الدعوة عامة

لن تعود زوجتي من سفرها قبل الرابعة عصرًا، وأمامي بضع ساعات أطلق فيها روحي من محبسها؛ فهذه هي المرة الأولى منذ زمن طويل التي يحق لي فيها أن أخلع على نفسي لقب المصطاف. في مثل هذا الوقت تقريبًا من كل عام، اعتدت وأسرتي أن نشد الرحال إلى رأس البر، وما إن تطأ أقدامنا أرض المصيف حتى تتهاوى كل آمالي في قضاء إجازة ممتعة؛ فعلى الفور يتخذ الجميع قرارهم بتعييني في وظيفة عبد بلا أجر، رغم أنني الوحيد الذي يتكفَّل بكل النفقات، وأظل أنوء بأعباء تلك الوظيفة التعيسة حتى ونحن على الشاطئ.

كانت الظهيرة حارة، والنهار في أوج ضيائه، والهواء يعبق برائحة البحر. ولأنني وأمثالي ممن أبلى الشقاء أجسادهم، وانسحقت أرواحنا تحت ضغوط الواجب والمقبول والصحيح، لم نكن ننتمي لهذا المكان أو لهذا الحشد؛ فقد انزويت تحت المظلة أتصنَّع الوقار والحكمة مكتفيًا باستطلاع ما حولي؛ بائع يلح في عرض بضاعته على المصطافين، طفل يشكل أحلامه من الرمال الرطبة، أنثى تختال في مشيتها وتحصي بطرفي عينيها عدد العيون التي تلاحقها، لهو فظ صاخب لجمهرة من الشبان تفور قلوبهم النضرة بالجرأة والطيش والإقبال على الحياة، يسعون إلى لفت أنظار الفتيات. وهي، نفس المرأة التي كانت تجلس إلى جوار مظلتنا بالأمس، ما زالت تطيل النظر إليَّ وكأنها تؤكد أنها حقًّا تعنيني أنا.

هل تعنيني حقًّا؟ كيف وقد بلغت من العمر ما يكفي لتسقط النساء عني ألقاب العاشقين؟! نعم، أشعر بالحسرة على ما فات وما ضاع ولن يعود أبدًا، وبانكسار كئيب يحني ظهري ويأبى إلا أن أرضخ لمعاول الزمن تهدم ما بنيته في سنوات طوال. نادرًا ما يأتينا الموت فجأة، هو بخبث يتسلل إلى خلايانا واحدة تلو الأخرى فنشعر رويدًا رويدًا بالوهن والخذلان واليأس، فيلتهمنا وقد أضحينا فريسة سهلة المنال. من الحمق أن ننتظر نهايتنا إلى أن تأتي، وعلينا أن نصر على الخلود حتى تكذب ظننا المقادير. لن نواجه أبدًا حقيقة الموت المفزعة، فعند الموت تتلاشى كل الحقائق، والخوف من الموت ليس إلا كابوسًا يعجل بمجيئه.

وجهت بصري نحوها متعمدًا متحديًا، والتقت عينانا في حوار طويل، حتى أفقت منزعجًا عندما وضع ابني خالد يده على كتفي يخبرني بأنه قد عاد. أيها الملعون الصغير إنك تتعجل نهاية أبيك!

عليَّ أن أستعيد الآن دور الأب، عليَّ أن أسدد الفواتير، وأقدم النصح، وأشكو المرض، وألعن اليوم الذي تزوجت فيه، ثم أبحث بعد ذلك عن سبب لإرسال خالد بعيدًا. بادر خالد من حيث لا يدري فحقق رغبتي؛ استأذن كي ينزل إلى البحر. وبدلًا من أن أستكمل حلقات مغامرتي انتابني القلق، وظللْتُ وجلًا أترقب حركات ابني وسكناته بين الأمواج وقد انشغلت عن كل ما حولي وما بداخلي، أقِف أحيانًا وأجلس أخرى، أتقدَّم متوجسًا نحو الماء وأرتد ثانية تحت مظلتي، أتعقب أثره بين الرءوس الطافية فأعثر عليه مرة، ويغيب مرات. هكذا كان الأمر يبعث على الضجر، لقد تركتْه أمُّه وذهبت برفقة ابنتنا لزيارة أمها المريضة، فأصبحت أنا المسئول الوحيد عن سلامته.

وقع بصري عليها وهي تداعب طفلًا على حافة البحر، هيفاء في حوالي الأربعين من عمرها، ممشوقة القد، تكاد معالم أنوثتها النافرة تشق عنها ثوبها المبلل بالماء. وجه يتوهج بالأنوثة وإن لم يكن على حظ وافر من الجمال، عينان واسعتان تقرأ فيهما الكثير من الجرأة واللامبالاة. تأكدت من نظراتها المتكررة أنها فطنت لانشغالي بأمرها، انتابتني رعدة خفيفة وشعرت بخوفٍ مبهم، وتلفت حولي مستطلعًا عيون الناس، خشيت أن يراني أحد أتلصص النظر إلى النساء وقد بلغت من العمر ما بلغت. عدت إلى جلستي تحت المظلة وقد عقدت العزم على ألَّا أنظر ناحيتها، فوجدتني مستغرقًا أرقب مرافقيها تحت المظلة المجاورة. تُرى أي علاقة هي التي تربطهم بها، تلفت أبحث عن زوج لها أو ابن، وكان صعبًا جدًّا أن أخمن وسط هذا الجمع الكبير. نهض أحدهم واتجه نحوها وعاد بالطفل فأجلسه تحت المظلة بين ذويه، ومسرعًا قفز نشيطًا مرحًا وهو يعود إليها، فأمسك بيدها واقتادها نحو الماء بينما كانت هي تتمنَّع في دلال، وتلتفت نحوي المرة تلو المرة والابتسامة تعلو وجهها، حتى خشيت أن يفتضح أمري. بعد قليل أيقنت أنها تنشغل بالنظر إليَّ أكثر من انشغالها باللهو مع رفيقها، هو زوجها بالتأكيد، فلا شيء كان يحول بينه وبين الالتصاق بها والقبض على ذراعيها وحملها بين يديه. أثار سلوكه هذا تقززي لا غيرتي، فأغمضت عيني مكرهًا. خلف جفني رأيتها تعوي وتمزق ثيابها وتشتعل بين أحضاني كجمرة من نار. تنفست بعمق واعتدلت في جلستي لعلِّي أطرد شياطين أخذت تعبث برأسي.

أثار رفيقها المخنث هذا فضولي، يبدو أنه تجاوز الأربعينيات من عمره، لكنه أقرب الشبه بطفل. رأيت بعض الصبية والشباب وقد جذبتهم دعاباته الفاضحة معها يتحلَّقون حولهما في الماء، وبدا هو غير عابئ، وهي أيضًا. من الواضح أنه يجيد الغوص والسباحة ويتفاخر كالصبيان بهما، فكان يتركها وسط هذه الحلقة المتأججة بالرغبة، ويمضي في استعراض مهاراته فرحًا منتشيًا بنظرات الإعجاب وكلمات الثناء. لمراتٍ كان يعود إلى الشاطئ فيشعل سيجارة أو يحتسي كوبًا من الشاي، تاركًا رفيقته قابعة في الماء لا تسلم من سخافات العابثين. أكان هذا الديوث هو مبرر جرأتها نحوي؟ هل كانت تبحث عن رجل؟ أصابني التقزز.

بعد حين خرجت من البحر واتخذت مجلسها بالقرب مني لا يفصلها عني سوى بضع أقدام. أصبح بمقدور أي شخصٍ الآن أن يلحظ نظراتنا المتبادلة، فتحاشيت قدر استطاعتي أن ألتفت إليها، لكنها فعلت كل ما بوسعها كأنثى كي تهزم إرادتي وتبعثر وقاري، أفصحت عن بعض خفايا جسدها لي، علت ضحكاتها، تلوت، وانثنت، ومالت، واعتدلت، واستلقت، متعمدةً أن تعري أمامي ما أخفَتْه عني لساعات. هل استشاطت غريزتها فعجزت عن مغالبتها؟ أم أرادت أن تسعر الجحيم في جسدي البارد؟

بداخلي سرت رعشة لذيذة داعبت أعضائي فأوقدت نيران شهوة متعطشة للارتواء، نسيت حذري، وتلاقت عينانا تتعانقان، تاهت عيناي تغوصان بين حنايا جسدها، وتقطعت أنفاسي وأنا أتسلق وأهبط من شفتيها إلى قدميها، وبيدي قبضت بقوة على قائمي مقعدي وكأني أعتصر لحمها وأتشبث بالمقعد كي لا أفر منها أو إليها.

ارتمى خالد على المقعد إلى جواري فاستيقظت مرعوبًا أحملق فيه، وبعد أن تعرفت على ملامحه هدأ روعي، وأغمضت عيني أسدل ستارة قاتمة على حلم فاضح.

امتدحني ولدي طويلًا، فعلى عكس ما تفعل أمه، هكذا ظن، فقد منحته أنا حرية كاملة في أن يسبح كيفما شاء، وتركته يلعب مع أقرانه كيفما اتفق، وأعفيته من وابل من النصائح والإرشادات والمواعظ، فلم أعكر صفوه ولم أقطع عليه متعته. كان مسرورًا معجبًا بي وممتنًّا لثقتي الكبيرة فيه وإيماني بأنه قد نضج، أما أنا فلم أغفر لنفسي قط أنني قد نسيته تمامًا زهاء ساعة.

كان عليَّ أن أعود إلى كهفي. أبصرت بائع الجرائد فاستوقفته، وللمرة الأولى في حياتي ابتعت إحدى جرائد المعارضة، والتقطت نظارتي الطبية ورحت أدفن عيني داخل أوراقها كي لا تحيد عن السطور. كانت لا تعرف الكلل، ووجدتها تقف فجأة إلى جواري وتتوجه بالحديث إليَّ: من فضلك. هل يمكنني أن أستعير الجريدة لبعض الوقت؟

حملقت فيها مشدوهًا. كررت: الجريدة من فضلك.

ناولتها إياها بيد مرتعشة، فابتسمت شاكرة، وتهادت خطواتها وهي تعود إلى مقعدها تحت المظلة.

نبهني خالد باقتراب موعد ذهابنا إلى صديقي القديم عبد القادر الذي دعانا لتناول الغداء معه، وتوقع أن أمه وأخته قد عادتا من السفر وهما الآن في انتظارنا. ليس بيدي حيلة، ويبدو أن حكاية اليوم ستنتهي سريعًا، نهضت متثاقلًا وجمعنا أشياءنا، وسرنا بضع خطوات، سمعتها تناديني: أستاذ … الجريدة … الجريدة، نسيت الجريدة.

ناولتْني الجريدة، وبسرعةٍ أشارت بإصبعها إلى بضع كلمات بخط اليد في أعلى الصفحة الأولى، وعلى الفور طويت الجريدة خشية أن يلاحظ خالد أي شيء. وانطلقنا إلى مسكننا.

كنت مرتبكًا إلى أقصى حد، وراقني لهذا أن نتناول الغداء أنا وعبد القادر في الشرفة منفردين، وكالعهد به كان عبد القادر مرحًا لاهيًا، ولم يكف عن الحديث لحظة، كانت عيناي تتجهان نحوه لكنني كنت أراها هي، خشيت أن يلحظ انصرافي عنه، فقاطعته على حين غرة: ماذا أعددت لحياتك بعد الخروج على المعاش؟

تعجب: أين كنت يا رجل؟ أبعد ساعةٍ من الحديث عن مشاريعي وخططي وأحلامي تسألني ماذا سوف أفعل؟! فهمت الآن سبب شهيتك المفتوحة على غير العادة، إنك لا تدري أنك تأكل. ما زالت أمامك بضع سنوات قبل أن تسرح من الخدمة كالعجزة، ففيم كان شرودك؟

أجبت: امرأة.

وفي إسهاب رحت أروي له حكاية الظهيرة. كان مندهشًا، لكن ابتسامته لم تغادر وجهه، ثم صدرت منه ضحكة عالية، فحذرته خشية أن يلتفت لحديثنا أحد.

بينما لا زال يُقهقه عقب: لم تفعلها في ريعان الشباب، فكيف وقد بلغت من العمر عتيًّا؟!

استهجنت: أراك لا تكف عن الهزل وقت الجد.

– أي جد؟ على الشاطئ؟! قصص الحب على الشاطئ تأتي وتذهب كأمواج البحر، ولا تلبث أن تختتم بمشهد غروب الشمس، ليس إلا.

استفزني رد فعل الرجل، فوجهت الحديث وجهة أخرى، وسريعًا فهم. قال جادًّا: أخبرني إذن ماذا كتبت لك على صفحة الجريدة.

انتفضت واقفًا أحملق فيه. أخبرته أنني لم أقرأ ما كتبَتْ، والأخطر أنني تركت الجريدة على المائدة ونسيت أمرها، فعاد يضحك حتى تقطَّعت أنفاسه وبدأ يسعل. صمت فجأة ثم قال: انهض سريعًا علَّنا نجد الجريدة حيث وضعتها، لن تصدق زوجتك أبدًا أي كذبة يمكن أن نؤلِّفها.

أخبرنا زوجتينا أننا سوف نذهب لقضاء مصلحةٍ ما، وسوف نعود بعد قليل.

في سلة القمامة بالمطبخ وجدت الجريدة، وكان من الصعب أن نتكهن إن كان أحد قد لاحظ ما عليها وقرأه. نصحني عبد القادر ألَّا أنبس بكلمةٍ واحدة عن الجريدة، وأن أدعي جهلي تمامًا بما كتب عليها لو أن أحدًا واجهني بالسؤال.

ذكرت صاحبتنا داليا، وهذا هو الاسم الذي خطته بيدها، أنها سوف تكون في انتظاري في أحد مطاعم القاهرة، وحددت اليوم والساعة، وأنها لتسهيل التعارُف بيننا سوف ترتدي ثوبًا أبيض. سألني عبد القادر عما انتويت فعله، فأكدت له أنني سوف أذهب للقائها. قال: الأمر لا يستحق أن تتجشم عناء السفر، كثيرات هنا أرخص سعرًا.

أشحت عنه وجهي، كنت مستاء لما قال. تعجب: ما بالك يا رجل! أيزيد الأمر عن بضع دقائق في الفراش؟!

قلت عابسًا: أخطأت حين لجأت إليك.

لم يعقب، واقترح أن نغادر المقهى ونعود أدراجنا.

جاهدت كي أبدو طبيعيًّا خلال سهرتنا مع أسرة عبد القادر، وبينما كانوا يودعوننا عند باب الفيلا ملت على أذن صديقي أخبره بأنني نسيت الجريدة في المقهى، فابتسم وهز رأسه مشيرًا لي ألا أهتم.

مرت الأيام المتبقية لنا في رأس البر ثقيلة مملة، وقد لاحظ الجميع أن تغيرًا ما قد طرأ عليَّ وظهرت آثاره في فترات صمتي الطويلة وتوتري الدائم. في كل صباح كنت أتوقع أن أراها على نفس الشاطئ، وكنت أذرعه ذهابًا وجيئة حتى التفتَتْ إليَّ كل الأنظار، أو هكذا ظننت، وفي كل مساء كنت أترقب مواجهةً عنيفة مع زوجتي إن كانت قد علمت بشيء. كان صديقي عبد القادر متفهمًا وفيًّا لي كما عهدته، لقد كف تمامًا عن إثارة الموضوع، واكتفى بالامتناع عن التعليق عندما يأتي ذكر داليا على لساني. كنت على يقينٍ أنه يُشفق لحالي؛ ولهذا فقد حرص على التواجد إلى جانبي أغلب الوقت، لعل الأزمة تنتهي قريبًا على خير.

في اليوم الموعود وصلت المطعم مبكرًا عن موعدي، لم أرفع نظارة الشمس عن عيني، وفضلت أن أنزوي في ركن قصي من صالة المطعم، ورحت أترقب لحظة وصولها.

في موعدها تمامًا، ظهرت تدخل من الباب ترتدي فستان موعدنا الأبيض، وقبل أن أنهض للقائها سبقني شابٌّ أنيق نهض من على مقعده في مقدمة صالة المطعم واتجه نحوها، ظلَّت واقفةً تُبادله الحديث وهي متجهمة بعض الشيء، بعد ثوانٍ انفرجت أساريرها، ثم ضحكت ضحكةً يشوبها المجون أثارت انتباه البعض. أمسك الشاب يدها واقتادها إلى حيث كان يجلس، ومكثا لدقائق يتبادلان الحديث والبسمات والهمسات، وفي سفورٍ أخرج الشاب حافظة نقوده وناولها رزمةً من أوراق النقد وضعتها سريعًا في حقيبة يدها، وعلى الفور نهضا سويًّا وغادرا المكان.

ابتسمت وأنا أسترجع منظر صديقي عبد القادر وقد تقطعت أنفاسه من الضحك.

(تمت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤