الإرهابي

أودع حسنين الفوال مستنداته لدى المحكمة، واستعطف القاضي أن يرفق بموكله، وتأجل نظر الدعوى لمدة ثلاثة أشهر. لقد مكث اليوم حتى نهاية «الرول» إلى أن حان دوره، فآلمته بطنه من الجوع وجحظت عيناه من شدة الصداع.

خرج حسنين من مبنى المحكمة، نظر إلى ساعة يده وتوقف للحظات يبحث عن مخرج: قطع الطريق سيرًا على الأقدام فوق أنه مجهد ويستهلك الحذاء، لن يمكنه من اللحاق بقطار الخامسة، وسوف يضطر إلى أن يستقل وسيلتين للمواصلات بدلًا من واحدة حتى يصل إلى بلدته. جال ببصره حول المبنى، فأشرق وجهه حين وقعت عيناه على سيارة محمد الحنفي، «ما زال إذن داخل المحكمة، ربما تصيد زبونًا سمينًا؛ فالحظ دائمًا يسعى في ركاب من ليسوا في حاجة إليه».

لن يكلفه الأمر سوى أن يصبح ثقيل الظل باردًا لبعض الوقت، إلى أن يعرض عليه محمد الحنفي أن يرافقه في السيارة. سوف ينتظر ما دام في الوقت متسع، فإن أزف الوقت استقل التاكسي والأمر لله من قبل ومن بعد.

«غبي هذا المتهم ككل البؤساء من المجرمين، أيكون في عهدته بضاعة تقدَّر بأكثرَ من مليونين من الجنيهات ويسجن من أجل كرتونة بسكويت وأربع عبوات صغيرة من الكافيار! الأدهى أنه يقر بأنه قد أخذهم بالفعل وكان ينوي سداد ثمنهم في نهاية الشهر. ماذا ترك لي كي أتعلَّل به أمام المحكمة؟ إن كلمة الكافيار وحدها في محضر القضية ستستفز القاضي فيحكم عليه بأقصى عقوبة، ماذا لو كانوا أربع علب من الفول المدمس مثلًا؟ أنا نفسي لم أذق طعم الكافيار من قبل، وأقسم أن لا أحد من سلالتنا قد فعل.

المتهمون يلقون بكل العبء على عاتق المحامي وكأنه هو من ارتكب الجرم، إنهم لا يتقنون صنعتهم بشكل مُرضٍ، كبار اللصوص فقط ماهرون في اللعب بالقانون بينما صغارهم فاشلون حتى في الإجرام. المجرم الحقيقي في القضية هو المفتش الذي أبلغ عن العجز في عهدة البائس موكلي، كان أولى به أن يدفع من جيبه الخاص ثمن البضاعة الناقصة بدلًا من أن يزج بالرجل إلى السجن ويشرد أسرته. من قال إن هذا الجاهل المعدم الذي لا يجد قوت يومه يقام عليه الحد؟!»

أخيرًا جاء محمد الحنفي، ليس في الوقت متسع لمديح أو هجاء. قال حسنين: إما أن توصلني بسيارتك إلى محطة السكك الحديدية أو تقرضني أجرة التاكسي.

وصعد إلى السيارة.

رائحة الطعمية أدارت رأسه، لو أنه فتح مطعمًا للفول و«الفلافل» في هذا الموقع الفريد في ميدان المحطة، لأصبح مليونيرًا خلال بضع سنوات فقط. الناس يتكالبون على «السندويتشات» وكأنها توزَّع مجانًا على أبناء السبيل. قاوم الإغراء، لم تبقَ إلا ساعة أو أكثر قليلًا ويصل إلى بلدته ويتناول طعامًا ساخنًا. لولا سندويتش الحلاوة الطحينية الذي أصرت أمه على وضعه في الحقيبة لهلك. تنهد «لولا أنني أقيم وأسرتي في منزل أمي ما وجدت قيمة اشتراك القطار. ما زالت الحاجَّة أمي إلى اليوم تظنُّ أنني من علية القوم، الحمد لله أنها لا تعرف شيئًا عن صفوة المجتمع وإلا لماتت حسرة على أبنائها. البدلة ورابطة العنق والحذاء اللامع والأنفة والصوت العالي هي أهم ما يميز السادة عندها.»

مسرعًا اجتازَ بوابة المحطة، ولم يكد يكمل خطوته الثانية حتى دفعه رجلٌ في كتفيه كي يوقفه، فانقلب حسنين الفوال على ظهره. كانت السقطة مؤلمة، وتعجب ألا يأتي أحدٌ من الناس ليعينه على الوقوف، نهض ينفض عن ملابسه التراب. وصرخ موبخًا: ماذا فعلت يا ثور؟!

فأطبق الثور على رقبته ودفعه للأمام. أمره الضابط أن يفتح حقيبته.

اعترض الفوال: أهذه هي الطريقة التي يعامل بها المواطن في وطنه؟ أنا محامي.

رد الضابط ببرود: عندنا طرق أسوأ بكثير.

أمر الضابط أحد جنوده بتفتيشه. تراجع الفوال للخلف.

– هذا الإجراء مخالف للقانون. هل لديك أمر من النيابة بالتفتيش؟

لكزه المخبر في صدره فترنح. ورد الضابط: لدينا قانون الطوارئ وقانون مكافحة الإرهاب. سوف تكون محظوظًا إن لم أحتجزك إلى أن نتحرى عنك.

أدرك الفوال أن عليه أن يحني رأسه بدلًا من أن تقطع. جاهد كي يتماسك، فرت من عينه دمعة حاول أن يخفيها. خَطا الضابط نحوه خطوة وربت على كتفه.

– هون عليك. لا تحمل الأمور ما لا تحتمل. الضرورة تحتم علينا أن نتجاوز القانون في بعض الأحيان. إننا نعمل في ظل ظروف صعبة.

جف حلقه، وأحكم الكرب قبضته على صدره وبالكاد استمر يتنفس، دخل الحمام، وأغلق بابه، وفتح أمام دموعه مجرى واسعًا.

أنصت لصوت المذيع الداخلي للمحطة، سوف يتحرك القطار بعد خمس دقائق، سار متثاقلًا مطأطئ الرأس حتى بلغ الرصيف.

صعد إلى القطار، مشى بين صفي المقاعد، عدد الركاب محدود دائمًا، أغلبهم مواطنون فوق العادة، أترى كم منهم مرغت كرامته في التراب مثله؟ إنه يكره التشبه بهذه النخبة وهو ليس منها، ويرى أن من العار أن يتعلق بأذيالها، لكنها الضرورة أيضًا كما يقول الضابط، تلك الكلمة السحرية الأثيرة عند كل الطغاة، الكلمة التي تحتمل أي معنى وفي الوقت ذاته لا تقبل النقاش، التي تجبرك جبرًا على الرضا بكل الأشياء التي تبغضها، الضرورة، الضرورة في الأمن، وفي الغذاء والكساء والشراب والدواء والزواج والعمل.

«أنا لا أحب عربات القطار المكيفة ولا أنتمي لركابها، إنهم يبصرون جلدي خلف قماش البدلة ويأنفون من لونه الكالح، لكن لو رآني أحد الموكلين أجلس بين ركاب الدرجة الثالثة لطالبني بإعادة الأتعاب حتى لو صدر الحكم ببراءته، ما زال الناس يعتقدون أنه لا يمكن لفقير أن يكون محترمًا!»

اهتدى الفوال إلى رقم مقعده فجلس ووضع حقيبته على أرضية القطار إلى جواره، أرخى التكييف عضلاته وأعصابه فأغمض عينيه وراح في سبات عميق لم يوقظه إلا ارتجاج القطار عند توقفه، نظر من النافذة، إنها المحطة الأولى، ما زال أمامه العديد من المحطات. إلى جواره جلس أحد الركاب بعد أن ألقى السلام، يبدو أنه لم يحجز مقعدًا فهو لم يلتفت إلى أي رقم. لنفسه قال الفوال: «لقد اختارني دون غيري، أقسم النكد ألَّا يمل من مرافقتي.»

الراكب كان شابًّا لم يبلغ الثلاثين من عمره، كث اللحية حليق الشارب، يرتدي جلبابًا أبيض ويضع على رأسه طاقية بيضاء، ومعه حقيبة أوراق لفتت نظر حسنين الفوال لأنها تشبه إلى حد كبير حقيبته.

عاود الفوال النظر إلى وجه الراكب الشاب مرة أخرى بطرف عينه، إنه نموذج للإرهابي الذي تعرضه شاشات التليفزيون. حسنًا، فالشاب الآن في إجازة، لو أنه خرج قاصدًا الجهاد ما ارتدى هذه الملابس التي تلفت الأنظار إليه، وربما لأن الأمن يفكر غالبًا على هذا النحو فقد تعمد الشاب التمويه. «في كل الأحوال يبدو أن هذا اليوم لن يمر على خير. لو تحسَّب الإنسان لكل الاحتمالات لكان الموت أفضل له.» استسلم ونام.

عندما استيقظ للمرة الثانية لم يكن الشاب جالسًا إلى جواره، لكن حقيبته كانت موجودةً إلى جانب مقعده. «لعله نهض ليصلي في مكان ما، تقبل الله منا ومنه.»

مرَّت ساعة تقريبًا ولم يرجع الشاب، ليس الأمر إذن صلاة. هل غادر القطار؟ سرت بجسده رعدة، ربما كانت الحقيبة مفخخة. بغير تدبر ودون تردد التقط الفوال الحقيبة ووضعها على ركبتيه وفتحها، أغمض عينيه، وتخشبت يديه وهو يقبض بقوة على الحقيبة، تسارعت دقات قلبه، أنب نفسه بقوة: كيف لمحامٍ أن يبلغ هذه الدرجة من الحمق؟ لو كانت الحقيبة مفخخة كما تخوف فربما انفجرت عند فتحها. لم تنفجر، حبس أنفاسه وفتح عينيه ببطء، رأى رزمًا متراصةً من الأوراق النقدية تملأ الحقيبة، بسرعة أغلقها وتلفت سريعًا حوله، وأرجع الحقيبة إلى موضعها.

«من أين يأتي شابٌّ في مقتبل العمر بثروة كهذه؟» تساءل حسنين متعجبًا «لعلها تجارة سلاح أو تجارة مخدرات؛ فخبرتهم كبيرة بمثل هذه الأمور في أفغانستان.»

«هم من أفتوا فليس عليَّ جناح، إنهم يستحلون أموال المسلمين بل ودماءهم أيضًا لتحقيق أغراضهم، سوف أكتفي أنا بالمال لأحقِّق أغراضي ولو لمرة واحدة في عمري، لعلني لا أضطر مستقبلًا لدخول محطة السكك الحديدية فيستبيح الأمن كرامتي العليلة.»

«ليس أمامي متسع من الوقت كي أعمل العقل، لقد أعملته من قبل دائمًا فأصبحت على هذه الحال التي لا تسر مسلمًا أو كافرًا.»

سوف يصل القطار إلى المحطة بعد دقائق، قرر حسنين الفوال قرارًا لا رجعة فيه، اعتزم أن ينال نصيبه من مال المسلمين! تلفَّت حوله، لا أحد يجلس في الصف الذي يجلس فيه، والمقاعد عالية ولن يراه أحد. لو أنه حمل حقيبتين لأصبح في موضع شبهة، أخرج أوراقه من حقيبته سريعًا ثم وضع الحقيبة أسفل مقعده، كان يفضل لو ألقى بها من النافذة، لكن النوافذ لا تفتح في مثل هذه العربات، فتح الحقيبة الأخرى وفي لمح البصر وضع أوراقه فوق النقود وأغلقها بإحكام ووضعها إلى جانبه.

غادر حسنين القطار، لم يحس بالراحة التي كان يستشعرها كل يوم لحظة وصوله إلى محطته، لم يصبح سعيدًا كما ظن، كان مشوش التفكير قلقًا يتلفت حوله دائمًا كلص مبتدئ. تساءل: هل هو سارق بالفعل؟ أهو لص كبقية اللصوص الذين يترافع عنهم؟ ربما كان المال الذي استولى عليه سينفق لإيذاء المسلمين، ربما أتى من حرام وما أتى من حرام فالنار أولى به. ابتسم، أدرك أنه يغالط: «النار أولى به، لا حسنين الفوال.»

أرغم الفوال على الوقوف في نهاية الطابور، تساءل، إجراءات تفتيش، إنهم يبحثون عن إرهابي. ارتعد خوفًا، سيفتشون كل الحقائب، وبالتأكيد سوف يتساءلون عن مصدر هذه الأموال. فكر قليلًا «حسنًا إنها أموالي أنا وسوف أتمسك بها، ثمن الأرض التي ورثتها عن جدي، ما هم فيه الآن سوف يلهيهم عن تحري الأمر.»

فتح الجندي الحقيبة فرفع عينيه إلى الضابط، تقدم الضابط فأخذ رزمة من النقد وفحصها، ابتسم ابتسامة سوداء.

– هل تصنعون فيلمًا سينمائيًّا أم أنك نصاب؟

– أنا محامٍ يا حضرة الضابط.

– وما معنى أن تضع ورقة مالية حقيقية فوق رزمة من الأوراق البيضاء يا محامي؟

فغر فاه، ونظر إلى الحقيبة لا يكاد يصدق. الحقيبة المكتظة بأوراق النقد جذبت الأنظار، وتجمهر الناس.

صرخ الجندي الذي يحمل الحقيبة: يا أفندم، يوجد أسفل النقود …

ودوى انفجار كبير.

في صباح اليوم التالي، عرضت نشرات الأخبار صورًا للإرهابي حسنين محمد صبحي الفوال، المسئول عن الانفجار الذي وقع بمحطة السكك الحديدية، وأذيع أن منظمة درع الإسلام قد أعلنت مسئوليتها عن الحادث. وذكر بيان الداخلية أن الأمن قد تمكن من تحديد هُويَّة الإرهابي من بقايا أوراقه الخاصة التي عثر عليها في موقع الانفجار.

(تمت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤