الفصل الأول

كان الجميع سكارى؛ السَّرِية بأكملها كانت سَكْرى وهي تسير على الطريق في الظلام. كنا في طريقنا إلى إقليم شامبين. ظل الملازم يقود حصانه في الحقول ويقول له: «إنني ثمل يا صديقي، أؤكد لك. آه، إنني غارق في السُّكر.» ظللنا نسير على الطريق طوال الليل في الظلام، وظل الضابط المساعد يقود حصانه بجوار مطبخي وهو يقول: «لا بد أن تُطفئ ناره. إنَّ ذلك خطير للغاية. سوف يُرى.» كنا على بعد خمسين كيلومترًا من الجبهة، لكنَّ الضابط المساعد كان قلقًا بشأن نار مطبخي. لقد كان السير على هذا الطريق أمرًا ممتعًا. كان ذلك حين كنت عريفَ مطبخ.

المخيم الهندي

كان هناك زورق تجديف آخر يقف على شاطئ البحيرة، ووقف اثنان من الهنود ينتظران.

ركب نِك ووالده في مؤخرة الزورق، ودفعه الهنديان ثم ركبه أحدهما كي يجدف. جلس العم جورج في مؤخرة زورق المخيم، ودفع الهندي الشاب الزورق، ثم ركب كي يجدف بالعم جورج.

بدأ الزورقان إبحارهما في الظلام. سمع نِك صوت مسندَيْ مجدافَي الزورق الآخر يأتي من مكان بعيد يسبقهم في الضباب. كان الهنديان يجدفان بحركات سريعة متقطعة، وأراح نِك ظهره للخلف تحوطه ذراعُ أبيه. كان الجو باردًا في المياه. وبالرغم من أنَّ الهندي الذي كان يجدف بهما كان يعمل بكدٍّ، فقد كان الزورق الآخر يتقدم زورقهما في الضباب على الدوام.

سأل نِك: «إلى أين نذهب يا أبي؟»

«إلى المخيم الهندي، ثمة سيدة هندية مريضة للغاية.»

فقال نِك: «يا إلهي.»

على الجهة المقابلة من الخليج، وجدوا أنَّ الزورق الآخر قد رسا على الشاطئ. كان العم جورج يدخن سيجارًا في الظلام، وسحب الهندي الشاب الزورق إلى مكان بعيد على الشاطئ. وأعطى العم جورج كلا الهنديَّين سيجارًا.

ساروا من الشاطئ عبر مرج ينضح بالندى، متبعين الهنديَّ الشاب الذي كان يحمل قنديلًا، ثم ساروا في الأحراج وتبعوا ممرًّا كان يؤدي إلى طريق احتطاب كان منتهاه التلال من جديد. كان طريق الاحتطاب أفضل إضاءةً بكثير؛ إذ كانت الأشجار قد قُطِعت فيه على الجانبَين. توقف الهندي الشاب وأطفأ قنديله، وساروا جميعًا على الطريق.

مَرُّوا بمنعطف وخرج كلب ينبح. في الأمام، ظهرت أضواء الأكواخ التي كان يعيش فيها الهنود الذين يعملون في تقشير اللحاء. اندفع نحوَهم المزيدُ من الكلاب، وأعادها الهنديان إلى الأكواخ. وفي الكوخ الأقرب إلى الطريق، بدا ضوءٌ في النافذة. وعلى المدخل، وقفت سيدة عجوز تحمل مصباحًا.

في الداخل، على سرير خشبي يتكون من طابَقَين، كانت ترقد سيدة هندية شابة، كانت تُحاول أن تلد طفلها منذ يومَين، وكانت جميع النسوة العجائز في المخيم يُحاولن مساعدتها. أما الرجال فقد خرجوا إلى الطريق كي يجلسوا في الظلام ويُدخنوا بعيدًا عما كانت تُصدِره من ضوضاء. صرخت فور أن دخل نِك ووالده والهنديان اللذان كانا يقودانهما والعم جورج إلى الكوخ. كانت ترقد بضخامتها في الطابق السفلي من السرير تحت لحاف، بينما يتجه رأسها إلى أحد الجانبَين. في الطابق العلوي من السرير، كان يجلس زوجها. كان قد جرح قدمه جرحًا خطيرًا بالفأس قبل ثلاثة أيام. وكان يُدخِّن غليونًا، وكانت رائحة الغرفة سيئة للغاية.

أمر والد نِك بوضع بعض المياه على الموقد، وبينما كانت تُسخَّن، راح يتحدث إلى نِك قائلًا: «هذه السيدة سوف تلد طفلًا يا نِك.»

أجاب نِك: «أعرف.»

تابع والده الحديث قائلًا: «إنك لا تعرف. استمع إليَّ! إنَّ ما تمر به الآن يُسمَّى المخاض. إنَّ الطفل يرغب في أن يُولَد، وهي ترغب في ولادته. جميع عضلات جسمها تُحاول أن تُنجِز عملية ولادة الطفل. هذا ما يحدث عندما تصرخ.»

قال نِك: «فهمت.»

وحينها على الفور، صرخت المرأة.

سأل نِك والده: «أوه، يا أبي، ألا تستطيع أن تعطيها شيئًا يجعلها تكف عن الصراخ؟»

أجاب أبوه: «لا، ليس لدي أي مخدر، لكنَّ صرخاتها لا تُهِم. إنني لا أسمعها لأنها لا تُهِم.»

تقلَّب الزوج الذي كان يرقد في الطابق العلوي من السرير، ليُواجه الحائط.

المرأة الموجودة في المطبخ أشارت بحركة إلى الطبيب تُفيد بأنَّ المياه قد أصبحت ساخنة. دخل والد نِك إلى المطبخ وصبَّ ما يقرب من نصف المياه من القِدر الكبيرةِ في أحد الأحواض، ووضع في المياه التي تبقت في القِدر عِدةَ أشياء كان قد أخرجها من منديل.

تحدث قائلًا: «هذه يجب أن تغلي.» ثم بدأ في دعك يديه في حوض المياه الساخنة بقالب من الصابون كان قد أحضره من المخيم. شاهد نِك والده وهو يدعك بالصابون يدَيه إحداهما بالأخرى. وبينما كان والده يغسل يدَيه جيدًا وكليًّا، راح يتحدث.

«أنت تعلم يا نِك أنَّ الأطفال يُولَدون برءوسهم أولًا، لكنَّ ذلك لا يحدث في بعض الأحيان. وحين لا يحدث هذا، تكون مشكلة للجميع. قد أُضطَرُّ إلى إجراء عملية جراحية لهذه السيدة. سوف نعرف بعد قليل.»

وحين أصبح راضيًا عن نظافة يدَيه، سار للداخل وتوجَّه إلى العمل.

قال: «هلَّا رفعت هذا اللحاف يا جورج؟ يجب ألا ألمسه.»

حين بدأ في إجراء العملية الجراحية بعد ذلك، أمسك العم جورج وثلاثة هنود آخرون بالمرأة كي تبقى ساكنة. عضت المرأة ذراع العم جورج؛ فقال: «تبًّا أيتها المرأة الخبيثة!» وراح الهندي الشاب الذي جدَّف بزورق العم جورج يضحك منه. أمسك نِك بالحوض لأبيه. استغرق الأمر بأكمله وقتًا طويلًا. أخرج أبوه الطفل وصفعه على ظهره كي يتنفس ثم ناولَه المرأةَ العجوز.

تحدث إلى نِك قائلًا: «انظر يا نِك! إنه غلام. ما رأيك في مهمة الطبيب المتدرب التي تُؤدِّيها؟»

أجاب نِك: «لا بأس بها.» كان ينظر بعيدًا كي لا يرى ما كان يفعله أبوه.

تحدث والد نِك بينما كان يضع شيئًا في الحوض وقال: «حسنًا! هذا يكفي.» لم ينظر نِك إلى ما وضعه.

وتابع أبوه قائلًا: «سوف أخيط الآن بعض الغرز. يُمكنك أن تشاهد ذلك يا نِك أو لا، افعل ما تريد. سوف أخيط الجرح الذي فتحته.»

لم يرغب نِك في مشاهدة ما كان يفعله والده؛ كان فضوله قد تلاشى منذ فترة طويلة.

انتهى أبوه ونهض واقفًا. وقف العم جورج والهنود الثلاثة، وذهب نِك بالحوض ووضعه في المطبخ.

نظر العم جورج إلى ذراعه، وابتسم الهندي الشاب وهو يتذكر الأمر.

تحدث إليه الطبيب قائلًا: «سوف أضع على هذا بعض البروكسيد يا جورج.» وانحنى ناظرًا إلى السيدة الهندية. كانت قد أصبحت الآن هادئة، وأغمضت عينَيها. بدت شاحبة للغاية، ولم تكن تعرف ما حلَّ بالطفل أو أي شيء آخر.

تحدث الطبيب وهو ينهض: «سأعود في الصباح، وسوف تحضر الممرضة من سانت إيجناس بحلول الظهيرة، وستجلب كل ما نحتاج إليه.»

كان يشعر بالانتشاء والرغبة في الحديث مثلما يغدو لاعبو كرة القدم في غرفة تغيير الملابس بعد المباريات.

قال: «إنَّ ذلك جديرٌ بالنشر في الدورية الطبية يا جورج. إجراء عملية توليد قيصرية باستخدام سكين الجيب وخياطة الجرح بتسع أقدام من خيوط الصيد المستدقَّة.»

كان العم جورج يقف مستندًا إلى الجدار وهو ينظر إلى ذراعه.

ثم قال: «أوه، إنك رجل عظيم بالطبع.»

قال الطبيب: «يجب أن أُلقي نظرة على الأب الفخور. إن هؤلاء الآباء عادةً أكثرُ مَن يُعانون في مثل هذه الشئون الصغيرة، لكنني يجب أن أعترف أنه تحمل الأمر بهدوء.»

أزاح الغطاء عن رأس الهندي، وخرجت يده مبتلة. صعد على حافة السرير السفلي بمصباح في يده ونظر. كان الهندي مستلقيًا ووجهه في اتجاه الجدار، وكان حلقه مقطوعًا من الأذن إلى الأذن. تدفق الدم إلى أن أصبح بركة تحت وطأة جسده المتثاقل في السرير. استند رأسه على ذراعه اليسرى، وقبعت الموسى المفتوحة وحافتها متجهة إلى الأعلى بين الأغطية.

قال الطبيب: «اصطحب نِك إلى خارج الكوخ، يا جورج.»

لم يكن ثمة حاجةٌ إلى ذلك؛ إذ كان نِك الواقف على باب المطبخ يرى السرير العلوي بوضوح حين أمال أبوه رأس الهندي إلى الخلف والمصباح في يده.

كان الفجر قد بدأ يطلع للتو حين ساروا على طريق الاحتطاب باتجاه العودة إلى البحيرة.

تحدث والد نِك إليه وقد زالت عنه النشوة التي كان يشعر بها بعد العملية الجراحية؛ فقال: «إنني في غاية الأسف لأنني أحضرتك يا نيكي. لقد كانت تجربة مريعة تلك التي مررت بها.»

سأل نِك: «هل تُعاني النساء دومًا بهذا القدر في ولادة أطفالهن؟»

«كلا، لقد كان ذلك استثنائيًّا للغاية.»

«لماذا قتل نفسه يا أبي؟»

«لا أدري يا نِك. أعتقد أنه لم يستطع أن يتحمل الأمور.»

«هل يقتل الكثيرُ من الرجال أنفسهم يا أبي؟»

«ليس الكثير من الرجال يا نِك.»

«هل يفعلها الكثير من النساء؟»

«نادرًا.»

«ألا يفعلنها أبدًا؟»

«أوه، بلى، يفعلنها في بعض الأحيان.»

«أبي؟»

«أجل.»

«أين ذهب العم جورج؟»

«سيعود قريبًا.»

«هل الموت صعب يا أبي؟»

«كلا، أعتقد أنه سهل للغاية يا نِك. إنَّ الأمر كله يتوقف على الظروف.»

كانا يجلسان في الزورق، نِك في المؤخرة، ووالده يُجدِّف. كانت الشمس تُشرِق فوق التلال. قفزت سمكة قاروص فصنعت دائرة في المياه. مرَّر نِك يده في المياه فوجدها دافئة رغم برودة الصباح الشديدة.

في الصباح الباكر وهو جالس في مؤخرة الزورق مع والده الذي يجدف به في البحيرة، كان متأكدًا من أنه لن يموت أبدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤