الفصل الثامن عشر

اللعب

قلتم في مقالكم الجميل «الحياة جميلة»:

… ولكن جمالها يقتضي أن يكون لنا زعماء للهو يصححون إدراكنا للحياة، ويرهفون أذواقنا للجمال، ويهيئون قلوبنا للسرور، ويشغلون أوقات فراغنا بالمسابقات الرياضية، والمهرجانات الوطنية، والسياحات النهرية، والملاهي الفنية، والمواكب الشعبية، وليس أقدر على هذه الزعامة اليوم من وزارة الشئون الاجتماعية.

كلام صادق.

وربما كان أرفع من تقريظه بوصف الصدق تقريظه بوصف الجمال، فليس كل صادق بجميل.

لكن كم منا نحن المشارقة، يا أخي، يؤمن معك بحاجة اللهو إلى زعامة، وحاجة الأمة إلى لهو؟

وكم منهم يؤمن معك بأن زعامة اللهو واللعب لها من الشرف والمنفعة كفاء ما للزعامات في الجد، أو في الأمور التي تتراءى صبغة الجد عليها؟

أقل من القليل.

أقل من القليل مع هذه الوقائع الناطقة التي تتوالى عليهم كل يوم بفضل الأمم، التي تحسن اللهو واللعب على الأمم التي تتكلف التزمت والوقار.

وأقل من القليل مع تلك الشواهد التاريخية، التي ليس يعمى عنها ذو بصيرة تشهد في الدنيا شيئًا من الأشياء.

فما عرف التاريخ قط أمة أحسنت الجد ولم تحسن اللهو واللعب.

وما عرف التاريخ قط أمة من أمم القوة والسيادة لم تكن لها ألعاب، ولم يكن لها زعماء في هذا المضمار.

وناهيك بالرومان وملاعبهم في كل مدينة وضعوا حجرًا في بنائها.

وباليونان ومحافلهم القومية التي كانت تتعاقب كل عام أو بضعة أعوام.

وبالفرس ومواكب الكرة والصولجان، والعرب وميادين الفروسية ومنازه الصيد والقنص، وما اقتبسوه من سائر الأمم والدولات حيثما ارتفع لهم عرش واستقرت لهم إمامة.

أما في التاريخ الحديث فيوشك أن يكون السبق في مضمار اللعب قرينًا بالسبق في مضمار السيادة، ويصدق من يقول: إن بريطانيا العظمى تفردت بالسلطان العالمي يوم تفردت بالسبق في ألعابها، وشوركت في ذلك السلطان يوم شوركت في تلك الألعاب.

فاللعب هو فيض الحياة.

ولن تكون سيادة بغير حياة أولًا … ثم فيض في الحياة بعد ذاك.

•••

لا يلعب الإنسان وهو عليل.

ولا يلعب وهو محسور مغلوب.

ولا يلعب وهو مسلوب المشيئة.

ولكنه يلعب حين يصح، وحين يفرح، وحين يملك زمامه، فيشاء ويفعل ما يشاء.

فاللعب والحياة الفائضة صنوان، والسيادة والحياة الفائضة لا تفترقان.

•••

لكنهم ضعفوا في الشرق فلم يفقهوا لغة الحياة، ولم يلحنوا ما تقول حين تتكلم بكل لسان.

رأوا الطفل يلعب وهو قليل العقل.

ورأوا الشيخ يتجنب اللعب وهو كثير العقل أو كثير الاختبار، فحسبوا أن اللعب ونقصان العقل متلازمان، وأن الوجوم من اللعب ورجاحة العقل مترادفان.

فأخطئوا.

أخطئوا في الفهم كما أخطئوا في الشعور.

فما لعب الطفل لأنه أقل من الشيخ عقلًا، ولكنه لعب لأنه أوفر نصيبًا من جدة الحياة.

وما تزمت الشيخ لأنه أعقل من الطفل، ولكنه تزمت لأنه أعجز منه وأدنى إلى الموت.

ولو اجتمعت للشيخ حكمة السن وجدة الطفولة لما منعته الحكمة أن يلعب ويلهو، ولعلمته بعد ذلك كيف يفتن في لعبه ويزيد في لهوه، ويبز فيهما الأطفال والشبان.

•••

ورأوا المجنون يلعب والعاقل لا يعلب مثله، فجزموا باتصال الجنون واللعب، كما جزموا باتصال العقل والسكون.

أخطئوا.

أخطئوا في الفهم كما أخطئوا في الشعور.

لأن المجنون يلعب من فرط الطلاقة، لا من ذهاب لبه واختلاط فكره.

وآية ذلك أن بعض المجانين يفقدون اللب والصواب ولا يلعبون، بل ينوحون ويتخبطون ويبتئسون؛ لأن جنونهم يسلمهم للخوف والفزع، ولا يسلمهم للطلاقة والمراح.

فهل يقال: إنهم إذن أعقل من العقلاء الذين يلعبون حينًا بعد حين؟

كلا، بل يقال: إن الطلاقة تلازم اللعب في كل حين … أما الجنون واللعب فلا يتلازمان.

•••

وينبغي أن نفرق هنا بين اللعب الذي نعنيه، وبين ما يلتبس به في بعض ظواهره ودواعيه.

فاللعب الذي نعنيه غير التسلية.

واللعب الذي نعنيه غير الرياضة.

لأن الورق والنرد والشطرنج تسمى ألعابًا، ولكنها لا تحتاج إلى فيض حياة ولا إلى تمام شعور، بل لعلها تحتاج إلى الكسل والراحة والفتور، وهي في لبابها شغل من الأشغال، ولكنه شغل فراغ.

ولأن الرياضة وسيلة إلى غيرها في كثير من الأحوال، فهي بين رياضة تراد للحرب، ورياضة تراد للعلاج، ورياضة تراد لاحتمال المشقات، ورياضة تراد للتجميل والتقويم.

أما اللعب الذي نعنيه فهو التعبير الملازم لحالة الفيض والإشراق، فلا يراد بعد ذلك لغرض من الأغراض.

هو شيء كلمعان الزجاج حين ينتفي عنه الكدر وينجلي عنه الغشاء.

فلا يقال: إن الزجاج يلمع لهذا الغرض أو لذاك، ولا يقال: إن اللمعان وسيلة مقصودة؛ ليبيعه البائعون ويشتريه المشترون ويصنعه الصانعون.

وكل ما يقال: إنه يلمع لأن اللمعان طبيعة فيه، وشعاع من نوره السابغ عليه.

وعلى هذا المعنى يدخل في باب اللعب ابتكار الفنان، ووحي القريحة، وتوقان النفوس إلى العظائم، وغرام العقول بالكشف عن المجهول، ولألاء الجمال في الوجوه ولألاء الجمال في الأرواح.

وعلى هذا المعنى كذلك يعم اللعب فطرة الحياة حيثما وجد الأحياء.

فهو في الطير المغرد، وفي الحوت السابح، وفي الحيوان الطافر، وفي كل ما يفيض بحياته فيندفع في ألعابه، ويوشك أن يخرج من إهابه.

أما التسلية فليست من الفطرة.

وأما الرياضة فجانب فيها من الفطرة وجانب من ابتداع الجماعة الإنسانية.

وليس اللعب الذي نعنيه تسلية ولا وسيلة اجتماع.

وإنما هو تعبير الحياة كلما امتنع الحائل بينها وبين التعبير.

وتبحث يا أخي عن زعامة للعب واللهو بين المشارقة «الموقرين»!

أعانك الله!

أتسبق الرياسة المرءوسين؟

أم يسبق المرءوسون الرئيس؟

علمهم أن يفهموا اللعب على معناه، وأنت في غنى بعد ذلك عن تعليمهم معنى الجد أو تعليمهم معنى الحياة، وفي غنى عن انتظار الزعماء وهم ما امتنعوا قط حيث وجد المستحقون لزعامة زعيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤