقي.

ساعدتني زوجتي وليلى في حمل جثة مصطفى إلى حجرتي، وعلى فراشي كانت رقدته الأخيرة، وما قطع نحيب ليلى وأمها إلا دعوتي للصلاة على الفقيد. لبعض الوقت أنسَتْنا فاجعتنا في مصطفي النكبة الكبرى التي تحيق بنا، وها قد عدنا نتشبَّث بالحياة ونفر من الموت.

قبل أن نغادر المنزل نصحت الأم ليلى أن ترتدي ملابس الرجال الواسعة لتخفي معالم أنوثتها، وأن تغطي شعرها بكاب، ودخلتا تبحثان بين ملابس حسن وعلي القديمة عما يصلح لهذا الغرض. وقد استحسنت الفكرة.

تلمسنا طريقنا في الشارع على ضوء النجوم، كان الشارع خاليًا حتى من القطط والكلاب، وكان الصمت موحشًا مخيفًا، والمنازل المهجورة المظلمة على الجانبين بدت كالمقابر الضخمة تتوعَّد الأحياء بالمصير المحتوم.

عندما بدأت أذناي تلتقطان بعض الأصوات أدركت أننا اقتربنا من الميدان؛ خليط قوامه السواد يخنق الروح، ظلال لبشر بلا ملامح لا تميز فيها بين شيخ وشاب أو بين ذكر وأنثى، وأصوات متداخلة من أدعية وتراتيل ونحيب وصراخ ووعد ووعيد. والغريب وسط هذا المشهد أن تسمع أصوات شجار، والأغرب أن أصوات الشحاذين لا تنقطع وهم يبتزون مشاعر المقبلين على حساب عسير!

ما بين واقف وجالس ومستلقٍ على ظهره يرقب الموت القادم من السماء، ظللنا نشق طريقنا بعنتٍ بالغ، حتى بلغ بي الإعياء مبلغه، فراح عقلي يبرِّر ما انتويت فعله، تساءلت بصوت مسموع: لماذا نستمر في السير؟! وأي غاية تلك التي نسعى لبلوغها؟ فلنجلس أو نقف حيثما نجد لنا موضع قدم. هتفت الأم: علي، لم نعثر عليه بعد.

قلت: اليوم يوم فراق الأحبة.

تجاوزنا منتصف الليل بساعةٍ ولم تنطبق السماء على رءوسنا بعد، والبعض يعبث بتليفونه المحمول عَلَّه يلتقط صوتًا، أي صوت، وآخرون يرقبون الطريق الرئيسي من بعيدٍ ليتهم يشاهدون سيارةً أو فوجًا من المهاجرين يأتونهم بنبأ جديد.

بلغ اليأس أوجه فانحسر الخوف، وطال انتظار الواقعة فعاد الأمل ينبت في القلوب، استنفد الجميع كل جهدٍ ممكن لكبح غرائزهم، ثم توارت الروح خلف جسدٍ يلحُّ في تحقيق مطلبه، بدأ الناس يشعرون بأن شفاههم تتشقَّق، وأمعاءهم تتلوَّى من الجوع، والصداع يضرب رءوسهم، وتعجز سيقانهم عن حملهم.

قبل بزوغ الفجر كانت صيحات الباعة الجائلين تطغى على كل صوت، حتى بائعو الترمس والفول السوداني وجدوا زبائنهم، ولا أدري كيف جاءوا ببضاعتهم، وكيف أحلوا لأنفسهم في هذا الموقف العصيب أن يضاعفوا الأسعار؟ ومن أين أتَتْ كل تلك النقود التي تنفق بسخاء على طعام أو شراب لا يسمن ولا يروي ولا يغني من جوع أو عطش؟ وكيف تسنى للأطفال أن يطلبوا الحلوى؟

تحسست محفظة النقود في جيبي كي نشارك الآخرين مأدبتهم، واكتشفت أنها قد سرقت. ويبدو أن جماعة ممن يجلسون إلى جوارنا قد فطنت للأمر، فمد أحدهم يده لي ببعض الطعام، شكرته ممتنًّا وتمعنت في وجهه، كان هو بائع الفاكهة الذي وبخني عصر الأمس. هدأ الميدان؛ فالكل على ما يبدو منشغل بمعدته، فلا تكاد تسمع سوى نداءات الباعة.

بدأ ضوء النهار ينساب على رءوس الناس كالنسمة الندية، فهدأ روعهم، واستحالت الكتلة السوداء التي تخلو من الملامح إلى بستان يزهر بألف لون. لملم البعض حاجاتهم البسيطة التي جلبوها معهم واتخذوا طريق العودة إلى منازلهم، وقد أسلموا أمرهم لله أو بعث فيهم الأمل في النجاة. ربما لم يكن الأمر ليروق للمسنين والعجائز واللصوص والشحاذين والباعة وبعض المشايخ، فاليوم كان يومهم، فأخذوا يستحثون الكفرة على العودة إلى سكينة الإيمان والبقاء في أماكنهم حتى الموت.

سرت همهمات سريعة نشطة، وفجأة اشتعل الميدان بصيحات الفرح وتعالت التكبيرات من هنا وهناك، نهض كل الجلوس، ثم رقص البعض وانطلقت الزغاريد في أرجاء المكان، وسجد الكثيرون لله شكرًا، وكأن الميدان قد تحوَّل إلى ملعب كرة تتعالى فيه هتافات الجمهور المتعصب معلنة إحراز هدف الفوز. أخيرًا التقطت الهواتف المحمولة بشائر النجاة، لقد اصطدم الكويكب المرعب بنيزك ضخم، فانحرف عن مساره وابتعد عن الأرض.

في المدافن، ودعت العزيز مصطفى وبكيت لموته كما لم أبكِ قط، لقد نجونا وذهب هو. بقت ليلى وأطفالها معنا بالمنزل، وطلب علي أن يمكث معنا هو وأسرته لبعض الوقت، فالخوف ما زال يسكن قلبه.

بعد أن أديت صلاة العصر في اليوم التالي، توجهت لبائع الفاكهة مستبشرًا هذه المرة، تكرر ما حدث بالأمس، فما هي إلا دقائق حتى انهالت على رأسي الشتائم وأمسك الرجل بطوق جلبابي، وأيضًا لم يتقدم أحدٌ لنجدتي.

(تمت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤