الفصل السادس

ظهور المعتقدات الجديدة

(١) الأسبابُ النفسيةُ في تكوين دِيانات جديدة

بَيَّنَّا أن المعتقداتِ مظهرٌ لمزاجٍ نفسيٍّ ثابت، ثم أَبَنَّا أن هذا المزاج النفسيَّ يمكن أن يَبْدُوَ على شكلِ معتقداتٍ مختلفةٍ أشدَّ الاختلاف.

والمزاجُ الدينيُّ — وإن شِئْتَ فَقُلِ الروح الدينية التي هي من أسُسِه الجوهرية — إذ كان ثابتًا لا يَمَّحي فإن مما لا يُفْتَرض أن يزول عصر المعتقدات الدينية أو أن تزول الظاهرة الدينية.

أَجَلْ، يظهر أن دَوْر مؤسسي الأديان العامة كَبُدَّهَة (بوذا) ومحمد، أو دَوْرَ أقوياء المصلحين، كَلَوثِر وكَالْڨين، قد غاب، ولكن ما يظهر في مختلف البلدان من الأديان الصغيرة على الدوام يَدُلُّ على ثقة البشرية بعون الآلهة في كل زمان.

(٢) عناصر المعتقدات الجديدة

يَتِمُّ تكوين تلك المعتقدات الجديدة وَفْقَ نظام واحد، وهو أن يَجْمَعَ مُتَهَوِّسٌ حوله رُسُلًا ينشرون تعاليمه بالتلقين والعَدْوَى النفسية.

والمذهبُ بعد أن يكون مترجِّحًا ينقلب إلى عقائدَ من فَوْره، فهنالك يستند، كجميع الدِّيانات، إلى أركان كبيرة ثلاثة وهي: الإيمان، والشعائر، والرموز.

والمعتقدُ بعد أن يَتَكَوَّن على هذا الوجه فينتشرَ قليلًا يَنْقَسِم، في الغالب، إلى فِرَقٍ يَخْسَر بها وَحْدَتَه فَتَحُول دون دوامه، وهذا الانقسامُ إلى فِرَقٍ يُوقِفُ اتِّسَاعَ عدد غير قليل من الدِّيانات.

وما بسطناه من المبادئ في فصل سابق يدلُّ على أن مُعْظم الأديان الجديدة لم يَتَكَوَّن بحذافيره، بل تَأَلَّف من أنقاضِ معتقداتٍ سابقة، ومصدرُ هذا هو السبب النفسيُّ البسيطُ القائل: إن المعتقداتِ لا تموت بَغْتَةً، فالمعتقدات تَتَطَلَّب، في بعض الأحيان، عِدَّةَ أجيال لتزول، وهي إذا ما زالت تركت آثارًا لا تَمَّحي في النفس، ولا يزال بعض الشعائر والألفاظ والأدعيةِ المأثورةِ تُثِير — حتى لدى أشدِّ المرتابين — طائفةً من الآمال والمشاعر المطمورة في دائرة اللاشعور، والإيمانُ يكون غيرَ متصلٍ حينئذ لا ريب، ولكنه يستيقظ في الأحوال العظيمة كساعة الموت لدى الأفراد وساعةِ المصائب لدى الأمم، وذلك كما لُوحِظ، بما يستوقف النظرَ، في فرنسة أيام الشِّدَّةِ بعد حرب سنة ١٨٧٠، فقد قطع نوابُ ذلك الزمن عَهْدًا بإنشاء كتدرائيةٍ عظيمةٍ لِنَيْل العَوْن من السماء، وأخذ الجمهور يتقاطر إلى الكنائس فيستمع فيها إلى قساوسةٍ قَويِّي الإيمان ضعيفي الذكاء يُوصُونَه بالحَجِّ وبالصلوات، ويُبَلِّغُونه أن انكساراتِنا هي انتقامٌ إلهيٌّ من الملاحدة، ولَهْجَةٌ كهذه — وإن كانت تُؤَثِّرُ في جيلٍ آخرَ — لا تَصْلُحُ لإثارة شعب في أيامنا إلا قليلًا فَظَلَّتْ غيرَ ذاتِ نفوذ، والاشتراكيةُ إذ كانت تلائم احتياجاتٍ أكثرَ عصريةً أمكنها أن تحاول القيامَ مقام الإيمان السابق، وأن تؤسس دِيانة من ناحيتها.

(٣) دِياناتٌ جديدةٌ نشأت عن تَحَوُّلِ معتقداتٍ قديمة

ظهر من الملاحظات السابقة أن الدِّيانة لا تقوم من غير استعانة بالعناصر الدينية السابقة، وسنرى ذلك من البحث في تكوين مختلف الدِّيانات التي نشأت منذ قرن، فتاريخُ هذه الدِّيانات المُوجَزُ يُسَوِّغ المبادئَ المعروضة آنفًا تسويغًا تامًّا.

وأولُ ما نَدْرُسه في هذا المطلب هو أمرُ الدِّيانات المُشْتَقَّة من الدِّيانات السابقة كالفِرَق الپروتستانية، ثم نَذْكُر الدِّياناتِ التي تبتعد عنها ابتعادًا خاصًّا، كالمَرْمُونِيَّة والروحانية … إلخ، على الرغم مما فيها من الاقتباسات المهِمَّة.

والفِرَقُ الپروتستانية التي تمتلئ بها أمريكة هي من أحسن الأمثلة على ذلك، لا من حيث انقسامُ الدِّيانة الواحدة فقط، بل من حيث القوةُ العجيبة التي تتفق للإنسان، في بعض الأحيان، بفعل الحماسة الدينية أيضًا، فبتلك القوة قامت مُدُنٌ عظيمة في بِقاع كانت تَسْكُنها قبائلُ وحشيةٌ.

ومن ذلك أن جماعة من الپيُورِيتَان فَرُّوا من الاضطهاد فأسَّسُوا، في سنة ١٦٢٠، تلك المستعمرةَ الوضيعة التي انقلبت، ذات يومٍ، إلى جمهورية الولايات المتحدة الهائلة.

وما كان تَشَدُّد أولئك المهاجرين في عدم التسامح أقلَّ عَوْنًا لهم من إيمانهم الحارِّ في نَيْل المقصد، فهم إذ حَظَروا، لعدم تسامحهم، دخولَ من ليس من مذهبهم في أرضهم حَفِظوا وَحْدَةَ العمل بينهم.

ومن الواضح أن الحماسة الدينية عنصرٌ قويٌّ في العمل، ولكنها ليست بكافية، فالإيمانُ، وإن كان يُنْمِي خصائلَ الإنسان، لا يُحْدِثها، وآيةُ ذلك وجودُ أممٍ ذاتِ معتقداتٍ حادَّة لم تُقِمْ شيئًا دائمًا في بِقَاع مماثلة.

حقًّا لقد جلب أولئك الغُزَاة الپروتستانُ معهم فضائلَ عِرْقِهم، وهي قوةُ المبادرة الشخصية وحبُّ العمل والثبات القويُّ والنظام الباطنيُّ المتين، وذلك فضلًا عن الإيمان.

وكان أمر أولئك الرجال المتحمسين، كما يَحْدُث في مثل تلك الحال على الدوام، هو أن يجعلوا الدينَ، بوجهٍ لا شعوريٍّ، ملائمًا للاحتياجات الراهنة، فعلى ما كان من وَضْع دستورهم السياسيِّ في السنوات الأولى بما يلائم نصوص الكتاب المُقَدَّس تَجِده مُشْبَعًا من مبدأ الحكم الذاتي، حتى إن روح الاستقلال تَجَلَّتْ في نظام الكنيسة التي لا تُدِيرها أية سلطة عالية، فكانت تتألف من مجموعة عباداتٍ ذاتية مستقلةٍ لم تَلْبَثْ أن تَحَوَّلَت إلى فِرَقٍ مختلفة مع التسامح التام.

وانتحل المهاجرون الأولون مذهبَ كالڨين في القضاء والقدر، وهو القائل إن أمر الناس بُتَّ فيه قَبْلَ وِلَادَتهم فتَقَرَّرَ كونُهم من أصحاب الجنة أو من أصحاب النار بحسب مشيئة الخالق، بَيْدَ أن هذه الجَبرِيَّة الجائرةَ المؤذية لمشاعر الإنصاف أوجبت رَدَّ فعلٍ فَرُفِضَتْ عقيدةُ القضاء والقدر، تقريبًا، منذ الجيل الثالث، على أنه رُجِّح عدمُ الجَزْم في المسائل التي لم يَقْطَع الكتاب المقدس فيها كالعذاب الأبديِّ وألوهية يسوعَ والتثليث.

وتَزِيد الفِرَق الپروتستانية على الدوام فتشتمل اليوم على معتقدات متنوعة لم يحتفظ الكثيرُ منها بغير الاسم من النصرانية، ويَعُدُّ جميعُ تلك الفِرَق طبيعةَ الإيمان غيرَ ذاتِ أهميةٍ مع ذلك، وذلك مع القول بأن من الضروري أن يكون الإنسان ذا إيمانٍ حتى يَسِيرَ، ولا مَعْدِل لعلم النفس الحديث عن الموافقة على صحة هذا المبدأ.

ومن بين الفِرَق الجديدة التي قد تَتَّصِل بالنصرانية بعضَ الصِّلَة تحتلُّ الفرقةُ المعروفة بالعِلْم النصرانيِّ مكانًا خاصًّا، لا لِما اتَّفَقَ لها من نجاح باهر فقط، بل لِما كان من المعارف الثمينة التي حَبَتْ علمَ النفس بها على الخصوص، ومن الحقِّ أن استوقفتْ نظرَ فريقٍ من الفلاسفة ولا سيما وِيلْيَم جِيمْس.

وبين أتباعِ تلك الفرقة — الذين يزيد عددهم على مليون نفس — تُبْصِر طائفةً من الأساتذة والكُتَّابِ والمتفننين، ويُبَاع من كتابها المقدس خمسُمائة ألف نسخة، وتحتوي مدارسُها أربعةَ آلاف طالب.

والسيدةُ إدِّي هي مؤسسة تلك الفرقة، ويَقِيسُها أنصارُها بيسوع، ويقوم مذهبها على التفاؤل، فلا تَجِد فيه أثرًا لإلهِ اليهود والنصارى الحقودِ، وهي تَعُدُّ الألمَ وَهْمًا، فالإنسانُ إذ كان على صورة الربِّ وجبَ أَلَّا يألم.

فإذا مَرِض أحدُ أتباع تلك الفرقة جِيءَ بكاهن الدين إليه فيُلْقِي هذا الكاهنُ في رُوعه بحماسةٍ أنه ليس مريضًا، فيكون له بهذا التلقين سُلْوَانٌ في الغالب، «فالإيمان يَشْفِي» كما قال الطبيب الشهير شاركو منذ زمن.

قال وِيلْيَم جِيمْس: «العُمْيُ يُبْصِرُون، والعُرْجُ يَمْشُون، والبُرْصُ يُطَهَّرُون، ولم تكن النتائج في الحقل الخُلقيِّ أَقلَّ رَوْعَةً من ذلك، فما أكثر الذين انتحلوا وَضْعًا يَنِمُّ على التفاؤل من غير أن تُفْتَرَض قدرتُهم على ذلك في أيِّ وقت.

… قالت تلك المُؤَسِّسة: سِيرُوا كما لو كنتُ صاحبةَ حقٍّ تَدُلُّكم التَّجْرِبة في كلِّ يوم على أنكم ضمن دائرة الصواب، فتَشْعُرون في جسمكم وروحكم بأن القُوَى التي تسيطر على الطبيعة هي قُوًى شخصية، وبأن أفكاركم الشخصيةَ هي قُوًى حقيقية، وبأن قُوَى الكَوْن تُلَبِّي دَعَوَاتِكم وتقضي احتياجاتِكم الفردية رأسًا … والدينُ الجديد يَهَب الصفاءَ والاتزان الأدبيَّ والسعادة.»

ونتائجُ مثلُ تلك تُوضِح ما اتَّفَق لذلك الطبِّ النفسيِّ من النجاح العظيم، ويمتاز أَتْبَاع تلك الفِرْقَة بسعادة الخُلق، فلا يَجْزَعون حتى من الموت لِعَدِّهم إياه خاتمةَ حُلْمٍ.

وإذا عُدَّتِ السعادةُ غايةَ الدين وجَبَ الاعتراف بأن ذلك المذهب بَلَغ غايته تمامًا.

وذلك المذهب إذ يقول بقدرة الروح على تحويل ما تتلقاه من الانطباعات الخارجية لم يَأْت بما يناقض الملاحظة، وتكون الخدمة التي يُسْدِيها إلى الإنسانية عظيمةً إذا ما استطاع أن يَقْضِيَ على التشاؤم في العالم، ومن المؤسف أن ذلك المذهب لا يُحْدِث تفاؤلًا إلا في الطبائع التي أُعِدَّت له فيجعلُ فيها من العوامل الجديدة ما تحافظ به عليه.

ونتائجُ ذلك المعتقد تُسَوِّغ عملَ المياه المُعْجِزَة والحجِّ وذخائرِ القِدِّيسِين والصلواتِ … وما إلى ذلك من الأمور التي كان العِلْم يُمَارِي فيها فغدا اليوم يقول بها.

وظاهراتٌ طَرِيفَةٌ من الناحية النفسية كتلك مما يَدْعو إلى التسامح نَحْوَ الوعود التي يَصُوغها بائعو الأوهام، ومما ذكرتُه في كتاب آخر تاريخُ بائع الخواتيم السحرية الذي كان يَزْعُم ضمانَها لنجاح من يَحُوزُونها والذي دَانَتْهُ المحكمة حينما عُرِضَت قَضِيَّته عليها، وَحُقَّ للمحكمة أن تَدِينَه من الناحية النظرية، ولكنه لا ينبغي تعزيرُ الساحر من الناحية العملية، فهو لم يَخْدَع إنسانًا ما قال عِدَّةُ شهودٍ، بصيغة التوكيد، إنهم مُلِئُوا بالسعادة منذ حَمَلوا خَواتِيمَ سِحْرِيَّةً، ومن هؤلاء خَيَّاطَةٌ ذَكَرَت زيادةَ عددِ زُبُنِها، وتاجرٌ ذَكَر نُمُوَّ أعماله بسرعة، وما هي عِلَّةُ هذه النتائج الطيبة؟ عِلَّتُها هي أن الاعتماد على العَوْن السحريِّ للخواتيم يُحَرِّك هِمَمَ حامليها، والإنسانُ لا ينتفع، على العموم، بغير قِسْم قليل من القُوَى الكامنة فيه، والإيمانُ بالعَوْن الخارق للعادة يُلْزِم بالسَّيْر على ما يَتِمُّ به النجاح.

ويتألف من عمل الإيمان الذي رَجَعْنا إليه غيرَ مرة ناحيةٌ من أهمِّ نواحي النفوذ الدينيِّ الواضح الذي لا يمكن إنكاره في الوقت الحاضر.

(٤) دِياناتٌ جديدةٌ لم تقتبس غيرَ عناصرَ قليلةٍ من المعتقدات القديمة

تَنِمُّ الفِرَق الپروتستانية على ما في المذهب الواحد من التغييرات فقط، والآن نبحث في دِياناتٍ لا ترتبط في معتقدات قديمة أو إنها لا ترتبط فيها إلا بروابطَ ضعيفةٍ جدًّا.

ونجاحُ الدِّيانات الجديدة، لا تأسيسُها، هو النادر في التاريخ، فقد ظهر في فرنسة وحدَها بضعةَ عَشَرَ دينًا في قرن واحد، وإذا ما نظرنا إلى أشهر ما ظهر منها منذ سنة ١٧٨٩ وَجَدْنا في أول الأمر عبادةَ العقل التي لم يُكْتَب لها سوى فَوْز وَقْتِيٍّ، ثم وَجدْنا دينَ الكائن الأعلى الذي هو ضَرْبٌ من الإيمان بوجود الإله مع إنكار الوحي والذي ابتدعه رُوبِسْپِير، ثم وَجدنا دينَ سويدِنْبُرغ الذي لا يزال ذا أتباع، ومذهبَ ڨَالَنْتِن هَاوِي القائل بالإيمان بالله من غير عبادة، والسَّانْسِيمُونِيَّةَ للأب أنْفَانْتِن، وعبادةَ الإنسانية لأُوغُوسْت كونت، والروحانيةَ، والشيطانيةَ … إلخ، وما كانت البقاع الأخرى أقلَّ من ذلك خِصْبًا.

والمَرْمُونِيَّةُ من أشهر الأديان الحديثة التي ظهرت في أمريكة، ولا تزال المَرْمُونِيَّة دليلًا على القوة التي يَمُنُّ بها الإيمان المتين على الإنسان، ولو كان هذا الإيمان مخالفًا للصواب، وتُؤَيِّدُ المَرْمُونِيَّة قولَنا: إن الدِّيانة تُحَرِّك الصِّفَاتِ الكامنةَ في الإنسان من غير أن تُحْدِثها، وفي هذا سِرُّ ما نراه من إحداث المعتقد الواحد مختلفَ النتائجِ باختلاف الشعوب التي تنتحله.

وذلك المعتقدُ — مهما كان بُطْلُه — لم يكن غير ذي تأثير عمليٍّ في الشعب النشيط الذي لا يرى في الحياة غيرَ وجهها النَّفْعِيِّ، والمَرْمُونِيَّةُ من أسطع الأدلة على ذلك.

ومؤسسُ المَرْمُونِيَّة متهوسٌ صاحبٌ لكتاب مُقَدَّس مُشْبَعٌ من عِدَّةِ ذِكْرَيَاتٍ نصرانية، ولم يُعَتِّم أن صار لهذا الدين الجديد عِدَّةُ أنصار، وكاد هذا الدين ينهار من فَوْره لو لم يَجِد له زعيمًا من أولئك الزعماء العظام الذين يُقَاسون بالقديس بولس فلا يُكْتَب لأيِّ إيمان نجاحٌ بغيرهم.

واسمُ ذلك القِدِّيس بولس الجديدِ الغَاوِي النشيط هو جوزيف سميث، ولم يَلْبَث هذا الرجل أن جَمَعَ عِدَّةَ مئاتٍ من الأتباع.

ومن دواعي الأسف أن قال مذهب المَرْمُونِ بمبدأ تعدد الزوجات الذي يَعُدُّه پُيورِيتَانُ أمريكةَ من الفضائح، فَأُهْرِعَت كتائبُ لإبادة الخوارج، فَنَجا جوزيف سمِيث وتلاميذه في أُوهيو حيث أَسَّسُوا ثلاثَمائة مزرعةٍ كُتِب لها الفلاح بسرعة، وَحَمل الپيُورِيتَانُ الغِضَابُ بعضَ الجنود على حَرْق تلك المزارع، فجُرِّد أولئك المؤمنون، بذلك، من كل ما يملكون فهاجروا إلى شواطئ إلِّينْوَا فسِيقَتْ إليهم كتائب لقتلهم، فهنالك هاجروا بقيادة نَبِيِّهم إلى الغرب فبلغوا شواطئ «البُحَيْرَةِ المالحة» في سنة ١٨٤٤ بعد أن جابوا أكثرَ من خمسمائة فرسخ، بَلَغُوا تلك البُقْعَةَ الجديبة الكئيبة التي لا يدور في خَلَد عَدُوٍّ أن يطاردهم فيها.

وما كان يَلُوح إمكان أيِّ استعمار هنالك، ولكن المَرْمُون تَغَلَّبُوا، بفضل حرارة إيمانهم، على جميع ما كان يظهر تَعَذُّر اقتحامِه من العوائق، فَحَوَّلوا في خمسين سنة تلك البُقْعَةَ الجديبة إلى بُقعة خصيبة مَكْسُوَّة بالمدن والمباني والمعامل ومختلف الصِّناعات، وبلغ عدد المَرْمُون من الكثرة ما أوجب العدول عن اضطهادهم، والمرمونُ مَدِينُون بهذه الكثرة السريعة لانتحالهم مبدأَ تعدد الزوجات، وغيرُ قليلٍ عددُ رجال المرمون الذين يتزوج الواحدُ منهم ثمانيَ نِسْوَةٍ أو عشرَ نسوةٍ١ فيكون له ثمانيةَ عشرَ ولدًا، والمرمونُ — لِما ينالونه من الثَّرَاء بِكَدِّهم — يَسْهُل عليهم إعالةُ عِيَالِهم.

واستعدادُ المَرْمُونِ للدعوة الدينية نَامٍ نُمُوَّ استعدادهم الصِّناعي، ومن ذلك أن حَبْرهم الأخيرَ الذي هو أبٌ لاثنين وأربعين ولدًا ومديرٌ لمَصْرَف كبير أَرْسَل ١٢٠٠ مُبَشِّرٍ إلى أنحاء العالم، وقد يستطيع هؤلاء المُبَشِّرون أن ينشروا المَرْمُونِيَّة، ولكنهم لن يقدروا على مَنْح أتباعِها الجُدُدِ صِفَاتِ العِرْق الخُلْقية التي أوجبت نجاحَها في أمريكة، ومما أراه أن حَبْر المرمون يكون على شيء من الوَهْم إذا ما طَمِع في انتحال الكَوْن لمَذْهبه.

وبجانب الدِّيانات المذكورة آنفًا يمكننا أن نَعُدَّ الدِّيانات التي ظهرت في الشرق منذ قَرْن كالبَابِيَّة والبَهَائِيَّة في فارس، وعن البَابِيَّة تَكَلَّمْت في كتاب سابق بسبب ما أدت إليه من الشُّهَداء.

وأما البَهَائِيَّة فتنتحل وَضْعَ الدِّيانة العامة من غير أن تَهْدِف إلى إلغاء الدِّيانات الأخرى عادَّةً إياها تفاسيرَ مختلفةً لحقيقة واحدة.

قال أحد أتباع البَهَائِيَّة: «تُبَيِّن البَهَائِيَّة من خِلال مختلف العقائد والرموز كيف أن الأديان نتيجةٌ لمجهودِ مختلفِ الأمم في سبيل حلِّ مسألة المجهول العظيمة وأن مؤسسيها رُسُلٌ لإله واحد، فيُبَلِّغون الناسَ تعليمًا واحدًا ملائمًا لمقتضيات الزمن فقط.»

وتَنِمُّ تلك المبادئ على شيء من التعقل فلا يُكْتَب لها كبيرُ نجاحٍ على ما أرى، فالأممُ لا تَعْبُد سوى آلهة شخصية على الدوام، وأما الآلهة غير الشخصية فهي مُجَرَّدَاتٌ من قبيل الطبيعة عند العالِم والجمالِ عند المُتَفَنِّن والعلةِ الأولى عند الفيلسوف والعدلِ عند السياسيِّ، فهذه الأمور لا تُعْبَد وإن كان يُسْتَشْهَد بها وتُحْتَرم.

ويمكن أن تُعَدَّ أَخْيِلَة الاتصاليين والروحانيين من المعتقدات الجديدة مع بُعْدها من الدِّيانات المذكورة آنفًا، وعدمِ وجودِ قرابة بينهما.

والروحانيةُ، إذ كانت غايتُها مناجاةَ أرواح المَوْتَى وأرواحِ العالَم الآخر، وذلك بواسطة الموائد الدَّوَّارَة والوُسطاء، يَتَأَلَّف منها ضَرْبٌ من العبادة ذاتِ عِدَّة الملايين من الأتباع في الزمن الحاضر.

وبجانب الروحانية نذكر جميع المعتقدات التي هي من نوعها كالسحر والاتِّصَالية … إلخ، فهذه المعتقداتُ مُبْهَمَةٌ مذبذبة إلى الغاية، وليس من المفيد أن أُكَرِّر هنا نتائجَ البحث التي خَصَّصْتها لها في كتابي «الآراء والمعتقدات»، ونحن إذا ما تكلمنا عنها الآن فلِنُثْبِت عدم فَنَاء النفسية الدينية.

وَيَدُلُّ إيمان كثير من أفاضل العلماء بالمعتقدات الروحانية على درجة تَعَذُّر الاستغناء عن الدين وعلى ارتضاء فطاحل العلماء بالبراهين الضعيفة حينما يَدْخُل هؤلاء دائرةَ المعتقد.

(٥) المعتقداتُ السياسية ذاتُ الشكلِ الدينيِّ

تَنَاوُل النفسية الدينية لمختلف الموضوعات — كالأبطال والمذاهب والصِّيَغ — لا يَتَضَمَّنُ اعتقاد الألوهية بحكم الضرورة، فمن الممكن أن يكون المرء زِنْدِيقًا وأن يَظَلَّ مُشْبَعًا من الروح الدينية مع ذلك، وما كانت الأحزاب السياسية والثَّوْرَات لتَفُوز بالبراهين العقلية، بل بالمشاعر ذات الطبيعة الدينية، وتُعَدُّ الثورة الفرنسية أسطَع مثالٍ على ذلك، وعلى إثبات ذلك وَقَفْتُ كتابي السابق.

وتَجِدُ روسيةَ حافلةً بالمذاهب التي لا يَعْبُد أتباعُها آلهةً كمذهب العَدَمِيِّين مثلًا، وتَجِد أولئك الأتباعَ مستعدين للموت في سبيل انتصار إيمانهم.

ويمكن اتخاذ الاشتراكية مثالًا لدَعْم دعوانا تلك، فمما ذكرته منذ زمن طويل في كتابي «روح الاشتراكية» أن الاشتراكية دين في دور التكوين قريبٌ من النصرانية في أوائلها، ومن المؤسف أن تكون الاشتراكية، كبعض المعتقدات، شُؤْمًا على الأمم التي تنتحلها كعبادة مُولَك.

(٦) محاولاتُ إقامة دينٍ علميٍّ

حَبِطَت في كلِّ زمن جميع الجهود التي بُذِلَت لإقامة دين على العِلْم، والحقُّ أن تلك الجهودَ نادرةٌ، ولا تَجِد مذهبًا يستوقف النظر غيرَ مذهب أوغُوسْت كُونْت، فهذا المذهب، الذي يُنْسَى الآن، قد اقتصر، بالحقيقة، على تغيير أسماء العقائد الكاثوليكية، وما قال به من الثالوث الجديد (أي البَشَرِيَّة التي هي الكائنُ الأعظم، والأرضُ التي هي الوَثَنُ الأعظم، والفضاءُ الذي هو الوَسَطُ الأعظم) وَجَب أن يقوم مقام الثالوث النصرانيِّ، كما وجب أن يَحِلَّ إكليروسٌ جديدٌ مُؤَلف من العلماء محلَّ الإكليروس القديم، ومن المحتمل ألَّا تُكَرَّر تجرِبةٌ كهذه أبدًا، مع ما نراه من اكتساب العِلْم شكلًا دينيًّا في بعض النفوس.

حَقًّا إن من الوَهْم أن يُفْتَرَض قيام الحقائق العلمية، ذاتِ المصدر العقليِّ الذي يستلزم بقاءَها غيرَ شخصية، مقامَ المبادئ اللاهوتية والخُلُقية الملائمة لمزاجنا الدينيِّ والعاطفيِّ، والتي هي شخصية على الدوام.

وتُعَارِض تلك الأسبابُ العميقة استنادَ الدين إلى العِلم، ويدلُّ كلُّ ذهاب إلى استناد الإيمان إلى العِلم على جهل تامٍّ لجهاز المعتقد، فالدِّيانة العلمية أمرٌ مستحيل كالأخلاق العلمية، والعِلم والدين أمران لا يجتمعان.

هوامش

(١) سأل مسيو هوره امرأة مرمونية عن رأيها في مبدأ تعدد الزوجات، فأجابته بقولها: «إنني أفضل أن أكون الزوجة العاشرة لرجل عال على أن أكون الزوجة الوحيدة لرجل متوسط الحال»، ثم أضافت إلى ذلك قولها: إن نسوة ذوي الزوجات الكثيرات أسعد حالًا من الأخريات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤