وراء الحدود

كان عبد الرازق يجر رجليه جرًّا ويتعثَّر من حين لآخر وهو يدفع عربته الخشبية فوق الرمال، عيناه كانتا تتجهان نحو هدفٍ لا يبصره الناظرون. هو وقليلون من أهل قريته النائية يعرفون طريقهم جيدًا وسط هذه الصحراء الشاسعة، تقودهم فطرتهم الصافية، حيث لا علامة ولا إشارة ولا أثر يُقتفى ولا خطوط فاصلة.

لم تصعد الشمس بعدُ إلى منتصف السماء، لكن أشعتها كانت حارقةً تلسع جلد عبد الرازق وتخترق «الكاب» الذي يضعه على رأسه، فيرفعه بين الفينة والأخرى كي يفرغ ما اختزنه من نار. بدا الرجل وهو يدفع عربته الخشبية فوق الرمال كمن يزيح همًّا جاثمًا على صدره، لكن همَّ الجوعِ كان أشد وطأة، فواصل سيره يكتم شكواه ولا يسأل أحدًا إلا خالقه.

من بعيد لاحت أطلال خربة، فجدَّ الرجل في سعيه رغم إعيائه الشديد وأخذ يهرول بعربته في اتجاهها؛ عربات متفحمة وقد تهشم هيكلها، وأخرى أعطبتها قذيفة أو قذائف، وشباك تمويه، وفوارغ ذخائر، وخرق متناثرة لملابس عسكرية، ومئات من أكياس مليئة بالرمال مصفوفة فوق بعضها البعض وقد تبعثر عدد منها، وخنادق وحفر وتلال، وآثار دماء.

بنظرةٍ سريعةٍ مدربةٍ أحصى عبد الرازق محتويات الموقع، مخزن الغنائم، واطمأن إلى حظه من الرزق، فاستلقى على الأرض في ظل عربةٍ محطمة وغفا. أيقظه صوت باب سيارة يصفق، تلتْه أصواتٌ مختلطةٌ بعضها أقرب إلى الحفيف والأخرى أقرب إلى الهزيم، خافتة أحيانًا وعالية أحيانًا، أدرك أن الرياح اشتدت، فعاد إلى نومه.

في المرة الثانية سمع طرقًا شديدًا، فنهض فزعًا، وأسرع نحو عربته متحفزًا فأخرج مطرقته ورفعها عاليًا، وخَطا بخفةٍ باحثًا عن مصدر الطَّرْق. كان حمد يفكك أجزاء إحدى العربات، وما إن رأى عبد الرازق حتى تهلل وجهه بشرًا وأسرع يصافحه.

حمد: ظننت أنك سبقتني، وحملت ما يكفيك وعدت إلى بيتك.

رد عبد الرازق ضاحكًا: أنت دائمًا تسبقني وتطمع في الاستئثار بأثمن ما في الغنيمة.

رد حمد: كلها توزن بالكيلو، إنهم حتى في الحرب لا يتركون لنا غير فضلاتهم.

مستخفًّا سأل عبد الرازق: ترى من الذي انتصر في المعركة الأخيرة؟

رد حمد: أتظن أنني أعرف من كان يحارب من؟ دول وأحلاف وعصابات مسلحة وإرهابيون وتجار سلاح. أنا لا يعنيني سوى البحث عن طعام أطفالي؛ الخردة.

فجأة صمت الرجلان وأرهفا السمع، بعد قليل تيقنا أنه صوت أنين، فأسرعا معًا يفتشان بين الأشلاء عمن يستغيث.

كان جرح الضابط غائرًا لكنه قد توقف عن النزف؛ فالأمل كبير إذن في إنقاذه، بلَّلا شفتيه بقطرات من الماء، ووضعا كيسًا من الرمال تحت رأسه، وفتحا أزرار قميصه، وحلَّا حزامه. كان الضابط يفتح عينيه من وقتٍ لآخر ولا ينطق ولا يكف عن الأنين. سارا كلٌّ في اتجاه يبحثان عن حقيبة إسعاف ليطهرا جرحه، فعثر عبد الرازق بدلًا منها على زجاجة خمر صغيرة لم تفتح بعد. نزع عبد الرازق غطاء الزجاجة فأخذ رشفةً أو رشفتَيْن، وصبَّ بعضًا مما فيها فوق الجرح، صرخ الضابط كثور يذبح، وفقد وعيه. حملاه إلى إحدى العربات، وإلى جواره تركا بعض الماء وقليلًا من الطعام، وقاما بتفتيش العربة جيدًا خشية وجود عقارب أو أفاعٍ قد تسللت إليها، ثم أحكما غلق النوافذ والأبواب، وما إن ابتعدا خطوات حتى توقف حمد قائلًا: العربة مغلقة وهو فاقد الوعي، قد يموت خنقًا.

رد عبد الرازق هازئًا: إنها عربة مخصصة للجنود، أتظن أنها محكمة الغلق لا ينفذ إليها الهواء؟ اطمئن، فتحاتها تسمح بتسلل الذئاب والضباع وعابري السبيل أيضًا!

رد حمد جادًّا: لكنها ربما تكون محكمة الغلق، ولو على سبيل الخطأ.

قال عبد الرازق: لا بأس، لنترك فتحة ضيقة في نافذة العربة.

ثم ساخرًا أردف: فإن تسلل منها ثعبان صغير أكله الضابط إن جاع!

عقب حمد: ألا تكف عن الهزل؟

رد عبد الرازق: لولاه لفقدت عقلي منذ زمن.

سأل حمد جادًّا: هل أنت على يقين أنه ضابط فعلًا؟

رد عبد الرازق: انظر إلى بشرته الناعمة وملابسه الداخلية، إن الضباط ينزعون الرتب من على أكتافهم إن جد الجد؛ كي لا يكونوا هدفًا سهلًا وصيدًا ثمينًا، لا يزعجهم أن يتشبهوا بأمثالنا أحيانًا إن كان في هذا مصلحتهم.

ضاع الكثير من الوقت، وكان لزامًا عليهما أن يجمعا ما أمكن من الخردة على وجه السرعة حتى يعودا قبل غروب الشمس إلى ديارهما.

في اليوم التالي بكر عبد الرازق في الوصول إلى الساحة الخراب، وتوجَّه من فوره نحو الضابط الجريح، فوجده يجلس داخل العربة وإلى جواره حمد الذي سبقه بالحضور. أخرج لفافةً وفتحها وناولها للضابط الذي أطال النظر إليها وظل ينقل بصره بين الرجلين ثم سأل: من الذي أوصى بهذه الأدوية؟

رد عبد الرازق: المرحومة أمي! عثرت على الأدوية وسط القمامة فأحضرتها لك. ما بالك يا رجل! هل تشك في نوايانا نحوك أم تخشى من جهلنا؟ اطمئن لقد أوصى بها الصيدلي.

عقب حمد: نحن حاولنا إنقاذك بينما تركك قائدك وزملاؤك وفروا كالفئران. لو أردنا بك سوءًا لتركناك يا حكيم زمانك.

أشاح الضابط بوجهه عن حمد، ونظر إلى عبد الرازق: من أي بلد أنت؟

رد عبد الرازق مستخفًّا: من هنا.

أشار الضابط إلى حمد، وسأل: والأخ؟

أجاب عبد الرازق: هو أيضًا من هنا.

ظل الضابط ينظر في كل الاتجاهات من خلال نوافذ العربة. ثم سأل: في أي جانبٍ نحن من الحدود الآن؟

كان الضيق قد استبد بحمد، فانفجر بصوت عالٍ يخاطب عبد الرازق: لننهض نحن للسعي على رزقنا. لقد أحضرنا لهذا الرجل الطعام والدواء، فشبع وبدأ يتعافى وأصبح مهتمًّا بأشياء أخرى. ربما أخطأنا عندما قدمنا له العون.

لساعات واصل الرجلان عملهما يسابقان الزمن حتى بلغ بهما الإعياء مبلغه، فاقترح حمد أن يستريحا قليلًا. أتى كلٌّ منهما بكيس طعامه فأفرغه، وجلسا يتشاركان طعام الإفطار.

من بعيدٍ لمح حمد قافلةً طويلة من العربات تسير على الطريق الرئيسي الممهد متجهة نحو الساحة الخراب. «من المؤكد أنها مركبات حربية فمرور سيارة وحيدة من هنا حدث استثنائي، هل يتأهبون لمعركة جديدة أم أتوا للم أشلائهم؟ في الحالتين ينتظرنا نحن الثلاثة مصير أسود.» هكذا فكر حمد واتخذ قراره سريعًا، فانحرف عن طريقه ودفع عربته بقوة خلف أحد التلال التي تشرف على ساحة الحرب، وصعد إلى أعلى التل يستطلع ما يحدث. اقتربت القافلة ترفع أعلام شرقستان، فاستبد به خوف شديد على عبد الرازق فهو يحمل هوية غربستان، وهم لن يتوانوا عن الفتك به.

انطلق حمد يعدو نحو الساحة، لعله يُفلح في الوصول إلى صاحبه قبل أن تداهمه القافلة، وعندما وصل أبصر عربة عبد الرازق الخشبية لكنه لم يعثر عليه، توقَّف لبرهةٍ ثم جرى نحو المكان الذي يوجد فيه الجريح، كان عبد الرازق يعاون الضابط على الوقوف، صرخ فيه حمد: أسرع. قافلة آتية من شرقستان.

اتسعت عينا الضابط، وكأنما دبَّت فيه روح شيطانية فوقف منتصبًا على قدميه وجرى نحو إحدى المركبات المهشمة، زحف على بطنه أسفلها وبدأ يحفر في الرمال، بينما ظل الرجلان حيث هما يرقبانه في دهشة. أخرج الضابط بندقية آلية وخزينة طلقات ملفوفتين بعلم غربستان، ثم نهض واختبر سريعًا أجزاء سلاحه وثبت فيه خزينة الطلقات، والتقط العلم ولفه حول رقبته. نهره حمد وقد احتقن وجهه غيظًا: لن يلتقطوا لك صورة تذكارية! أسرع وإلا تركناك فريسة لهم. أتظن أنك قادر بمفردك على مواجهة هذا الجيش؟! ما هذه البندقية؟ أين مسدسك، سلاحك الشخصي؟

– رفع الضابط بندقيته في مواجهته وهو يقول: أنت من شرقستان، أليس كذلك؟

قال حمد موجهًا حديثه لعبد الرازق: هذا الضابط مخبول، لقد ذهبت الحروب بعقله، هلمَّ بنا وإلا أمسكوا بك.

تعجَّب الضابط ووجَّه سؤاله إلى عبد الرازق: هل أنت من غربستان حقًّا؟

تركاه وأسرعا يختبئان خلف التل، وجرى الضابط في أعقابهما.

توقَّفت القافلة، معظمها عربات مدنية وقليل منها مركبات حربية تحمل علم شرقستان، وعلى الفور هبطت منها أعداد كبيرة من الناس يرتدي أغلبهم بزات عسكرية. ومن إحدى السيارات المدنية هبط رجلان، كأنهما جنرالان رغم أن أحدهما يرتدي ملابس مدنية من أحدث طراز، يخطوان في خيلاء ويصدران الأوامر يمنةً ويسارًا، ومعًا تفقدا المكان، ويبدو أنهما قد استقرا على موضع بعينه، وأمرا الجميع بالتحرك نحوه.

شرع الوافدون كخلية نحل يؤدي كلٌّ منهم دورًا محددًا: نصبت خيام، وحملت كاميرات تصوير ومعدات أخرى إلى المكان، ودار مولد كهرباء، ومدت كابلات متفرقة على الأرض، وصعد بعض من يرتدون الزي العسكري إلى المركبات الحربية، وتفرق الباقون منهم يمينًا ويسارًا يحملون أسلحتهم، ووقف الجنرال العسكري شامخًا في عربة متقدمة يرفرف عليها العلم. تعالَتْ صيحات الجنرال المدني، ثم أطلق صفارته.

تساءل حمد: أهذا فيلم سينمائي؟ وهؤلاء، هل هم عسكريون فعلًا؟

أجاب عبد الرازق: لا يهم، سوف يعتقد المشاهدون أنهم كذلك.

وتوالَت المشاهد: إطلاق نار، وانفجارات، ودخان، وحرائق، ورجال يسقطون، واشتباك بالأيدي، وعربات تتصادم وتنقلب على الأرض، وألوان دماء، وجندي يحمل آخر ويجري به، وآخر يحمي بجسده قائده ويتلقَّى وابلًا من الرصاص بدلًا منه، وجندي يجاهد في رفع العلم وهو غارق في دمه، ونداءات وصيحات وصرخات، لتنتهي المشاهد بالجنرال ينزل من عربته ويصافح جنوده الذين يرفعون الأعلام ويهللون ويكبرون.

استهجن الضابط حانقًا: متى حققوا النصر! نحن الذين انتصرنا.

نهره حمد: اخفض رأسك وإلا قطعوها.

قال الضابط: إنهم يخدعون الشعب. وأمثالك يصدقونهم.

عقب عبد الرازق: بالأمس شاهدت فيلمًا في التليفزيون يحكي قصة انتصار غربستان. القادة دائمًا منتصرون غانمون، وأمثالي يدفعون دائمًا ثمن النصر وثمن الهزيمة.

فرغ الثلاثة من تناول الطعام وجلسوا يتحدثون عن واقعة الأمس. جاهد حمد كي لا يغلبه النعاس ونهض ففتح «الزمزمية» ورش وجهه ببعض الماء، ثم مد يده إلى العلم الذي يحتفظ به الضابط وجفف وجهه بطرفه وأعاده إلى موضعه. استشاط الضابط غضبًا وكال لحمد الشتائم، اندهش الرجلان، وظلَّا صامتَيْن يحملقان فيه، فلم يتوقَّف عن السباب، فما كان من حمد إلا أن رد السباب بمثله، أسرع الضابط فالتقط سلاحه وصوبه ناحيته، قفز عبد الرازق نحو الضابط ودفعه بقوة فأوقعه أرضًا، ومال عليه يحاول تهدئته. وآثر حمد أن يغادر المكان.

قال عبد الرازق: لم يكن الأمر يستدعي كل هذا، ومع أن العلم في النهاية ليس إلا قطعة قماش، فإن حمد لم يمسه بسوء.

قال الضابط خافضًا صوته: استمع إليَّ جيدًا. نحن أبناء وطنٍ واحد، وهذا الرجل من البلد الذي نحاربه منذ سنوات، إنه عدو، فلا تأمنه.

رد عبد الرازق: إنه أمني وملاذي ورفيق طريقي. أنا لا أرى أمثالك إلا عن بعد.

أضاف الضابط متجاهلًا ما قيل: لقد أصبحت الآن قادرًا على السير، أريدك أن تصطحبني إلى أقرب نقطة حدود لغربستان.

رد عبد الرازق: حرس الحدود على الجانبين ألفوا رؤيتي لأكثر من عشر سنوات، وأنا لا أُثير ريبتهم؛ فهم واثقون أن كل ما أفعله هو السعي على لقمة العيش، لكنني لا أضمن أن يتركوك وشأنك.

– حسنًا، فلتبلغ أي مركز شرطة أو موقع عسكري عندما تعود إلى غربستان اليوم.

– لن أقدم أبدًا على تضحيةٍ كهذه. أنا لا أضمن أن أخرج من هذه الأماكن إن دخلتها. ليس أمامك إلا حمد فصلاته بالطرفين قوية، وهو يمدهما بالكثير مما يحتاجان إليه من غذاء ودواء وسجائر وأشياء أخرى.

رد الضابط غاضبًا: إلا هو.

توقف الثلاثة عند السلك الشائك أمام أول نقطة حدود لدولة غربستان، تقدم الضابط الجريح وصاح بأعلى صوته معلنًا جنسيته ورتبته العسكرية وطالبًا الحديث إلى قائد المجموعة. بعد قليل سُمح له بالدخول بعد تفتيشه، وظل حمد وعبد الرازق في الانتظار خلف السلك الشائك كما طلب الضابط.

عاد الضابط الجريح وخلفه ثلاثة جنود، وأشار لحمد وعبد الرازق أن يقتربا من السلك الشائك، ففعلا، فرفع سلاحه وأفرغ فيهما ذخيرته.

سأله أحد الجنود مندهشًا: ماذا فعلا يا سيادة النقيب؟

رد الضابط ببرود: الأول عدو، والثاني خائن.

(تمت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤