صورة امرأة

شغل عملي فكري، وتحداني، لكن كلما عظُم تحدِّيه لي، تضاءلت شجاعتي لمواجهته مثل محارب جبان. تصارعت معه في مكتبي فهربت منه إلى كتبي. خرجت إلى الشارع لكني لقيته هناك، فلجأت إلى المسارح أو الملاهي كي أحتمي منه. وحينئذٍ زاد إلحاحه على نفسي وهيمنته على أفكاري حتى غيَّم ظله الكئيب على أفعالي كافةً. صار يجلس بجواري على مائدة الطعام ويُفسد شهيتي. وتبعتني ذكراه خارج المنزل، فحالت بيني وبين أصدقائي، وبددت الكلمات من على شفتَيَّ، فصرت أهيم بين الناس مثل رجل تطارده الأشباح.

ثم أضحت المدينة النابضة، التي تضجُّ بآلاف الأصوات المشتتة، تثير جنوني. وشعرت بحاجة إلى الاختلاء بنفسي؛ فالعزلة هي ملهمة الفنون كلها وراعيتها، وعندئذٍ تذكرت تلال يوركشاير، حيث قد يسير المرء طوال النهار دون أن يلقى أي كائن، ودون أن يسمع صوتًا سوى صيحة طائر الكروان، ويستطيع أن يستلقي على العشب العطر ويشعر بخفقان الأرض تحته إذ تمضي في مسارها بسرعة أحد عشر ميلًا في الدقيقة عَبْر الأثير. لذا، قمت في صباح أحد الأيام وحزمتُ أمتعتي، الضروري منها وغير الضروري، في حقيبة، وغادرت مسرعًا، خشية أن يحدث شيء أو أن ألقى أحدًا يعطِّلني عن خططي، وفي تلك الليلة بتُّ في بلدة شمالية صغيرة على حدود المدينة الغارقة في دخان المصانع وعلى مشارف الأراضي البرية الشاسعة؛ وفي الساعة السابعة صباح اليوم التالي، تبوَّأتُ مقعدي بجوار سائق عربة أعور خلف فرس مرقط. ضرب السائق سوطه في الهواء، فهرول الفرس المرقط إلى الأمام. وهكذا تركنا القرن التاسع عشر بهَرْجه ومَرْجه خلفنا مُنطلقِين نحو التلال البعيدة، وشرعنا نقترب منها رويدًا رويدًا حتى ابتلعتنا وصرنا نقطة ضئيلة تتحرَّك على سطح الأرض الساكن.

وفي وقت متأخر من عصر ذلك اليوم، بلغنا قرية، كانت ذكراها تزداد وضوحًا في ذهني منذ زمن. تقع على قطعة أرض مثلَّثة تحيط بها منحدراتِ ثلاثة تلال كبرى؛ لم يكن التلغراف قد وصلها بعدُ، على الأقل في وقت كتابتي هذه السطور، كي ينقل إليها همسات العالم المضطرب خارجها. لم يعكر سكونها سوى سائق العربة الأعور، الذي كان يترك أثناء مروره بالقرية بضعة خطابات وطرود لسكانها القاطنين في المزارع المتناثرة فوق التلال، هذا إن امتد العمر بالسائق المُسِن وبحصانه العجوز كي يشهدا صباح يوم جديد. يلتقي داخل القرية جدولَا ماء صاخبان. يسمعهما المرء في النهار الناعس وفي الليل الهادئ يُثرثران مثل طفلَين مندمجَين في لعبة من نسج خيالهما. ينحدر الجدولان من منبعهما البعيد في التلال، ويمتزج ماؤهما في القرية، ثم يواصلان رحلتهما معًا، وتغدو الأحاديث الدائرة بينهما أكثر جدِّيَّة، مثل حبيبَين تشابكت أيديهما وسارا قدمًا نحو حياة مشتركة. ويصِلان لاحقًا إلى مدن حزينة منهكة، يعمها السواد أسفل غمامة من الدخان لا تنقشع أبدًا، ويعلو فيها صليل الحديد على أصوات البشر كافَّةً ليلَ نهارَ، ويلعب أطفالها بأكوام الرماد في حين يكسو أوجُهَ الرجال والنساء بها تعبيرٌ يمزج بين الضجر والصبر؛ ثم يواصلان طريقهما، بعدما تعكَّرَت مياههما وتلطَّخَت نحو البحر العميق الذي لا ينفكُّ يناديهما. لكن هنا، في هذه القرية، لا تزال مياههما صافية ومُنعِشة، وجريانهما هو الاختلاج الوحيد الذي يعرفه الوادي. لا شك أن مكانًا هادئًا كهذا هو الأنسب لكاتب مُرهَق يحتاج إلى استعادة قوته.

اقترح صديقي الأعور أن أقيم في منزل السيدة تشوملي، وهي أرملة تحيا مع ابنتها الوحيدة في كوخٍ مَطليٍّ بالجير الأبيض يقع في آخر القرية، أصِلُ إليه عَبْر الطريق الصاعد أعلى هضبة كول.

وأضاف مشيرًا بسوطه: «يمكنك أن ترى البيت من هنا؛ لأنه أعلى من باقي بيوت القرية. لن تجد مكانًا آخر تقيم فيه، فلا يأتي الكثير من الزوار إلى تلك الأنحاء.»

بدا الكوخ الصغير الذي تكسو زهور الصيف نصف جدرانه مكانًا شاعريًّا ساحرًا، وبعد أن تناولتُ غداءً من الخبز والجُبن في النزل الصغير بالقرية، انطلقت نحوه متخذًا دربًا يمرُّ عَبْر باحة الكنيسة. كنت قد استحضرت في خيالي صورةً لامرأة لطيفة، قوية البنية، تُشعر المرء بالراحة والطمأنينة وتساعدها فتاة شابة مرِحة سوف يعينني خداها الحمراوان ويداها اللتان لفحتهما الشمس على أن أمحو من ذهني كل ما يثقله من ذكريات المدينة، وهكذا دفعت الباب نصف المفتوح، ودلفت إلى الكوخ يحدوني الأمل.

فاجأني أثاث البيت، الذي كان ينمُّ عن ذوق رفيع، لكن قاطِنَتَيه خيَّبَتا أملي. فلم تكُن ربَّة البيت النشِطة المليحة التي تخيَّلتُها سوى سيدة مُسِنَّة، ضعيفة البصر، تكسو التجاعيد وجهها. كانت تقضي نهارها غافية في كرسيها الكبير أو جاثمة أمام المدفأة، تمدُّ يدَيها المتغضنتَين كي تدفِّئهما النيران. أما الفتاة الشابة الحلوة الشكل والطبع التي حلمتُ بها فقد تبدَّدَت صورتها بمجرَّد وقوع بصري على الابنة التي كانت امرأة حادة الملامح يبدو عليها الإنهاك، تبلغ من العمر أربعين أو خمسين عامًا. ربما مضى زمن لمعت فيه هاتان العينان الخاملتان بجذل لعوب، وربما برزت هاتان الشفتان المنكمشتان المشدودتان يومًا ما على نحو مُغرٍ، لكن للعنوسة براثن تعتصر جاذبية المرأة بلا رحمة، ورياح الريف القوية قد تنفع المرء بين الحين والآخر، مثل شراب المزر القديم، لكن العيش في كنفها يضعف العقل. وجدتُها امرأة مملة وضيِّقة الأفق، تعاني من خجل مضحك بالنظر إلى عمرها، ورغم ذلك لم يُساعدها خجلها هذا على تجنُّب ثرثرة صاحبة البيت حول «أيام الماضي الجميل»، فضلًا عن تظاهرها بأنها أصغر سنًّا، الذي بدا لي مزعجًا وإنْ كان بلا ضرر.

وفيما عدا ذلك، كانت ظروف الإقامة مُرضية تمامًا. وهكذا جلست أمام النافذة التي تُطلُّ على الطريق الذي يقطع الوادي نحو المروج الشاسعة، وواجهت عملي.

لكن المرء بعدما يشحذ همَّته للإقبال على العمل، يفاجأ بها تفتر تدريجيًّا. وهكذا جلستُ أكتب لساعة تقريبًا، ثم ألقيت بقلمي العقيم، وأخذت أتطلَّع إلى الغرفة من حولي بحثًا عن إلهاءٍ ما. وقع بصري على خزانة كتب من طراز شيبندايل تستند إلى الحائط، فمشيت نحوها. كان مفتاحها في القفل، ففتحت بابها الزجاجي وشرعت أطالع رفوفها المزدحمة بالكتب. كانت تحتوي على مجموعة من الكتب أثارت اهتمامي، تنوَّعَت بين مجلدات تجمع موضوعات مختلفة وتتميَّز بأغلِفة لامعة ذات طراز قديم محبَّب، وروايات ودواوين لكتَّاب وشعراء لم أسمع بأسمائهم قطُّ، ومجلات قديمة توقف إصدارها منذ زمن ونسيت أسماءها، وتذكارات وكُتيِّبات سنوية يفوح منها عبق حقبة مضت حين اتسمت المشاعر بالرِّقة والرومانسية وشاعت الملابس الحريرية ذات اللون الأرجواني. غير أني وجدت في الرف العلوي ديوانًا لكيتس، محشورًا بين كتاب «قصص وعظات من الإنجيل» وقصيدة «أفكار ليلية» للشاعر إدوارد يونج، فوقفت على أطراف أصابعي وأخذت أحاول أن أُخرج الكتاب من مكانه.

كان الديوان محشورًا بشدة حتى إن مساعيَّ لإخراجه أدَّت إلى سقوط ثلاثة أو أربعة كتب أخرى فوق رأسي، وأحاطت بي سحابة من الغبار الناعم في حين سقطت عند قدمي صورة مصغَّرة مُحاطة بإطار من الخشب الأسود، مصدرةً جلبة ناتجة عن تحطُّم قطع من الزجاج والمعدن.

التقطتُها من الأرض واقتربتُ من النافذة كي أتفحَّصها. كانت صورة فتاة شابة، ترتدي ملابس كانت رائجة منذ ثلاثين عامًا مضت، وأعني منذ ثلاثين عامًا وقت وقوع أحداث هذه القصة. أظنُّ أنها ترجع الآن إلى خمسين عامًا مضَت، عندما كانت جدَّاتنا تصفِّفن شعورهن على هيئة خصلات لولبية، ويرتدين فساتين مفتوحة الصدر يتعجَّب المرء كيف كُنَّ يحافظن عليها من الانزلاق للأسفل. كان وجهها جميلًا، لكن جماله لم يقتصر على ذلك الجمال المعتاد الذي نراه في الصور المصغَّرة، حيث الوجوه المتناسقة حدَّ الملل والمكسوَّة بألوان أبعَد ما تكون عن الواقع، بل نبع جمالها من روحها المُطلَّة عَبْر عينَيها العميقتَين الحانيتَين. بينما أحدِّق في الصورة بدا لي أن الشفتَين الحلوتَين تبتسمان لي، بَيْد أن ابتسامتها كانت تُضمر حزنًا دفينًا، وكأن الفنان الذي رسم الصورة استطاع، في لحظة نادرة، أن يستشرف ما سيلقاه هذا الوجه السعيد من متاعب في حياته لاحقًا. ورغم معرفتي المحدودة بالفن، أدركت أن تلك اللوحة هي عمل فني بارع، وتساءلت لمَ تُترك مُهمَلة هكذا لوقت طويل، رغم قيمتها الفنية حتى لو استُخدمت للزينة فقط. لا بد أن أحدهم قد وضعها في خزانة الكتب منذ سنوات مضت ونسيها.

أرجعتها مكانها بجوار الكتب المتربة التي طالما رافقتها، وجلست مجددًا إلى عملي. لكن الوجه في الصورة ظلَّ ماثلًا أمامي في الضوء المتلاشي، وعجزت عن صرفه من مخيلتي. أينما وجَّهتُ ناظري وجدتُه يتطلَّع إليَّ من الظلال. وأنا بطبيعتي لستُ شخصًا خيالي الطابع، والعمل الذي يشغلني، وهو كتابة مسرحية كوميدية هزلية، ليس من النوع الذي يوقظ الجانب الحالم في الطبيعة البشرية. بدأت أغضب من نفسي، وبذلتُ مزيدًا من الجهد كي أركِّز انتباهي على الورقة الموضوعة أمامي. لكن أفكاري أبَت أن تعود من تجوالها. وعندما نظرت ورائي في إحدى المرَّات كِدتُ أقسم أنني رأيت الفتاة صاحبة الصورة جالسة في المقعد الكبير المكسو بالقماش المنقوش بالأزهار في الركن البعيد من الغرفة. كانت ترتدي فستانًا أرجوانيًّا فاتح اللون، مُزيَّنًا بشريط من الدانتيل، ولم تفُتني ملاحظة جمال يدَيها المطويَّتَين، رغم أن الصورة لم تُظهر سوى الرأس والكتفَين.

وفي الصباح التالي، كنت قد نسيت هذه الحادثة، لكن ذكراها عاودتني ليلًا مع ضوء المصباح، وزاد فضولي إلى حدٍّ دفعني إلى إخراج اللوحة المصغَّرة مجددًا من مخبئها والتطلُّع إليها.

عندئذٍ أدركت فجأةً أنني أعرف هذا الوجه، تُرى أين رأيته ومتى؟ لقد لقيتها وتحدَّثتُ إليها. كانت الصورة تبتسم لي كأنما تحثُّني على مواجهة نسياني. أرجعتها مجددًا إلى الرف، وجلست أعتصر ذهني في محاولة للتذكُّر. لقد التقينا في مكان ما، في الريف، منذ زمن بعيد وتحدَّثنا عن أمور عادية. كان طيفها يستدعي رائحة الورد وهمهمات المزارعين إذ يجمعون التبن. لماذا لم أرَها مجددًا أبدًا؟ لمَ انمحت صورتها كليًّا من ذاكراتي؟

دخلت الابنة الغرفة كي تقدِّم لي طعام العشاء، فسألتُها عن الأمر متصنِّعًا نبرة لا مبالية. كانت الذكرى الضبابية قد اكتسبت قيمة عاطفية، رغم أني جادلت نفسي في هذا وضحكت عليها. كنت أشعر كأنما آتي على ذكر صديق راحل عزيز على نفسي حتى إن الحديث عنه أمام عامة الناس يُعد تدنيسًا لذكراه. لذا لم أرغب في أن تطرح المرأة أسئلة عليَّ بدورها.

قالت إن سيدات شابات كثيرًا ما أقمن معها. وبعض الناس كانوا يقضون الصيف كله هنا، ويمضون وقتهم في التجوُّل بالغابات والتلال، غير أن الهضاب المرتفعة ظلَّت مهجورة على حدِّ علمها. بعضٌ من المستأجرين كُنَّ سيدات شابات، لكنها لا تذكر أن أيًّا منهن تمتَّعَت بجمال باهر، مضيفة أن النساء لا يجدن الحكم على غيرهن من النساء كما يقال. ذكرت أنهن جِئنَ ورحلن وقليلات منهن عُدن مجددًا، وهكذا بددت الوجوه الجديدة ما سبقها من وجوه. سألتها: «أنت تؤجرين هذه الغرفة منذ زمن طويل، أليس كذلك؟ لقد أقام غرباء في هذه الغرفة طوال الخمسة عشر أو العشرين عامًا الأخيرة على ما أظن، أليس كذلك؟»

قالت بهدوء، متحرِّرة للحظة من مظاهر التصنُّع كافةً: «بل أجَّرتُها لفترة أطول من ذلك. لقد جئنا هنا من المزرعة بعدما تُوفي والدي. كان قد تعرَّض لبعض الخسائر المالية ولم يتبقَّ لنا سوى القليل. حدث هذا منذ سبعة وعشرين عامًا.»

سارعت بإنهاء المحادثة، خشية أن تشرع في حديث مطول عن ذكريات «الماضي الجميل». وكنت قد سمعت هذا الحديث مرارًا منها أو من أمها. لم أعرف الكثير. من الفتاة التي تظهر في الصورة؟ كيف انتهى الحال بصورتها مُلقاة في ركن منسي من خزانة كتب يملؤها الغبار؟ ظلَّ هذان السؤالان لغزَين بلا حل؛ وعزفت عن طرحهما مباشرةً على المرأة بعناد غريب لم أستطع تبريره لنفسي.

مرَّ يومان على تلك المحادثة. وكان عملي يستحوذ شيئًا فشيئًا على تفكيري، ولم يعُد الوجه في الصورة يزورني كثيرًا. لكن في مساء اليوم الثالث، الذي كان يوم أحد، وقع أمر غريب.

كنت عائدًا من نزهة على الأقدام، وكان الظلام قد بدأ يحل عندما بلغت الكوخ. وبينما كنت أفكر في مسرحيتي الهزلية وأضحك على موقف بدا لي كوميديًّا مررت على نافذة حجرتي، حينئذٍ لمحتُ ذلك الوجه العذب الجميل الذي صرت أعرفه حق المعرفة يتطلَّع من النافذة. رأيت فتاة شابة رشيقة القوام تقف بجوار زجاج النافذة المقسم إلى مربعات، وترتدي ذاك الفستان الأرجواني القديم الطراز الذي تخيَّلتُها ترتديه في أول ليلة قضيتها هنا، وكانت يداها الجميلتان معقودتَين عند صدرها، مثلما كانتا مطويَّتَين في حجرها وقتها. وكانت عيناها شاخصتَين نحو الطريق الذي يعبر القرية ويتجه جنوبًا، لكنهما بدتا تحلمان ولا تريان، وأثَّرَ فيَّ الحزن البادي فيهما مثلما يتأثر المرء بآهات الألم. كنت قريبًا من النافذة لكن سياج الأشجار حجبني عن الرؤية، وظللت في مكاني أرقب المشهد لدقيقة على ما أظن، رغم أنها بدَت لي أطول، حتى انسحبت الفتاة داخل الغرفة المظلمة واختفت.

دخلت الغرفة لكنها كانت خالية. ناديت، لم يرد عليَّ أحد. سيطر عليَّ إحساس مزعج بأنني أفقد عقلي شيئًا فشيئًا. فكل ما حدث قبلًا كان بوسعي تفسيره، مجرد تجسد لأفكاري المتدفقة، لكن هذه المرة تراءى لي هذا الطيف فجأة في وقت انشغل فيه فكري بأمور أخرى. لقد تجلى لحواسي لا لعقلي. لست أومن بالأشباح، لكني أصدق أن العقل الضعيف يكون عرضةً للهلوسة؛ لذا أثار تفسيري لما حدث بعض الاستياء بداخلي.

حاولت تجاهل تلك الواقعة، لكنها ظلَّت تطاردني، وفي مساء اليوم ذاته حدث أمر جعلها ماثلة في ذهني بوضوح أكبر. كنت قد تناولت كتابَين أو ثلاثة عشوائيًّا كي أسلي بهم نفسي خلال الأمسية، وبينما أقلِّب في صفحات كتاب منها — ديوان لشاعر مغمور — وجدت أن أحدهم قد وضع خطوطًا أسفل الفقرات العاطفية بالكتاب وكتب بقلم رصاص تعليقات كثيرة في الهوامش، مثلما كان شائعًا بين قرَّاء الأشعار منذ خمسين عامًا، وربما لا تزال تلك العادة شائعة حتى الآن، فالكتاب الساخرون المتشائمون في صحف شارع فليت لم يغيروا العالم ومجرياته إلى الحد الذي يتصوَّرونه.

بدا واضحًا أن قصيدة بعينها كان لها تأثير بالغ في نفس القارئ. كانت قصيدة عن تلك القصة القديمة التي تروي حكاية زير نساء يُغوي صبية عذراء ثم يرحل بعيدًا ويتركها تنتحب. كان الشعر ركيكًا، ولو كنت قرأتها في مناسبة أخرى كنت سأسخر حتمًا من أسلوبها التقليدي. لكن عندما قرأتها بالتزامن مع الملاحظات المتناثرة عبر هوامش الصفحة، والتي تتسم بسذاجة محببة، لم أشعر بأدنى رغبة في التهكُّم. تلك القصص الدارجة التي نضحك عليها لها مغزًى عميق لدى الكثير ممَّن وجدوا فيها لمحة عمَّا يعانون من أحزان، وصاحبة هذا الكتاب — إذ كان الخط خط امرأة — قد أحبَّت ما ورد به من أشعار مبتذلة؛ لأن تلك القصائد عبَّرَت عن مكنونات قلبها. وتلك القصة التي ترويها القصيدة كانت قصتها أيضًا. وهي قصة شائعة في الحياة وفي الأدب، لكنها جديدة لمَن يُعايشها.

لم أجد سببًا يدفعني إلى ربط صاحبة الكتاب بالمرأة في الصورة، باستثناء العلاقة الطفيفة بين خط اليد المضطرب في الكتاب والملامح المعبرة في الصورة؛ رغم ذلك استشعرت أنهما الشخص نفسه، وأنني كنت أتتبَّع بخطوات حثيثة أثر صديقتي المنسية.

شعرت بدافع يحثني على تقصِّي الأمر أكثر؛ لذا في صباح اليوم التالي تبادلت، مرة أخرى، حديثًا حذرًا مع الابنة وهي ترفع الأطباق بعد وجبة الإفطار.

قلت: «بالمناسبة، إذا تركت أي كتب أو أوراق هنا بعد رحيلي، أرجو أن ترسليها إليَّ على الفور. كنت أفكر في هذا الأمر منذ قليل، وخطر لي أن أنبهك إليه، فلديَّ ميل إلى نسيان أغراضي في الأماكن التي أقيم بها.» ثم أضفت: «أظن أن المستأجرين هنا كثيرًا ما يتركون بعض مقتنياتهم خلفهم.»

فكرت أنني بذلك لجأت إلى حيلة خرقاء كي أدفعها للكلام. وتساءلت تُرى هل ستشك في وجود غرض آخر وراء سؤالي.

أجابتني: «ليس كثيرًا، حسبما أتذكر، باستثناء سيدة وحيدة مسكينة ماتت هنا.»

رفعتُ عينيَّ سريعًا وسألتها: «في هذه الغرفة؟»

بدا أن نبرة صوتي قد أقلقتها.

فردَّت قائلة: «لا ليس في هذه الغرفة تحديدًا. لقد حملناها إلى الدور العلوي، لكنها ماتت على الفور. كانت موشكة على الموت عندما جاءت هنا، ولو كان لديَّ علم بهذا ما كنت أجَّرتُ لها الغرفة. فالكثير من الناس يتحيَّزون ضد البيوت التي تُوفِّي بها أحد، كأنما يوجد مكان في العالم لم يمُت به أحد. وهذا ظلم لنا كما ترى.»

سكتُّ لبرهة، ولم يُسمع بالغرفة سوى صوت الأطباق والسكاكين.

وأخيرًا سألت: «ماذا تركَت هنا؟»

ردَّت المرأة: «بضعة كتب وصور ليس إلا، وتلك الأغراض الصغيرة التي يجلبها الناس معهم إلى الغرف المستأجرة. وعَدني أهلها بأنهم سيُرسلون مَن يأخذ حاجياتها، لكنهم لم يفوا بوعدهم قطُّ، وأظن أني نسيت وجودها. لم تكُن أغراضًا ذات قيمة.»

وبينما تغادر الغرفة استدارت وخاطبتني قائلة: «أتمنى ألا يدفعك ما قلته إلى مغادرة البيت يا سيدي. لقد حدث ما حدث منذ زمن بعيد.»

أجبتها: «بالطبع لا. أثار الأمر اهتمامي ليس إلا.» فخرجَت من الغرفة وأغلقَت الباب وراءها.

هذا إذَن تفسير ما حدث، إن اخترتُ قبوله. جلست طويلًا ذلك الصباح أسأل نفسي هل تكون الأمور التي تعلَّمتُ أن أسخر منها حقيقية رغم كل شيء. وبعد يوم أو يومين اكتشفت شيئًا أكَّد استنتاجاتي الغامضة.

كنت أقلِّب في خزانة الكتب المغبرة ذاتها حين عثرت في أحد الأدراج التي يصعُب فتحها — أسفل كومة من الكتب الممزَّقة والمبعثرة — على مذكرات كُتبت في خمسينيات هذا القرن، وكانت صفحاتها الملطَّخة تضم الكثير من الخطابات والزهور المفتتة؛ ولأن كاتب قصص مثلي يعجز عن مقاومة إغراء الوثائق التي تسجل حياة البشر، جلست أقرأ في هذه اليوميات القصة التي عرفتها قبلًا.

كانت قصة قديمة حقًّا، وفي غاية التقليدية، بطلها فنان، وهل توجد قصة من هذا النوع بطلها ليس فنانًا؟ كانا يعرفان بعضهما بعضًا منذ الطفولة، وأحَبَّ كلٌّ منهما الآخر دون أن يدريا، حتى تجلى لهما هذا الحب في أحد الأيام. فيما يلي صفحة من المذكرات تصف هذا الحدث:

«١٨ مايو: لا أعرف ماذا أقول، أو كيف أبدأ. كريس يحبني. منذ ذلك الحين وأنا أدعو الله أن يجعلني جديرة به، وأرقص في غرفتي حافية خشية أن أوقظ أهل البيت بالأسفل. قبَّل كريس يديَّ ووضعهما حول عنقه، وقال إنهما جميلتان مثل يدَي إلهة، ثم ركع وقبَّلَهما مجددًا. وأنا الآن أحتضن يدي وأقبِّلهما. يُسعدني أنهما جميلتان جدًّا. يا ألله! لمَ تعاملني بهذا الكرم؟ ساعدني أن أكون زوجة مخلصة له. ساعدني ألا أسبِّب له لحظة ألم واحدة! امنحني مزيدًا من القدرة على الحب، كي أحبه حبًّا أقوى.»

وما إلى ذلك من أفكار حمقاء تسوِّد العديد من الصفحات؛ أفكار حمقاء من النوع الذي حمى هذا العالم القديم المنهك، والطافي في الفضاء منذ أزمنة عديدة، من التحوُّل لعالم قاسٍ بغيض.

وتستكمل صاحبة المذكرات القصة لاحقًا بصفحات كتبتها في شهر فبراير:

«غادر كريس صباح اليوم. وضع بيدي في اللحظة الأخيرة مظروفًا صغيرًا، وقال إنه يحتوي على أغلى ما يملك، وإن عليَّ أن أفكر به كلما نظرت إلى هذا الغرض المخبَّأ لأنه يحبه كثيرًا. بالطبع خمَّنتُ ما بداخل المظروف، لكني لم أفتحه إلا بعدما صرت وحدي في غرفتي. كان بداخله الصورة التي رسمها لي، وأحاطها بهذا القدر من السرية، يا لجمالها! تُرى هل أنا بهذا الجمال حقًّا؟ ليته لم يجعلني أبدو حزينة هكذا. ها أنا ذي أقبِّل الشفتين الصغيرتين في الصورة. أحبهما لأنه أحب تقبيلهما. آه يا حبيبي! سينقضي وقت طويل قبل أن تقبلهما مجددًا. بالطبع، كان من مصلحته أن يرحل، ويسرني إنه تمكَّنَ من ذلك. فلن يتمكَّن من الدراسة كما ينبغي في هذا الريف الهادئ، الآن سيصير في وسعه زيارة باريس وروما وسوف يصبح فنانًا عظيمًا. حتى أغبى الناس هنا يلاحظون مدى براعته. لكن مع الأسف، لن أراه مجددًا قبل مرور زمن طويل. آه يا حبيبي!»

ومع كل خطاب يأتي منه، سودت صفحات من المذكرات بعبارات ثناء مماثلة، لكن بينما أقلِّب صفحات المفكرة، بدأت أدرك أن تلك الخطابات قلَّت وصارت أكثر برودًا، واستشعرت خوفًا باردًا يسري بين الكلمات، خوفًا لا تجرؤ صاحبة المذكرات على ذكره صراحةً.

«١٢ مارس. مرَّت ستة أسابيع دون أن يرسل كريس خطابًا، يا إلهي! كم أشتاق لخطاباته، لقد أخذت أقبِّل خطابه الأخير حتى مزَّقتُه تقريبًا. أظن أنه سيكتب أكثر حالما يصل إلى لندن. أعرف إنه يبذل جهدًا كبيرًا في الدراسة، وربما أكون أنانية إذا انتظرت منه أن يكتب لي أكثر، لكني لا أمانع أن أسهر الليل كله طوال أسبوع كي لا أفوِّت كتابة خطاب واحد له. يبدو أن الرجال يختلفون عن النساء في هذه النقطة. يا إلهي، ساعدني، ساعدني على تحمل ما سيحدث أيًّا كان! إن أعصابي تالفة حقًّا الليلة. لطالما كان كريس مستهترًا. سوف أعاقبه عندما يعود، لكني لن أقسو عليه كثيرًا.»

قصة تقليدية فعلًا.

تصلها خطابات منه بعد ذلك، لكن يبدو أن خطاباته تثير استياءها أكثر فأكثر؛ لأن الكتابات في المذكرات صارت أشد غضبًا ومرارة، وكانت بعض الصفحات ملطَّخة ببقع ناتجة عن دموع صاحبتها. وبعد مرور عام آخر، تأتي الفقرات التالية، مكتوبة بخط منظم ودقيق على غير العادة:

«لقد انتهى كل شيء الآن. وأنا سعيدة لأنه انتهى. لقد كتبت له وأخبرته أنني سأتركه. أخبرته أنني لم أعُد أحبه وأن من الأفضل أن يصير كلٌّ منَّا حرًّا في حياته. هكذا أفضل. كان سيطلب مني أن أحرِّره من وعده لي، وكان ذلك ليؤلمه. لطالما كان رقيق الطبع. بالتأكيد سيصير في وسعه الآن أن يتزوجها بضمير مستريح، ولن يضطر أبدًا إلى معرفة كل ما عانيته. هي تناسبه أكثر مني. أتمنى أن يحظى بالسعادة. أظن أنني فعلت الصواب.»

يلي هذا بضعة أسطر فارغة، ثم تتواصل الكتابة، بخط قوي محموم:

«لماذا أكذب على نفسي؟ إني أكرهها! سأقتلها إن استطعتُ. أتمنى أن تجعله تعيسًا، وأن يكرهها مثلما أكرهها، أتمنى أن تموت! لمَ تركتُه يقنعني بإرسال ذلك الخطاب الكاذب؟ سوف يعرضه عليها، وسوف تدرك حقيقته وتضحك عليَّ. كان بوسعي التَّمسُّك بوعده لي، ولم يكن ليستطيع التهرُّب منه.

لا تهمني الكرامة والأنوثة والصواب، إلى آخر تلك الكلمات الرنانة! أنا أريده لي. أريد أن أشعر بقبلاته وبذراعَيه حولي. إنه ملكي! لقد أحبني في يوم من الأيام! وقد تركته لأني ظننت أن لعب دور القديسة سيكون رائعًا. لكنه كان كذبًا وخداعًا. أفضِّل أن أكون شريرة ما دام يحبني. لمَ أخدع نفسي؟ أنا أريده. لا يهمني أي شيء آخر في هذه الحياة؛ أريد حبه، أريد قبلاته!»

ثم تأتي تلك الكلمات قرب نهاية الصفحة: «يا إلهي، ما هذا الذي أقوله؟ ألا أستحيي؟ هل أنا ضعيفة إلى هذه الدرجة؟ يا إلهي، ساعدني!»

وهنا تنتهي المذكرات.

•••

طالعت الخطابات التي كانت بين الصفحات. معظمها كان موقَّعًا باسم «كريس» أو «كريستوفر». لكنه وقَّع أحدها باسمه الكامل؛ كان اسم رجل مشهور أعرفه جيدًا ولقيته كثيرًا. تذكَّرتُ زوجته الجميلة القاسية الملامح، وبيته الكبير البارد في كينسنجتون، الذي خصص نصفه معرضًا لأعماله الفنية، والذي لم يخلُ يومًا من الضيوف الأذكياء اللبقين، وكان دائمًا ما يبدو ضيفًا متطفلًا وسطهم. تذكرت وجهه المنهك ولسانه اللاذع. وبينما تتابعت أفكاري، بزغ أمامي الوجه العذب الحزين للمرأة في الصورة، والْتَقَت عيناي بعينَيها إذ تبتسم لي وسط الظلال، فأخذت أتطلَّع إليها متعجبًا.

تناولت الصورة المصغَّرة من الرف. لا ضرر الآن من معرفة اسمها. لذا حملتها بيدي وظللت واقفًا حتى دخلت الابنة بعد قليل كي تضع الملابس المغسولة.

قلت لها: «لقد أوقعتُ هذه الصورة من الخزانة، وأنا أحاول إخراج بعض الكتب. إنها صورة امرأة أعرفها، امرأة التقيتها قبلًا، لكني أعجز عن تذكُّر أين لقيتها. هل تعرفين مَن هي؟»

تناولت المرأة الصورة من يدي، وللحظة علت وجهها الذابل حمرة باهتة، وأجابتني قائلة: «لقد ضاعت مني. لم يخطر ببالي البحث عنها هنا. إنها صورة مرسومة لي، ترجع لسنوات مضت، رسمها صديق.»

نظرت إليها، ثم إلى الصورة المصغرة، وبينما كانت تقف بين الظلال، وضوء المصباح ينعكس على وجهها، رأيتها، ربما للمرة الأولى.

قلت لها: «يا لي من أحمق! أجل، أرى التشابه بينكما الآن.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤