شيطاني المفترى عليه

كشفت عن نفسك لي للمرة الأولى ليلًا كما تفعل كل الشياطين، كان الظلام يغشى حجرة نومي ساعتها، فكيف تسنَّى لي أن أراك والظلام لا يضيء ظلامًا؟! وكأننا تواعدنا على اللقاء، أنت جئت في موعدك، وكنت أنا في انتظارك، فلم يتملَّكْني الرعب لرؤيتك كما تروي الأساطير القديمة.

الأطفال لا يعرفون الشياطين، ليس لأنهم لا يخطئون، بل لأنهم لا يتعمَّدون الخطأ، ولقد بلغت الآن من العمر ما يؤهلني للدخول إلى مملكتك.

كدت أركع عند قدميك أستجديك المعصية، لكن النار التي اشتعلت بداخلي كانت أخف وطأةً عليَّ من جحيمك، فصبرت، لعلك تُبادر أنت لا أنا بالخطوة الأولى فتحمل عني بعضًا من وزر الخطيئة. وقد تعلمت بعد أن خبرت خبثك، أنك لا تأتي أبدًا دون دعوة صريحة، وخيلاؤك الطاووسي يمنعك أن تطلب، إنك فقط تمنح من يستجدي.

سريعًا تجاوز حبي للفتيات رسائل الغرام والزهور الحمراء وفسحة الكورنيش وتبادل الإشارات الخجولة عبر الشرفات وأسطح المنازل، ما عدت أختلس النظرات إلى الفتيات فحسب، أصبحت أنظر إلى كل الإناث من تحت ملابسهن، لكن ضعفي، والسوط في يد أبي، والطرحة البيضاء على رأس أمي تكفلوا بالإبقاء على بكارتي.

مكثت طويلًا أبكي خيبتي وأنا أصغي لمغامرات الرفاق في مقاعد السينما الخلفية وعلى درجات السلم وفي الفنادق السيئة السمعة وشقق العزاب، ولا أدري إن كانوا يبالغون أو يختلقون الوقائع، أو أنني أكذبهم لأنهم يأتون بما لا أقدر على الإقدام عليه.

لأنني قد تربيت على القهر، فقد كان رضاء الناس عندي أولى من اتباع الحق. كنت أخشى أن تنبذني جماعة الرجال، أو أن تأمنني النساء إذا ما خلوت بهن. أردت أن يباركني الشيطان فورًا وبأي ثمن، وأن يعلن على الملأ أنني قد اقترفت خطيئتي الأولى وأضحيت ذكرًا.

كي يأتيني عونك أيها الشرير ضحيت بالجنة، ورضيت أن يراق دمي قربانًا لرضائك. لا رعد ولا برق ولا عواصف ولا زلازل، حضرت ناعمًا كالأثير، وعلى حافة فراشي جلست، سرت بجسدي رعشة، فانتفضت من نومي ورأيتك تبتسم، فتحت فاهي وما كدت أنطق حتى أومأت برأسك أنك قد فهمت شكواي. كان النوم يغالبني، فأغمضت عيني مستسلمًا.

أخذت بيدي بنعومة واستسلمت أنا كطفلٍ وديعٍ لا حيلة له، حلقت بي فوق كل المحظورات والنواهي، وفي منزل جارتي الجميلة المتعالية التي ألهبت ذكورتي هبطنا معًا. أشرت إلى حجرة نومها فتراجعت وأنا أنهر تلصصك على الآخرين، تركت يدي تفلت من قبضتك دون مقاومة منك، واتجهت أنت صوب التلفاز وجلست تقلب مفتاح القنوات وتحاول إخفاء ضجرك، وبعد قليل رأيتك تستلقي على الأريكة المجاورة وتستغرق في مشاهدة أحد أفلام «ميكي ماوس». أما أنا فقد تصلبت في مكاني ورأيت أن الأولى بي أن أنصرف فورًا. تراجعت، ورحت أستطلع المنزل، وعند حجرتها توقفت، والتفت إليك لأرى إن كنت تراقب حركاتي، وما إن أيقنت أنك استغرقت في النوم، حتى انحنيت مسرعًا لأنظر من ثقب مفتاح حجرتها. لم أشاهد ما رجوت أن أشاهده، فاعتدلت ووضعت يدي على مقبض الباب مترددًا، وعندها أسرعت أنت إليَّ ودفعتني إلى داخل الغرفة.

رأيتها تستلقي في نعومةٍ تحتضن الوسادة وقد انحسر ثوب نومها الأبيض عن ساقيها الناعمتين وثدييها النافرين. كم كنت أتمنى فقط أن ترد عليَّ تحية الصباح، وها هي الآن وجبة شهية تنادي من يلتهمها، بالأمس كانت ترفل في الحرير وتسبح في السحاب فلا تطالها عين أو يد، وهي الآن أمامي، في متناولي، لحمًا وأنفاسًا وعرقًا وملابس صنعت لتخلع. نظرت إليك أستعطف خبثك، واستجبت أنت على الفور، وفي لحظات رأيتها عارية تمامًا وقد أخذت تستيقظ، ورأتني فما حاولت حتى أن تغطي جسدها، بل مدت ذراعيها تدعوني، وتلفت خلفي فأيقنت أنك أخليت لي الساحة.

هل كانت خادمتك أيها القواد الأكبر، أم أنها إحدى ضحاياك؟

أفقت فلم أجدك عند حافة الفراش، كنت قد فرغت من أداء دورك، وكان عليَّ أن أمضي في الطريق منذ الآن بمفردي، أشعلت بداخلي نارًا جوعى لا تطفأ، وتركتني أبحث عن فرائسي.

في مساء اليوم التالي طرقت بابها في جرأة لم أصدقها، رحبت بي، أردت أن أتأكد أن ما حدث بيننا بالأمس لم يكن مجرد حلم، سألتها، طلبت ثمن الإجابة عن السؤال مقدمًا، أعطيتها كل ما معي، أجابت: نادرًا ما أتذكر وجهًا من الوجوه العديدة التي أراها.

بإرادتي أنا، ومن عرقي وجهدي وأعصابي ومال أبي ونصائح رفاقي، تسوقت واشتريت كل ما يلزمني من وسائل العشاق، وأرقت الدماء زلفى لآلهة الحب، ونجحت بعد مشقة في التهام الثمرة الحرام. وانتظرتك كي تأتي مهنئًا، فلم تفعل.

استعذبت الخطيئة وتباهيت بدنسي، وأخرجت لساني للعرف والقانون والأخلاق وأبي ومعلم اللغة العربية، لكن الحياة خارج جدران السجن تجعلك المسئول الوحيد عن مصيرك، فتتمنَّى لو أعادوا وضع القيود حول معصمك.

في كل مرةٍ وبعد أن تسكن رعشة النشوة في جسدي، ترتخي أعضائي وينشط ضميري معذبًا، وبدلًا من أن تمد لي يد العون ساعتها، تفر هاربًا، إنك حتى لا تعينني على النسيان وتمنحني بعضًا من المخدرات التي أدمنتها، وتضطرني لسرقة مال أبي. نعم، أدركت الآن فقط أن حلقات الشر يجب أن تكتمل. أنت تاجر جملة أيها الملعون.

كيف امتدت أظافري تمزق شرف أقرب الأصدقاء إلى قلبي؟! لم تكن زوجته جميلة وما كنت وقتها مشتاقًا لأحضان أية أنثى، لكنني بذلت كل جهد ممكن للإجهاز عليها. لقد رقي صديقي إلى الوظيفة التي كنت أطمح لنيلها، إنه بالفعل غير جدير بها، وأنا على ثقة أنه قد اشتراها من بائعي الضمائر. لقد استعنت بك فخذلتني عندما اقترحت عليَّ أن أقدم رشوة معتبرة لقاء اختياري للترقية. رفضت اقتراحك المكلف الثقيل الظل؛ فشراء المخدرات عندي أولى، وكنت أظن أنني بلغت من الفسق الحد الذي يجعلك لا تدخر وسعًا لإشباع نزواتي دون ثمن، لكنك شحيح حتى في الشر!

كانت المخدرات تستنزف راتبي الضئيل، وكنت مستعدًّا أن أبيع أي شيء مهما غلا وعز واستحال تعويضه، كي أطردك من رأسي لبعض الوقت فأتناسى ما اقترفت من ذنوب. كنت أناصبك العداء تلك المرة فوجدتني أستعين بأسلحتك أنت على حربك. كنت غبيًّا إلى أقصى حد وهزمتني أنت شر هزيمة.

منعت عن أسرتي المبلغ الضئيل الذي كنت أعينهم به على مصاعب العيش، وتراجعت عن المساهمة في تكاليف زواج أختي الصغيرة، وقبلت الرشوة في وظيفتي بفجور. أصبحت في حاجة إلى المزيد من المخدرات فازدَدْتُ فجرًا.

خلف وكيل النيابة الإدارية كنت تقف وترمقني ساخرًا، كنت تتشفى في فأر استقوى على ملك الغابة فناصبه العداء، ولكي تؤكد لي أنك وحدك المخلص، ولكي يزداد ريشك المزركش تألقًا، همست في أذني بخطة محكمة استطعت بفضل دهائها أن ألصق الاتهام بغيري، وأفلحت، وأفلت من العقاب على ذنب اقترفته عامدًا.

تزوجت، وما كان ينبغي لي أن أتزوج، فمثلي لا يثق برجل أو بامرأة. وأظنها كانت زوجة صالحة أرسلتها لي العناية الإلهية، كانت تسهر على راحتي كأم حنون، وتسدي لي النصح كخِلٍّ وفي، وتحاول إسعادي قدر الممكن كزوجة مطيعة مخلصة، وكانت تحاصر أخطائي كشيخ بار. أما أنا فكنت أكره أبي وأساتذتي في المدرسة والجامعة ورجال الشرطة ونصائح كبار السن، كنت أكره أي سجن يسحق إرادتي مهما بدا جميلًا، فبدأت أنفر منها وأحمِّلها خطايا كل السجانين. وحينها أتيت أنت على عجلٍ تقترح عليَّ أن أطلقها، فلما رفضت ألححت عليَّ أن أفعل، فطلقتها. وبدونها أضحت حياتي أكثر قبحًا وفسادًا، أما هي فقد تزوجت بثري أرمل، منحها من الود والمال ما لم تكن تحلم به لأنها كانت تراعي الله في أبنائه اليتامى. كانت تحول بيني وبينك أيها الشرير فأردت التخلص منها حتى لو كان في بعدها عني سعادتها. مثلك لا يجود بخير، والحقيقة أن زوجتي كانت عصية على إرادتك.

مرت سنوات العمر وأوشكت أن أبلغ نهاية الطريق، فنظرت خلفي أسترجع ما فات. ماذا يفيدك أيها الشيطان لو أن مملكة الجحيم اكتظت بالوافدين إليها؟ لن يجديك التفاخر شيئًا لأنك هالك لا محالة وقد كُتبت عليك اللعنة، ولو أننا برحمة من ربك نجونا لأضحى مصيرك أكثر بؤسًا. تحاملت عليك كي أجد منفذًا للنجاة.

صرخت ألعنك، فأتيت على عجل تسد عليَّ طريق التراجع، نهرتك، ونزعت القناع عن وجهك، تراجعت مذعورًا، لقد رأيت وجهي أنا وكأنني أنظر في مرآة.

(تمت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤