الفصل السابع

المجاعات والأزمات الأخرى

نحن نعيش في عالَم يسوده، على نطاق واسع، الجوع ونقص التغذية والمَجاعات المتكررة. وكثيرًا ما يقال — وإن ضمنًا — أن ليس باستطاعتنا الكثير الذي نعمله لمعالَجة هذه الأوضاع المُوئِسة. وهناك من لا يكفُّون عن تكرار القول إن هذه الأمراض يمكن أن تسوء وتتفاقم أكثر على المدى الطويل، خصوصًا مع زيادة النمو السكاني في العالم. وتنعكس حالة من التشاؤم الصامتة في ردود الأفعال الدولية إزاء مَظاهر البؤس هذه في عالَم اليوم. وإن الافتقار إلى الحرية، على نحو ما هو واضح في مُعالَجة الجوع، يمكن أن يُؤدِّي ذاته إلى نزعة من القدرية وانعدام أي محاولات جادَّة لعلاج حالات البؤس التي نشاهدها.

ولكن لا يوجد أساس قوي واقعي يُبرِّر مثل هذا التشاؤم، كما لا يوجد أي سبب قوي مُقنِع لافتراض أبدية الجوع والحرمان. إن السياسات والإجراءات الملائمة يُمكِنُها في الحقيقة أن تستأصل شأفة مشكلات الجوع المُروِّعة في العالَم الحديث. وأعتقد أن بالإمكان، استنادًا إلى التحليلات الأحدث الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، تحديد الإجراءات الكفيلة بالقضاء على المجاعات وخَفْض حالات نقص الأغذية المزمنة خفضًا كبيرًا. وإن الشيء المهم في وقتنا هذا هو وضع سياسات وبرامج مبنية على الدروس المستفادة من البحوث التحليلية والدراسات التجريبية.١

وهذا الفصل معنيٌّ تحديدًا بالمجاعات وغيرها من أزمات عابرة يمكن أن تتضمن حالات جوع واضحة، وإن تضمنت فجأة حالة من الحرمان شديد القسوة لقطاع كبير من السكان (مثل الأزمات الأخيرة في شرق وجنوب آسيا)؛ إذ يَتعيَّن أن نُميِّز بين المجاعات والأزمات التي من هذا النوع، وبين مشكلات الجوع والفقر المُتوطِّنَين والتي يمكن أن تُفضي إلى معاناة مُطَّرِدة، ولكنها لا تَتضمَّن حدوث أي انفجار جديد لحالة من الحرمان المُفرِط الذي يصيب فجأة قطاعًا من السكان. إننا حتى حين نحلل حالة نقص الغذاء المتوطنة والحرمان المُطَّرد على مدًى طويل في دراستنا هذه (خاصة الفصل التاسع)؛ فإننا سوف نعتمد على بعض المفاهيم التي توفرها لنا دراسة المجاعات (في هذا الفصل).

إننا لكي نقضي على الجوع في العالم الحديث، يتعيَّن بشكل حاسم فَهْم أسباب حدوث المَجاعات ضمن إطار تفكير عامٍّ وملائم، وليس فقط في ضوء توازن ميكانيكي بين الغذاء والسكان. والشيء الحاسم في تحليل الجوع هو الحرية الموضوعية للفرد وللأسرة لتأكيد ملكيتهم لكمية كافية من الغذاء، وهو ما يتحقق سواء عن طريق أن يزرع المرء غذاءه بنفسه (كما يفعل المزارِعون)، أو عن طريق شرائه من السوق. وقد يحدث أن يتضور المرء جوعًا رغمًا عنه بسبب فَقْده للدخل (بسبب البطالة مثلًا أو انهيار سوق السِّلع التي ينتجها ويبيعها لكسب الرزق). ولكن نجد من ناحية أخرى أنه حتى مع الانخفاض الحادِّ في إمدادات بلد أو قُطر ما بحاجته من الغذاء؛ فإن باستطاعة كل فرد أن ينقذ نفسه من الموت جوعًا عن طريق أسلوب أفضل في اقتسام المتاح من الغذاء (عن طريق خَلْق وظائف إضافية ودخل إضافي لمن يحتمل أن يكونوا ضحايا المجاعة). ويمكن استكمال هذا النهج ليكون أكثر كفاءة عن طريق استيراد الغذاء من الخارج. ولكن أمكن الحيلولة دون وقوع مجاعات كثيرة وشيكة من دون الاستيراد؛ الاكتفاء بالاقتسام المتعادِل للكميات المنخفِضة من إمدادات الغذاء المحلية. وحَرِي أن ينصب الاهتمام على القدرة الاقتصادية والحُرِّية الموضوعية للأُسَر وللأفراد لشراء ما يكفيهم من غذاء دون الاكتفاء بالتركيز فقط على كمية الغذاء في البلد المعني.

وتبرز هنا الحاجة إلى عمل تحليل سياسي واقتصادي علاوة على إنجاز فَهْم أكثر شمولًا واكتمالًا للأزمات والكوارث الأخرى غير المجاعات. وخير مثال هو نوع الأزمة التي عانت منها أخيرًا بعضُ بلدان شرق وجنوب شرق آسيا؛ إذ نلاحظ في هذه الأزمات، مثلما في المجاعات، أن بعض قطاعات السكان خسروا أنصبتهم الاقتصادية فجأة على غير توقُّع. ونجد أن سرعة وشدة الحرمان في هذه الأزمات، «وعدم توقع حدوث كارثة» تختلف جميعها عن ظاهرة الفقر العامة المتواترة، مثلما تختلف المجاعات عن الجوع المتوطن.

الاستحقاق والتكافل

لا يرتبط الجوع فقط بإنتاج الطعام والتوسع الزراعي، بل، ويرتبط كذلك بالأداء الوظيفي للاقتصاد في مجموعه، وكذلك — وعلى نحو أعم — بإدارة وتفعيل التنظيمات السياسية والاجتماعية التي يُمكنُها على نحو مباشر وغير مباشر أن تُؤثِّر في قدرة الناس على تحصيل الغذاء وتحقيق حاجتهم من الصحة والتغذية. علاوة على هذا فإن بالإمكان إنجاز الكثير من خلال سياسة حكومية مقبولة ومعقولة. ولكن من الأهمية بمكان تكامُل دور الحكومة مع الأداء الوظيفي الكفء للمؤسَّسات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، ويتفاوت هذا بين التجارة والأسواق إلى الأداء الوظيفي النَّشط للأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية والمؤسَّسات التي تُدعِّم وتُيسِّر المناقشات العامة المبنية على المعلومات، بما في ذلك الإعلام النشط بكل وسائله.

إن نقص التغذية والجوع والمجاعات تتأثَّر بعمل وأداء الاقتصاد والمجتمع في صورتهما الكاملة، وليس فقط بإنتاج الغذاء والأنشطة الزراعية. ومن المهم بشكل حاسم أن نَعِي بشكل كامل مَظاهر التكافل والاعتماد المُتبادَل بين المجالين الاقتصادي والاجتماعي اللذين يَحكُمان إمكان حدوث جوع في عالمنا المعاصر. وغَنِي عن البيان أن الغذاء لا يجري توزيعه في الاقتصاد عن طريق الصدقات أو عن طريق نظام للمُشارَكة الميكانيكية. وإنما يَتعيَّن اكتساب القدرة على تحصيل الرزق والغذاء. ومن ثَمَّ فإن ما يجب أن نُركِّز عليه ليس جملة العَرض من الغذاء في إطار الاقتصاد. بل «الاستحقاق» أو النصيب الذي يَتمتَّع به كل شخص، السلع التي يمكن أن يُؤسِّس عليها ملكيته، وله أن يأمُر ويَتحكَّم فيها. إن الناس يعانون الجوع عندما يعجزون عن تأكيد استحقاقهم لملكية كافية من الغذاء.٢

ولكن ما الذي يحدد استحقاق الأسرة؟ الأمر رهن مُؤثِّرات مختلفة ومتمايزة. أولًا: هناك الهِبَة التي تُوفِّر مصدرًا للدخل: أي ملكية موارد إنتاجية وثروة تَفرِض لنفسها سِعرًا داخل السوق. وتُمثِّل قوة العمل الهِبة الوحيدة ومصدر الدخل الوحيد الأهم للغالبية العظمى من الناس. والمعروف أن غالبية شعوب العالم لديها مورد آخَر قليل غير قوة العمل، والذي يمكن أن يجمع بينه وبين قدر مُتفاوَت من المهارة والخبرة. ولكن يمكن القول بوجه عام إن قوة العمل والأرض وغيرهما من مَوارد تُؤلِّف معًا سَلَّة الأرصدة المملوكة.

ثانيًا: هناك مُؤثِّر مُهِم يتألَّف من إمكانات الإنتاج واستخدامها، وهذا هو مصدر التكنولوجيا؛ إذ تحدد التكنولوجيا المتاحة إمكانات الإنتاج التي تَتأثَّر بالمعرفة المتاحة، وكذا بقدرة الناس على تنظيم تلك المَعارف والإفادة بها عمليًّا.

ويستلزم توليد الاستحقاقات الاستخدام المباشر للهبة الطبيعية الموجودة في صورة أرضٍ أو عملٍ لإنتاج الغذاء — كما هي الحال في الزراعة — أو بدلًا عن ذلك، يمكن لأسرة أو لفرد أن يكتسبوا القدرة على شراء الغذاء عن طريق الحصول على دَخْل في صورة أَجْر. ويتوقف هذا على فُرَص العمالة ومُعدَّلات الأجور السائدة. ويعتمد هذا بدوره على إمكانات الإنتاج، في الزراعة وفي الصناعة وفي الأنشطة الأخرى. والمعروف أن غالبية الناس في العالَم لا ينتجون مُباشرة الغذاء، بل يَكتسبون قُدرتَهم على توفير الغذاء بفضل الحصول على عمل لإنتاج سلع أخرى، الأمر الذي يَتبايَن من إنتاج محاصيل تجارية إلى مُنتجَات حرفية أو سلع صناعية أو خدمات متنوعة، وجميعها تنطوي على مهنٍ جدُّ مُتبايِنَة. ويمكن لمَظاهر التكافل هذه أن تكون محور دراسة تحليل المجاعات بما أن أعدادًا كبيرة من الناس يمكن أن يَخسروا القدرة على التَّحكُّم في غذائهم بسبب مشكلات تتعلق بإنتاج سلع أخرى غير الغذاء.

ثالثًا: يعتمد الكثير جدًّا على شروط التبادل. القدرة على بيع وشراء السلع، وتحديد الأسعار النسبية للمنتجات المختلفة (مثال: المنتجات الحرفية مقابل السلع الغذائية). ومع إدراكنا للأهمية المحورية، بل الفريدة — في الحقيقة — لقُوَّة العمل كَهِبَة طبيعية للغالبية العظمى من الناس يصبح ضروريًّا بشكل حاسم أن نُركِّز اهتمامنا على تشغيل أسواق العمل. هل يجد الباحث عن وظيفة عملًا وفقًا للأجور السائدة؟ كذلك هل يستطيع الحرفي والعاملون من أَجْل توفير الخدمات أن يدبروا أَمْرَهم لبيع ما يحاولون بيعه؟ وما هي الأسعار النسبية لذلك «مقارنًا بسعر الغذاء في السوق».

إن ظروف التبادُل هذه يمكن أن تتغير جذريًّا مع حدوث طارئ اقتصادي يَقودُنا إلى حيث نُواجِه خَطَر حدوث مجاعة. ويمكن لهذه التَّحوُّلات أن تقع بسرعة شديدة نتيجة عوامل مُؤثِّرة متباينة؛ إذ حدثت مجاعات مقترنة بِتحوُّلات حادَّة في الأسعار النسبية للمنتجات، «أو مُعدَّلات الأجور مقابل أسعار الغذاء»، وذلك لأسباب شديدة التبايُن؛ مثل الجفاف، أو الفيضانات، أو نقص في العمالة، أو حتى بسبب انتعاش غير متكافئ يرفع دَخْل البعض دون الآخَرِين، بل وبسبب هَلَع مُبالَغ فيه من احتمال نقص في الغذاء يَدفَع بأسعار الغذاء مؤقتًا إلى الارتفاع ويثير حالة من الفوضى أو الدمار.٣
والملاحظ في الأزمات الاقتصادية أن بعض الخدمات تضار بشدة أكثر من غيرها. مثال ذلك ما حدث في مجاعة البنغال عام ١٩٤٣م؛ إذ تَغيَّرت جذريًّا مُعدَّلات التبادُل بين الغذاء وأنماط مُحدَّدة من المنتجات. وعلاوة على نسبة الأجر إلى سعر الغذاء حدثت تَغيُّرات كبيرة في الأسعار النسبية للسَّمك مُقابل الحبوب، ولذلك كان الصيادون في البِنغَال من بين أسوأ الجماعات المهنية تضررًا في مجاعة ١٩٤٣م. وطبيعي أن السمك غذاء أيضًا، ولكنه غذاء عالي الجودة، وكان على الصيادين بَيْع صيدهم حتى يستطيعوا شراء سعرات حرارية أرخص في صورة أغذية رئيسية (وهي الأرز أساسًا في بلد مثل البنغال)، حتى تتوافر لهم السعرات الحرارية اللازمة للبقاء على قيد الحياة. وحفظ هذا التبادل حالة التوازن من أجل البقاء، ولكن الانهيار المفاجئ للأسعار النسبية للأسماك مقابل الأرز من شأنه أن يدمر هذا التوازن.٤
وهناك مهن أخرى كثيرة مهيأة للتأثر بحدة بهذه التحولات في الأسعار النسبية، وفي عمليات البيع. ولنتأمل حالة مهنة مثل قص الشَّعْر: إن الحلاقين أُوذُوا بسبب مجموعتين من المشكلات خلال فترة الأزمة الاقتصادية: (١) في ظروف المحنة يرى الناس أن من السهل عليهم إرجاء قص شعورهم، وبهذا يمكن أن ينخفض بحدة الطلب على منتج الحلاق، (٢) تعلو قمة هذا الانخفاض في «الكمية» انخفاض آخَر حاد في السِّعر النسبي لقص الشعر؛ إذ خلال مجاعة البنغال عام ١٩٤٣م انخفض مُعدَّل التبادُل بين قصِّ الشعر والسلع الغذائية في بعض المقاطعات إلى ٧٠ أو ٨٠ في المائة. وهكذا أصبح الحلاقون — الفقراء أصلًا — في وضع حَرِج شأن جماعات مهنية أخرى، وحدَث كل هذا نتيجة انخفاض إجمالي بسيط في المنتَج من الأغذية أو في إجمالي العرض. وهكذا نجد أن اقتران قوة شرائية أكبر لدى سكان المدن (الذين استفادوا من انتعاشة فترة الحرب)، وسَحْب الغذاء من الأسواق للمُضارَبة بشكل مخيف، ساعد على إحداث مَجاعة عن طريق تَغيُّر حادٍّ في عمليات التوزيع. إنَّ فَهْم أسباب الجوع والمَجاعة يستلزم دراسة تحليلية لمُجمل الآلية الاقتصادية، وليس فقط حساب المُنتَج والمعروض الغذائي.٥

أسباب المجاعة

الفشل في تنظيم الاستحقاقات، والمُؤدِّي إلى حدوث مَجاعات، يمكن أن ينشأ عن أسباب متباينة. ويَتعيَّن أن نضع في الحسبان هذا التباين في الأسباب المُتقدِّمة على الحدث عند محاولة علاج المجاعات، بل ومنع وقوعها. وتعكس المجاعات حالة أزمة مشتركة، وإن لم تعكس بالضرورة أسبابًا مشتركة.

والمُلاحظ بالنسبة إلى مَن لا ينتجون غذاءهم بأنفسهم (مثل العمَّال الصناعيين أو عُمَّال الخدمات) أو إلى مَن لا يملكون الغذاء الذي يُنتِجونه (مثل العمال الزراعيين الأُجَراء) أن قدرتهم على تحصيل غذائهم من السوق رَهْن بما يتكسبونه، وأسعار الغذاء السائدة، وما يحتاجون إليه من نَفقات ضرورية في غير مجال الغذاء. وتَعتَمد قُدرتُهم على تَوفير الغذاء على الوضع الاقتصادي: العمالة، ونِسَب الأجور للعمال الأُجَراء، وإنتاج السلع الأخرى وأسعارها بالنسبة إلى الحرفيين وعمال الخدمات وغيرهم.

وأكثر من هذا، حتى بالنسبة إلى مَن يُنتِجون غذاءهم بأنفسهم، وعلى الرغم من أن استحقاقهم رهن بمنتجهم الفردي من الغذاء، فإنه لا توجد اعتمادية مُماثِلة على المُنتج القومي من الغذاء، الذي تُركِّز عليه دائمًا دراساتٌ كثيرة عن المجاعات. ويحدث أحيانًا، كذلك، أن بعض الناس يضطرون إلى بيع أغذية باهظة الثمن — من مثل المنتجات الحيوانية — لشراء سعرات حرارية أرخص من الحبوب الغذائية على نحو ما يفعل فقراء الرُّعاة في الغالب، وهذا ما يحدث على سبيل المثال بالنسبة إلى البدو في منطقة الساحل وفي القرن الأفريقي؛ حيث يعيشون على تربية الحيوانات. وجَدير بالملاحظة أن الاعتمادية المتبادَلة بين الرعاة الأفارقة؛ إذ يضطرون إلى بيع المنتجات الحيوانية بما في ذلك اللحوم لشراء سعرات حرارية رخيصة من السلع الغذائية، أمر يُشبِه ما حدث بالنسبة إلى الصَّيَّادين في البنغال، كما سبق أن أشَرْنا إليهم؛ لاضطرارهم إلى بيع السمك لشراء سعرات حرارية رخيصة من الأرز. وطبيعي أن هذا التَّوازُن التبادلي الهش يمكن أن تُحطِّمَه تحولات في مُعدَّلات التبادُل. إن هبوط أسعار المُنتجات الحيوانية مُقابِل الحبوب الغذائية يمكن أن يُحدِث كارثة تحبط الرعاة. وحدث أن بعض المجاعات في أفريقيا التي أصابت بقوة، من بين مَن أصابتهم الرعاة اشتملَت على عَملِيَّة من هذا النوع. ويمكن أن يُؤدِّي الجفاف إلى انخفاض في السِّعر النسبي للمنتجات الحيوانية، بما في ذلك اللحوم مقابل الأغذية الرخيصة تقليديًّا؛ حيث إن الناس غالبًا ما يُغَيِّرون نمط استهلاكهم إزاء الأغذية باهظة الثمن (مثل اللحوم)، والسلع غير الضرورية (مثل المصنوعات الجلدية)، وذلك حين تُلِم بهم نكبة اقتصادية. وإن هذا التَّغيُّر النسبي في الأسعار قد يجعل من المستحيل على الرُّعاة شراء السلع الغذائية اللازمة لهم للبقاء.٦

ويمكن أن تحدث المجاعات أيضًا دون حدوث أي انخفاض في إنتاج أو توافُر الغذاء. إن العامل يمكن أن يَتدهور وضعه إلى حدِّ الموت جوعًا بسبب التعطل، علاوة على عدم وجود نظام لشبكات الأمن الاجتماعي (مثل التأمين ضد البطالة). ويمكن أن يحدث هذا بسهولة، بل ويمكن في الحقيقة أن تقع مَجاعة ضخمة حقيقية على الرغم من عدم حدوث نقص كبير في مستوى الغذاء المتاح في الاقتصاد ككل.

ومن أمثلة المجاعات على الرغم من ذروة توافر الغذاء، مجاعة بنجلاديش عام ١٩٧٤م.٧ فقد وقعت خلال عام توافَر فيه الغذاء بنسبة أكبر من حيث نصيب الفرد قياسًا بأي سنة أخرى فيما بين ١٩٧١م و١٩٧٦م (انظر الشكل ٧-١). وبدأت المجاعة بحدوث بطالة إقليمية بسبب الفيضانات التي أثرت في إنتاج الغذاء على مدى شهور طويلة بعد ذلك عندما جرى حصاد المحاصيل (حوالي ديسمبر أساسًا). ولكن المجاعة حدَثَت قبل ذلك، وبَلغَت ذروتها قبل جَنْي الحصاد الذي أُضِير. لقد أدَّت الفيضانات إلى حرمان مُباشر من دخل العمال الفلاحين في صيف ١٩٧٤م. خَسِروا أجورهم التي كانوا سيكسبونها من زرع شتلات الأرز وغير ذلك من أنشطة وثيقة الصلة، وهو ما كان سوف يهيئ لهم سُبُل الحصول على الغذاء. وأعقبَتْ حالةَ الذُّعر والمجاعة المحلية انتشارُ حالةٍ من الجوع واسعة النطاق وضخَّمَتها حالة القلق التي أصابت سوق الأغذية والارتفاع الشديد في أسعار الأغذية نتيجة توقُّع مُبالَغ فيه بمستقبل يعاني نقصًا من الغذاء. بالَغ الناس في تقديرهم للعجز المتوقَّع مستقبلًا وناوروا وتلاعَبوا إلى حد ما. وأعقب ارتفاعَ الأسعار انخفاضٌ بعد ذلك أدَّى إلى تصحيح الأسعار.٨ ولكنْ إلى أن حدَث هذا كانت المجاعة قد حمَّلت الناس خسارة فادحة.
fig8
شكل ٧-١: توافُر الغذاء في بنغلاديش ١٩٧١–١٩٧٥م. (المصدر: أمارتيا صن، «الفقر والمجاعات» (أكسفورد، أكسفورد يونيفرستي برس، ١٩٨١م).)
وجدير بالملاحظة أنه حتى إذا ما اقترنت المجاعة بانخفاض حادٍّ في إنتاج الغذاء (كما هو واضح في حالة المجاعة في الصين ما بين عامي ١٩٥٨–١٩٦١م، أو المجاعات في أيرلندا في أربعينيات القرن اﻟ ١٩)؛٩ فإنه يتعين علينا تجاوُز إحصاءات المُنْتَج لتفسير لماذا اكتسَحَت المجاعة هذه القطاعات تحديدًا من السكان دون غيرها. والمعروف أن المجاعات تبقى عن طريق «فَرِّقْ تَسُد». مثال ذلك أن جماعة من الفَلَّاحين يمكن أن يعانوا خسارتهم لمُستحقَّاتهم عندما ينخفض المنتَج الغذائي في أرضهم، ربما بسبب جفاف محلي، على الرغم من عدم وجود مَجاعة في البلاد. ويُلاحَظ أن الضحايا يفتقرون إلى الوسائل اللازمة لشراء غذائهم من أي مكان آخر، ما داموا قد فقدوا كل ما لديهم لبيعه واكتساب دخل بسبب خسارتهم لإنتاجهم. ولكنَّ آخَرِين وَفَّرَت لهم مهنهم قدرًا أكبر من المكتسبات الآمنة ربما نراهم قادرين على أن يحيوا حياة ميسورة عن طريق شرائهم لحاجاتهم من الغذاء من أماكن أخرى. وحدث شيء كهذا تمامًا في مجاعة ووللو Wollo في إثيوبيا عام ١٩٧٣م؛ حيث كان الفقراء من سكان مقاطعة ووللو عاجزين عن شراء غذائهم على الرغم من أن أسعار الغذاء في ديسي عاصمة ووللو ليست مرتفعة عن أسعارها في أديس أبابا أو أسمرة. حقًّا كان هناك دليل على تَسرُّب بعض الغذاء من ووللو إلى المناطق الأكثر رخاء في إثيوبيا حيث السكان لديهم دخل أكبر ومن ثم يستطيعون شراء الغذاء، أو حسب ما يقع في حالة من نوع آخر، يمكن أن ترتفع أسعار الغذاء ارتفاعًا صاروخيًّا؛ تبعًا لزيادة القدرة الشرائية لبعض الجماعات المهنية، ونتيجة لذلك يضار آخرون ممن يُضْطرُّون إلى شراء غذائهم وتَكاد تنهار قُدرتُهم الشرائية. ويمكن أن تحدث مثل هذه المجاعة دون حدوث أي انخفاض في المنتَج الغذائي، وإنما نتجت عن زيادة في الطلب التنافسي، وليس نتيجة انخفاض إجمالي العرض. وهذا هو السبب الذي انطلقت منه المجاعة في البنغال عام ١٩٤٣م، حين استفاد سكان الحضر من «انتعاشة الحرب»، الجيش الياباني في وضع حرج، ونفقات الدفاع البريطانية والهندية ضخمة جدًّا في مدن البنغال بما في ذلك كالكوتا.١٠ وما إن بدأت أسعار الأرز في الارتفاع الحادِّ حتى سادت حالة من الذُّعر العام مع المُضاربة للتَّربُّح مما أدَّى إلى دفع الأسعار وارتفاعها إلى عنان السماء، بحيث تَجاوَزت قدرة قطاع كبير من سكان ريف البنغال. واستأثر الشيطان بمن هم في ذَيْل الرَّكْب.١١

ومثال لحالة ثالثة من نوع آخر، يحدث أحيانًا أن يكتشف بعض العمال أن «مهنتهم إلى زوال» مع حدوث تحولات في الاقتصاد وتَحوُّل أنماط، ومواقع الأنشطة التي تُدِر عليهم ربحًا. حدث هذا على سبيل المثال في أفريقيا جنوب الصحراء مع تَغيُّر الظروف البيئية والمناخية. كان بالإمكان في السابق أن يبقى العمال الإنتاجيون من دون عمل أو من دون إيراد، ولا مخرج أمامهم خاصة مع انعدام نظم الضمان الاجتماعي.

ومن الممكن، في بعض الحالات، أن يكون التعطل من عمل مربح ظاهرة دقيقة مُقترِنة بآثار شديدة الوطأة تَستهِل مرحلة مجاعة. مثال ذلك ما حدث في مجاعة بنجلاديش عام ١٩٧٤م؛ إذ كانت بوادر المحنة بين عُمَّال الريف المُعدَمين عقب فيضانات الصيف التي قَضَت على تشغيل عُمَّال لغرس شتَلات الأرز. واضطر هؤلاء العمال الذين لا يملكون سوى قوت يومهم إلى أن يَتضوَّروا جوعًا نتيجة فقدان العمل المأجور. ووقعَت هذه الكارثة قبل موعد حصاد المحاصيل التي أُضِيرت بوقت طويل.١٢
إن المَجاعات ظواهر تُثير الخلاف إلى حد كبير، ومن ثَمَّ فإن مُحاوَلات فهمها في ضَوء مُتوسِّط نصيب الفرد من الغذاء المتاح هي أساليب مُضلِّلة. ونادرًا ما نرى مَجاعة أَضرَّت بأكثر من ٥ أو ١٠ في المائة من السكان. ونحن على يقين من وجود حسابات مزعومة تدعي أن المجاعة أحاقت بالجميع وأضحى كل امرئ في البلاد يَتضوَّر جوعًا. بَيْدَ أنَّ هذه الأقاصيص لا تَحتَمِل أي نظرة فاحصة مُدقِّقة. أذكر على سبيل المثال ما روته الإنسكلوبيديا البريطانية، وهي مرجع له قدره واحترامه؛ إذ ذَكرَت في طبعتها الحادية عشرة القديمة في معرض حديثها عن المجاعة في الهند خلال الأعوام ١٣٤٤-١٣٤٥م. ووصفَتْها بأنها أدَّت إلى أن «إمبراطور المغول عجز عن الحصول على ضروريات بيته».١٣ بَيْدَ أنَّ هذه قصة تصطدم بالعديد من المشكلات. وكم هو مُحزِن أن نُقرِّر أن إمبراطورية المغول لم تكن أُسست في الهند حتى عام ١٥٢٦م. ولعل ما هو أهم أن الإمبراطور طغلق (محمد بن طغلق) حين كان في السلطة في العامين ١٣٤٤-١٣٤٥م لم يُواجِه صعوبات كبيرة لتأمين حاجات منزله، بل أكثر من هذا أن توافَرَت له وسائل كثيرة لتنظيم برنامج من أفضل البرامج في التاريخ للإغاثة من المجاعة.١٤ وهكذا يتبين أن القصص التي تُحكَى عن مجاعة تُوحِّد بين الناس لا تتطابق مع حقيقة تَفاوُت الحظوظ.

اتقاء المجاعات

حيث إن المجاعات مُقترِنة بفقدان جماعة مِهَنية أو أكثر لاستحقاقاتها في أقاليم بذاتها، فإن حالة الجوع الناجمة يمكن اتقاؤها بالعمل على نحو مَنهجي مُنْتَظم على إعادة خلق حد أدنى لمستوى الدخل والاستحقاقات للمُضارِين بالتغيرات الاقتصادية. وإن الأعداد التي شَمِلَها الحدث، وهي غالبًا كبيرة العدد، إنما تُمثِّل عادة قطاعات صغيرة من إجمالي السُّكان؛ لذلك فإن الحد الأدنى لمستويات القوة الشرائية اللازم لتَجنُّب المجاعة يمكن أن يكون ضئيلًا. معنى هذا أن كلفة مثل هذا الإجراء العام لاتقاء المجاعة ستكون عمليًّا متواضعة حتى بالنسبة إلى البلدان الفقيرة شريطة الالتزام بإجراءات وتنظيمات منتظمة وفعَّالة في الوقت المناسب.

إننا لكي نُكوِّن فكرة عن الأحجام المَعنِيَّة نفترض الآتي: إذا كان من المُحتمَل أن يُمثِّل العدد المُحتَمل من ضحايا المجاعة ١٠ في المائة، كمثال، من إجمالي عدد سُكَّان البلد (والمجاعة عادة تُصِيب نسبة أقل من ذلك كثيرًا). فإن حصة هؤلاء الفقراء من إجمالي الدَّخْل لن تزيد، فرضًا، في الظروف العادية على ٣ في المائة من إجمالي الناتج القومي. كذلك فإن حِصَّتهم العادية من استهلاك الغذاء ربما لا تزيد على ٤ أو ٥ في المائة من الاستهلاك القومي للغذاء. معنى هذا أن الموارد اللازمة لإعادة توليد دخل كامل لهم، أو لإعادة إمدادهم بحِصَّتهم العادية من استهلاك الغذاء، ابتداء من الصفر، لن تكون كبيرة جدًّا شريطة التنظيم الكفء للإجراءات الوقائية. وطبيعي أن ضحايا المَجاعة لديهم دائمًا بعض الموارد المتبقية (مما يعني أن استحقاقاتهم لن يُعاد تكوينها من الصفر). ومن ثَمَّ صافي المُتطلِّبات من الموارد يمكن أن يكون أقل من ذلك.

كذلك فإن قدرًا كبيرًا من الآثار المعنوية المقترنة بالمجاعات ناجِم عن الأمراض التي تَستَشْرِي بسبب حالات الوَهَن والضعف، وبسبب انهيار التنظيمات الصحية، وتَحرُّكات السكان، وانتشار الأمراض المُعْدية المتوطنة في المنطقة.١٥ هذه أيضًا أمور يمكن الحد منها عن طريق إجراء عام معقول، بما في ذلك السيطرة على العدوى واتخاذ تدابير صحية شاملة. وهنا في هذا المجال أيضًا قد يفيد كثيرًا جدًّا العائد من الإنفاق العام إذا ما أَحسَنَّا التخطيط له.

واتقاء المجاعات يَعتمد اعتمادًا كبيرًا على الترتيبات السياسية لحماية الاستحقاقات. وتُوَفِّر البلدان الغنية هذه الحماية عن طريق برامج ضد الفقر، وكذا التأمين ضد البطالة. ولكن غالبية البلدان النامية ليست لديها أي منظومة عامَّة للتأمين ضد البطالة. غير أن بعضها يُوفِّر بالفعل نظامًا عامًّا لعمالة الطوارئ لتطبيقه عند حدوث حالات تَعطُّل عن العمل واسعة النطاق بسبب كوارث طبيعية أو غير طبيعية. ويمكن للإنفاق الحكومي التعويضي لخلق عمالة أن يساعد على نحو فعال جدًّا لتفادي حدوث مجاعة وشيكة. وهذه هي السبيل في الحقيقة التي أمكن بها اتقاء مجاعات مُحتمَلة في الهند منذ بداية الاستقلال. ويعتمد هذا الأسلوب أساسًا على خلق عمالة مقابلة. مثال ذلك أنه في عام ١٩٧٣م عَمدَت حكومة الهند إلى تَعويض البطالة المُقتَرِنة بشيوع حالة من الجَفاف الحادِّ في ماهارا شترا إلى خَلق خمسة ملايين وظيفة مُؤقَّتة. ويُمثِّل هذا العدد في واقعه قدرًا كبيرًا جدًّا (خاصة إذا حَسبنا أيضًا عددَ أفراد أُسَر العمال). وكانت النتيجة مُثيرة وغير مُتوقَّعة؛ لم تحدث أي زيادة واضحة في الوفيات على الإطلاق، بل ولم يحدث أي تَدهْور واضح في عدد المصابين بنقص غذائي، هذا على الرغم من الهبوط الحادِّ (الذي بلغ في مناطق كثيرة ٧٠ في المائة أو أكثر) في إنتاج الغذاء على نطاق واسع في الإقليم.

المجاعة والاغتراب

الاقتصاد السياسي عن أسباب المجاعات واتقائها؛ يَتضمَّن إنشاء مُؤسَّسات وتنظيمات، ولكنه علاوة على هذا يعتمد على إدراك وفَهْم مُصاحِبَين لممارَسة القوة والسُّلطة. ويعتمد بوجه خاص على اغتراب أو عُزْلة الحكام عن المحكومين. وحتى إن بدا أن السبب المباشر لمَجاعة ما مختلف تمامًا عن هذا؛ فإن المسافة الاجتماعية أو السياسية بين الحكام والمحكومين يمكن أن يكون لها دور حاسم في عدم اتقاء المجاعة.

ومن المفيد في هذا السياق أن نتدبر مجاعات الأربعينيات من القرن ١٩ التي اجتاحت أيرلندا منذ حوالي ١٥٠ عامًا مضت وأودت بحياة نسبة كبيرة من السكان تفوق نسبة القتلى في أي مجاعة أخرى عرفها التاريخ المكتوب.١٦ وغيرت المجاعة أيضًا طبيعة أيرلندا بطريقة حاسمة؛ إذ أدت إلى مستوى من الهجرة — حتى في ظل أقسي ظروف السفر — لم نشهد له مثيلًا في أي مكان آخر في العالم.١٧ ولا يزال تعداد سكان أيرلندا حتى يومنا هذا أصغر كثيرًا عمَّا كانوا عليه عام ١٨٤٥م، وقتما بدأت المجاعة.

ما سبب هذه الكارثة إذن؟ في رواية «الإنسان والسوبرمان» من تأليف برنارد شو نقرأ أن السيد مالون، وهو أمريكي ثري من أصل أيرلندي يرفض وصف مجاعات أيرلندا، التي حدثت في أربعينيات القرن ال ١٩، بأنها «مجاعة». ويقول لزوجة ابنه وتدعى فيوليت، إن أباه «مات من الجوع في طاعون ٤٧». وعندما تقول فيوليت متسائلة «المجاعة؟» يجيب مالون قائلًا: «لا، الجوع. عندما يكون بلد ما مليئًا بالغذاء ويُصدِّره لا يمكن أن تكون هناك مجاعة.»

ثمة أشياء عديدة خاطئة في عبارة مالون الشائكة. إن الشيء الصحيح يقينًا أن الغذاء كان يجري تصديره من أيرلندا الجائعة إلى إنجلترا المُستمتِعة بالرخاء. ولكن ليس صحيحًا أن أيرلندا كانت مليئة بالغذاء (الحقيقة أن تَلازُم وجود الجوع مع تصدير الغذاء ظاهرة شائعة في مجاعات كثيرة). كذلك إذا أخذنا كلمتي «جوع» أو «يتضور جوعًا، أو يموت جوعًا» بمعناهما القديم المستخدم سابقًا — وأصبح لغة ميتة الآن — ويعني أن يقضي الناس حياتهم من دون غذاء، ممَّا يُودِي تحديدًا بحياتهم جوعًا، فإن من العسير أن ننكر أنه قد أصابت أيرلندا مجاعة بالفعل آنذاك حسب المفهوم من الكلمات.

ولكن مالون كان يشير إلى نقطة أخرى أكثر عمقًا على نحو ما تسمح به اللغة؛ إذ تتعلق القضية المحورية بدور الفعالية البشرية كسبب في حدوث ودوام المجاعات؛ إذ لو كانت المجاعات الأيرلندية حدثًا كان في الإمكان اتقاؤه تمامًا، وإذا كان تحديدًا من يتصدرون السلطة عملوا على منعها، فإن الاتهام بترك «الأيرلندي» يموت جوعًا اتهام يكشف عن ذكاء. إن إصبع الاتهام لا يمكن إلا أن يشير هنا إلى دور السياسة العامة وقُدْرَتها على مَنْع أو عدم منع حدوث المجاعات، كما يشير إلى المؤثرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تحدد طبيعة السياسة العامة. وإن قضايا السياسة المطلوبةُ دراستها تتعلق بأفعال خاصة بالإهمال وأخرى خاصة بالتصدي للمسئولية. وحيث إن المجاعات اطَّرد حدوثُها في بلدان مختلفة حتى في ظل عالمنا الحديث الذي يشهد رخاءً شاملًا غير مسبوق، فإن المسائل المتعلقة بالسياسات العامة ومدى فعاليتها تظل وثيقة الصلة بموضوعنا اليوم مثلما كانت منذ ١٥٠ سنة مضت.

إذا اتجهنا بأنظارنا أولًا إلى الأسباب الأكثر مباشرة للمجاعات في أيرلندا، نلحظ بوضوح في هذه الحالة انخفاضًا في منتَج الغذاء في أيرلندا، وهو يرجع أساسًا إلى فساد محصول البطاطس. ولكن يمكن تقييم دور المعروض الشامل من الغذاء في إحداث تلك المجاعة بأساليب مختلفة تعتمد على مدى شمول الإحصائيات التي لدينا عن الغذاء. ويعتمد الجانب الأكبر على المنطقة التي تعنينا والغذاء المنتج فيها. وكما سبق أن أوضح كورماك أو. جرادا إذا وضعنا في الاعتبار المنتج من الغذاء والمعروض منه على نطاق المملكة المتحدة لكان لنا أن نقول لم تكن هناك أزمة مُنتَج أو عَرْض غذائي بالقياس إلى ما حدث تحديدًا في أيرلندا.١٨ إن الشيء اليقيني هو أن الغذاء كان سينتقل من بريطانيا إلى أيرلندا لو كانت لدى الأيرلنديين قدرة على شرائه. ولكن هذا ما لم يحدث في الواقع، بل حدث العكس تمامًا نظرًا إلى فقر أيرلندا والحرمان الاقتصادي الذي عاناه الضحايا الأيرلنديون. ويعرض تيري إيجلتون هذه الحال في معالجته الأدبية المتميزة للمجاعات الأيرلندية في روايته «هيث كليف والجوع الكبير»؛ إذ يقول: «حسب هذا المعنى لنا أن نزعم عن حقٍّ أن الأيرلنديين لم يموتوا فقط لنقص في الغذاء، وإنما لافتقارهم الشديد إلى الأموال اللازمة لشراء الغذاء الذي كان متوافرًا داخل المملكة ككل، ولكنه لم يكن متاحًا لهم بما يكفي.»١٩
وكم هو مهم عند تحليلنا لأسباب المجاعات، أن ندرس مدى شيوع الفقر في البلد أو الإقليم المنكوب. ففي حالة أيرلندا نجد أن الفقر فيها بعامة، وكذا تواضُع حجم الأصول عندهم جعلهم مُستضعَفِين وعُرضة للتدهور الاقتصادي، الذي حدث مقترنًا بأزمة فساد البطاطس.٢٠ ويَتعيَّن، في هذا السياق، أن نركز اهتمامنا ليس فقط على الفقر المُتوطِّن الذي يصيب الشعب المَعْنِي، بل أيضًا على حالة الضعف الخاصة التي تجعل من أصحاب الاستحقاقات الهشة عرضة للخطر عند حدوث تحوُّلات اقتصادية.٢١ إن حالة أشد الناس فقرًا وعجزهم التام عن المقاومة، علاوة على ما يعانونه من بُؤس ومآسٍ بسبب التحولات الاقتصادية هي سبب حدوث ضحايا للمجاعات القاسية والمفاجئة. لقد لحقت بصغار مُزارعي البطاطس الأيرلنديين أشد الأضرار بسبب الأزمة، كما امْتدَّت الأضرار لتصيب آخَرِين بسبب زيادة أسعار الغذاء.
أما عن الغذاء، وهو ما يعنينا، فنلحظ أنه لم يظهر جهد منتظم لاستيراد الغذاء إلى أيرلندا لكسر حدة المجاعة، بل كانت هناك حركة في الاتجاه العكسي: تصدير الغذاء من أيرلندا إلى إنجلترا (خاصة الأغذية جيدة النوعية). وإن هذه الحركة العكسية للأغذية ليست نادرة تمامًا في حالة حدوث مجاعات من النوع المعروف باسم مجاعات الكساد؛ حيث يسود الاقتصاد كساد شامل وتتدهور معه القدرة الشرائية للمستهلكين، ويكون للمعروض من الغذاء — على الرغم من انخفاض أسعاره — سعر أفضل في أماكن أخرى. وحدثت هذه الحركة العكسية للأغذية كمثال خلال مجاعة ووللو في إثيوبيا عام ١٩٧٣م، وقد سبق ذكرها؛ إذ كان سكان هذه المقاطعة عاجزين عن شراء الغذاء اللازم لهم، على الرغم من أن أسعار الأغذية لم تكن أعلى — بل أدنى كثيرًا — من أسعارها في أماكن أخرى من البلاد، واتضح أن الأغذية تنتقل إلى خارج مقاطعة ووللو إلى المناطق الأكثر رخاء في إثيوبيا حيث يوجد من يتمتعون بدخل أكبر ومن ثم أقدر على شراء الأغذية.٢٢

وحدث هذا على نطاق واسع في أيرلندا خلال أربعينيات القرن ١٩؛ حيث كانت السفن تبحر تباعًا مُحمَّلة بالقمح والشوفان والماشية والخنازير والبيض والزبد متجهة إلى إنجلترا التي لم يصبها أذًى بسبب المجاعة التي نُكِبَت بها أيرلندا. ولقد كان تصدير الغذاء من أيرلندا إلى إنجلترا — في ذروة المجاعة — سببًا في الشعور بمرارة قاسية داخل أيرلندا، بل ولا يزال أثرها ممتدًّا حتى اليوم، وهو ما يَتجلَّى في عدم الثقة المُتبادَلة بين إنجلترا وأيرلندا.

وجدير بالذِّكْر أن حركة الغذاء من أيرلندا إلى إنجلترا خلال فترة المجاعات ليس وراءها أي سر اقتصادي؛ إذ إن قُوى السوق تشجع دائمًا حركة الغذاء إلى الأماكن التي يقطنها القادرون على دفع السعر الأعلى. وهكذا كان الإنجليزي الميسور قادرًا على هذا قياسًا إلى حال الأيرلندي الذي طحنه الفقر. وبالمثل في عام ١٩٧٣م كان بإمكان سكان أديس أبابا شراء الأغذية التي لا يقدر على شرائها الجياع والتعساء سكان مقاطعة ووللو.

وحري بنا ألا نقفز من هذا إلى نتيجة مفادها أن الأسلوب الصحيح للقضاء على المجاعة هو وقف صفقات وتعاملات السوق. حقًّا إن مثل هذا الإجراء في بعض الحالات يمكن أن يفيد ويحقق هدفًا محدودًا (إذ كان في الإمكان مساعدة المستهلكين الأيرلنديين إذا قُيدت الحركة العكسية للأغذية المتجهة إلى إنجلترا). بَيْدَ أنَّ هذا بوجه عام سيترك المشكلة الأساسية كما هي دون علاج، وأعني بها مشكلة الفقر والجوع التي يعانيها ضحايا المجاعة. ولكن تغيير الوضع يستلزم سياسات أكثر إيجابية، ليس فقط السياسة السلبية التي تقضي بحظر تعاملات السوق في أنواع بعينها. إن السياسات الإيجابية التي تعمل على إعادة توليد الدخل المفقود للجائع (عن طريق برامج عمالة عامة كمثال)، يمكن أن تؤدي تلقائيًّا إلى الحدِّ من أو وقف الحركة العكسية للغذاء ما دام المشترون المحليون في استطاعتهم طلب ما يحتاجون إليه.

والمعروف أن حكومة المملكة المتحدة قَدَّمت مساعدة ضئيلة للغاية لتخفيف حدة العوز والجوع بين الأيرلنديين خلال فترة المجاعة. وسبق أن شهدت الإمبراطورية أحداثًا مماثلة، ولكن الفارق هنا أن أيرلندا جزء من الجزر البريطانية ذاتها. وها هنا نلمس حالة الاغتراب الثقافي المقابل لحالة اللاتماثل السياسية الخالصة. ونجد للاغتراب هنا بعض الدلالة (هذا على الرغم من أن الاغتراب الثقافي هو سياسي أيضًا بالمعنى الواسع).

ومن المهم في هذا السياق أن نتذكر أنه بحلول أربعينيات القرن ١٩، ومع بداية المجاعة في أيرلندا، وُضِعَ نظام شامل للإغاثة من الفقر. في بريطانيا، وخاص ببريطانيا ذاتها. ونالت إنجلترا أيضًا حصتها من الفقر بل كانت حياة العامل الإنجليزي أبعد من أن تكون حياة رخاء ويُسر. وجدير بالذِّكْر أن عام ١٨٤٥م، وهو العام الذي بدأت معه سلسلة المجاعات الأيرلندية، هو أيضًا العام الذي كتب فيه فريدريك أنجلز دراسته الكلاسيكية عن الفقر والبؤس الاقتصادي للعمال الإنجليز تحت عنوان «ظروف الطبقة العاملة في إنجلترا» وصدر الكتاب عام ١٨٤٥م». ولكن كان لا يزال ثمة التزام بمنع حدوث مجاعة صريحة داخل إنجلترا. ولكنَّ التزامًا كهذا لم يكن قائمًا بالنسبة إلى الإمبراطورية، ولا حتى بالنسبة إلى أيرلندا. والمُلاحَظ أيضًا أنه حتى قوانين الفقراء أعطَت للمعوز الإنجليزي حقوقًا أكثر من الحقوق التي حصل عليها المعوز الأيرلندي بموجب قوانين الفقر الأضعف، التي صدرت من أجل أيرلندا.

والحقيقة كما لحظ جوويل موكير «إن بريطانيا كانت تعتبر أيرلندا أمة غريبة بل ومعادية».٢٣ وأثَّر هذا الاستبعاد في جوانب كثيرة للعلاقات الأيرلندية البريطانية. إنها أولًا، وكما أشار موكير، حالت دون تشجيع استثمار رأس المال البريطاني في أيرلندا. ولكن ما نراه وَثِيق الصِّلَة أكثر بالسياق الراهن أن خلقت مشاعر لا مبالاة نسبيًّا إزاء المجاعات والمعاناة في أيرلندا مع موقف أقل عزمًا وتصميمًا في لندن للعمل على منع حالة الحرمان والعوز في أيرلندا. وأكد ريشر نيد ليبو أنه في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تعزو الفقر فيها إلى تَغيُّرات وتَقلُّبات اقتصادية، سادت نظرة تعزو الفقر في أيرلندا إلى الكسل واللامبالاة وعدم الكفاءة. ولهذا رُئي أن «رسالة بريطانيا (ليست) العمل على تخفيف المحنة الأيرلندية، بل العمل على تَحضُّر شعبها وقيادتها للعمل والشعور بأنهم بشر.»٢٤ وقد تبدو هذه النظرة مُبالَغًا فيها إلى حد ما، ولكن من العسير تَصوُّر إمكان السماح بحدوث مَجاعة في بريطانيا، مثل تلك التي حدثت في أيرلندا في أربعينيات القرن التاسع عشر.

وحين ننظر إلى خلفية المؤثرات الاجتماعية والثقافية التي تصوغ السياسة العامة، والتي سمحت في هذه الحالة بحدوث المجاعات، يكون من المهم تقييم الشعور بالانفصال والتفوق الذي ميز الموقف البريطاني تجاه الأيرلنديين. إن الجذور الثقافية للمجاعات الأيرلندية تعود في التاريخ إلى العهد الذي كتب فيه إدموند سبنسر «الملكة الجان» المنشورة عام ١٥٩٠م، وربما إلى ما قبل ذلك. والملاحظ أن الاتجاه إلى لوم الضحايا، وهو ما تزخر به رواية الملكة الجان، امتد على مدى مجاعات أربعينيات القرن ١٩.

ويتوحد الاعتقاد بالتفوق الثقافي مع لا تماثلية السلطة السياسية.٢٥ وتذكر هنا ملاحظة ونستون تشرشل الشهيرة إزاء مجاعة البنغال عام ١٩٤٣م، وقد كانت آخر مجاعة في الهند البريطانية (وأيضًا الأخيرة في الهند قاطبة)؛ إذ أشار إلى أن سبب المجاعة ميل المواطنين «للتنشئة كأنهم أرانب». وتعود هذه الملاحَظة إلى هذا التراث العام الذي يلوم الرعية الاستعمارية. ولعل هذه الملاحَظة تكتمل بعقيدة تشرشل أيضًا التي تؤمن بأن الهنود «من أكثر الشعوب وحشية في العالم بعد الألمان».٢٦ ولا يسع المرء إلا أن يتعاطف مع شعور ونستون تشرشل بالخَطَر المُزدَوج المُحدِق به من جانب الألمان المتوحشين الساعين إلى الإطاحة بحكمه، والهنود المتوحشين الذين ينشدون حكمًا صالحًا.
ونذكر أيضًا شارلز إدوارد تريفيليان وزير الخزانة أثناء المجاعات الأيرلندية؛ إذ لم يَرَ أن ثَمَّة خطأ من جانب السياسة الاقتصادية البريطانية المطبقة في أيرلندا (والمسئول هو عنها). ولكنه أشار إلى عادات الأيرلنديين باعتبارها السبب الذي يفسر حدوث المجاعات. ويذكر أن من أهم مظاهر الفشل الذي يرجع إلى العادات الاجتماعية ميل الفقير الأيرلندي إلى الاكتفاء بالبطاطس فقط طعامًا له، مما جعلهم معتمدين على محصول واحد. وإن نظرة تريفيليان في تفسير المجاعات الأيرلندية سمحت له بأن يربطها برؤيته التحليلية للمطبخ الأيرلندي، إذ قال: «نادرًا ما تجد امرأة من طبقة الفلاحين في غرب أيرلندا تزيد معرفتها للطهي عن مجرد سلق البطاطس.»٢٧ وها هنا نجد الإشارة بإصبع الاتهام إلى هزال غذاء الفقير الأيرلندي صورة واضحة ومُعبِّرة عن الميل إلى إلقاء اللوم على الضحية. إن الضحايا جروا على أنفسهم الكارثة على الرغم من الجهود «المتميزة» التي بذلتها الإدارة في لندن للحيلولة دون وقوعها.
وحَرِي أن نُضيف الاغتراب الثقافي إلى افتقاد الحوافز السياسية عند تفسير لماذا لم تُحَرِّك بريطانيا ساكنًا وقت المجاعات البريطانية. إن من اليسير في الواقع اتقاء المجاعات بحيث إن ما يثير الدهشة أن ندعها تقع أصلًا.٢٨ إن الإحساس بالمسافة الفاصلة التي تبعد الحاكم عن المحكوم — بيننا وبينهم — قسمة حاسمة تميز المجاعات. وإن هذا البعد الفاصل يبدو شديد القسوة في أيرلندا وفي الهند في ظل الهيمنة الأجنبية خلال القرن الماضي.

الإنتاج والتنويع والنمو

أعود الآن إلى علم اقتصاد اتقاء المجاعة. من المفيد لاتقاء المجاعات أن يكون لدينا اقتصاد غني ونامٍ. ولا ريب في أن التوسع الاقتصادي يقلل الحاجة إلى حماية الاستحقاقات، كما يعزز إتاحة الموارد لإنجاز تلك الحماية. وهذا درس واضح الأهمية بالنسبة إلى أفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث كان نقص النمو الاقتصادي الشامل عاملًا أساسيًّا وراء الحرمان. والمعروف أن التعرض السهل للمجاعات يكون في أعلى درجاته حين يكون السكان في حالة فقر عام شامل، وعندما يتعذر على احتياطي المال العام توفير ضمانات.

ويتعين توجيه الاهتمام إلى الحاجة إلى حوافز لتوليد زيادة ونمو المُخرَجات والدخول، بما في ذلك التوسع في إنتاج الغذاء وكذا أشياء أخرى. ويستلزم هذا تدبير حوافز سِعْرية معقولة، وكذا إجراءات لتشجيع ودعم التَّغيُّر الثقافي المتمثل في تكوين المهارات والإنتاجية، سواء في الزراعة أو في مجالات أخرى.٢٩

ومع أهمية زيادة المُنتَج الغذائي إلا أن القضية الرئيسية تتعلق بنمو الاقتصاد في مجموعه ما دام الغذاء سلعة للشراء في السوق العالمية. إن البلد يستطيع شراء غذائه من الخارج إذا ما توافَرت لديه الوسائل لهذا (تأسيسًا على الإنتاج الصناعي كمثال). وإذا قارَنَّا، على سبيل المثال. نصيب الفرد من إنتاج الغذاء في ١٩٩٣–١٩٩٥م، ونصيبه في ١٩٧٩–١٩٨١م، في بلدان مختلفة في آسيا وأفريقيا نجد حدوث انخفاض بنسبة ١٫٧ في المائة في جنوب كوريا، و١٢٫٤ في المائة في اليابان، و٣٣٫٥ في المائة في بتسوانا، و٥٨ في المائة في سنغافورة. ومع هذا لا نلحظ أي زيادة في الجوع في هذه الاقتصادات؛ لأنها تَمتَّعَت بتوسع سريع في نصيب الفرد من الدَّخْل الحقيقي عن طريق وسائل أخرى (من مثل الصناعات والتعدين)، وأضحت أغنى على أي حال. وأدَّى اقتسام الدخل الزائد إلى جعل مواطني هذه البلدان أقدر على تأمين الغذاء لأنفسهم عمَّا كانوا في السابق، على الرغم من هبوط المُنتَج الغذائي. ونجد النقيض حتى على الرغم من عدم انخفاض، أو حدوث انخفاض ضئيل في نصيب الفرد من إنتاج الغذاء في اقتصادات أخرى مثل السودان (٧٫٧ في المائة زيادة)، أو بوركينا فاسو (٢٩٫٤ في المائة زيادة)؛ إذ عانت هذه الاقتصادات من تعرضها الشديد للجوع بسبب حالة الفقر العام وضعف الاستحقاقات الاقتصادية لكثير من الجماعات المهمة الكبيرة. ولذلك فإن من المهم التركيز على العمليات الفعلية التي تكفل للفرد أو للأسرة قدرة على التحكم وضمان غذائه.

وكثيرًا ما يقال، عن صواب، إن نصيب الفرد من المنتج الغذائي في أفريقيا جنوب الصحراء ظَل في انخفاض مُطَّرد حتى عهد قريب. وهذا صحيح وموضِع اهتمام واضح وله آثاره في كثير من جوانب السياسة ابتداء من البحوث الزراعية وحتى ضبط النَّسل. ولكن كما أسلفنا فإن انخفاض نصيب الفرد من المنتَج الزراعي يصدق كذلك على كثير من البلدان في أقاليم أخرى من العالم.٣٠ غير أن هذه البلدان لم تُواجِه مجاعات: (١) لأنها حققت مُعدَّلات نُمو عالية نسبيًّا في مجالات إنتاج أخرى، و(٢) لأن الاعتماد على المنتَج الغذائي كمصدر للدَّخل أقل كثيرًا في هذه البلدان عنه في اقتصاد أفريقيا جنوب الصحراء.

والمُلاحَظ أن الاتجاه إلى التفكير في زيادة المزروع من الغذاء باعتباره الوسيلة الوحيدة لحل مشكلة الغذاء اتجاه قوي وله إغراءاته وغالبًا ما يكون له مُبرِّره المنطقي. ولكن الصورة أكثر تعقدًا من ذلك فيما يَتعلَّق بالفُرص الاقتصادية البديلة وإمكانات التجارة الدولية. أما من حيث نقص النمو وهو المسألة التي تعنينا هنا، وتُمثِّل القسمة الرئيسية لمشكلات أفريقيا جنوب الصحراء، فإنه ليس مقتصرًا على نمو وزيادة المنتَج الغذائي من حيث هو، بل النقص العام في النمو الاقتصادي جملة (الذي تُمثِّل مشكلة المنتج الغذائي جانبًا واحدًا منه). إن أفريقيا جنوب الصحراء في مَسيس الحاجة وبشدة إلى بنية إنتاجية أكثر تنوعًا، خاصة إذا عرفنا التقلبات المناخية غير المُطمْئِنة من ناحية، وإمكان التوسُّع في المجالات الأخرى للنشاط الإنتاجي من ناحية أخرى. إن الاستراتيجية التي كثيرًا ما يُروَّج لها والداعية إلى التركيز فقط على التوسع في الزراعة — خاصة المحاصيل الغذائية — هي أشبه بمن يضع كل البيض في سلة واحدة، ومن ثَم فإن مَخاطر مثل هذه السياسة كبيرة جدًّا في الحقيقة.

وطبيعي أن ليس مُرجَّحًا أن تحدَّ أفريقيا جنوب الصحراء فجأة على المدى القصير من اعتمادها على إنتاج الغذاء كمصدر للدخل. ولكن يمكن السماح بقدر من التنويع سريعًا. ومع هذا فإن الحد من الاعتماد المُفرِط على محاصيل قليلة يمكن أن يُدعِّم الأمان للدخول، ويمكن لأفريقيا جنوب الصحراء، على المدى البعيد، أن تَلْحق برَكْب التوسع الاقتصادي الذي تحقق في كثير من بلدان العالم الأخرى. ولكي تحقق ذلك لا بد أن تُعْنى بشدة بالبحث عن واستخدام مصادر للدخل وللنمو خارج إنتاج الغذاء بل وخارج مجال الزراعة.

طريق العمالة ومسألة الفعالية

الملاحَظ أنه حتى مع عدم توافر فُرص للتجارة الدولية فإن من المهم، بشكل حاسم، كيفية اقتسام كل المعروض من الغذاء بين الجماعات المختلفة في البلد المعني. إن المجاعات يمكن اتقاؤها عن طريق إعادة خَلْق الدُّخول التي يفقدها الضحايا المحتملون (مثال ذلك عن طريق خلق عمالة مأجورة مؤقتًا في مشروعات عامة يجري إعدادها خصيصًا لذلك)؛ إذ إن هذا يعطيهم القدرة على المُنافَسة بغية الحصول على الغذاء من السوق، مما يساعد على اقتسام المعروض المتاح على نحو أكثر تكافؤًا. وجدير بالذِّكْر أنه في غالبية الحالات التي واجهت مجاعات كانت المُشاركة الأكثر تكافؤًا للغذاء عاملًا حال دون وقوع مجاعة (على الرغم من أن توسيع نِطاق عَرْض الغذاء من شأنه أن يجعل الأمور أيسر كثيرًا). واستخدمت بلدان كثيرة من بينها الهند، وبتسوانا، وزيمبابوي أسلوب اتِّقاء المجاعة عن طريق خَلق عمالة مع أو من دون توسُّع في إجمالي المتاح من الغذاء.٣١
ويجري تطبيق أسلوب العمالة كذلك من أَجْل تشجيع عمليات التجارة دون الإضرار بالحياة الاقتصادية والاجتماعية والأسرية. ويمكن لمن يَتلقَّون العون والمساعدة أن يستمروا في وضعهم كما هم على طبيعتهم وَثيقي الصِّلة بأنشطتهم الاقتصادية (مثل الفلاحة)، بحيث لا تُضار هذه الأعمال الاقتصادية. ويمكن كذلك للحياة الأسرية أن تستمر كالعادة بدلًا من سَوْق الناس كالقطيع إلى معسكرات الطوارئ. وهكذا نشهد اطرادًا اجتماعيًّا أكثر، علاوة على الحد من أخطار انتشار الأمراض المُعْدِية التي تَتفشَّى داخل المعسكرات المكتظة. معنى هذا بوجه عام أن نَهْج الإغاثة عن طريق العمالة يهيئ إمكانًا — أيضًا — لمعاملة ضحايا المجاعة المُحتملِين باعتبارهم قوى نشطة فاعلة وليسوا مُجرَّد مُتلقِّين سلبيين لصدقات الحكومة.٣٢
نقطة أخرى يجب الإشارة إليها هنا (وتتسق مع النَّهْج الشامل المُتَّبع في هذا الكتاب)، وأعني بها الاستخدامات المُشترَكة للمؤسَّسات الاجتماعية المختلفة في عملية اتقاء المجاعة. وتأخذ السياسة العامة هنا صورة الاعتماد على تنظيمات مؤسسية مختلفة للغاية:
  • (١)

    دَعْم الدولة لخلق دَخْل وعمالة.

  • (٢)

    تشغيل الأسواق الخاصة للغذاء والقوى العاملة.

  • (٣)

    الاعتماد على التجارة ومشروعات الأعمال في صورتها الطبيعية.

إنَّ تكامُل الأدوار بين المؤسَّسات الاجتماعية المختلفة — بما في ذلك التنظيمات الخاصة بالسوق أو غير المَعنية بالسوق — أمر شديد الأهمية كضمان نَهْج عام مُلائم لاتقاء المجاعات، مثلما هي مهمة جدًّا في واقع الأمر للتنمية الاقتصادية بعامة.

الديمقراطية واتقاء المجاعة

أشرتُ في مُستَهَل هذا الكتاب إلى دَور الديمقراطية في اتِّقاء المجاعات، وحجتي وثيقة الصلة تحديدًا بالحوافز السياسية وليدة الانتخابات وسياسات تَعدُّد الأحزاب والحريات الصحافية. والشيء المُؤكَّد عن يقين أنه لم تَحدُث أبدًا مَجاعة في ظل ديمقراطية تَعدُّد الأحزاب تُؤدِّي دورها الحقيقي بكفاءة.

تُرى هل هذا الاقتران التاريخي الملحوظ هو اقتران سببي أم أنه مُجرَّد حدَث عارِضٍ؟ إن احتمال أن تكون الرابطة بين الحقوق السياسية الديمقراطية وانعدام حدوث المجاعات «علاقة زائفة» قول يبدو مقبولًا إذا فكَّرْنا في أن البلدان الديمقراطية بلدان غنية، ومن ثَمَّ ربما مَنيعة ضد المجاعات لأسباب أخرى. ولكن غياب المجاعات يصدق كذلك بالنسبة إلى البلدان الديمقراطية الفقيرة جدًّا؛ مثل الهند، أو بتسوانا، أو زيمبابوي.

حقًّا إن البلدان الديمقراطية الفقيرة واجهت أحيانًا انخفاضًا في إنتاج وعرض الغذاء، مثلما عانَت انهيارات حادَّة للقوة الشرائية لدى قطاعات واسعة من السكان أكثر مما حدَث في بلدان غير ديمقراطية. ولكن المُلاحَظ أنه في الوقت الذي عانت فيه البلدان الدكتاتورية مجاعات ضخمة، فإن البلدان الديمقراطية عرفت كيف تُدبِّر أمورها لتفادي المجاعات على الرغم من أن وضعها الغذائي كان أسوأ حالًا. مثال ذلك أن بتسوانا واجهَت انخفاضًا في إنتاج الغذاء قدره ١٧ في المائة، وزيمبابوي ٣٨ في المائة، فيما بين ١٩٧٩–١٩٨١م، و١٩٨٣-١٩٨٤م. وحدث هذا في الفترة نفسها التي بلغ فيها انخفاض إنتاج الغذاء مُستوًى متواضعًا نسبيًّا حوالي ١١ أو ١٢ في المائة في السودان وإثيوبيا. ولكن السودان وإثيوبيا على الرغم من أن انخفاض الإنتاج الغذائي فيهما أقل نسبيًّا إلا أنهما ابتُلِيا بالمجاعة. هذا بينما لم تُصَب بتسوانا أو زيمبابوي بشيء. والسبب الأساسي أن هذين البلدين الأخيرين التزمَا في الوقت المناسب سياستين شاملتين لاتقاء المجاعة.٣٣

وواضح أنه لو أخفقت حكومتا بتسوانا وزيمبابوي في النهوض بإجراء في الوقت المناسب لتعرَّضتَا لنقد قاسٍ وضغط شديد من قِبل المعارَضة، علاوة على قصف كثيف من الصحافة. ولكن حكومَتَي إثيوبيا والسودان لم تكونَا لتعبآ بكل هذا؛ ولهذا افتقد هذان البلدان الحوافز السياسية التي تُوفِّرها المؤسَّسات الديمقراطية. وواضح أن المجاعات في السودان وفي إثيوبيا — وفي كثير من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء — اعتمدَت على الحصانة السياسية التي يتمتع بها قادة البلدان الاستبدادية، ويصدق هذا على ما يبدو على الوضع الراهن في كوريا الجنوبية أيضًا.

والحقيقة أن المجاعات من السهل جدًّا اتقاؤها عن طريق إعادة توليد قوة الشراء المفقودة لدى الجماعات التي أضيرت بشدة. ويمكن إنجاز هذا بفضل برامج متبايِنة من بينها — كما سبق أن قلنا — خلق عمالة الطوارئ في المشروعات العامة قصيرة الأجل. لقد واجهَت الهند بعد الاستقلال، وفي مناسبات مختلفة، انخفاضات واسعة النطاق في إنتاج الغذاء وتَوافُره، كما عانت أيضًا تدميرًا شديدًا أصاب القدرة الاقتصادية على إيفاء استحقاقات جماعات كبيرة، ومع هذا لا تزال قادرة على اتقاء المجاعات عن طريق تقديم استحقاقات وأنصبة غذاء لضحايا المجاعة المحتملين. وتقدم هذه الاستحقاقات في صورة دخل هو أجر عمالة مُوجَّهة لمشروعات علاوة على وسائل أخرى. وواضح أن الحصول على مزيد من الغذاء في المنطقة المنكوبة بالمجاعة يسهم في تخفيف حِدَّة المجاعة إذا كان ضحايا المجاعة المُحتمَلون لديهم قدرة اقتصادية على شراء الغذاء. ذلك أن خلق دخل للمعدمين، أو لمن لديهم دخل ضئيل جدًّا، يُعَد أمرًا حاسمًا للغاية. والمُلاحَظ أن خلق دخل للمعوزين حتى مع توقُّف أي استيراد للمواد الغذائية للمنطقة، يساعد على تخفيف حدة الجوع عن طريق مُشارَكة أفضل في اقتسام المتاح من الغذاء.٣٤
وحدث أن ضرب الجفاف مقاطعة ماهاراشترا في الهند عام ١٩٧٣م، وانخفض إنتاج الغذاء انخفاضًا حادًّا حتى بلغ نصيب الفرد من المنتَج الغذائي نصف نظيره في أفريقيا جنوب الصحراء. ومع هذا لم تَحدُث مجاعة في ماهاراشترا (حيث جرى استخدام خمسة ملايين نَسمة في عمالة لمشروعات عامة جرى تنظيمها على وجه السرعة)، هذا بينما تُعانِي أفريقيا جنوب الصحراء مَجاعات شديدة الحِدَّة.٣٥ وواضح أن هذه المقارنة بين تجربتي البلدين في مَنْع المجاعات تُؤكِّد بقوة الدور الوقائي للديمقراطية. علاوة على هذا فإن ثَمَّة شواهد مهمة لمراحل انتقالية تتعلق بانتقال بلد ما إلى الديمقراطية. نذكر على سبيل المثال أن الهند ظَلَّت تعاني باستمرار المجاعات حتى وقت استقلالها عام ١٩٤٧م. وكانت المجاعة الأخيرة هي الأضخم وهي مجاعة البنغال في ربيع وصيف ١٩٤٣م (التي شاهدتُها بنفسي وهي في عنفوانها وكنتُ في التاسعة من عمري). وأفادت التقديرات أن عدد الضحايا الذين قُتِلوا بسببها بين مليونين وثلاثة ملايين. ولكن منذ الاستقلال وقيام نظام ديمقراطي مُتعدِّد الأحزاب لم تشهد الهند مجاعة بالمعنى الموضوعي للكلمة، على الرغم من حالات الفشل الشديدة في إنتاج المحاصيل، والخسارة الكبيرة للقدرة الشرائية التي تَكرَّرت مرارًا (على سبيل المثال الأعوام ١٩٦٨م، ١٩٧٣م، ١٩٧٩م، ١٩٨٧م).

الحوافز والمعلومات واتقاء المجاعات

ليس عسيرًا تَلمُّس الرابطة السببية بين الديمقراطية وعدم وقوع مجاعات. إن المجاعات تَقتل ملايين البشر في أقطار مختلفة في العالم، ولكنها لا تقتل الحُكَّام. لم يحدث أن كان من ضحايا المجاعات الملوك، ورؤساء الجمهوريات، والبيروقراطيون، ورؤساء الإدارات، وقادة الجيوش. وإذا انعدمَت الانتخابات وأحزاب المعارَضة، وافتَقدَت البلاد مجالًا للنَّقْد العام دون رقابة؛ فإن رجال السلطة لن يعانوا من جراء سياستهم الفاشلة حتى يَعمَلوا على اتقاء المجاعة. ولكن الديمقراطية على النقيض سَتُوسِّع من نطاق أضرار المجاعة لتصيب الحكام والقادة السياسيين أيضًا. ويُشكِّل هذا الاحتمال حافزًا سياسيًّا يُحفِّزهم على محاولة اتقاء المجاعة «إذ تتطابق الحجة السياسية مع الحجة الاقتصادية في هذه المرحلة» فسوف تختفي يقينًا المجاعات الوشيكة.

وتتعلق القضية الثانية بالمعلومات: إن الصحافة الحُرَّة، وممارسة الديمقراطية تُسهِمان كثيرًا في إبراز المعلومات التي يمكن أن تُؤثِّر كثيرًا في السياسات من أَجْل اتقاء المجاعة (مثال ذلك المعلومات عن الآثار الباكرة لحالات الجَفاف، والفيضانات، وعن الطبيعة، وأثر البطالة). والمصدر الأول والأساسي جدًّا للمعلومات الرئيسية من مجالات بعيدة عن مجاعة وشيكة هو ما تُقدِّمه وسائل الإعلام الإخبارية خاصة حين تتوافر حوافز — بفضل نظام ديمقراطي — تحفز إلى إبراز الوقائع التي يمكن أن تحرج الحكومة (وقائع تنزع الحكومات التسلطية عادة إلى حَجْبها رقابيًّا). حقًّا، أود أن أؤكد أن الصحافة الحرة والمعارَضة السياسية النشطة تُؤلِّفان أفضل نظام للإنذار المبكر بالنسبة إلى بلد تهدده المجاعات.

ويمكن توضيح الرابطة بين الحقوق السياسية والاحتياجات الاقتصادية في سياق اتقاء المجاعة عن طريق تَدبُّر المجاعات الصينية الضخمة في الأعوام من ١٩٥٨–١٩٦١م. لقد كانت الصين، حتى قبل سنوات الإصلاح قريبة العهد، أكثر نجاحًا من الهند في مجال التطوير الاقتصادي في مجالات مهمة كثيرة، مثال ذلك ارتفاع متوسط العمر المتوقَّع في الصين، بحيث كان أعلى كثيرًا من نظيره في الهند، حتى كاد قبيل سنوات الإصلاح في عام ١٩٧٩م يُقارِب كثيرًا الأرقام المرتفعة المذكورة الآن (حوالي سبعين عامًا حسب تقدير العمر عند الميلاد). ومع هذا أخفقت الصين تمامًا، وعَجزَت عن اتقاء المجاعات. وأَودَت مجاعات الصين في الأعوام من ١٩٥٨–١٩٦١م بحياة ما يقرب من ثلاثين مليون نسمة، حسب التقديرات الحالية. ويزيد هذا الرقم على عشرة أمثال مَن قتلتهم المجاعة الهائلة في الهند عام ١٩٤٣م، وهي في ظل السيادة البريطانية.٣٦

والمعروف أن ما سُمِّي «خطوة كبيرة إلى الأمام»، والتي بَدأتْ في أواخر الخمسينيات، أُصِيبَت بفشل كامل. ولكن الحكومة الصينية رفضَت التسليم بذلك، وواصلت بجمود عقائدي السياسات الكارثية نفسها لسنوات ثلاث أخرى. وكَم هو عسير تَخيُّل إمكان حدوث شيء كهذا في بلد يلتزم بنظام الاقتراع بانتظام، ويملك صحافة حرة مستقلة. ولكن الحكومة خلال هذه الكارثة المُروِّعة لم تُواجِه ضغطًا من جانب الصحافة الخاضعة لسيطرة الحكومة، ولم تُواجِه أحزابًا معارِضَة لعدم وجودها.

كذلك فإن انعدام نظام حُر لتوزيع الأنباء ضَلَّل الحكومة ذاتها، التي طَرِبت لدعايتها هي، وللتقارير الوردية للرسميين من أعضاء الحزب المَحلِّيين المتنافسين على كسب وُدِّ بكين. والحقيقة أن ثَمَّة شواهد على أنه في الوقت الذي أوشكت فيه المجاعة على بلوغ ذروتها، كانت الحكومة الصينية تعتقد عن خطأ أن لديها مائة مليون طن متري من الحبوب زيادة عمَّا هو في حوزتها واقعيًّا.٣٧
وكَم هو مثير للاهتمام أن الرئيس ماو نفسه صاحِب الآمال والمعتقَدات المتطرفة التي بادَرت بمشروع «قفزة كبرى إلى الأمام» وكانت أساسًا للإبقاء رسميًّا عليه، إذا به هو نفسه يتحدث عن الدور المعلوماتي للديمقراطية ويحدد أهميته. ولكن جاء ذلك عند الاعتراف الرسمي بالفشل، ولكن بعد فوات الأوان. وفي عام ١٩٦٢م، وبعد أن صرعت المجاعة ملايين عديدة من القتلى، أبدى ماو المُلاحظة التالية في اجتماع يضم سبعة آلاف من كوادر الحزب:
من دون ديمقراطية لن يتوافر لنا فَهْم لما يحدث في المستويات الأدنى. سيظل الموقف غير واضح؛ وسنكون عاجِزين عن تَجميع آراء كافية من جميع الأطراف. وسنفقد الاتصال بين القمة والقاعدة. وستعتمد قيادات المستوى الأعلى على مادة أُحادِيَّة الجانب وخاطئة عند اتخاذ قرار بشأن القضايا المطروحة. وهكذا سيكون عسيرًا على المرء تَفادي الإغراق في الذاتية. سيكون مستحيلًا تحقيق وحدة في الفهم ووحدة في العمل، كما سيكون مستحيلًا إنجاز مركزية صادقة وصحيحة.٣٨
والملاحظ أن دفاع ماو هنا عن الديمقراطية مَحدود جدًّا، إن بؤرة الاهتمام مُركَّزة فقط على الجانب المعلوماتي وإغفال دورها الحافزي. وكذلك إغفال الأهمية الأصيلة والتأسيسية للديمقراطية.٣٩ ومع هذا فإن المهم إلى أقصى حد أن ماو بنفسه يعترف كيف أن انعدام الحلقات المعلوماتية أفضى إلى تلك السياسات الرسمية الكارثية، وهو ما لا يحدث في نظام أكثر ديمقراطية مما يجعله قادرًا على تفادي كوارث من النوع الذي ابتليت به الصين.

الدور الوقائي للديمقراطية

تظل هذه المسائل وثيقة الصلة في عالمنا المعاصر، حتى في صين اليوم التي حقَّقت نجاحًا اقتصاديًّا. وجدير بالذِّكْر أنه منذ الإصلاحات الاقتصادية في عام ١٩٧٩م كشفت تصريحات الرسميين الصينيين عن قَدْر كبير من التسليم بأهمية الحوافز الاقتصادية دون اعتراف مماثل بدور الحوافز السياسية. وعندما تمضي الأمور سَلِسة لن يكون ثَمة شعور بافتقاد دور الديمقراطية المتسامح كثيرًا، ولكن ما أن تقع أخطاء كبيرة في السياسة حتى تصبح هذه الثغرة كارثية حقًّا. ويتعين الحكم في هذا الضوء على أهمية ودلالة حركات الديمقراطية في الصين المعاصرة.

وثمة مجموعة أخرى من الأمثلة في أفريقيا جنوب الصحراء، التي ابْتُلِيَت بمجاعات مستمرة منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين. وتوجد عوامل كثيرة تشكل أساسًا لقابلية تعرض هذا الإقليم للمجاعة، وتتفاوت من مسائل إيكولوجية تتعلق بتدهور المناخ — مما يجعل المحاصيل مشكوكًا فيها — حتى النتائج السلبية للغاية الناجمة عن الحروب والمناوشات المستمرة. ولكن الطبيعة التسلطية النمطية لكثير من سياسات أفريقيا جنوب الصحراء لها دور كبير كسبب في حدوث المجاعات المتكررة.٤٠

لقد كانت الحركات القومية مناهضة بقوة للاستعمار، ولكنها لم تكن دائمًا متجهة وبإصرار نحو الديمقراطية، ولم يحدث إلا أخيرًا فقط أن حظي التأكيد على قيمة الديمقراطية ببعض التقدير السياسي في كثير من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء. ولم تسهم الحرب الباردة التي كانت دائرة في العالم بأي دور كان في هذا الوسط السياسي، إذ كانت الولايات المتحدة والغرب مستعدين لمساندة الحكومات غير الديمقراطية إذا كانت معادية تمامًا للشيوعية. وكان الاتحاد السوفييتي والصين على استعداد لمساندة الحكومات التي تنزع إلى الانحياز إلى جانب أي منهما دون اعتبار لموقفها المعادي للمساواة في سياساتها المحلية. وطبيعي أن كانت الاحتجاجات الدولية قليلة جدًّا مع حظْر الأحزاب المعارضة وكبْت الصحافة.

ولكن لا يسعنا أن ننكر وجود حكومات أفريقية، حتى داخل دول الحزب الواحد تتحرك بحافز قوي تجاه تجنب الكوارث والمجاعات. وتتباين الأمثلة على هذا من بلد صغير مثل الرأس الأخضر (كيب فيرد) وحتى تنزانيا. ولكن غياب المعارَضة وكذا كبْت الصحافة الحُرَّة من شأنه أن يهيئ لكل من هذه الحكومات حصانة ضد النقد والضغط السياسي الذي يترجمه الواقع إلى سياسات تتسم بفقدان الحس والقسوة الشديدة. وكثيرًا ما تأخذ المجتمعات أمر المجاعات كشيء مُسلَّم به. وشاع إلقاء اللوم بسبب الكوارث على أسباب طبيعية وعلى خيانة بلدان أخرى. وتكشف بلدان؛ مثل السودان، والصومال، وإثيوبيا، والعديد من بلدان الساحل وغيرها كيف تسير الأمور في اتجاه خاطئ من دون نظام يسمح بأحزاب معارضة، وصحافة وإعلام يُتمتمان بالحرية دون رقيب.

وليس معنى هذا أن ننكر أن المجاعات في هذه البلدان اقترنت في غالب الأحيان بفشل المحاصيل. والمعروف أنه حين يفشل محصول فإنه لا يؤثر فقط في المعروض من الغذاء، بل يدمر أيضًا العمالة ومعيشة كَمٍّ غفير جدًّا من الناس. غير أن فشل المحاصيل ليس منفصلًا عن السياسة العامة (مثل تحديد الحكومة للأسعار النسبية أو السياسة الخاصة ببحوث الري والزراعة). علاوة على هذا فإن في الإمكان — حتى مع فشل المحاصيل — تجنُّب حدوث مجاعة عن طريق سياسة ذكية حذرة لإعادة التوزيع (بما في ذلك خلق عمالة مؤقتة). والحقيقة أن البلدان الديمقراطية، كما أسلفنا، مثل بتسوانا، أو الهند، أو زيمبابوي نجحت تمامًا في اتقاء المجاعات، على الرغم من النقص الحاد في المنتج الغذائي واستحقاقات قطاعات كبيرة من السكان. هذا بينما تعاني البلدان غير الديمقراطية مجاعات تعجز عن تفاديها على الرغم من أن أوضاعها الغذائية أفضل كثيرًا. ونحن لن نجانب العقل إذا خلصنا من هذا كله إلى القول بأن الديمقراطية يمكن أن تكون عاملًا إيجابيًّا للغاية يؤثر في اتقاء المجاعات في عالمنا المعاصر.

الشفافية والأمن والأزمة الاقتصادية الآسيوية

هذا الدور الوقائي للديمقراطية يتطابق تمامًا مع المطالَبة بما يُسمَّى «الأمن الوقائي» في بيان الأنماط المختلفة للحريات الأدائية. إن توافُر الحُكم الديمقراطي، بما في ذلك الانتخابات القائمة على التعددية الحزبية والإعلام المفتوح الحر، يجعل من المُرجَّح جدًّا تأسيس بعض الترتيبات والتنظيمات اللازمة للأمن الوقائي الذي تحققه الديمقراطية. وإن الدور الإيجابي للحقوق السياسية والمدنية يصدق تمامًا بالنسبة إلى اتقاء الكوارث الاقتصادية والاجتماعية بعامة.

وجدير بالذِّكْر أن المجتمع لا يفتقد دور الديمقراطية ما دامت الأمور تجري سلسةً وعلى نحو روتيني جيد. ولكن تظهر الحاجة إلى الديمقراطية واضحة عندما تتعقد الأمور لسبب أو لآخر. وهنا تكتسب الحوافز السياسية التي يوفرها نظام الحكم الديمقراطي أهمية عملية كبيرة. وهنا يمكن أن نستفيد بعض الدروس الاقتصادية، وكذا السياسية المهمة. والمعروف أن كثيرين من الاقتصاديين التكنوقراط يوصون باستخدام الحوافز الاقتصادية (التي لا يمكن أن تكفلها النظم الديمقراطية). ولكن الحوافز الديمقراطية على أهميتها ليست بديلًا عن الحوافز السياسية، كما أن عدم وجود نظام ملائم للحوافز السياسية سوف يُمثِّل ثغرة لا يمكن ملؤها بواسطة تفعيل الحفز الاقتصادي.

هذه مسألة مهمة؛ لأن خطر فقدان الأمان الناجم عن تَحوُّلات في السياسة الاقتصادية، أو عن ظروف أخرى، أو نتيجة أخطاء في السياسة، ولم تبذل السلطة جهودًا لإصلاحها، هذا الخطر سيظل خلف ما يبدو في ظاهره كأنه اقتصاد صحيح وصحي. وجدير بالذِّكْر هنا أن المشكلات التي واجهت بلدان شرق وجنوب شرق آسيا أخيرًا تكشف، من بين أمور أخرى كثيرة، كأنها وقعت جزاءً وفاقًا لنظام الحكم غير الديمقراطي. ويتجلى هذا بوضوح في مجالين يثيران الاهتمام نذكر من بينهما إهمال نوعين من الحريات الأدائية التي سبق أن ناقشناها؛ أي «الأمن الوقائي» (الذي نعرض له الآن)، و«ضمان الشفافية» (وهو مهم لتوفير الأمن وتوفير حوافز للقوى الفاعلة الاقتصادية والسياسية).

  • أولًا: إن تطوُّر الأزمة المالية في بعض هذه الاقتصادات ارتبط ارتباطًا وثيقًا بنقص الشفافية في قطاع الأعمال. ونذكر بخاصة نَقْص المشارَكة العامة في مراجعة التنظيمات المالية وتنظيمات قطاع الأعمال. وترتَّب على هذا الإخفاق غياب منبر ديمقراطي فعال. إن الفرصة التي كان يمكن أن توفرها العمليات الديمقراطية لتحدي قبضة عائلات أو جماعات مُحدَّدة من شأنها أن تُحدِث فارقًا كبيرًا.
    وإن نظام الإصلاح المالي الذي حاول صندوق النقد الدولي فرضه على الاقتصادات القاصرة والمقصرة ارتبط إلى حد كبير بنقص الانفتاح والصراحة ووجود روابط غير أخلاقية في قطاع الأعمال، وهي سمات تميزت بها بعض قطاعات هذه الاقتصادات. وطبيعي أن هذه السِّمات ترتبط بقوة بمنظومة عدم الشفافية في التنظيمات التجارية. ونحن نعرف أن المُودِع حين يُودِع ماله في مَصرف ما إنما يُودِعه على أمل استخدام وديعته، مع أموال أخرى، بوسائل لا تنطوي على مخاطَرة غير محسوبة ويمكن الكشف عنها صراحة. ولكن هذه الثقة كان مصيرها الانتهاك في غالب الأحيان، مما كان يستلزم تغيير الأوضاع. وحَرِي بي أن أذكر أنني هنا لستُ بصدد التعليق عمَّا إذا كانت إدارة صندوق النقد الدولي للأزمات صحيحة تمامًا أم لا، ولا ما إذا كان الإصرار على إصلاحات مباشرة كان في الإمكان إرجاؤه لأسباب معقولة أم لا إلى حين استعادة هذه الاقتصادات الثقة التي فقدتها.٤١ ولكن بغض النظر عن أفضل الوسائل لإجراء هذه التعديلات، إلا أن الشيء الذي لا مراء فيه هو دَور حرية الشفافية — أو بمعنى أصح انعدام الشفافية — في تطور الأزمة الآسيوية.

    إن نمط المُخاطَرة والاستثمارات الخاطئة كان يمكن أن يكون موضوعًا لدراسة فاحصة أوسع وأَهَم لو كان في وُسْع النُّقاد الديمقراطيين أن يطالبوا بذلك في إندونيسيا، أو كوريا الجنوبية على سبيل المثال. ولكن أيٌّ من هذه البلدان كان لديه نظام ديمقراطي يسمح بأن تصدر مثل هذه المطالبات من خارج الحكومة؟ وهكذا تحولت بسهولة سلطة الحكم التي لا تقبل التَّحدِّي إلى تسليم أعمى بواقِع عدم المحاسبة وعدم الشفافية. وهذا واقع عززته روابط أُسرية قوية بين الحكومة وأرباب المال. وكان للطبيعة غير الديمقراطية للحكومات دور مهم في نشوء الأزمات الاقتصادية.

  • ثانيًا: ما إن أفضت الأزمة المالية إلى كساد اقتصادي عام حتى أصبح المجتمَع يفتقد بشدة القوة الوقائية للديمقراطية، وهذه لا تختلف عن السُّلطة الوقائية للديمقراطية لاتقاء المجاعات في البلدان الديمقراطية. ولكن المحرومين الجدد لم تكن لديهم الفرصة اللازمة للإدلاء بآرائهم.٤٢ وإن انخفاض إجمالي الناتج القومي، على سبيل المثال، من ١٠ في المائة قد لا يبدو انخفاضًا كبيرًا جدًّا إذا جاء في أعقاب نمو اقتصادي في الماضي بحوالي ٥ أو ١٠ في المائة في السنة وعلى مدى بضعة عقود. ولكن هذا الانخفاض يمكن أن يتسبب في بؤس وهلاك حياة الملايين إذا لم يتقاسم الجميع عبء الانكماش، وتَرَك المجتمع هذا العبء كله يُلْقى على كاهل أضعف الناس قُدرةً على تَحمُّله وهُم العاطلون، أو مَن أصبحوا اقتصاديًّا في الوضع الجديد عمالة زائدة. وغني عن البيان أن المُستضعَفين في إندونيسيا لم يَفتقدوا الديمقراطية عندما كانت الأمور تسير رُخاء، ولكن هذه الثغرة ذاتها هي التي حَجبَت أصواتهم، وأفقدتهم كل قدرة أو فعالية مع نشوب الأزمة التي يتقاسمها المجتمَع كله على قدم المساواة. إن الدور الوقائي للديمقراطية يفتقده المجتمع بقوة حين تشتد حاجته إليه.

ملاحظات ختامية

يتضمن تحدي التنمية كلًّا من القضاء على الحرمان المُزمِن المتوطِّن، والحرمان الناجم عن فقر مفاجئ قاسٍ. ولكن مُتطلَّبات كل منهما بشأن المؤسَّسات والسياسات يمكن أن تكون مُتطلَّبات مُتمايزة، بل وغير متماثلة على الإطلاق. ومن ثم فإن النجاح في مجال لا يكفل النجاح في الآخِر. مثال ذلك لو تأملنا الأداء النسبي لكل من الصين والهند على نصف القرن الأخير، نجد واضحًا أن الصين أحرزت نجاحًا أكبر من الهند من حيث ارتفاع متوسط العمر المُتوقَّع وخفض نسبة الوفيات. والحقيقة أن أداءها الأعظم يعود تاريخيًّا إلى ما قبل الإصلاحات الاقتصادية لعام ١٩٧٩م (إن إجمالي التقدم الذي حققته الصين في سبيل تعزيز متوسط العمر المتوقَّع كان في حقيقة الأمر خلال فترة ما بعد الإصلاح أبطأ مما كان قبل الإصلاح). ولكن الهند تختلف عن الصين من حيث إن الهند أكثر تنوعًا، كما تُوجَد مناطق في الهند (مثل كيرالا) ارتفع فيها متوسط العمر على نحو أسرع من نظيره في الصين. ولكن على الرغم من ذلك، فإن المقارَنة بين البلدين إجمالًا من حيث الزيادة العامة في مُتوسِّط العمر المتوقَّع إنما هي لمصلحة الصين. ومع هذا، وكما أشرنا سابقًا، فإن الصين لها سِجِلٌّ أكبر من الهند من حيث المجاعات في التاريخ. ويكفي أن نَذكُر أن ثلاثين مليون نسمة لقوا حتفهم في المجاعات التي أعقبَت فَشَل خطة «قفزة إلى الأمام» خلال الفترة ١٩٥٨–١٩٦١م. ولكن اتقاء المجاعات وغيرها من أزمات كارثية هو نظام مختلف عن نظام الزيادة الكلية في متوسط العمر المتوقَّع وغيره من الإنجازات.

وغني عن البيان أن لظاهرة عدم المساواة دورًا مهمًّا في تطوُّر المجاعات وغيرها من الأزمات القاسية. حقًّا إن غياب الديمقراطية هو في حد ذاته عدم مساواة، وهو في هذه الحالة عدم مساواة في الحقوق السياسية والسلطات. ولكن ما هو أكثر من ذلك أن المجاعات وغيرها من الأزمات إنما تنمو وتطرد على أساس تزايد عدم المساواة بصورة قاسية ومفاجئة أحيانًا. وهذا ما توضحه حقيقة أن المجاعات يمكن أن تحدث حتى مع عدم حدوث نقص كبير — أو أي نقص — في مُجمَل المعروض من الغذاء بسبب أن بعض الجماعات يمكن أن تعاني فقدانًا مفاجئًا لقوة السوق (نتيجة بطالة مفاجئة وواسعة النطاق على سبيل المثال) مع معاناة الجوع الناجم عن حالة اللامساواة الجديدة.٤٣

وتبرز لنا قضايا مماثلة تتعلق بفهم طبيعة الأزمات الاقتصادية من مثل أزمات شرق وجنوب شرق آسيا التي وقعت أخيرًا. ولنأخذ على سبيل المثال أزمة كل من إندونيسيا وتايلاند، بل وأزمة كوريا الجنوبية السابقة عليهما. ويمكن أن نتساءل في دهشة: لماذا كان انخفاض إجمالي المنتَج القومي في سنة بنسبة ٥ أو ١٠ في المائة، كمثال، حدثًا كارثيًّا إلى أقصى حد بينما البلد المعني حقق نموًّا ما بين ٥ أو ١٠ في المائة في السنة على مدى عقود؟ حقيقة الأمر أن هذا على المستوى التراكمي ليس وصفًا كارثيًّا في جوهره. ومع هذا فإن هذا الخفض البالغ ٥ أو ١٠ في المائة إن لم يتم تقاسمه على نحو متساوٍ بين الناس، فسوف يُلقَى العبء كله على كاهل القطاع الأكثر فقرًا من السكان، ومن ثم فإن هذا القطاع لن يتبقى له سوى النَّزْر اليسير جدًّا من الدَّخل (وليس مهمًّا هنا إجمالي النمو في الماضي). والملاحَظ أن مثل هذه الأزمات الاقتصادية العامة، شأن المجاعات، إنما تستشري على أساس قاعدة أن الشيطان يفترس من هو في آخر الرَّكْب. ويوضح لنا هذا، جزئيًّا، لماذا تمثل التنظيمات بشأن «الأمن الوقائي» في صورة شبكات أمن اجتماعي حرية أداتية مهمة؟ ولماذا نَعتبر الحريات السياسية في صورة فرص للمشاركة؟ وكذلك الحقوق المدنية والحريات إنما هي في نهاية المطاف أمر حاسم ولازم حتى بالنسبة إلى الحقوق الاقتصادية والبقاء.

وتعتبر قضية عدم المساواة بطبيعة الحال مهمة أيضًا كسبب لاطراد حالة الفقر المتوطنة، ولكن هنا أيضًا نجد أن طبيعة عدم المساواة والمؤثرات السببية يمكن أن تختلف إلى حد ما بين مشكلة الحرمان المزمن ومشكلة الفقر المفاجئ. مثال ذلك حالة كوريا الجنوبية؛ إذ حققت نموًّا اقتصاديًّا مع توزيع للدخل متساوٍ نسبيًّا.٤٤ بَيْدَ أنَّ هذا لم يكن ضمانًا لكي تتجه الاهتمامات على قدم المساواة في وضع الأزمة مع انعدام السياسة الديمقراطية. ونخص بالذِّكْر هنا أنها لم توظف أي شبكة للأمن الاجتماعي المنتظم، أو أي منظومة للاستجابة السريعة مع توفير حماية تعويضية. ولهذا فإن ظهور حالة جديدة من عدم المساواة والعَوز غير القابل للتَّحدِّي يمكن أن يتعايش مع خبرة سابقة عن «النمو في إطار العدالة» (كما كان يُسمَّى غالبًا).

ولقد عُنِي هذا الفصل أساسًا بمشكلة تَفادي المَجاعات واتقاء الأزمات الكارثية. ويمثل هذا جانبًا من عملية التنمية باعتبارها حرية؛ ذلك لأنَّه يَتضمَّن تعزيز الأمن والحماية اللذين ينعم بهما المواطنون. والرابطة هنا هي في آنٍ واحد تأسيسية وأداتية. أولًا: الوقاية من المجاعات والأوبئة والحرمان القاسي والمفاجئ. يمثل كل هذا تعزيزًا لفرصة أن يعيش المرء حياة آمنة ورَضِيَّة. وحسب هذا المعنى فإن اتقاء الأزمات الكاسحة والمُدمِّرة هو من صميم الحرية التي يرى الناس عن حق أنها ذات قيمة بالنسبة إليهم. ثانيًا: إن عملية اتقاء المجاعات وغيرها من الأزمات أفادت كثيرًا باستخدامها الحريات الأداتية؛ مثل فرصة الحوار المفتوح، والمراجعة العامة من قِبَل الجمهور والسياسة المُرتَكِزة على نظام انتخابي، والإعلام الحر من دون رقيب. مثال ذلك أن سياسة المعارَضة المنفتحة في بلد ديمقراطي تتجه إلى إرغام حكومة على اتخاذ خطوات فعالة في الوقت المناسب من أجل اتقاء المجاعات. ويحدث هذا بأسلوب لا تعهده التنظيمات غير الديمقراطية حال وقوع المجاعة، سواء في الصين، أو كمبوديا، أو إثيوبيا، أو الصومال (كما كانت الحال في الماضي) أو في كوريا الشمالية، أو السودان كما يحدث الآن. إن التنمية لها جوانب كثيرة، وكل منها يستلزم تحليلًا وتدقيقًا ملائمًا ومتمايزًا.

١  الجزء الأول من هذا الفصل مبني على كلمتي أمام اتحاد البرلمانات الدولي في مجلس الشيوخ الإيطالي بمناسبة قمة الغذاء العالمي في روما، إيطاليا، ١٥ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩٩٦م؛ التحليل مستمد من كتابي: «الفقر والمجاعات»؛ بحث في الاستحقاق والحرمان (كلارندون برس، ١٩٨١م)؛ ودراستي بالاشتراك مع جين دريز: «الجوع والعمل العام» (كلارندون برس، ١٩٨٩م).
٢  للاطلاع على عرض عن «تحليل استحقاقات» انظر كتابي: «الفقر والمجاعات»، (١٩٨١م)؛ وكتابي بالاشتراك مع دريز: «الجوع والعمل العام»، (١٩٨٩م).
٣  للاطلاع على أمثلة عن مجاعات ناشئة لأسباب مُختلفة دون حدوث انخفاض أو مع حدوث انخفاض قليل في المُنتَج الغذائي والمتاح منه، انظر كتابي: «الفقر والمجاعات»، (١٩٨١م)، الفصول ٦–٩.
٤  انظر كتابي: «الفقر والمجاعات»، (١٩٨١م)؛ وانظر أيضًا: Meghnad Desai, A General Theory of Poverty, Indian Economic Review 19 (1984).
٥  يمكن الاطلاع على مسح نقدي مهم للأدبيات من المجاعات في: Martin Ravallion, Famines and Economics, Journal of Economic Literature 35 (1997).
٦  انظر كتابِي: «الفقر والمجاعات»، ١٩٨١م.
٧  مجاعة بنجلاديش عام ١٩٧٤م، يوجد تحليل لها في كتابِي الفقر والمجاعات، (١٩٨١م).
٨  انظر: (١٩٨٧م) Ravallion, Markets and Famines.
٩  حقيقة أن أيرلندا كانت تُصدِّر الغذاء إلى إنجلترا وقت المجاعات يُورِدُها البعض كدليلٍ على أن المُنتَج الغذائي لم ينخفض في أيرلندا، ولكن هذه نتيجة خاطئة لسببين؛ الأول: لأنَّ لدينا دليلًا مباشرًا على نقص المُنتَج الغذائي (مقترنًا بالأمراض التي أصابت محصول البطاطس). والثاني: بسبب أن حركة الغذاء تُحدِّدها الأسعار النسبية وليس فقط المُنتَج الغذائي في البلدان المُصدِّرة. والحقيقة أن حركة الغذاء العكسية ظاهرة شائعة في المجاعات المفاجئة؛ حيث يوجد هبوط اقتصادي عام من شأنه أن يُؤدِّي إلى انخفاض الطَّلب على الغذاء حتى بِنِسبَة أكبر من انخفاض العرض. والمُلاحَظ في مجاعات الصين أيضًا أن نسبة كبيرة من المُنتَج الغذائي المُنخَفِض للريف الصيني كان يذهب إلى المدن بناء على السياسة الرسمية.
١٠  هناك عوامل أخرى وراء فارق الوفيات في مجاعة البنغال عام ١٩٤٣م، من بينها القرار الحكومي بإيواء سكان الحضر في كلكتا على أساس حصص غذائية محددة، وضبط الأسعار، ومن ثم بقي سكان الريف الفقراء بدون حماية، انظر في هذا الشأن كتابي: الفقر والمجاعات (١٩٨١م).
١١  الشائع عادة أن يعاني سكان الريف من المجاعات أكثر من سكان المدن الأخرى سياسيًّا واقتصاديًّا. وقدم ميشال ليبتون تحليلًا لطبيعية «الانحياز الحضري» في دراسة كلاسيكية: Why Poor people Stay Poor: A Study of Urban Bias in World Development (London: Temple Smith, 1977).
١٢  انظر: Alamgir, Famine in South Asia (1980), and my Poverty and Famines (1981). قدم مارتن رافاليون تحليلًا وافيًا لأسعار الغذاء وغير ذلك من عوامل سببية في كتابه: الأسواق والمجاعات، ١٩٨٧م. ويُوضِّح رافاليون أيضًا كيف أن سوق الأرز بالَغ في مدى الهبوط المستقبلي للعرض من الغذاء في بنجلاديش مِمَّا جعل سعر الأرز المُتوقَّع يرتفع أكثر ممَّا كان.
١٣  الإنسكلوبيديا البريطانية، الطبعة ١١، مجلد ١٠، ص١٦٧.
١٤  انظر: A. Loveday, The History and Economics of Indian Famines (London: G. Bell, 1916), and also my Poverty and Famines (1981), chapter 4.
١٥  انظر: Alex de Waal, Famines that Kill (Oxford: Clarendon Press, 1989).
١٦  التحليل هنا يستخدم دراساتي: Famine as Alienation, in State, Market and Development: Essays in Honour of Rehman Sobhan, edited by Abu Abdullah and Azizur Rahman Khan (Dhaka: University Press, 1996), and Nobody Need Starve, Granta 51 (1995).
١٧  انظر: Robert James Scally, The End of Hidden Ireland (New York: Oxford: University Press, 1995).
١٨  انظر: Cormac O Grada, Ireland before and after the Famine, Manchester University Press, 1988.
١٩  Terry Eagleton, Heath cliff and the Great Hunger: Studies in Irish Culture (London: Verso, 1995).
٢٠  عن تحليل المجاعات الأيرلندية، انظر: Joel Mokyr, Why Ireland Starved: A Quantitative and Analytical History of the Irish Economy, 1800–1850 (London: Alien & Unwin, 1983). مسألة المعدمين غير المالكين لأرض مسألة خطيرة في سياق المجاعات في جنوب آسيا، وأيضًا إلى حد ما في أفريقيا جنوب الصحراء.
٢١  انظر: Alamgir, Famine in South Asia (1980).
٢٢  عن الحركة العكسية للغذاء، انظر كتابي: «الفقر والمجاعات»، ١٩٨١م.
٢٣  Mokyr, Why Ireland Starved (1983).
٢٤  انظر تقديرًا متوازنًا عن هذا النهج في التشخيص عند موكير في كتابه: لماذا تَضوَّرت أيرلندا جوعًا، (١٩٨٣م).
٢٥  انظر: Cecil Woodham-Smith, The Great Hunger: Ireland 1845–1849 (London: Hamish Hamilton, 1962).
٢٦  انظر: Andrew Roberts, Eminent Churchillians (London: Weidenfeld & Nicolson, 1994).
٢٧  الاقتباس من وودهام-سميث الجوع الأكبر (١٩٦٢م).
٢٨  الصلة الوثيقة للتفكير الأخلاقي في الموضوع لاتقاء الجوع والمجاعات نقرأ له تحليلًا متميزًا في: Onora O’Neil, Faces of Hunger: An Essay on Poverty, Justice and Development (London: Alien and Unwin, 1986).
٢٩  توجد دراسات كثيرة عن هذا كما نوقش الموضوع وجرى تقييمه نقديًّا: في دريز وصن: «الجوع والعمل العام»، (١٩٨٩م).
٣٠  انظر: دريز وصن، «الجوع والعمل العام»، (١٩٨٩م).
٣١  انظر في هذا، دريز وصن: «الجوع والعمل العام» (١٩٨٩م).
٣٢  فيما يتعلق بميكانيكا هذه الإجراءات انظر المرجع السابق.
٣٣  انظر المرجع السابق.
٣٤  انظر بشأن هذه القضايا المترابطة كتابي: الفقر والمجاعات، ١٩٨١م.
٣٥  الصورة المقارنة معروضة في دريز وصن: «الجوع والعمل العام»، (١٩٨٩م).
٣٦  انظر: Basil Ashton, Kenneth Hill, Alan Piazza and Robin Zeitz, Famine in China 1958–61, Population and Development Review 10 (1984).
٣٧  T. P. Bernstein, Stalinism, Famine, and Chinese Peasants, Theory and Society 13 (1984).
٣٨  الاقتباس من: Mao Tse-tung, Mao Tse-tung Unrehearsed, Talks and Letters 1956–1971 edited by Stuart R. Schram (Harmondsworth: Penguin Books, 1976).
٣٩  انظر في هذا. Ralph Miliband, Marxism and Politics (1977).
٤٠  انظر: دريز وصن، «الجوع والعمل العام»، (١٩٨٩م).
٤١  نجد «تفسيرًا داخليًّا» للاستراتيجية العامة لصندوق النقد الدولي لاتقاء الأزمة والإصلاح طويل المدى في شرق وجنوب آسيا في: Timothy Lane, Atish R. Ghosh, Javier Hamann, Steven Phillips, Marianne Schultz-Ghattas and Tsidi Tsikata, IMF-Supported Programs in Indonesia, Korea and Thailand: A Preliminary Assessment (Washington, D.C.: International Monetary Fund, 1999).
٤٢  انظر: James D. Wolfensohn, The Other Crisis: Address to the Board of Governors of the World Bank (World Bank, 1998).
٤٣  الجوع يمكن أن لا يكون فقط نتيجة كوارث طبيعية، أو أزمات اقتصادية مفاجئة، بل وأيضًا نتيجة حروب وصراعات عسكرية: Economic Regress: Concepts and Features, in Proceedings of the World Bank Annual Conference on Development Economics 1993 (Washington, D.C.: World Bank, 1994).
٤٤  انظر: Torsten Persson and Guido Tabellini, Is Inequality Harmful to Growth? Theory and Evidence, American Economic Review 84 (1994).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤