الفصل الرابع

الفقر كحرمان من القدرة

أكَّدْنا في الفصل السابق أنَّنا عند تحليلنا للعدالة الاجتماعية، نجد مبررًا قويًّا للحكم على الميزة الفردية في ضوء ما لدى المرء من قدرات؛ أي الحريات الموضوعية التي يَحظَى بها لبناء نوع الحياة التي لديه الأسباب لإضفاء قيمة عليها. وحسب هذا المنظور، يمكن اعتبار الفقر حرمانًا من القدرات الأساسية وليس مُجرَّد تَدنٍّ في الدخل، وهو المعيار السائد لتحديد الفقر.١ ولا يتضمن منظور فقر القدرة أي أفكار للنظرة المعقولة التي ترى الدخل المنخفض أحد الأسباب الرئيسية الواضحة للفقر، ما دام نقص الدَّخْل يمكن أن يكون سببًا رئيسيًّا لحرمان الشخص من القدرة.
حقًّا إن نَقْص الدخل شرطٌ مُسبق قوي لحياة فقيرة. وإذا قبلنا هذا الرأي فإننا نتساءل: لماذا إذن تلك الجَلَبة حين نرى الفقر من منظور القدرة (كمنظور مُعارِض يرى الفقر في ضوء معيار تقدير الفقر على أساس الدخل)؟ وأعتقد أن الدعاوى المؤيِّدة لنهج القدرة في النظر إلى الفقر هي ما يلي:
  • (١)

    يمكن تحديد معنى الفقر بصورة مقبولة عقلًا في ضوء الحرمان من القدرة. ويركز هذا النهج على مظاهر الحرمان المهمة جوهريًّا (على عكس الدخل، إذ إنه مهم فقط من حيث هو أداة).

  • (٢)

    تُوجَد مؤثرات على الحرمان من القدرات، ومن ثَم على الفقر الحقيقي، عند انخفاض الدخل (الدخل ليس الأداة الوحيدة لتوليد القدرات).

  • (٣)
    العلاقة الأداتية بين الدخل المنخفض والقدرة المنخفضة مُتغيِّرة بين المجتمعات المختلفة، بل وبين الأُسَر المختلفة والأفراد المختلفين؛ «إذ إن أثر الدخل في القدرات مشروط ورهن بأمور أخرى».٢

والحالة الثالثة مهمة، على وجه الخصوص، عند التفكير في تقدير الفعل العام الهادف إلى خفض مظاهر الفقر أو عدم المساواة. وناقشت الدراسة (الفصل الثالث) الأسباب المختلفة للتباينات المشروطة. ونرى من المفيد أن نُؤكِّد بعضها تحديدًا في سياق صياغة السياسة العملية.

  • أولًا: العلاقة بين الدَّخْل والقدرة تتأثَّر بقوة بعمر الشخص (أي الحاجات النوعية التي يحتاج إليها المُسِنُّ والطفل أو الصبي)، وتتأثر بنوع الجنس والدور الاجتماعي لكل من الجنسين (مثل المسئوليات الاجتماعية للأمومة والالتزامات التي تفرضها تقاليد الأسرة)، وبالموقع (مثل احتمالات التَّعرُّض للامتهان، أو الجفاف، أو عدم الأمن، أو العنف في بعض الأحياء داخل المدينة)، وبالمناخ الذي تَسوده أمراض مُعدية (مثل أمراض مُعدية متوطنة)، وبمتغيرات أخرى ليس للمرء عليها سلطان، أو سلطان محدود.٣ وغني عن البيان أن هذه المُتغيِّرات المعيارية مهمة بخاصة عند عمل مُقارَنات بين جماعات سكانية، جرى تقسيمها حسب العمر أو الجنس أو الموقع وغير ذلك.
  • ثانيًا: يمكن أن يحدث «تزاوُج» للأضرار بين: (١) الحرمان من الدخل، (٢) عُسْر في تحويل الدخل إلى أداء وظيفي.٤ ونعرف أن الإعاقات؛ من مثل العمر، أو العجز، أو المرض من شأنها أن تنقص قدرة المرء على اكتساب الدخل،٥ ولكنها تُفاقِم من صعوبة تحويل الدخل إلى قدرة؛ حيث إن الكهل أو العاجز أو المريض مرضًا عضالًا يمكن أن يكون في حاجة إلى دخل أكبر (مثال ذلك الحاجَة إلى جراحة ترقيعية للعلاج) من أجل إنجاز الوظائف المطلوبة نفسها (حتى حين يكون هذا الإنجاز ممكنًا وميسورًا).٦ يفضي هذا إلى احتمال أن يكون «الفقر الحقيقي» (من حيث الحرمان من القدرة) أكثر شدة وحدة مما يظهر في حَيِّز الدَّخْل. ويمكن أن يصبح هذا سببًا حاسمًا للقلق عند تقدير النشاط العام اللازم لمساعدة المسنين والجماعات الأخرى عن طريق «تحويل» المشكلات، بالإضافة إلى انخفاض الدخل.
  • ثالثًا: يثير التوزيع داخل الأسرة مزيدًا من التعقيدات لنهج الدخل في تقدير الفقر؛ إذ لو كان الدخل مستخدمًا على نحو غير متكافئ بالنسبة إلى مصلحة بعض أعضاء الأسرة من دون آخَرِين (كأن يكون هناك على سبيل المثال نوع من التفضيل المنتظم للولد من حيث حصته من موارد الأسرة)، فإن مدى حرمان أعضاء الأسرة الذين أصابهم الإهمال (البنات كمثال في هذه الحالة) لا ينعكس بوضوح كافٍ في ضوء دخل الأسرة. وهذه مسألة موضوعية في سياقات كثيرة؛ إذ يظهر الانحياز إلى الجنس بالفعل في صورة عامل رئيسي في توزيع حصص الأسرة في كثير من بلدان آسيا وشمال أفريقيا. وأمكن الكشف عن حرمان البنات (من حيث النسبة الأعلى في الوفيات والمرض وسوء التغذية والإهمال الطبي وغيرها) تأسيسًا على مسألة الحرمان من القدرة أكثر مما هي الحال على أساس تحليل الدخل.٧
    وواضح أن هذه المسألة ليست محورية في سياق حالة عدم المساواة والفقر في أوروبا وشمال أمريكا. ولكن الافتراض المسبق — والضمني في الغالب — بأن مسألة عدم المساواة بين الجنسين لا تصدق من حيث المستوى الأساسي على «البلدان الغربية» يمكن أن يكون، إلى حدٍّ ما، افتراضًا مضللًا. مثال ذلك أن لإيطاليا أعلى المعدلات «غير المعترف بها» لعمل المرأة مقابل عمل مُعتَرف به يَرِد في الحسابات القومية المعيارية.٨ وجدير بالذِّكْر أن حساب المُستهلِك من الجهد والوقت وما يرتبط به من نقص في الحرية له تأثيره على تحليل الفقر، حتى داخل أوروبا وشمال أمريكا. ونجد في غالبية أنحاء العالم طرقًا أخرى ترى من المهم إدراج مظاهر التفرقة القائمة داخل الأسرة ضمن الاعتبارات وثيقة الصلة بالسياسة العامة.
  • رابعًا: الحرمان النسبي من حيث الدخل يمكن أن يفضي إلى حرمان مُطلَق من حيث القدرات. أن يكون المرء فقيرًا نسبيًّا في بلد غني قد يمثل عقبة كبرى للقدرة، حتى وإن كان دخل المرء المُطلَق عاليًا في ضوء المعايير العالمية. والملاحظ في بلد معروف بالوفرة تكون ثَمَّة حاجة أكبر إلى الدخل لشراء ما يكفي من سلع لبلوغ المستوى نفسه للأداء الوظيفي الاجتماعي. وإن هذا الرأي — وقد كان آدم سميث هو الرائد في تحديد معالمه في كتابه «ثروة الأمم» (١٧٧٦م) — رأْيٌ مِحْورَي للفهم السوسيولوجي لمعنى الفقر، وأجرى تحليلًا له كل من دبليو جي رونسيمان، وبيتر تاونسند وآخرين.٩
    مثال ذلك، أن الصعوبات التي تُواجِهها بعض الجماعات البشرية في سبيل المشاركة في حياة المجتمع يمكن أن تكون حاسمة بالنسبة إلى دراسة عن «الاستبعاد الاجتماعي»، وأن الحاجة إلى المشاركة في حياة المجتمع يمكن أن تستلزم مطالب من أجل معدات حديثة (التليفزيون ومسجلات الفيديو كاسيت والسيارات وغيرها) وذلك في بلد يشيع فيه استخدام هذه الأجهزة (على خلاف ما هو لازم في بلدان أقل وفرة). ويفرض هذا ضغوطًا على الشخص الفقير نسبيًّا في بلد غني، حتى وإن كان مستوى دخل هذا الشخص مرتفعًا أكثر مُقارَنة بآخرين في بلدان أقل وفرة.١٠ والحقيقة أن ظاهرة الجوع المثيرة للتناقض في البلدان الغنية — حتى في الولايات المتحدة — لها أثرها إلى حدٍّ ما على هذه الاحتياجات السلعية المنافسة من هذه النفقات.١١

    وإن تحليل الفقر، تأسيسًا على منظور القدرة، من شأنه أن يعزز فهم طبيعة وأسباب الفقر والحرمان، إذ ينأى بالاهتمام الأول بعيدًا عن الوسائل (ووسيلة مُحدَّدة تحظى بكل الاهتمام وهي الدخل) إلى الغايات التي لدى الناس ومبررًا للسعي إليها، ومن ثم في المقابل إلى الحريات في إشباع هذه الغايات. وتوضح الأمثلة المعروضة بإيجاز هذا الفهم الإضافي الواضح المترَتِّب على هذا التوسيع الأساسي؛ إذ ننظر إلى مظاهر الحرمان على مستوى أكثر أساسية، مستوى أقرب إلى المتطلبات المعلوماتية للعدالة الاجتماعية، وهكذا تتضح صلة المنظور الوثيقة والملائمة لفقر القدرة.

فَقْر الدَّخل وفَقْر القُدرة

إذا كان من المهم التمييز من حيث المفهوم بين فكرة الفقر كنقص في القُدرة والفقر كنقص في الدَّخل، فإنه ليس في الإمكان ربط المنظوريْن بعضهما ببعض ما دام الدَّخل وسيلة مهمة للحصول على القدرات. وحيث إن القُدرات المُعزَّزة من أجل بناء الحياة تنزع طبيعيًّا إلى توسيع قدرة المرء ليكون أكثر إنتاجية، وأقدر على الحصول على دخل أكبر، فإن لنا أيضًا أن نَتوقَّع وجود رابطة تسير في الاتجاه، من تَحسُّن القدرة إلى المزيد من امتلاك السُّلطة وليس العكس.

ويمكن أن تكون الرابطة الأخيرة مهمة للقضاء على فقر الدخل. إن الأمر لا يقتصر على أن — كمثال — توافُر تعليم أساسي أفضل ورعاية صحية أفضل من شأنهما أن يُؤدِّيَا إلى تحسُّن نوعية الحياة مباشرة، بل إنهما أيضًا يزيدان من قدرة الشخص على الحصول على الدَّخل والتحرر من فقر الدخل أيضًا. وكلما زاد المدى الذي يَتحقَّق بفضل التعليم الأساسي والرعاية الصحية، أصبح من المُرجَّح أكثر أن تَتوافَر لمن يَتوقَّع حالة من الفقر فُرصة أفضل للتغلُّب على ما يعانيه من عَوز.

ونظرًا إلى أهمية هذه الرابطة، فقد اتخذتُها محورًا رئيسيًّا في كتابي الأخير عن الهند الذي ألَّفتُه بالمشارَكة مع جين دريز، والذي نتناول فيه الإصلاحات الاقتصادية.١٢ لقد هيَّأَت الإصلاحات الاقتصادية بوسائل كثيرة، للشعب الهندي، فُرصًا اقتصادية كانت من قبل مسدودة بسبب الإفراط في استخدام وسائل المُراقَبة، وفرض القيود بموجب ما يسمى «إجازة راج License Raj».١٣ ومع هذا، فإن فرصة الإفادة بالإمكانات الجديدة ليست مستقلة عن عملية الإعداد الاجتماعي المتاحة لقطاعات مختلفة من المجتمع الهندي؛ إذ بينما جاءت الإصلاحات مُتأخِّرة، إلا أنه في الإمكان أن تغدو أكثر فائدة وإنتاجية لو كانت المرافق الاجتماعية متوافرة لدعم الفُرص الاقتصادية لجميع قطاعات المجتمع.
حقًّا إن بلدانًا آسيوية كثيرة — اليابان أولًا، ثم كوريا الجنوبية، وتايوان، وهونج كونج، وسنغافورة، وأخيرًا الصين بعد الإصلاح، وتايلاند، وبلدانا أخرى في شرق وجنوب شرق آسيا — حَقَّقتْ نجاحًا كبيرًا في سبيل توسيع نطاق الفُرص عن طريق توفير خلفية اجتماعية مُسانِدة وعلى كفاءة كبيرة، بما في ذلك، مستويات تَعلُّم الكتابة والقراءة والحساب والتعليم الأساسي، ثم الرعاية الصحية واستكمال الإصلاح الزراعي وغير ذلك. وجدير بالذِّكْر أن الدرس المستفاد من تطبيق الانفتاح الاقتصادي وأهمية التجارة، تعلمته الهند بسهولة أكثر من بلدان الشرق.١٤

وطبيعي أن الهند شديدة التنوع من حيث التنمية البشرية؛ إذ توجد فيها بعض المناطق (خاصة ولاية كيرالا) مستويات التعليم والرعاية الصحية والإصلاح الزراعي فيها أعلى من غيرها (ونذكر على الأخص بيهار، وأوتار براديش، وراجاستان، ومادهيا براديش). واتخذت القيود أشكالًا مختلفة في الولايات المختلفة، ويمكن القول: إن كيرالا عانت مما كان سائدًا حتى عهد قريب جدًّا من سياسات مناهضة للسوق، مع الشك الشديد في التوسُّع الاقتصادي المرتكز على السوق من دون ضوابط؛ ولهذا لم تَستخدِم مواردها البشرية في سبيل زيادة النمو الاقتصادي، وهو ما كان في الإمكان عمله في الماضي تأسيسًا على استراتيجية اقتصادية أكثر تكاملية، وهذا ما تحاوله الآن. ونجد، من ناحية أخرى، بعض الولايات الشمالية قد عانت انخفاضًا في مستوى التنمية الاجتماعية مع درجات مُختلِفَة من السيطرة والفُرص المرتكزة على السوق، وأن الحاجة إلى إدراك الصلة الوثيقة للطابع التكاملي ضرورية جدًّا من أجل علاج الانتكاسات المختلفة.

ولكن من المهم بيان أنه على الرغم من السِّجل المتواضع للنمو الاقتصادي لولاية كيرالا، فإنها استطاعت أن تحدَّ من فقر الدَّخل بمعدل أسرع من أي ولاية أخرى في الهند،١٥ إذ بينما خفضت بعض الولايات فقر الدخل عن طريق نمو اقتصادي مُرتفِع (خير مثال على هذا البنجاب)، نجد أن كيرالا اعتمدَت كثيرًا على التوسُّع في التعليم الأساسي والرعاية الصحية والتوزيع المتساوي للأرض؛ ليكون هذا كله أساسًا لنجاحها في خفض حالة العَوَز.

وإذا كان من المهم تأكيد هذه الروابط بين فقر الدَّخْل وفقر القدرة، فإنه من المهم أيضًا ألا تغيب عن نظرنا حقيقة أساسية وهي: أن خفض فَقْر الدَّخل وحده ربما لا يكون الحافز النهائي للسياسة المناهضة للفقر. وثمة خطر من النظر إلى الفقر بمعنى ضيق ومحدود هو الحرمان من الدخل، ثم تبرير الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية وغير ذلك على أساس أنها وسائل جديدة لبلوغ الغاية وهي خفض دخل الفقر؛ إذ إن هذا خَلْط بين الوسائل والغايات. إن القضايا التأسيسية الرئيسية تُلزِمنا — لأسباب ناقشناها في السابق — بأن نفهم الفقر والحرمان في ضوء الحياة التي يمكن للناس عمليًّا أن يَحْيَوها، والحريات التي يمكن فعليًّا أن يحظوا بها. لذا فإن توسيع نطاق القدرات البشرية يتطابق مباشرة مع هذه الاعتبارات الأساسية. كذلك، فإن تعزيز القدرات البشرية يقترن أيضًا بتوسيع الأنشطة الإنتاجية واكتساب القدرة. وتُؤسِّس هذه الرابطة علاقة مهمة غير مباشرة تساعد من خلالها عملية تحسين القدرة، بشكل مباشر وغير مباشر معًا، على إثراء الحياة الإنسانية، وجعل مظاهر الحرمان البشري أكثر ندرة وأقل حِدَّة. إن الروابط الأداتية، مع أهميتها، لا يمكنها أن تحل محل الحاجة إلى فَهْم أساسي لطبيعة وخصائص الفقر.

عدم مساواة في ماذا؟

تنطوي عملية مُعالَجة عدم المساواة في التقييم الاقتصادي والاجتماعي على مُعضِلات كثيرة؛ إذ غالبًا ما يكون عسيرًا الدفاع عن مَظاهر عدم المساواة الموضوعة في ضوء نماذج «النزاهة». والمعروف أن اهتمام آدم سميث بمصالح الفقراء «وغضبه الشديد من الميل إلى إغفال هذه المصالح»، يرتبط مباشرة باستخدامه أداة خيالية لما يمكن أن يشبه «المُشاهِد المُتجرِّد» أو النزيه، وهو بحث أو استعلام يُوفِّر استبصارات بعيدة المدى بشأن شروط نَزاهة الحُكم الاجتماعي.١٦ ونجد بالمِثل فكرة جون راولس عن «العدالة من حيث هي نزاهة» في ضوء ما يمكن تَوقُّع اختياره في «وضع أصلي» افتراضي، لم يَعرِف الناس فيه بعدُ ماذا سيكونون إلا تأسيسًا على فَهْم غني لمُتطلَّبات المساواة، وتتولَّد عنه قَسَمات مناهضة لحالة عدم المساواة، وهو ما يُشكِّل خصائص «مبادئ العدالة» عنده.١٧ كذلك قد يكون عسيرًا تبرير عدم المساواة في براءات الاقتراع تأسيسًا على حصافَة أعضاء المجتمع الفعليين (مثال ذلك حالة من مَظاهر عدم المساواة التي لا يستطيع الآخرون «رفضها على أساس معقول ومقبول». وهذا مِعيار اقترحه توماس سكانلون واستخدمه للتقييم الأخلاقي).١٨ ومعروف يقينًا أن مظاهر عدم المساواة الشديدة لا يمكن أن تكون مقبولة اجتماعيًا، وقد يدفع البعض بأن مَظاهر عدم المساواة الخطيرة إنما هي مَظاهر بربرية سافرة. علاوة على هذا، فإن الشعور بالظلم أو عدم المساواة يمكن أن يُقوِّض التلاحم الاجتماعي، بل إن بعض أنماط عدم المساواة قد تجعل من العسير حتى تحقيق قدر من الكفاءة والفعالية.

ومع هذا، فإن محاولات استئصال عدم المساواة يمكن في حالات كثيرة أن تُسبِّب خسارة للغالبية العظمى، وربما للكل في بعض الأحيان. وقد يظهر هذا النوع من التضارب في صورة معتدلة أو شديدة اعتمادًا على الظروف. لذلك يتعين على نماذج العدالة — ومن بينها «المشاهد المتجرد من الغرض»، أو «الوضع الأصلي»، أو «الرفض غير المبرر عقلانيًّا» أن تلتفت إلى هذه الاعتبارات المختلفة.

ولا غرابة في أن التضارب بين الاعتبارات التراكمية والتوزيعية حظي بقدر كبير من اهتمام الاقتصاديين. وهذا ملائم تمامًا طالما أنها مسألة مهمة.١٩ واقترح البعضُ الكثير من الصيغ التوفيقية لتقييم الإنجازات الاجتماعية، وذلك بالعمل في آنٍ واحد على تسجيل الاعتبارات التراكمية والتوزيعية. وخير مثال على هذا نجده عند إيه بي أتكنسون فيما يُعرَف باسم «الدخل المتكافئ المُوزَّع بالتساوي». وهذا مفهوم يُوفِّق بين الدَّخل التراكمي عن طريق طرح قيمته المحسوبة على أساس مَدَى عدم المساواة في توزيع الدخل، وبين مُوازَنة الاهتمامات التراكمية والتوزيعية التي تكشف عنها اختيار المُحدِّدات التي تعكس حُكْمَنا الأخلاقي.٢٠

وتوجد، مع هذا، فئة مغايرة من التضاربات تتعلق باختيار «الحيز»، أو المتغير المحوري الذي يشكل أساسًا لتقييم وفحص حالة اللامساواة. ويرتبط هذا بموضوعنا في الفصل السابق. ويمكن أن تختلف اللامساواة في الدخول عن اللامساواة في «حيازات» أخرى عديدة (أي تأسيسًا على متغيرات أخرى وثيقة الصلة)، مثل الرفاهية والحرية وأوجه أخرى لنوعية الحياة (بما في ذلك الصحة وطول العمر). وأكثر من هذا، أن الإنجازات التراكمية يمكن أن تأخذ أشكالًا مختلفة اعتمادًا على الحيز الذي تتشكل فيه، أو تجري فيه عملية الجمع. «مثال ذلك أن ترتيب المجتمعات على أساس متوسط الدخل يمكن أن يختلف عن ترتيبها وفق متوسط الشروط الصحية».

وجدير بالذِّكْر أن التناقض بين المنظورات المختلفة عن الدخل والقدرة يؤثر مباشرة على الحيز الذي تجري فيه دراسة اللامساواة والكفاءة، مثال ذلك شخص يحصل على دخل مرتفع ولكن ليست لديه فرصة للمشاركة السياسية، ليس «فقيرًا» بالمعنى المعتاد، ولكن كما هو واضح، فقير من حيث حرمانه من حرية مهمة. كذلك لو أن شخصًا كان أغنى كثيرًا من غالبية المحيطين به، ولكنه يعاني علة مزمنة يستلزم علاجها تكلفة باهظة جدًّا يصبح، وعلى نحو واضح، محرومًا إزاء وسيلة مهمة وتعنيه، حتى وإن لم نصنفه فقيرًا في الإحصاءات العادية عن توزيع الدخل. وأيضًا شخص محروم من فرصة العمل ولكن الدولة تقدم له صدقة «في صورة إعانة بطالة»، يمكن أن يبدو في نَظرِنا أقل حرمانًا داخل حيز الدخل عمَّا يبدو في ضوء الفرصة القيمة — التي يراها موضع تقدير وذات قيمة عالية — للحصول على عمل. ونظرًا إلى الأهمية الخاصة للبطالة في بعض البلدان في العالم (بما في ذلك أوروبا المعاصرة)، فإننا نراها مجالًا آخر نحن في مسيس الحاجة إلى أن ندرك التناقض فيه بين مَنظورَي الدخل والقدرة في سياق تقدير حالة اللامساواة.

البطالة والحرمان من القدرة

يمكن أن نوضح بسهولة، من خلال بعض الأمثلة ذات الأهمية العملية، أن الأحكام بشأن عدم المساواة في حيز الدخول يمكن أن تختلف عن غيرها من أحكام لها علاقة بقدرات مهمة. وهذا التباين له دلالة مهمة في السياق الأوروبي بسبب غلبة البطالة على نطاق واسع في أوروبا المعاصرة.٢١ والمعروف أن خسارة الدَّخل بسبب البطالة يمكن إلى حد كبير تعويضها عن طريق دعم في صورة دخل (بما في ذلك إعانة البطالة) وهو ما يحدث تمامًا في غرب أوروبا. وإذا افترضنا أن خسارة الدخل هي كل ما تنطوي عليه حالة البطالة، فإن في الإمكان محو آثار هذه الخسارة إلى حد كبير — بالنسبة إلى الأفراد المعنيين — عن طريق دعم مالي في صورة دخل (وهناك بطبيعة الحال مسألة أخرى تتعلق بالتكاليف الاجتماعية المترتبة على العبء المالي، والآثار التشجيعية التي يشتمل عليها هذا التعويض).
ولكن إذا كان للبطالة آثار أخرى خطيرة على حياة الأفراد، وتُسبِّب لهم حرمانًا من أنواع أخرى، فإن تَحسين الوضع من خلال الدعم المالي في صورة دخل سيكون محدود الأثر في هذا الصدد. ولدينا كَم كبير من الشواهد على أن البطالة لها نتائج بعيدة المدى غير فقدان الدخل، بما في ذلك الأضرار النفسية وفُقدان حافِز العمل، والمهارة والثقة في النَّفس، وازدياد العلل المَرضية، «بل وزيادة معدل الوفيات»، وإفساد العلاقات الأسرية والحياة الاجتماعية وقسوة الاستبعاد الاجتماعي، وتفاقم التوترات العرقية والتمييز بين الجنسين.٢٢
ونظرًا لِتفشِّي البطالة على نحو خطير في اقتصاد أوروبا المعاصِرة، فإن التركيز فقط على عدم تكافؤ الدخل يمكن أن يكون خادعًا. حقًّا يمكن الدفع بأن ارتفاع معدل البطالة في أوروبا هذه الأيام يمثل على الأقل قضية مهمة عن اللامساواة في ذاتها، من حيث توزيع الدخل. ولكن التركيز فقط على عدم المساواة في الدخل دون سواه يعطي انطباعًا بأن غرب أوروبا بذلت جهودًا أفضل بكثير من الولايات المُتَّحدة من أجل خَفْض حالات ومظاهر عدم المساواة، ومن أجل تَجنُّب هذا النوع من الزيادة في عدم مساواة الدخل الذي تعانيه الولايات المتحدة. ولكن أوروبا لها في حيز الدخول سجل أفضل بكثير من حيث مستويات واتجاهات حالة عدم المساواة. وهذا ما يوضحه البحث الدقيق الذي نشرَتْه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD. ويمثل هذا البحث دراسة أعدها كل من إيه بي أتكنسون، ولي رينواتر، وتيموثي سميدنج.٢٣ ويلاحظ أن الأمر ليس مقتصرًا فقط على المقاييس العادية لعدم المساواة في الدخل؛ حيث إنه أعلى في الولايات المتحدة عمَّا هي الحال في الجانب الأوروبي المُطل على المحيط الأطلسي، بل إن حالة عدم المساواة في الدخل في الولايات المتحدة ارتفع بطريقة لم تحدث في غالبية بلدان غرب أوروبا.
ولكن إذا انتقلنا ببصرنا من الدخل إلى البطالة فسوف تختلف الصورة. لقد ارتَفعَت البطالة على نحو كبير جدًّا في أغلب أنحاء غرب أوروبا، بينما لا نجد مثل هذا الاتجاه في الولايات المتحدة. مثال ذلك أنه خلال الفترة ١٩٦٥–١٩٧٣م، كان معدَّل البطالة في الولايات المتحدة ٤٫٥ في المائة، بينما كان في إيطاليا ٥٫٨ في المائة، وفي فرنسا ٢٫٣ في المائة، وفي ألمانيا الغربية أقل من واحد في المائة. ولكن الآن فإن هذه البلدان الثلاثة — إيطاليا وفرنسا وألمانيا — تتراوح فيها معدلات البطالة ما بين ١٠ و١٢ في المائة. وإذا عرفنا أن البطالة تضر الحياة ضررًا شديدًا، يتعين علينا إذن أن نضع هذا في الاعتبار عند تحليل مظاهر عدم المساواة الاقتصادية. ولا ريب في أن المقارنة بين حالة عدم المساواة في الدخل يعطي أوروبا مسوغًا للاعتداد بالنفس، غير أن هذا الرضا يمكن أن يكون مضللًا إلى حد كبير إذا فهمنا عدم المساواة من خلال منظور أرحب.٢٤

ويثير التباين بين غرب أوروبا والولايات المتحدة مسألة أخرى مهمة، وتُعَد من نواحٍ أخرى أكثر تعميمًا، إذ يبدو أن الأخلاق الاجتماعية الأمريكية، ترى أن من الممكن أن تكون غير واعية بقوة المعوزين والفقراء، بحيث يكون عسيرًا عليها قبول ما تفعله أوروبا الغربية بإنشاء دولة الرفاه. ولكن هذه الأخلاق الأمريكية ذاتها ترى أن ارتفاع البطالة بحيث تتجاوز النسبة عشرة في المائة، كما هي الحال في أوروبا، أمر لا يمكن التسامح معه. لقد استمرَّت أوروبا في قبول حالة التعطل من العمل وزيادتها بقدر كبير من رباطة الجأش. ويرتكز هذا التباين على اختلاف في الاتجاهات والمواقف من المسئوليات الاجتماعية والفردية. وهو ما سوف أعود إليه.

الرعاية الصحية ونسبة الوفيات

المواقف الاجتماعية الأمريكية والأوروبية

أثارت حالة عدم المساواة بين الجماعات العِرْقية المختلفة في الولايات المتحدة اهتمامًا كبيرًا في المرحلة الأخيرة. مثال ذلك أنه لُوحظ في حَيِّز الدَّخْل أن الأمريكان الأفارقة أفقر كثيرًا وعلى نحو متعمَّد من الأمريكان البيض. ونرى هذا كثيرًا كمثال على الحرمان النِّسبي للأمريكان الأفارقة داخل الأمة، ولكن من دون مقارنته بالشعوب الأفقر في بقية العالم. حقًّا إننا إذا قارنَّا الأمريكان الأفارقة بسكان بلدان العالَم الثالث، فسنجد أنهم أغنى كثيرًا من حيث الدخل، حتى بعدَ ملاحظة فوارق الأسعار. وإذا نظرْنَا على هذا النحو إلى حرمان السود الأمريكِيِّين، فسيبدو لنا واهيًا بل لا قيمة له من المنظور الدولي.

ولكن هل الدخل هو الحيز الصواب الذي نَعقِد في ضوئه تلك المقارَنات؟ وماذا عن القدرة الأساسية على الحياة حتى سن النضج من دون السقوط فريسة لموت مبكر؟ كما ناقشنا في الفصل الأول، فإن الأمريكي الأفريقي، في ضوء هذا المعيار، مختلف كثيرًا عن أفقر الناس في الصين أو في ولاية كيرالا الهندية (انظر الشكل ١-١ في الفصل الأول)، وكذلك بالنسبة إلى الفقر في سريلانكا وكوستاريكا وجامايكا وكثير غيرها من الاقتصادات الفقيرة. وهناك يفترض أحيانًا أن الارتفاع الكبير في معدل وفيات الأمريكِيِّين الأفارقة يصدق فقط بالنسبة إلى الرجال، ونقول ثانية الشباب منهم، بسبب تفشي العنف. حقًّا إن الموت بسبب العنف نسبته مرتفعة بين الرجال السود، بَيْدَ أنَّ هذا ليس هو كل شيء. حقًّا، وكما يبين الشكل ١-٢ في الفصل الأول، فإن النساء السود متخلفات كثيرًا ليس فقط بالقياس إلى النساء البيض في الولايات المتحدة، بل وأيضًا بالنسبة إلى المرأة الهندية في ولاية كيرالا، وتكاد تقترب كثيرًا لتتخلف عن المرأة الصينية. ولنا أن نلحظ كذلك في الشكل ١-١ أن الرجال السود الأمريكِيِّين في حالة خسارة مطردة في مقابل الصينيين والهنود مع اطِّراد السنين. ونحن في حاجة إلى مزيد من التوضيح يتجاوز وفيات العنف.
والحقيقة أننا حتى لو أخذنا مجموعات الأعمار الأكبر (لنقل ما بين الخامسة والثلاثين والرابعة والستين)، سنجد شواهد على أن نسبة وفيات الرجال السود أعلى منها بين الرجال البيض، كذلك حال المرأة السوداء بالقياس إلى المرأة البيضاء. وليس في الإمكان إلغاء هذه الفوارق عن طريق ملاءمة وتعديل فوارق الدخل. وحَرِي بنا أن نذكر إحدى الدراسات الطبية المدققة التي ترجع إلى ثمانينيات القرن العشرين، وتُوضِّح هذه الدراسة أن الفارق في نسبة الوفيات بين السود والبيض يظل على نحو ملحوظ بالنسبة إلى المرأة حتى بعد تعديل فوارق الدخل. ويعرض الشكل ٤-١ نسب معدلات الوفيات بين السود والبيض في البلد ككل (تأسيسًا على عينة مسيحية).٢٥ ونلحظ في هذا المسح أنه بينما نسبة وفيات الرجال السود تعادل ١٫٨ مرة من معدل وفيات الرجال البيض، إلا أن نسبة وفيات النساء السود قارب ثلاثة أمثال نسبة وفيات النساء البيض. ولكن بعد تعديل الفوارق، من حيث دخل الأسرة، نجد نسبة وفيات الرجال السود أعلى ١٫٢ مرة، بينما هي أعلى ٢٫٢ مرة بالنسبة إلى النساء السود. وهكذا يبدو أنه بعد الاهتمام الكامل بمستويات الدخل، فإن النساء السود اللاتي توافيهن المنية وهن صغيرات السن، نسبتهن أعلى كثيرًا من النساء البيض في الولايات المتحدة المعاصرة.
fig6
شكل ٤-١: نسبة معدلات وفيات السود إلى البيض (العمر من ٣٥–٥٤) الفعلية والمُعدَّلة حسب دخل الأسرة. (المصدر: إم دبليو أوين، وإس إم تيوتش، ودِي إف وليامسون، وجي إس ماركس «آثار عوامل المخاطَرة المعروفة على فرط زيادة الوفيات بين البالغين السود في الولايات المتحدة». صحيفة الرابطة الطبية الأمريكية ص٢٦٣، ع٦ (٩ فبراير ١٩٩٠م).)

وإن توسيع قاعدة المعلومات لتمتد من الدخل إلى القدرات الأساسية من شأنه أن يثري فهمنا عن اللامساواة وعن الفقر بوسائل جذرية للغاية. والمُلاحَظ أننا حين ركَّزْنَا على القدرة على التَّوظُّف وتوافُر مزايا التوظف المقترنة بهذه القدرة، بدت الصورة الأوروبية كابية للغاية، وأننا حين نُحوِّل انتباهنا إلى القدرة على البقاء، بَدتْ صورة حالة اللامساواة الأمريكية مكثفة للغاية. ونحن إذ نبرز بوضوح هذه الفوارق والأولويات المقترنة بكل منها، فإننا سوف نشهد تباينًا في المواقف والاتجاهات إزاء المسئوليات الاجتماعية والفردية على جانبي الأطلسي، إذ نجد في الأولويات الرسمية الأمريكية التزامًا محدودًا للغاية من أجل توفير الرعاية الصحية الأساسية للجميع. ويبدو لنا أن مئات الملايين من الناس (أكثر من ٤٠ مليون نسمة في الحقيقة) من دون أي نوع من الحماية أو التأمين في المجال الطبي في الولايات المتحدة. وربما نجد لدى نسبة كبيرة من هؤلاء الذين لا يشملهم تأمين أسبابًا اختيارية لعدم الحصول على تأمين، إلا أن الغالبية العظمى من غير المؤمَّن عليهم تعوزهم في الواقع القدرة على الحصول على تأمين طبي بسبب الظروف الاقتصادية، أو في بعض الأحيان بسبب ظروف طبية قائمة مسبقًا يتجنبها الأفراد الراغبون في التأمين. وثَمَّة وضع مقابل لهذا في أوروبا؛ حيث تعد التغطية الطبية حقًّا أساسيًّا للمواطنة بغض النظر عن الوسائل، مستقلًّا عن الظروف القائمة مسبقًا. والشيء المرجح للغاية أن هذا الوضع الأوروبي سيكون غير محتمل سياسيًّا، ونلحظ كذلك أن حدود الدعم الحكومي للمرضى والفقراء شديدة الصرامة في الولايات المتحدة، بحيث لا يمكن قبوله في أوروبا. كذلك الحال بالنسبة إلى الالتزامات الاجتماعية تجاه المرافق العامة؛ إذ تتباين من تنظيمات الرعاية الصحية إلى التنظيمات الخاصة بالتعليم، التي تعتبرها دولة الرفاه في أوروبا أمرًا مسلمًا به.

ونجد من ناحية أخرى، أن معدلات البطالة التي تتجاوز رقم العشرة والتي تحتملها أوروبا الآن، ستكون على الأرجح تمامًا (كما أكدنا في السابق) بمنزلة ديناميت سياسي داخل أمريكا؛ حيث إن معدلات البطالة من هذا الحجم تمثل سخرية بقدرة الناس على مساعدة أنفسهم. وأعتقد أنه لا توجد حكومة في الولايات المتحدة يمكن أن تخرج سالمة دُون أذًى إذا ما تضاعَف مستوى البطالة الراهن، الذي من شأنه أن يجعل نسبة البطالة في الولايات المتحدة دون مستواها الآن في إيطاليا أو فرنسا أو ألمانيا. ويبدو أن طبيعة الالتزامات السياسية بالنسبة إلى كل من هذه البلدان — ونقصها كذلك — يختلفان بشكل أساسي ما بين أمريكا وأوروبا. وتستلزم هذه الفوارق أن نرى حالة عدم المساواة في ضوء حالات الفشل بذاتها للقدرات الأساسية.

الفقر والحرمان في الهند وأفريقيا جنوب الصحراء

الفقر المُدقِع يتركز الآن، بكثافة شديدة الوطأة، في إقليمين مُحدَّدَين في العالم: جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء؛ إذ إن بها من بين جميع مناطق العالم أدنى المستويات من حيث دخل الفرد. بيد أن هذا المنظور لا يعطينا فكرة واضحة وكاملة عن طبيعة ومحتوى حالات الحرمان في كلٍّ منهما، ولا عن فقرهما النسبي. إننا بدلًا من هذا، إذا نظرنا إلى الفقر باعتباره حرمانًا من القدرات الأساسية، فسوف نحصل على صورة أكثر وضوحًا ودلالة من المعلومات عن مظاهر الحياة في هذه الأجزاء من العالم.٢٦ ونعرض فيما يلي محاوَلة لتحليل موجز مبني على دراسة مُشترَكة مع جين دريز، وعلى عملين مُكمِّلَين للمؤلف.٢٧
كان هناك حوالي عام ١٩٩١م اثنان وخمسون بلدًا تبلغ نسبة العمر المُتوقَّعة فيها عند الميلاد دون الستين عامًا، وتضم هذه البلدان سكانًا يصل تعدادهم إلى ١٫٦٩ بليون نسمة.٢٨ وتوجد ستة وأربعون بلدًا من هذه البلدان في جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء، وستة بلدان فقط خارج هاتين المنطقتين (هي: أفغانستان، وكمبوديا، وهاييتي، ولاوس، وبابوا نيوجينيا، واليمن). ويبلغ سكان هذه البلدان الستة ٣٫٥ في المائة فقط من إجمالي سكان (١٫٦٩ بليون نسمة) البُلدان الاثنان والأربعون ذات مستوى العمر المُتدنِّي المتوقَّع، وتنتمي إلى مجموعة الستة والأربعين بلدًا الأخرى ذات نسبة العمر المتوقَّعة المُنخفِضة كل بلدان جنوب آسيا فيما عدا سريلانكا (أي الهند، وباكستان، وبنجلاديش، ونيبال، وبوتان) وكل بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، فيما عدا جنوب أفريقيا، وزيمبابوي، وليسوتو، وبوتسوانا، ومجموعة جُزُر صغيرة (هي موريشيوس وسيشيل). وهناك بطبيعة الحال تباينات داخل كل بلد؛ إذ إن القطاعات التي تضم ذوي المكانة الميسورين من سكان جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء يتمتعون بنسبة أعمار طويلة. هذا علاوة على أن بعض سكان البُلدان، حتى ممن يتمتعون بمتوسط عمر مرتفع جدًّا (مثل الولايات المتحدة) ربما يعانون، كما أشرْنَا في السابق، مشكلات البقاء التي تماثل ظروف الحياة في العالم الثالث، (مثال ذلك الرجال السود الأمريكيون في مدن الولايات المتحدة من قِبَل نيويورك، أو سان فرانسيسكو، أو سان لويس، أو واشنطن العاصمة؛ إذ إن متوسطات الأعمار المتوقَّعة لهم أدنى كثيرًا من ستين عامًا).٢٩ ولكن جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء فإنهما في الحقيقة، من حيث متوسطات البلد، تظهران باعتبارهما المنطقتين اللتين تَتمركَز فيهما الحياة القصيرة والخَطِرة في عالمنا المعاصر.
حقًّا إن الهند تُمثِّل أكثر من نصف مجموع سكان هذه البلدان المحرومة البالغ عددُها اثنين وأربعين بلدًا. وليست على أي حال الأسوأ أداء من حيث المُتوسِّط (إذ يبلغ في الحقيقة مُتوسِّط العمر في الهند قُرابة الستين عامًا، كما تُشير آخِر الإحصاءات إلى أنه ارتفع عن ذلك). ولكن تُوجد اختلافات كبيرة بين الأقاليم من حيث مستوى المعيشة داخل الهند. ذلك أن بعض الأقاليم في الهند (تضم سكانًا تُعادِل وربما أكثر من سكان أغلب بلدان العالم) حالتها سيئة شأن أي بلد آخَر في العالم. ويمكن للهند أن تحقق نتائج أفضل كثيرًا من حيث المتوسط عن أسوأ البلدان أداء (مثل إثيوبيا، أو زائير التي تُسمَّى الآن جمهورية الكونغو الديمقراطية) من حيث العمر المتوقَّع وغيره من المؤشرات. ولكن تُوجد في الهند مناطق واسعة لا تختلف فيها كثيرًا نسبة متوسط الأعمار وغيرها من أوضاع المعيشة عمَّا هو سائد في أشد البلدان حرمانًا.٣٠
ويقارن الجدول ٤-١ بين مستويات وفيات الأطفال ومعرفة القراءة والكتابة عند الكبار في أقل المناطق تطورًا في أفريقيا جنوب الصحراء وفي الهند.٣١ ويعرض الجدول تقديرات عام ١٩٩١م لهذين المتغيرين ليس فقط في الهند وأفريقيا جنوب الصحراء إجمالًا (الصفات الأولى والأخيرة)، بل ويعرضهما أيضًا بالنسبة إلى أسوأ ثلاثة بلدان أداء في أفريقيا جنوب الصحراء وأسوأ ثلاث ولايات أداء في الهند وأسوأ المقاطعات أداء في كل من هذه الولايات الثلاث. واللافت للنظر أنه لا يوجد بلد في أفريقيا جنوب الصحراء — أو في كل العالم حقيقة — تقديرات معدلات وفيات الأطفال فيه أعلى منها في مقاطعة جانجام في أوريسا، أو حيث ينخفض فيه معدل محو الأمية بين الإناث بدرجة انخفاضه نفسها في مقاطعة بارمار في راجاستان.
وجدير بالملاحظة أن هاتين المقاطعتين يزيد عدد سكان كل منهما عن سكان بوتسوانا أو ناميبيا، كما أن مجموع سكان المقاطعتين أكبر من عدد سكان سيراليون، أو نيكارجوا، أو أيرلندا. والحقيقة أننا نجد ولايات بأكملها مثل أوتار براديش (ويبلغ تعداد سكانها مثل البرازيل أو روسيا) ليست أفضل حالًا من أسوأ البلدان في أفريقيا جنوب الصحراء، من حيث هذه المؤشرات الأساسية لنوعية الحياة.٣٢
جدول ٤-١: الهند وأفريقيا جنوب الصحراء مقارنات مختارة (١٩٩١م)*
مقارنات لمعدل وفيات الأطفال مقارنة معدل محو الأمية بين الكبار
الإقليم السكان (بالمليون) معدل وفيات الأطفال (من كل ألف مولود) الإقليم السكان (بالمليون) معدل محو الأمية بين الكبار (إناث/ذكور)
الهند الهند ٨٤٦٫٣ ٨٠ الهند ٨٤٦٫٣ ٣٩ / ٦٤
أوريسا ٣١٫٧ ١٢٤ راجاستان ٤٤٫٠ ٢٠ / ٥٥
أسوأ ثلاث ولايات هندية مادهيا ٦٦٫٢ ١١٧ بيهار ٨٦٫٤ ٢٣ / ٥٢
أوتار براديش ١٣٩٫١ ٩٧ أوتار براديش ١٣٩٫١ ٢٥ /٥٦
جانجام (أوريسا) ٣٫٢ ١٦٤ بارمار (راجاستان) ١٫٤ ٨ / ٣٧
أسوأ مقاطعة في كل من أسوأ الولايات الهندية تيكا مجار (مادهيا براديش) ٠٫٩ ١٥٢ كيشانجاني (بيهار) ١٫٠ ١٠ / ٣٣
هارودي (أوتار براديش) ٢٫٧ ١٢٩ باهريتس (أوتار براديش) ٢٫٨ ١١ / ٣٦
أسوأ ثلاثة بلدان مالي ٨٫٧ ١٦١ بوركينا فاسو ٩٫٢ ١٠ / ٣١
في أفريقيا موزمبيق ١٦٫١ ١٤٩ سيراليون ٤٫٣ ١٢ / ٣٥
جنوب الصحراء غينيا بيساو ١٫٠ ١٤٨ بنين ٤٫٨ ١٧ / ٣٥
أفريقيا جنوب الصحراء أفريقيا جنوب الصحراء ٤٨٨٫٩ ١٠٤ أفريقيا جنوب الصحراء ٤٨٨٫٩ ٤٠ / ٦٣
ملاحظة: الحد العمري هو ١٥ عامًا للأرقام الأفريقية و٧ سنوات للأرقام الهندية. ولنلاحظ أن نسبة تعلم القراءة والكتابة + ٧ في الهند هي عادة أعلى من نسبة معدل تعلم القراءة والكتابة (بمعنى أن نسبة تعلم القراءة والكتابة في كل الهند + ٧ في عام ١٩٨١م كانت ٤٣٫٦% بالمقارنة بنسبة ٤٠٫٨% الخاصة بنسبة تعلم القراءة والكتابة + ١٥). (المصدر: جي دريز وا. صن. الهند: التنمية الاقتصادية والفرصة الاجتماعية، (دلهي، مطابع جامعة أكسفورد)، (١٩٩٥م).)
والشيء المثير للاهتمام أننا إذا أخذنا الهند وأفريقيا جنوب الصحراء معًا، نجد أن الإقليميين لا يختلفان كثيرًا؛ سواء من حيث معرفة القراءة والكتابة بين الكبار أو نسبة وفيات الأطفال ولكنهما يختلفان تمامًا، على الرغم من هذا، من حيث متوسط العمر المتوقع، فإن متوسط العمر المتوقَّع في الهند عام ١٩٩١م كان حوالي ستين عامًا، بينما نراه ينخفض كثيرًا عن هذا الرقم في أفريقيا جنوب الصحراء (حيث المتوسط حوالي اثنين وأربعين عامًا).٣٣ ونجد من ناحية أخرى دليلًا على أن مدى نقص التغذية في الهند أكبر كثيرًا مما هو في أفريقيا جنوب الصحراء.٣٤
وهكذا نجد نموذجًا مهمًّا للمقارنة بين الهند وأفريقيا جنوب الصحراء في ضوء المعايير المختلفة من حيث: (١) نسبة الوفيات، و(٢) التغذية. ويمكن الكشف عن ميزة البقاء لصالح الهند عن طريق، ليس فقط مقارنة متوسط العمر المتوقع، بل وأيضًا عن طريق تبايُن إحصاءات الوفيات الأخرى. مثال ذلك أن العمر المتوسط لحالات الوفيات في الهند بلغ سبعة وثلاثين عامًا حوالي عام ١٩٩١م. يضاهي هذا المتوسط المرجَّح (لمتوسط عُمْر الوفيات) في أفريقيا جنوب الصحراء بخمس سنوات فقط.٣٥ والملاحَظ في الحقيقة أن متوسط عمر الوفيات في خمسة بلدان أفريقية يبلغ ثلاث سنوات أو أقل. وإذا نظرْنَا إلى مشكلة الوفيات الباكرة من هذا المنظور، فسنجد أنها مشكلة بَالِغة الحِدَّة في أفريقيا أكثر منها في الهند.
بيد أننا نحصل على ميزان مغاير تمامًا للأضرار إذا ما نظرْنَا إلى تَفشِّي حالة نقص الغذاء في الهند مُقارَنة بأفريقيا. ونلاحظ أن حسابات نقص التغذية بعامة أعلى كثيرًا في الهند مقارَنة بها في أفريقيا جنوب الصحراء في المتوسط.٣٦ هذا على الرغم من أن الهند، وليست أفريقيا جنوب الصحراء، لديها اكتفاء ذاتي في الغذاء. ويعتمد «الاكتفاء الذاتي» في الهند على الوفاء بطلب السوق الذي يمكن تلبيته بسهولة في السنوات العادية عن طريق العرض المنتج محليًّا. ولكن طلب السوق (المرتكز على القوة الشرائية) أقل من الاحتياجات الغذائية. وتبدو الحالة الفعلية لنقص الغذاء في الهند أعلى كثيرًا في الهند عنها في أفريقيا جنوب الصحراء. وإذا نظرنا إليها في ضوء المعايير المألوفة بشأن نقص الوزن مقابل العمر، نجد أن نسبة الأطفال ناقِصِي التغذية في أفريقيا تتراوح ما بين ٢٠ إلى ٤٠ في المائة، بينما نسبة الأطفال ناقصي التغذية في الهند كبيرة جدًّا؛ إذ تتراوح ما بين ٤٠ و٦٠ في المائة.٣٧ ويبدو أن حوالي نصف مجموع الأطفال في الهند مصابون بنقص تغذية مُزْمن. ولكن على الرغم من أن الهنود يعيشون أعمارًا أطول من الأفارقة جنوب الصحراء، ومتوسط العمر عند الوفاة أكبر كثيرًا من مثيله بين الأفارقة، فإن عدد الأطفال ناقصي التغذية في الهند أكبر كثيرًا من مثيله في أفريقيا جنوب الصحراء — ليس فقط من حيث الرقم المطلق بل وأيضًا بالنسبة إلى مجموع عدد الأطفال٣٨ — وإذا أضفنا إلى هذا حقيقة أن الانحياز الجنسي؛ أي القائم على التمييز بين الجنسين عند الوفاة، يمثل مشكلة موضوعية في الهند، وليس كذلك في أفريقيا جنوب الصحراء، فسوف تظهر أمامنا صورة عن الهند أسوأ منها عن أفريقيا.٣٩
وثمة قضايا سياسية مهمة تتعلق بطبيعة ومدى تعقد الأنماط النسبية للحرمان في هذين الإقليمين اللذين يعانيان أشد حالات الفقر حدة في العالم. إن ميزة الهند على أفريقيا جنوب الصحراء، من حيث البقاء، ترتبط بعدد من العوامل المختلفة التي جعلت الأفارقة بخاصة أكثر عرضة للوفيات الباكرة؛ إذ إن الهند منذ الاستقلال تخلصت نسبيًّا من مشكلات المجاعات ومن الحروب واسعة النطاق والمستمرة، التي تدهم بين الحين والآخر أعدادًا كبيرة من البلدان الأفريقية. كذلك فإن الخدمات الصحية في الهند. على الرغم من عدم كفايتها، فإنها لم تتأثر بالاضطرابات السياسية أو العسكرية. علاوة على هذا، فقد عانت بلدان كثيرة في أفريقيا جنوب الصحراء من حالات تدهور اقتصادي. التي ترجع جزئيًّا إلى الحروب والقلاقل والاضطرابات السياسية. ولهذا السبب كان عسيرًا عليها تحسين مستويات المعيشة فيها. وأرى أن أي تقدير قائم على المقارَنة بين إنجازات وإخفاقات هذين الإقليمين لا بد أن يضع في الاعتبار هذه الأوضاع وغيرها المرتبطة بتجارب التنمية في كل منهما.٤٠

وحَرِي بنا أن نلحظ أيضًا أن ثمة مشكلة مشتركة بين الهند وأفريقيا جنوب الصحراء وهي توطن الأمية على نحو مزمن، وهي قسمة شأنها شأن متوسط العمر المتوقَّع تفصل شرق آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء عن بقية العالم. وكما يشير الجدول ١–٤ فإن معدل معرفة القراءة والكتابة متماثل إلى حد كبير في المنطقتين؛ إذ يوضح الجدول تَماثُل عدد الأميين من البالغين في كل من الهند وأفريقيا جنوب الصحراء.

fig7
شكل ٤-٢: نسب الإناث – الذكور في مجموع السكان داخل مجتمعات منتقاة. (المصدر: محسوبة على أساس إحصاءات السكان للأمم المتحدة.)
عرضنا هنا ثلاث قسمات محورية للحرمان من القدرات الأساسية ركزت عليها مقارناتي، وحاولتُ توضيح التباين في طبيعة الحرمان في الهند وفي أفريقيا جنوب الصحراء «وهي الوفيات الباكرة، ونقص التغذية، والأمية». ولكن هذه القسمات الثلاث لا تعطينا بطبيعة الحال صورة كاملة عن فقر القدرة في هذين الإقليمين. بيد أنها تكشف عن إخفاقات مثيرة وعن بعض القضايا السياسية الحاسمة التي تستلزم أن نوليها اهتمامًا مباشرًا. ولم أحاول كذلك تقديم مقياس «تراكمي» للحرمان مبني على «ترجيح» ووزن الجوانب المختلفة من حرمان القدرة.٤١ ذلك أن تحليل السياسة غالبًا ما يكون اهتمامه بالقياس التراكمي أقل من اهتمامه بالنمط الموضوعي لعمليات الأداء المختلفة.

عدم المساواة بين الجنسين والفاقد النسوي

أنتقل الآن إلى مظهر محدد من مظاهر عدم المساواة العامة الذي حظي أخيرًا باهتمام كبير، ويرتكز هذا الفصل على مقال لي تحت عنوان «الفاقد النسوي» المنشور في الصحيفة الطبية البريطانية عام ١٩٩٢م.٤٢ وأشير هنا إلى ظاهرة مروعة تتمثل في فرط زيادة الوفيات ومعدَّلات البقاء المنخفضة عن تَعمُّد للنساء في كثير من أنحاء العالم. وهذا وجه ظاهر للعيان وبادي الفَجاجة، والحِدَّة، ويمثل عدم المساواة الاجتماعية بين الجنسين، الذي يتجلَّى غالبًا في أشكال أقل بشاعة وأكثر دهاءً. ولكن على الرغم مما فيه من فجاجة، فإن الارتفاع المُصطنع في مُعدَّل وفيات الإناث يعكس حالة غاية في الأهمية لحرمان القدرة عند المرأة.
نلحظ في أوروبا وشمال أمريكا اتجاهًا عامًّا لزيادة عدد النساء عن الرجال بأعداد ذات دلالة. مثال ذلك أن نسبة النساء إلى الرجال في المملكة المتحدة، وفرنسا، والولايات المتحدة تزيد على ١٫٠٥ والوضع مختلف تمامًا في بلدان كثيرة في العالَم الثالث خصوصًا في آسيا وشمال أفريقيا؛ حيث يمكن أن تنخفض نسبة الإناث إلى الذكور إلى ٠٫٩٥ (مصر) ٠٫٩٤ (بنجلاديش، والصين، وغرب آسيا)، و٠٫٩٣ (الهند)، بل وحتى ٠٫٩٠ (باكستان). وهذه فوارق ذات دلالة اجتماعية مهمة عند تحليل مظاهر عدم المساواة بين الأنثى والذكر في أنحاء العالم.٤٣ ويعرض الشكل ٤-٢ المعلومات بالنسبة لكلٍّ.
وواقع الأمر أن عدد الصبية الذين يُولَدون أكثر من عدد البنات في كل مكان (حوالي ٥ في المائة زيادة). ولكن ثمة دلائل كثيرة على أن النساء يواجهن «حياة أشق» من الرجال ولهن فرصة بقاء أفضل حتى إذا سَلَّمنا بتماثُل ظروف الرعاية. ويبدو في الحقيقة أن الجنين الأنثى فرصته للبقاء أعلى كثيرًا من فُرَص الجنين الذكر، كما أن نسبة حمل جنين ذكر أعلى من ذلك عند الميلاد.٤٤ ويرجع ارتفاع نسبة الذكور إلى الإناث في «الغرب» إلى انخفاض معدَّلات وفيات الإناث. وثَمَّة أسباب أخرى لهذه الزيادة في النساء؛ إذ لا تزال هناك آثار باقية لوفيات الذكور في الحروب الماضية. وهناك بوجه عام نسبة من المدخنين بين الرجال أعلى، علاوة على احتمالات أكثر للموت ضحية للعنف، ولكن يبدو واضحًا أننا حتى لو أخذنا هذا كله في الاعتبار، فسوف يتجاوز عدد النساء عدد الرجال مع التسليم بتوافر رعاية متماثلة.
وتُعْزَى النِّسب المنخفضة للذكور إلى الإناث في بلدان آسيا وشمال أفريقيا إلى تأثير عوامل اجتماعية. ويمكن بسهولة حساب ما إذا كانت نسبة الإناث إلى الذكور في هذه البلدان تُعادِل النسبة في أوروبا والولايات المتحدة، فسوف يكون بها ملايين النساء أكثر (في ضوء عدد الرجال).٤٥ وأمكن حساب «الفاقد النسوي» في الصين وَحْدَها على أساس النسبة الأوروبية أو الأمريكية، فإذا بها أكثر من ٥٠ مليونًا. ويصل العدد، على هذا الأساس نفسه، في كل تلك البلدان مجتمعة إلى أكثر من ١٠٠ مليون امرأة يمكن اعتبارهن ضمن «الفاقد».
ولكن قد لا يكون من الملائم استخدام النسبة الأوروبية أو الأمريكية؛ وذلك لأسباب ليس منها فقط القسمات الخاصة المميزة مثل وفيات الحروب. والمعروف أن نسبة الإناث إلى الذكور ترتفع تدريجيًّا مع العمر بسبب انخفاض نسبة وفيات الإناث في أوروبا وأمريكا. ولنا أن نتوقَّع نسبة أدنى في آسيا أو شمال أفريقيا تحدث جزئيًّا بسبب انخفاض متوسط العمر بعامة وارتفاع معدل الخصوبة. وإن إحدى وسائل التعامل مع هذه المسألة أن يكون أساس المقارنة ليس نسبة الإناث إلى الذكور في أوروبا أو أمريكا، بل في أفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث تَنخفض نسبة الأضرار التي تعانيها المرأة من حيث نسبة الوفيات لكلٍّ، ولكن لأن متوسط العمر فيها ليس أعلى، كما أن معدَّلات الخصوبة ليست أقل (بل بالعكس). وإذا اعتبرنا نسبة الإناث إلى الذكور في جنوب الصحراء وهي ١٫٠٢٢ هي المؤشر (والذي استخدمتُه في دراساتي السابقة وكذا مع جين دريز)، فإننا نحصل على نتيجة قدرها ٤٤ مليون نسمة فاقدًا نسويًّا في الصين، و٢٧ مليونًا في الهند، كما أنه لا يزال إجمالي عدد الفاقد النسوي في هذه البلدان يزيد على ١٠٠ مليون.٤٦
وسيلة أخرى للتعامل مع هذه المشكلة هي أن نحسب العدد المتوقَّع وجودُه من النساء لو لم تكن هناك أي أضرار تصيب فُرَص بقاء الأنثى، مع التسليم بالعمر الفعلي المتوقَّع ونسب الخصوبة الفعلية في كل من هذه البلدان. وليس يسيرًا حساب هذا مباشرة، غير أن أنسلي كول حصل على تقديرات كاشفة عن طريق استخدام جداول نموذج سكاني مَبنيَّة على الخبرة التاريخية للبلدان «الغربية». وتَمثَّل ناتج هذا الإجراء في ٢٩ مليون «فاقد نسوي» في الصين، و٢٣ مليونًا في الهند، وحوالي ٦٠ مليونًا إجمالي العدد في هذه البلدان.٤٧ ولكنها لا تزال أرقامًا كبيرة على نحو مُروِّع على الرغم من أنها أقل من سابقتها. وثمة تقديرات أخرى أحدث عهدًا مبنية على استخدام معلومات تاريخية جَرى فحصها وتوفيقها على نحو أفضل، ولكنها أعطَتْ نتائج تتمثل في أعداد أكبر من الفاقد النسوي (حوالي ٩٠ مليونًا حسب تقدير ستيفان كلاسين).٤٨
ولكن لماذا كان إجمالي نِسَب وفيات الإناث أعلى من الذكور في هذه البلدان؟ لنتدبر وَضْع الهند حيث نسبة وفيات الإناث تتجاوز دائمًا نسبة وفيات الذُّكور إلى أن نصل إلى أواخر الثلاثين من العمر. والمُلاحظ أن زيادة الوفيات في سن الإنجاب يمكن أن تكون نتيجة وفاة الأم (الوفاة أثناء الوضع أو عقب الوضع مباشرة). ولكن، مع هذا، فمن الواضح أنه لا يوجد تفسير للوضع غير المُواتي للمرأة من حيث فُرص البقاء خلال فترات الرضاع والطفولة. وعلى الرغم من الأحداث المؤسفة لِوَأْد البنات في الهند بين حين وآخر. إلا أن هذه الظاهرة، حتى وإن كانت موجودة، لا تفيد شيئًا في تفسير زيادة حجم الوفيات ولا التوزيع العمري للوفيات. وأحسب أن الخطأ الأساسي ربما يَتمثَّل في إهمال صحة الأنثى وغذائها خصوصًا أثناء الطفولة، وإن لم يقتصر على فترة الطفولة وحدها. ونجد دلائل قوية في الحقيقة على أن الأطفال الإناث يُعانِين من الإهمال، من حيث الرعاية الصحية والعلاج في المستشفيات بل والتغذية.٤٩

وحظيت حال الهند بدراسة شاملة ومستفيضة أكثر من غيرها؛ «إذ إن عدد الباحثين في الهند العاكفين على هذه المشكلة أكبر من نظرائهم في أي بلد آخر». وثمة شواهد مُماثِلة على الإهمال النسبي لصحة وغذاء الأطفال الإناث في البلدان الأخرى أيضًا. وأكثر من هذا أننا نجد في الصين بعض الدلائل التي تُؤكِّد أن مدى الإهمال زاد زيادة حادَّة في السنوات الأخيرة، خصوصًا بعد فَرْض قيود إجبارية لتنظيم الأسرة (سياسة طفل واحد في بعض أنحاء الصين)، هذا علاوة على بعض الإصلاحات الأخرى التي جرى تطبيقها حوالي عام ١٩٧٩م. ونشهد في الصين أيضًا بعض علامات جديدة مشئومة من مثل الزيادة الحادة في النِّسب المسجَّلة لميلاد الذكور إلى الإناث، التي تشذ كثيرًا عن بقية العالَم. ويمكن أن يدلَّ هذا على احتمال «إخفاء» إناث الأطفال المولودات حديثًا «لتَجنُّب صرامة تنفيذ القيود الإلزامية لتنظيم الأسرة». ويبدو أن الانحياز شديد الوطأة ضد الأنثى داخل الأسرة يتمثل كذلك في حالات الإجهاض الانتقائية على أساس الجنس، التي شاعت في الصين مع التقدم التكنولوجي.

ملاحظات ختامية

هناك مَن ينتقد الاقتصاديين أحيانًا لإفراطهم في التركيز على الفعالية دون المساواة. وقد نجد بعض العذر لهذه الشكوى، ولكن يجب ملاحظة أن ظاهرة عدم المساواة حَظِيَت باهتمام الاقتصاديين أيضًا على مدى تاريخ هذا المبحث العلمي. إن آدم سميث الذي غالبًا ما يراه البعض «أبَا الاقتصاد الحديث» كان معنيًّا للغاية بالهُوَّة بين الغني والفقير. كذلك فإن بعض العلماء الاجتماعيين والفلاسفة المسئولين عن جعل موضوع عدم المساواة مادة محورية تحظى بالاهتمام العام «من أمثال كارل ماركس، وجون ستيوارت مل، وبي إس راونتري، وهوغ دالتون، حتى نذكر كتابًا من مدارس فكرية مختلفة». ولقد كانوا جميعًا من المَعنِيِّين موضوعيًّا بهذه الظاهرة، وهم اقتصاديون نَذرُوا جهدهم لدراستهم. والمُلاحَظ في السنوات الأخيرة ازدهار الدراسة الاقتصادية لظاهرة عدم المساواة كموضوع دراسي، وذلك على أيدي رُوَّاد عظام من أمثال إيه بي أتكنسون.٥٠ وليس معنى هذا إنكار أن تركيز الاهتمام على الفعالية واستبعاد الاعتبارات الأخرى مسألة شديدة الوضوح في بعض المؤلَّفَات الاقتصادية. ولكنَّ الاقتصاديين كمجموعة لا يمكن اتهامهم بإغفال ظاهرة اللامساواة كموضوع للدراسة.

وإذا كان ثَمَّة سبب للامتعاض، فإنه ينصبُّ على الأهمية النسبية التي توليها أغلب الدراسات الاقتصادية لحالة عدم المساواة داخل نطاق محدود، أعني اقتصاد اللامساواة. وتمثَّل أثر هذه المحدودية في أنها أسهمت في إهمال الوسائل الأخرى لرؤية عدم المساواة والمساواة كظاهرة بعيدة الأثر في صوغ السياسة الاقتصادية. وأدَّى التركيز المُفرط على فقر الدخل وعدم مساواة الدخل إلى تَعاظُم الجدل بشأن السياسة، وإغفال مظاهر الحرمان الأخرى المرتبطة بمتغيرات أخرى؛ من مثل: البطالة، واعتلال الصحة، ونقص التعليم، والاستبعاد الاجتماعي. ولسوء الحظ أن المطابقة بين عدم المساواة الاقتصادية وعدم المساواة في الدخل مسألة شائعة في الدراسات الاقتصادية، وترى الاثنين كمُترادِفَين. إنك إذا قلتُ لشخص ما إنك معنيٌّ باقتصاد اللامساواة، فسوف يفترض، كقاعدة عامة، أنك معنيٌّ بدراسة توزيع الدخل.

وهذه المطابقة الضمنية يمكن، إلى حد ما، أن نجدها في الدراسات الفلسفية أيضًا. مثال ذلك الفيلسوف المتميز هاري فرانكفورت في بحثه المهم «المساواة كمثل أعلى أخلاقي»، يعرض نقدًا قويًّا مدعومًا بالأسباب لما يسميه «نزعة المساواة الاقتصادية»، ويحدد معناها بقوله: «الاعتقاد بأنه ينبغي ألا تكون هناك مظاهر لعدم المساواة في توزيع النقود.»٥١
ولكن من المهم التمييز بين عدم مساواة الدخول وعدم المساواة الاقتصادية.٥٢ والملاحظ أن غالبية النقد المُوجَّه إلى نزعة المساواة الاقتصادية من حيث هي قيمة أو هدف، يَصدُق إلى حدٍّ كبير على المفهوم الضَّيِّق لعدم المساواة الاقتصادية. مثال لذلك إعطاء حصة أكبر لشخص لديه احتياجات أكثر — لنفترض بسبب حالة عجز — يمكن اعتباره عملًا ضد مبدأ مساواة الدخول، ولكنه ليس مناقضًا للشعارات العامة عن المساواة الاقتصادية ما دامت الحاجة إلى موارد اقتصادية أكبر بسبب العجز لا بد أن تُوضَع في الاعتبار عند الحكم على متطلبات وشروط المساواة الاقتصادية.

والعلاقة بين عدم مساواة الدخل وحالة اللامساواة في مجالات أخرى وثيقة الصلة يمكن أن تكون متنوعة ومشروطة بسبب المؤثرات الاقتصادية المختلفة غير الدخل، التي تؤثر على مظاهر عدم المساواة في المصالح الفردية والحريات الموضوعية. مثال ذلك، ارتفاع معدلات الوفيات بين الأمريكِيِّين الأفارقة مقابل الصينيين، أو الهنود في كيرالا الأشد فقرًا؛ إذ يمكن أن نلمس هنا أثر عوامل تعمل في اتجاه مضاد لحالة عدم المساواة في الدخل. وتشتمل هذه على قضايا خاصة بالسياسة العامة ذات مكونات اقتصادية فاعلة وقوية: تمويل الرعاية الصحية، وعمليات التأمين، وتوفير التعليم العام، والترتيبات الخاصة بالأمن المَحلِّي، وهكذا.

ويمكن أن تفيد في الواقع فوارق نِسَب الوفيات كمؤشر دالٍّ على مظاهر عدم مساواة شديدة العمق، التي تفرق بين الأعراق والطبقات والجنسين، وهو ما وضحته أمثلة كثيرة في هذا الفصل. نذكر على سبيل المثال التقديرات الخاصة بالفاقد النسوي؛ إذ تُوضِّح لنا المدى الكبير للأضرار التي تعانيها الأنثى في أنحاء كثيرة في العالم المعاصر، وتوضحها في جلاء لا تكشف عنه إحصاءات أخرى.

ونظرًا لأن الدخل الذي يكسبه أعضاء الأسرة يقتسمه معهم آخرون من أبناء الأسرة، فإننا، بالمثل، لا نستطيع أن نُحلِّل عدم المساواة بين الجنسين أساسًا في ضوء فوارق الدخل. ومن ثم نكون في حاجة إلى معلومات أكثر مما هو متاح عادة بشأن تقسيم استخدام المورد داخل الأسرة، حتى نحصل على فكرة أوضح عن مظاهر عدم المساواة في العطاء الاقتصادي. بَيْدَ أنَّ الإحصاءات الخاصة بنسب الوفيات، شأن مظاهر الحرمان الأخرى (من مثل نقص التغذية أو الأمية) يمكنها أن تقدم لنا صورة مباشرة عن عدم المساواة والفقر في عدد من الأبعاد الحاسمة. ويمكن الإفادة بهذه المعلومات أيضًا للربط بين مدى الحرمان النسبي للمرأة بالحالات القائمة لعدم المساواة في الفرص «لكسب دخل خارجي أو للالتحاق بالمدارس أو غير ذلك». وهكذا فإن كلًّا من القضايا الوصفية وقضايا السياسة يمكن معالجتها من خلال هذا المنظور الأعم عن عدم المساواة والفقر في ضوء الحرمان من القدرة.

وعلى الرغم من الدور الحاسم للدخل في تحديد المزايا التي يتمتع بها أفراد مختلفون، فإن العلاقة بين الدَّخل «وغيره من الموارد» من ناحية، والإنجازات والحريات الفردية من ناحية أخرى ليست ثابتة وليست بأي معنى من المعاني تلقائية ولا يمكن مقاومتها؛ إذ ثمة أحداث طارئة مختلفة تفضي إلى تباينات منتظمة في «تَحوُّل» الدخل إلى ما يمكن أن نؤديه من وظائف مختلفة. ويؤثر هذا بدوره في أسلوب الحياة الذي يمكن أن نحظى به. وحاولت في هذا الفصل أن أوضِّح الوسائل المختلفة لظهور تباينات منتظمة في العلاقة بين الدخل المكتسب والحريات الموضوعية (في صورة القدرة على أن يعيش الناس الحياة التي لديهم المُبرِّر لاعتبارها قيمة)، ويتعين عند وضع سياسة عامة أن نولي اهتمامًا جادًّا، وبالقدر الواجب، لأدوار كل من التغايرات الشخصية والتنوعات البيئية، وتباينات المناخ الاجتماعي والاختلافات في المنظور إلى العلاقات والتوزيع داخل الأسرة.

وهناك مَن يسوق أحيانًا حجة تفيد بأن الدخل مقدار متجانس، بينما القدرات متنوعة. ولكن هذا التباين الحاد ليس صوابًا كله، بمعنى أن أي تقييم للدخل يخفي تنوعات داخلية قائمة على افتراضات خاصة.٥٣ كذلك (وكما ناقشنا الأمر في الفصل الثالث)، فإن المقارنات بين الأشخاص من حيث الدخل الحقيقي، لا تعطينا أساسًا لِعَقْد مقارَنات بين الأشخاص، حتى لو كانت مقارَنات عن المنفعة، «على الرغم من أن هذه الفجوة غالبًا ما يكون مصيرها الإهمال في اقتصاديات الرفاه التطبيقية، بسبب وضع افتراضات تعسفية بالكامل». إننا لكي ننتقل من مقارنة الوسائل في صورة فوارق دخل إلى شيء يمكن الزعم بأنه قَيِّم في ذاته (مثل الرفاه أو الحرية)، يتعين علينا ملاحظة التباينات الظرفية التي تؤثر في معدلات التحويل. وكم هو عسير استدامة الفَرْض المُسبَق القائل بأن نَهْج مُقارَنة الدخل أسلوب «عملي» أكثر للحصول على الفوارق في الميزات بين الأشخاص.

وأكدت، علاوة على هذا، أن الحاجة إلى مناقشة تقييم القدرات المختلفة في ضوء الأولويات العامة تمثل رصيدًا واقعيًّا، يلزمنا أن نوضح ماهية أحكام القيمة في مجال يستحيل علينا فيه تَجنُّب أحكام القيمة ولا ينبغي علينا تجنبها. حقًّا إن المشارَكة العامة في هذه الحوادث بشأن القيمة — سواء على نحو سافر أو ضمني — تُمثِّل جانبًا حاسمًا في سبيل ممارَسة الديمقراطية والخيار الاجتماعي المسئول. ولا مفر في المسائل الخاصة بالحكم العام من وجود مناقشة عامة بشأن القيمة. وليس في الإمكان إبدال الجهد العام للتقييم بافتراض آخر مَهْما بدا ذكيًّا وبارعًا. إن بعض الافتراضات التي تبدو في ظاهرها أنها مفيدة ومجدية، إنما تؤدي دورها عن طريق إخفاء اختيار القيم والأهمية وراء ستار كثيف من الغموض المتعمد. مثال ذلك افتراض يأتي ضمنيًّا في الغالب ويقضي بأن شخصين لهما مَطلب وظيفي واحد يجب أن تتوافر لديهما العلاقة نفسها بين حزمة السلع والرفاه. هذا بِغضِّ النظر عمَّا إذا كان أحد الشخصين عليلًا والآخَر سليمًا، أو أن أحدهما مُعوَّق، والآخر صحيح البدن أو غير ذلك. وطبيعي أن مثل هذا الافتراض هو في الأساس وسيلة لتجنُّب الحاجة إلى التفكير في كثير من المؤثرات المُهِمَّة في الرفاه. ولكن هذا الهرب يصبح واضحًا شفافًا، كما حاولتُ أن أوضح، عندما نكمل بياناتنا عن الدَّخْل والسلعة بمعلومات من أنماط أخرى (بما في ذلك معلومات عن الحياة والموت).

وهكذا ترى أن مسألة المناقشة العامة والمشارَكة الاجتماعية مسألة محورية عند صوغ سياسة داخل إطار ديمقراطي. ولا ريب في أن استثمار الحقوق الديمقراطية — التي تشمل كلًّا من الحريات السياسية والحقوق المدنية — جانب حاسم من ممارسة صوغ السياسة الاقتصادية نفسها، علاوة على الأدوار الأخرى التي يمكن أن تؤديها. وغني عن البيان أن الحريات المشتركة لا يمكن إلا أن تكون في النَّهج المُوجَّه إلى الحرية أمرًا محوريًّا عند تحليل السياسة العامة.

١  هذه النظرة إلى الفقر طَوَّرتُها على نحو أكمل في كتابي: الفقر والمجاعات، أكسفورد، كلارندون برس، ١٩٨١م؛ و«الموارد والقيم والتنمية»، كامبريدج، هارفارد برس، ١٩٨٥م.
٢  ناقشتُ على نحو أكمل هذه الدعاوى ودلالاتها في دراستي بعنوان «الفقر كحرمان من القدرة»، روما، بنك إيطاليا.
٣  مثال ذلك أن الجوع وسوء التَّغْذية كلاهما مرتبط بِكَم الطعام الذي يتناوله المرء وبُقدرَته على الاستفادة منه غذائيًّا. ويتأثر الجانب الثاني كثيرًا بالظروف الصحية العامة. ويتوقف هذا بدوره على الرعاية الصحية الاجتماعية وعلى تدابير الصحة العامة. انظر في هذا: Dreze and Sen, Hunger and Public Action (1989).
٤  انظر على سبيل المثال: James Smith, Healthy Bodies and Thick Wallets: The Dual Relationship between Health and Socioeconomic Status, Journal of Economic Perspectives 13 (1999). هناك أيضًا نمط آخر من المزاوجة بين (١) سوء التغذية الناجم من فقر الدخل، (٢) فقر الدخل الناجم عن الحرمان من العمل نتيجة نقص التغذية.
٥  الإسهام الكبير من هذه المعوقات في شيوع فقر الدَّخل في بريطانيا أبرزه بوضوح لا مزيد عليه إيه بي أتكنسون في دراسة تجريبية رائدة A. B. Atkinson, Poverty in Britain and the Reform of Social Security (Cambridge: Cambridge University Press, 1970).
٦  عن طبيعة هذه المعوقات انظر: Dorothy Wedderburn, The Aged in the Welfare State (London: Bell, 1961); Peter Townsend, Poverty in the United Kingdom: A Survey of Household Resources and Standards of Living (Har-mondsworth: Penguin Books, 1979); J. Palmer, T. Smeeding and B. Torrey, The Vulnerable: America’s Young and old in the Industrial World (Washington, D.C.: Urban Institute Press, 1988); among other contributions.
٧  حاولت بحث منظور حرمان القدرة لتحليل عدم المساواة بين الجنسين في: Resources, Values and Development (1984; 1997); Commodities and Capabilities (Amsterdam: North-Holland, 1985); and Missing Women, British Medical Journal 304 (March 1992).
٨  انظر في هذا الشأن برنامج التنمية للأمم المتحدة «تقرير التنمية الإنسانية ١٩٩٥م».
٩  انظر: W. G. Runciman, Relative Deprivation and Social Justice (London: Routledge, 1966).
١٠  انظر في هذا مقالي: Poor, Relatively Speaking, Oxford Economic Papers 35 (1983), reprinted in Resources, Values and Development (1984).
١١  حللت الرابطة في دراستي: Inequality Reexamined (Oxford: Clarendon Press; and Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1992), chapter 7.
١٢  Jean Dreze and Amartya Sen, India: Economic Development and Social Opportunity (Delhi: Oxford University Press, 1995).
١٣  انظر: Isher Judge Ahluwalia and I. M. D. Little, eds., India’s Economic Reforms and Development (Delhi: Oxford University Press, 1998).
١٤  هذه الحجج مُطَوَّرة على نحو أكمل في: Dreze and Sen, India: Economic Development and Social Opportunity (1995).
١٥  انظر: G. Datt, Poverty in India and Indian States: An Update (Washington, D.C.: International Food Policy Research Institute, 1997).
١٦  Adam Smith, The Theory of Moral Sentiments (1759).
١٧  John Rawls, A Theory of Justice (Harvard University Press, 1971).
١٨  Thomas Scanlon, Contractualism and Utilitarianism, in Utilitarianism and Beyond, edited by Amartya Sen and Bernard Williams (Cambridge University Press, 1982).
١٩  انظر على سبيل المثال: James Mirrlees, An Exploration in the Theory of Optimal Income Taxation, Review of Economic Studies 38 (1971).
٢٠  A. B. Atkinson, On the Measurement of Inequality, Journal of Economic Theory z (1970), and Social Justice and Public Policy (Brighton: Wheatsheaf; Cambridge, Mass.: MIT Press, 1983). See also S. Ch. Kolm, The Optimum Production of Social Justice, in Public Economics, edited by J. Margolis and H. Guitton (London: Macmillan, 1969); Amartya Sen, On Economic Inequality (Oxford: Clarendon Press, 1973; expanded edition, including an annex with James Foster, 1997); Charles Blackorby and David Donaldson, A Theoretical Treatment of Indices of Absolute Inequality, International Economic Review 2.1 (1980), and Ethically Significant Ordinal Indexes of Relative Inequality, Advances in Econometrics, volume 3, edited by R. Basmann and G. Rhodes (Greenwich, Conn.: JAI Press, 1984).
٢١  في بحثي بعنوان: «عدم المساواة والبطالة وأوروبا المعاصرة»، والذي قدمتُه لمؤتمر لشبونة عن «أوروبا الاجتماعية» ناقشتُ الصلة الوثيقة بالموضوع لهذا التباين في قضايا السياسة المعاصرة في أوروبا. وتم تقديم تحليل مُتميِّز لما يوليه العاطلون أنفسهم من أهمية لفقدان الحرية والقدرة نتيجة البطالة. وقدم التحليل إريك شوكايرت بناء على بيانات بلجيكية.
٢٢  انظر الدراسات الواردة في بحثي «عدم المساواة والبطالة وأوروبا المعاصرة» (١٩٩٧م). وعن الأضرار النفسية والاجتماعية للبطالة، انظر: Robert Solow, Mass Unemployment as a Social Problem, in Choice, Welfare and Development, edited by K. Basu, Clarendon Press, 1995.
٢٣  A. B. Atkinson, Lee Rainwater and Timothy Smeeding, Income Distribution in OECD Countries (Paris: OECD, 1996).
٢٤  الحاجة ماسَّة الآن على وجه التحديد لمبادرات سياسية جديدة، انظر:
Jean-Paul Fitoussi and R. Rosanvallon, Le Nouvel age des inegalites (Paris: Sevil, 1996); Edmund S. Phelps, Rewarding Work: How to Restore Participation and Self-Support to Free Enterprise (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1997). See also Paul Krugman, Technology, Trade and Factor Prices, NBER Working Paper no. 5355 (Cambridge, Mass.: National Bureau of Economic Research, 1995); Stephen Nickell, Unemployment and Labor Market Rigidities: Europe versus North America, Journal of Economics Perspectives n (1997); Richard Layard, Tackling Unemployment (London: Macmillan, 1999); Jean-Paul Fitoussi, Francesco Giavezzi, Assar Lindbeck, Franco Modigliani, Beniamino Moro, Dennis J. Snov/er, Robert Solow and Klaus Zimmermann, A Manifesto on Unemployment in the European Union, mimeographed, 1998.
٢٥  البيانات من: M. W. Owen, et al., The Effects of Known Risk Factors on the Excess Mortality of Black Adults in the United States, journal of the American Medical Association 263, number 6 (February 9, 1990).
٢٦  انظر في هذا دراستي: «السلع والقدرات» (١٩٨٥م). وقدَّمت برامج التنمية البشرية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية معلومات وتقديرات مهمة بشأن هذا الأسلوب في النظر إلى الفقر. نذكر بوجه خاص تقرير التنمية البشرية لعام ١٩٩٧م.
٢٧  Dreze and Sen, India: Economic Development and Social Opportunity (1995).
٢٨  بالنسبة لمصادر هذه المعلومات وغيرها من المعلومات الواردة في هذا الفصل انظر دريز وصن، الهند: التنمية الاقتصادية والفرصة الاجتماعية، (١٩٩٥م)، الفصل ٣، والملحق الإحصائي. وتركز الصورة هنا على عام ١٩٩١م بسبب توفُّر البيانات. ومع هذا توجد زيادة كبيرة في محو الأمية مسجلة أخيرًا في أحدث عينات مسحية قومية للهند. وتوجد أيضًا بعض التحولات المهمة في السياسة على أيدي بعض حكومات الولايات مثل البنغال الغربية ومادهايا براديش.
٢٩  انظر: C. J. L. Murray et al., U. S. Patterns of Mortality by County and Race 1964–1994 (Harvard Center for Population and Developmental Studies, 1998).
٣٠  قسوة فشل الهند في رصد موارد وجهود للتنمية الاجتماعية يناقشها على نحو مقنعٍ ومثير: S. Guhan, An Unfulfilled Vision, 1ASSI Quarterly 12 (1993).
٣١  هذه البيانات من الجدول ٣–١ في كتاب دريز وصن: الهند: التنمية الاقتصادية والفرصة الاجتماعية، ١٩٩٥م.
٣٢  انظر أيضًا: A. K. Shiva Kumar, UNDP’s Human Development Index: A Computation for Indian States, Economic and Political Weekly, October 12, 1991.
٣٣  انظر البنك الدولي، تقرير التنمية في العالم ١٩٩٤م، أكسفورد، ١٩٩٥م.
٣٤  انظر في هذا المقارنة الإضافية الموسعة: Peter Svedberg, Poverty and Undernutrition: Theory and Measurement (Oxford: Clarendon Press, 1997). يقدم سفيدبيرج أيضًا دراسة فاحصة للمناهج البديلة في قياس نقص التغذية والصور المتضاربة الناجمة عن الإحصاءات المختلفة. ولكنه يتوصل إلى نتيجة مؤكدة ضد الهند من حيث نقص التغذية بالمقارنة بأفريقيا جنوب الصحراء.
٣٥  انظر البنك الدولي، تقرير التنمية في العام ١٩٩٣م، الجدول إيه٣، ويبين أن نسبة الوفيات تدهورت جدًّا مع انتشار مرض نقص المناعة (الإيدز).
٣٦  انظر: Svedberg, Poverty and Undernutrition (1997).
٣٧  انظر: Nevin Scrimshaw, The Lasting Damage of Early Malnutrition, in R. W. Fogel et al., Ending the Inheritance of Hunger (Rome: World Food Programme, 1997).
٣٨  ليس معنى هذا أن ننكر أن كلًّا من المعايير المُوحَّدة لسوء التغذية يسمح بقدر من الشك. ولكن المؤشرات القائمة على الصحة والحالة البدنية لها ميزات تفضلها على المقاييس التي تُعنى فقط ببحث المدخل من الغذاء، ومن الممكن كذلك الاستفادة من المعارف الطبية والوظيفية المتاحة لتحسين المعايير المستخدمة.
٣٩  انظر: سفيدبيرج: الفقر ونقص التغذية، وانظر أيضًا تقرير الأمم المتحدة عن التنمية «تقرير التنمية البشرية»، ١٩٩٥م.
٤٠  تعاني أفريقيا أيضًا من عبء أكبر كثيرًا من الديون الدولية والذي أصبح عبئًا مهولًا للغاية. وهناك أيضًا فارِق آخر أن البُلدان الأفريقية خضعت لفترات طويلة لنُظُم حكم ديكتاتورية أحيانًا بسبب الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفييتي. وتنافس كل منهما في تقديم المساندات للانقلابات العسكرية وغير ذلك من محاولات الهيمنة على أيدى حلفاء غير ديمقراطيين. وسوف نناقش في الفصلين ٦، ٧ عقوبات النظام الديكتاتوري في صورة فقدان القدرة على التعبير عن الرأي من جانب المُستضعفِين. والملاحَظ أن نُظُم الحكم الديكتاتورية شَجَّعت الميل إلى الاستدانة والوقوع فريسة لديون ضخمة للوفاء بأولويات الاحتياجات العسكرية وغيرها.
٤١  قدم تقرير الأمم المتحدة للتنمية منذ ١٩٩٠م بيانات مهمة وذات دلالة عن طبيعة الحرمان في أنحاء العالم المختلفة في تقاريره السنوية التي استهلها الدكتور محبوب الحق. واشتملت على مقترحات وعروض لبعض المقاييس التراكمية خاصة دليل التنمية البشرية (HDI) ودليل الفقر بين البشر (HPI) وبدأت هذه المؤشرات تستحوذ على قدر كبير من اهتمام الناس بالصور التفصيلية والتجريبية المتنوعة التي تعرضها الجداول وغيرها من عروض تجريبية. ولقد كان هدف برنامج الأمم المتحدة للتنمية هو جذب الاهتمام العام خاصة فيما يتعلق بمحاولته مكافَحة المبالَغة في التركيز على القياس البسيط لنصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي المستخدم في الغالب باعتباره المؤشِّر الوحيد والذي لا يلحظه العامة. وإن التصدي لإجمالي الناتج القومي يستلزم توفُّر مقياس آخَر أعم له المستوى نفسه. وأمكن الوفاء جزئيًّا بهذه الحاجة بفضل استخدام دليل التنمية البشرية، كما قدم برنامج الأمم المتحدة دليل الفقر بين البشر كمنافس للمقاييس المعيارية لفقر الدخل، وليس هدفي التشكيك في هذا التنافس في الاستخدام في إطار جذب الاهتمام العام، ولكن تظل الحقيقة الواقعة هي أن تقارير التنمية البشرية أغنى من حيث المعلومات عن التقارير التي تتوفر لنا عن طريق التركيز فقط على المؤشرات التراكمية مثل دليل التنمية البشرية أو دليل الفقر بين البشر.
٤٢  أمارتيا صن، «الفاقد النسائي»، ١٩٩٣م.
٤٣  انظر كتابي: Resources, Values and Development (1984); Barbara Harriss and E. Watson, The Sex Ratio in South Asia, in Geography of Gender in the Third World, edited by J. H. Momson and J. Townsend (London: Butler & Tanner, 1987); Jocelyn Kynch, How Many Women Are Enough? Sex Ratios and the Right to Life, Third World Affairs 1985 (London: Third World Foundation, 1985); Amartya Sen, Women’s Survival as a Development Problem, Bulletin of the American Academy of Arts and Sciences 43, number 2. (1989), pp. 14–29; Ansley Coale, Excess Female Mortality and the Balances of the Sexes in the Population: An Estimate of the Number of Missing Females Population and Development Review 17, number 3 (1991), pp. 517–13; Stephan Klasen, Missing Women Reconsidered, World Development 2.2 (1994).
٤٤  I. Waldron, The Role of Genetic and Biological Factors in Sex Differences in Mortality, in Sex Differences in Mortality, edited by A. D. Lopez and L. T. Ruzicka (Canberra: Department of Demography, Australian National University, 1983).
٤٥  انظر في هذا الشأن دراستي بعنوان «بقاء النساء كمشكلة تنموية» مجلة الأكاديمية الأمريكية العلوم، (نوفمبر ١٩٨٩م).
٤٦  انظر: Dreze and Sen, Hunger and Public Action (1989).
٤٧  انظر: Coale, Excess Female Mortality.
٤٨  Stephan Klasen, Missing Women Reconsidered, World Development 22 (1994).
٤٩  Chen, Huq, and D’Souza, Sex Bias in the Family Allocation of Food and Health Care in Rural Bangladesh (1981), p. 7; Sen, Commodities and Capabilities (1985), appendix B, and the empirical literature cited there (also Coale, Excess Female Mortality, 1991).
٥٠  انظر بوجه خاص: Atkinson, Social Justice and Public Policy, (1983).
٥١  Harry Frankfurt, Equality as a Moral Ideal, Ethics 98 (1987).
٥٢  ناقشت أوجهًا مختلفة لهذا التمايز في: «من عدم المساواة في الدخل إلى عدم المساواة الاقتصادية».
٥٣  انظر في هذا دراستي: The Welfare Basis of Real Income Comparisons, Journal of Economic Literature 17 (1979).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤