الفصل السادس

تجنَّبَ الطريق الملاصق للثكنات، واخترقَ الصحراء نحو مدفن الشهيد ليبلغه في أقصر وقت، وكان كأنما يهتدي ببوصلة مُركَّبة في رأسه، لسابق درايته بصحراء العباسية، وعندما لاحَتْ له قبة المدفن الضخمة تحت ضوء النجوم، راحت عيناه تُفتِّشان عن المكان الذي تنزوي فيه السيارة، ودار حول المدفن وهو يحد بصره، ولا يعثر على ضالته، حتى بلغ ضلعه الجنوبي، فتراءى له شبح هيكلها راقدًا على بُعدٍ، مضى نحوها مُصمِّمًا، ثم ما لبث أن أحنى ظهره حتى انخفض رأسه إلى مستوى ركبته، واقترب منها فوضح لأذنَيهِ أن الصمت يتخلخل بهمسات مغرقة في السر، سيذعر قلب هانئ، وتتبدَّد مسرة، ولكن لا ذنب لك، الاختلال يطبق علينا مثل قبة السماء، وقديمًا قال رءوف علوان: إن نوايانا طيبة ولكن ينقصنا النظام. واشتد اقترابه فيما يشبه الزحف، حتى قبضَتْ راحته على مقبض الباب، ونفحته حرارة النفثات، شدَّ على المقبض وجذب الباب بقوة هاتفًا: لا تتحرك!

وانطلقَتْ من عنف المفاجأة آهتان، ولاح له الرأسان وهما يتطلعان إليه في فزعٍ. لوَّح بالمسدس قائلًا بوحشية: سأطلق النار لأدنى حركة، اخرجا!

وجاءه صوت نور متوسِّلًا: في عرضك …

وتساءل الآخَر بصوت مختنق مبحوح كأنه ينطلق خلال رمل وحصًى: ماذا .. ماذا تريد من فضلك؟

– اخرجا!

ألقَتْ نور بجسمها إلى الخارج قابضة على ثيابها في كومة واحدة، وتبعها الشاب وهو يدس نفسه في بنطلونه متعثرًا، ولم يمهله فقرَّب منه المسدس حتى هتف بصوت باكٍ: لا … لا … لا تطلق!

فقال بصوت غليظ آمِر: النقود!

– الجاكتة في الداخل …

فدفع نور إلى الداخل قائلًا: ادخلي أنت!

فدخلَتْ متأوِّهة من عنف الدفعة وهي تردِّد: في عرضك اتركني!

– هاتي الجاكتة!

وتناولها منها، وبسرعة أخذ المحفظة ورماه بها آمِرًا: عندك دقيقة لتنجو بحياتك!

انطلق الشاب في الظلام كالشهاب، وارتمى هو داخل السيارة بسرعة فائقة، وسرعان ما أدار المحرك، فاندفعَتْ مدويةً، وأكملت ارتداء ثيابها وهي تقول: فزعتُ حقيقةً كأني لم أكن أتوقعك!

فقال والسيارة تنطلق بسرعة مخيفة: بلِّي ريقك.

فأعطته زجاجة تناولَ منها جرعة، ثم ردَّها إليها، ففعلَتْ مثله ثم قالت: رُكَبه سابت، مسكين!

– قلبك أبيض، أما أنا فلا أحب أصحاب المصانع!

فاعتدلت في جلستها وهي تقول بلهجة ذات معنًى: الحقيقة أنك لا تحب أحدًا!

ولم يجد رغبة في المغازلة فلم يرد، وبدا أن السيارة تتجه نحو العباسية فتوسَّلَتْ إليه قائلة: سيرونني معك!

وكان يفكر في ذلك أيضًا، فمال مع الطريق المتفرع الذي يفضي في النهاية إلى الدرَّاسة، وخفَّف من السرعة قليلًا، ثم راح يقول: قصدتُ قهوة طرزان لأحصل على مسدس، ولأتفق إن أمكن مع سائق تاكسي من زملائنا القدامى، فانظري كيف رمى لي الحظ بهذه السيارة. – ألا ترى أنني نافعة دائمًا؟

– دائمًا، وكنتِ رائعة، لِمَ لا تشتغلين ممثلة؟

– ولكني فزعتُ أول الأمر حقيقةً!

– وبعد ذلك؟

– أرجو أن أكون قد أتقنتُ دوري حتى لا يشك فيَّ!

– لم يكن في رأسه عقل ليشك في أحد.

واتجه رأسها نحوه ثم سألته: لِمَ تريد المسدس والسيارة؟

– لزوم العمل!

– يا خبر! متى خرجتَ من السجن؟

– أول أمس.

– وتعود إلى التفكير في ذلك؟

– هل يسهل عليكِ تغيير صنعتك؟

فلمْ تُجِبْه، ونظرَتْ إلى الطريق المظلِم الذي تلتمع أرضه بضوء السيارة، وقد اقترب الجبل عند المنعطف كقطعة من الليل أشد كثافة، ثم قالَتْ برقة: أتدري كم حزنتُ عندما علمتُ بسجنك؟

– كم؟

بشيء من الحدة: متى تكف عن السخرية؟

– لكني جاد جدًّا، وواثق من صدق قلبك!

– أما أنتَ فلا قلب لك!

– حجزوه في السجن كما تقضي التعليمات.

– أنت دخلت السجن بلا قلب!

لِمَ الإلحاح على حديث القلوب، اسألي الخائنة، واسألي الكلاب، واسألي البنت التي أنكرَتْني.

– سنُوفَّق يومًا إلى العثور عليه!

– وأين تبيت هذه الليلة؟ هل تدري زوجتك أين أنت؟

– لا أظن!

– هل أنت ذاهب إلى بيتك؟

– لا أظن، ليس الليلة على أي حال.

فقالت برجاء: تعال إلى بيتي!

– تسكنين وحدك؟

– شارع نجم الدين، وراء قرافة باب النصر.

– رقمه؟

– البيت الوحيد في الشارع، تحته وكالة خيش، ووراءه القرافة.

ضحك سعيد قائلًا: يا له من موقع فريد!

فجارَتْه في ضحكه ثم قالت: لا يعرفني هناك أحد، ولم يَزُرني فيه أحد، ستكون أول رجل يدخله، وشقتي في أعلى دور.

وانتظرَتْ كلمته، ولكنه شُغل بمراقبة الطريق الذي ضاق عرضه ما بين الجبل وبين البيوت، ابتداءً من مسكن الشيخ علي الجنيدي، ثم أوقف السيارة عند رأس الدراسة والتفتَ إليها قائلًا: هنا مكان مناسب لنزولك.

– ألا تأتي معي؟

– سآتي فيما بعد.

– أين تذهب في هذه الساعة من الليل؟

– اذهبي من فورك إلى القِسم، واحكي لهم ما حدث بالحرف كأنكِ لم تشاركي فيه، وأعطي لهم أوصافًا بعيدة عني كلَّ البُعد، أبيض، سمين، في خده الأيمن أثر جرح قديم، قولي أني خطفتكِ وسرقتكِ واعتديتِ عليكِ.

– اعتديتَ عليَّ؟

فاستطرد جادًّا رغم ملاحظتها: وأن ذلك كان في صحراء زينهم، وأني قذفتُ بكِ خارجًا ثم هربتُ بالسيارة!

– وهل تزورني حقًّا؟

– نعم، أعدكِ بهذا وعد رجل، هل تحسنين التمثيل في القسم كما فعلتِ في السيارة؟

– إن شاء الله!

– مع السلامة!

ثم انطلق بالسيارة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤