أسير العادة

كنا ثلاثة جالسين في غرفة التدخين في نادي «ألكساندرا»؛ أنا وصديق عزيز، وفي الركن المقابل جلس رجل ذو سمت متواضع وملامح خجلة، عرفنا بعد ذلك أنه رئيس تحرير إحدى الجرائد التي تصدر يوم الأحد في مدينة نيويورك.

كنت أتحدث مع صديقي عن العادات، الجيدة والسيئة.

قال صديقي: «قد يتحوَّل المرء إلى قديس أو إلى وغد دون جهد كبير، إذا التزم بسلوك معيَّن طوال بضعة أشهر؛ فسوف يصير هذا السلوك مجرد عادة.»

قاطعتُه قائلًا: «صحيح، أن ينهض المرء من السرير فور أن يُنادى عليه، وأن يصيح «حاضر» ثم ينقلب على جنبه ليغفو خمس دقائق إضافية، يصبحان سلوكين متماثلين في درجة السهولة إذا ما اعتاد أيًّا منهما. والامتناع عن السباب ليس أصعب من التلفُّظ بالشتائم إذا صار أيهما عادةً لدى المرء. وتناوُل الماء والخبز المحمص لا يقل متعة عن احتساء الشمبانيا، إذا تعوَّد المرء على استطياب مذاقهما. وكل سلوك ونقيضه يتساويان في السهولة، واتباع أحدهما دون الآخر ليس سوى مسألة اختيار يعقبه التزام.»

وافقني صديقي الرأي.

ثم أضاف: «فلتأخذ هذا النوع من السيجار»، ثم دفع علبة سيجاره المفتوحة ناحيتي.

أجبتُ مسرعًا: «لا، شكرًا، لا أدخِّن حاليًّا.»

قال: «لا تخَف، أقصد أن تأخذه على سبيل المثال. أعرف أن تدخين سيجار من هذا النوع سوف يجعلك تُعاني لمدة أسبوع.»

وافقته القول.

تابع قائلًا: «حسنًا. ربما لاحظت أنني أدخِّن هذا النوع من السيجار طوال اليوم، وأستمتع بتدخينه. أتعرف لماذا؟ لأني عوَّدتُ نفسي عليه. منذ سنوات مضت، في شبابي، اعتدت تدخين سيجار كوبي باهظ الثمن. لكني اكتشفت أنني أوشك على الإفلاس بسببه. وكان من الضروري أن أدخِّن نوعًا أرخَص ثمنًا. كنت أقطن في بلجيكا وقتها، وحينئذٍ اقترح عليَّ أحد الأصدقاء تدخين هذا السيجار. لا أعرف بالضبط ما بداخله، على الأرجح بعض أوراق الكرنب الممزوجة بفضلات الطيور، هكذا بدا لي مذاقه في البداية، بَيْد أنه كان رخيصًا. فشراء خمسمائة سيجار لم يكلِّفني سوى ثلاثة بنسات. ومن ثَم عقدتُ العزم على أن أحبَّه، وبدأت بتدخين سيجار واحد يوميًّا. أعترف أني تعذَّبتُ في البداية، لكني قلت لنفسي إن الأمر لا يقارن أبدًا بمدى سوء تدخين السيجار الكوبي لأول مرة. التدخين ذوق مكتسب، ومن السهل حتمًا على المرء تعلُّم التلذُّذ بنكهة معيَّنة دون الأخرى. لذا، ثابرت في مسعاي حتى انتصرت. وقبل أن ينتهي ذلك العام صرت قادرًا على التفكير في هذا السيجار دون اشمئزاز، ومع نهاية العام الثاني، أصبحت أدخِّنه دون عناء بالغ. والآن أفضِّله على أي نوع آخر مُتاح في السوق. بل إن تدخين أنواع السيجار الجيدة صار يُتعبني.»

سألته ألم يكن من الأسهل أن يقلع عن التدخين كليًّا.

رد قائلًا: «فكرت في ذلك، لكني لم أحبَّ قطُّ صحبة الرجل الذي لا يدخِّن. ثمَّة طابع ودود ومؤنس مرتبط بالتدخين.»

ثم أرجعَ ظهره ونفث سحبًا هائلة من الدخان في الهواء، ملأت الغرفة الصغيرة برائحة كريهة هي مزيج من رائحة المياه الآسِنة والمقابر.

توقف قليلًا، ثم تابع حديثه قائلًا: «إليك مثال آخر: النبيذ الأحمر الذي أشربه. أعرف أنك لا تحبه.» (لم أكن قد نطقت بكلمة، لكن التعبير على وجهي فضحني.) «لا أحد يحبه، على الأقل ممَّن لقيتهم. بيد أن هذا النبيذ ساعدنا على الإمساك بلصَّين منذ ثلاث سنوات، عندما كنت أقطن في ضاحية هامرسميث. تمكَّن اللصان من فتح الصوان في غرفة السفرة، واحتسيا نحو خمس زجاجات منه. وجدهما شرطي لاحقًا جالسَين على عتبة منزل يبعد مائة ياردة وبجوارهما حقيبة قماشية تحوي الغنيمة المسروقة. كان الإعياء قد بلغ منهما مبلغًا أعجزهما عن إبداء أي مقاومة، وذهبا إلى قسم الشرطة صاغرَين بعدما وعدهما الشرطي بأن يجلب لهما طبيبًا ما إن يصيرا آمنين وراء القضبان. ومنذ ذاك الحين، أحرص كل ليلة على ترك قارورة مليئة به على الطاولة.»

وأردف: «أحب هذا النبيذ حقًّا، وطالما كان له تأثير جيد عليَّ. في بعض الأحيان أعود إلى البيت منهك القوى. فأتناول بضعة كئوس منه، وعلى الفور يتجدَّد نشاطي. بدأت أحتسيه للسبب ذاته الذي دفعني إلى تدخين هذا السيجار، ألَا وهو رخص ثمنه. أطلبه مباشرة من جنيف، وتكلفني الدستة منه ستة شلنات فحسب. لا أعرف كيف ينتجون نبيذًا رخيصًا كهذا. ولا أريد أن أعرف. فكما تعلم، هو نبيذ مسكر حقًّا وله نكهة قوية.»

ثم أضاف: «أعرف رجلًا كان متزوِّجًا من امرأة ثرثارة مزعجة. طوال اليوم كانت تتحدَّث إليه أو تتحدَّث عنه أو تتحدَّث دون انتظار رد منه، وكان ينام ليلًا على الإيقاع المتذبذب لصوتها إذ تعبر عن رأيها فيه. وأخيرًا ماتت الزوجة، فهنَّأَه أصدقاؤه، وأخبروه أنه سينعم بالسلام من الآن فصاعدًا. لكن السلام الذي ساد البيت كان موحشًا، ولم يسعد الرجل به. فعلى مدار اثنين وعشرين عامًا، كان صوتها يتردَّد في أرجاء المنزل، مخترقًا الجدران الزجاجية لبيت النباتات، ومتدفِّقًا في موجات خافتة من الزعيق عَبْر الحديقة ونحو الطريق العام. والصمت الذي صار يُهيمن الآن على البيت أخافه وأزعجه. لم يعُد يشعر أنه في بيته. كان يفتقد الإهانات الصباحية المُنعِشة التي اعتادت توجيهها إليه، وساعات التوبيخ في ليالي الشتاء الطويلة بجوار نيران المدفأة المتراقصة. وجافاه النوم ليلًا. فكان يتقلَّب في سريره لساعات، وأذناه تتوقان إلى الإيقاع المهدئ المعتاد لصوتها إذ تذم في شخصه.

كان يصيح في مرارة: «صدق مَن قال إن المرء لا يعرف قيمة ما لديه حتى يفقده.»

أصابه المرض. وأعطاه الأطباء أنواعًا من المنوِّمات لم تُجدِ معه شيئًا. وأخيرًا أخبروه صراحة أن حياته تتوقَّف على إيجاد زوجة قادرة على مناكدته ومستعدة لمواصلة ذلك حتى ينام.

كان بالحي الذي يقطن به نساء كُثر من النوع الذي يريده، لكن النساء غير المتزوِّجات كُنَّ، بحكم الضرورة، عديمات الخبرة، ولم تكُن صحته لتتحمل إمضاء الوقت في تدريب أيٍّ منهن.

ومن حُسن الحظ، تُوفي رجل في الأبرشية المجاورة، وقيل إن زوجته هي مَن أزهقت روحه بحديثها المتواصل. سعى إلى التعرُّف عليها، ثم زارها في اليوم التالي للجنازة. كانت امرأة عجوزًا مشاكسة، والتودُّد إليها كان عملية صعبة ومنهكة، بَيْد أنه واصل مسعاه بشغف وحماس، ولم تمضِ ستة أشهر حتى نجح في إقناعها بالزواج منه.

لكن اتضح، مع الأسف، أنها بديل أدنى كفاءةً من زوجته الراحلة. كانت ترغب صدقًا في مناكفته غير أنها افتقدت الملكات التي تُعينها على فعل ذلك. فلم تكُن تتمتَّع بفصاحة اللسان ولا النَّفَس الطويل اللذين ميَّزا نظيرتها. ولم يكن الرجل يسمع لها حسًّا من كرسيه في آخر الحديقة، لهذا السبب اضطر إلى نقل الكرسي إلى بيت النباتات. لم يمانع في تغيير المكان ما دامت تستمرُّ في توجيه الإهانات إليه؛ لكن حالما كان يسترخي في كرسيه ويشرع في قراءة الصحيفة وتدخين غليونه، كانت، بين الحين والآخر، تتوقَّف فجأة عن الحديث.

كان ينحِّي الصحيفة جانبًا وينصت بعناية وعلى وجهه تعبير قلِقٌ ومهموم.

وبعد برهة كان ينادي عليها: «أأنتِ هنا يا عزيزتي؟»

فكانت ترد لاهثة بصوت منهك: «نعم هنا، أين تظنني ذهبت أيها العجوز الأحمق؟»

وما إن يسمع كلماتها كان وجهه يُشرق ويُجيبها قائلًا: «واصلي حديثك يا عزيزتي. أنا مُنصِت إليك، أحبُّ سماع صوتك.»

لكن المرأة المسكينة استُنزفت تمامًا، ولم تكُن قادرة حتى على إطلاق زفرة.

حينئذٍ كان يهزُّ رأسه بحزن ويقول: «إنها لا تملك طلاقة عزيزتي سوزان المسكينة، كانت امرأة لا مثيل لها!»

ليلًا كانت تحاول بذل قصارى جهدها، لكنَّ أداءها كان ضعيفًا وتعوزه الثقة. فبعدما كانت توبِّخه نحو ثلاثة أرباع ساعة، كانت تستلقي على المخدة وتستعد للنوم. لكنه كان يهز كتفها برفق.

كان يقول لها: «واصلي حديثك يا عزيزتي، كنتِ تقولين إنني لم أرفع عينيَّ من على جاين طوال الغداء.»»

واختتم صديقي حديثه مشعلًا سيجارًا جديدًا بقوله: «مدهش كم نحن أسرى لعاداتنا.»

علَّقَت قائلًا: «مدهش فعلًا. أعرف رجلًا اعتاد سرد قصص صعبة التصديق حتى جاء اليوم الذي حكى فيه قصة حقيقية فلم يصدِّقها أحد.»

قال صديقي: «تلك قصة حزينة جدًّا.»

عندئذٍ، قال الرجل ذو السمت المتواضع الجالس في ركن الغرفة: «على سيرة العادات. لديَّ قصة حقيقية أراهن بآخر دولار معي أنكما لن تصدِّقاها.»

ردَّ صديقي الذي كان يهوى المقامرة: «لا أملك دولارات لكني أراهنك بعشرة شلنات أنني سأصدِّقها. مَن سيحكم بيننا؟»

قال الرجل المتواضع: «سأثق بكلمتك»، ثم شرع في سرد قصته على الفور.

•••

«الرجل الذي سأحدِّثكم عنه من مدينة جيفرسون. ولد بها ولم ينَم ليلة واحدة خارجها طوال سبعة وأربعين عامًا. كان رجلًا محترمًا ووقورًا، تاجر أصباغ من الساعة التاسعة حتى الرابعة، وكان مسيحيًّا ملتزمًا بعقيدة الكنيسة المشيخية في باقي يومه. كان يقول إن العادات الجيدة هي ضمان الحياة الجيدة. كان يستيقظ في السابعة، ويصلِّي مع عائلته في السابعة والنصف، ثم يتناول إفطاره في الثامنة، ويذهب إلى محل عمله في التاسعة. وفي الساعة الرابعة عصرًا، يطلب إحضار حصانه إلى المكتب، ويمتطيه لمدة ساعة، ثم يعود إلى منزله في الخامسة، فيستحم ويحتسي كوبًا من الشاي، ويقضي بعض الوقت في اللعب مع الأطفال والقراءة لهم (كان رجلًا محبًّا للحياة الأسرية) حتى السادسة والنصف، وفي السابعة كان يرتدي ملابسه ويتناول وجبة العشاء، بعد ذلك كان يذهب إلى النادي ويلعب الويست حتى الساعة العاشرة والربع، وحينها يعود لمنزله مجددًا ويصلي صلاة المساء في العاشرة والنصف، وفي الحادية عشرة يكون مستلقيًا في سريره. طوال خمسة وعشرين عامًا، عاش تلك الحياة دون أدنى تغيير. وأضحى هذا النظام جزءًا لا يتجزأ من ذاته، بل صار نمطًا تلقائيًّا. كانت الكنيسة تضبط ساعتها عليه. وكان علماء الفلك المحليون ينظرون إليه كي يتأكدوا من موضع الشمس.

ظلَّ هكذا حتى تُوفي قريبٌ له بعيدًا في لندن، كان هذا القريب يعمل تاجرًا في شرق الهند وشغل سابقًا منصب عمدة المدينة، وأوصى لبطلنا بتركته وكلَّفه بتنفيذ الوصية. اكتشف الرجل أن التجارة التي أضحى مسئولًا عنها معقَّدة وتحتاج إلى إدارة. ومن ثَم قرَّر أن يكلف ابنه من زوجته السابقة، الذي كان شابًّا في الرابعة والعشرين من عمره، بتولِّي أعماله في مدينة جيفرسون، وارتحل مع زوجته الثانية وأطفالهما إلى إنجلترا كي يشرف على التجارة في شرق الهند.

وهكذا ارتحل من مدينة جيفرسون في الرابع من أكتوبر، ووصل لندن في السابع عشر من الشهر نفسه. كان قد أمضى الرحلة كلها مريضًا، ووصل إلى المنزل الذي استأجره بمنطقة بايزواتر في حالة يُرثى لها. لكنه استعاد صحته بعدما ارتاح لبضعة أيام في السرير، وفي مساء يوم الأربعاء أعلن عن نيته الذهاب إلى المدينة صباح الغد لتفقُّد أعماله.

في صباح يوم الخميس، استيقظ في الساعة الواحدة ظهرًا. أخبرته زوجته أنها لم ترغب في إزعاجه؛ إذ ظنَّت أن النوم سوف يفيده. أقرَّ بأن كلامها قد يكون صحيحًا، فهو يشعر بأنه في حالة جيدة، ونهض ثم شرع في ارتداء ملابسه. فيما بعد قال إنه لا يحبِّذ بدء أول يوم له في العمل بإهمال واجباته الدينية، ووافقته زوجته، ومن ثَم جمعا الخدم والأطفال في غرفة الطعام، وأقاموا صلاةً جماعية في الواحدة والنصف ظهرًا. بعد ذلك تناول إفطاره وانطلق نحو المدينة وبلغ وجهته في الساعة الثالثة ظهرًا تقريبًا.

كان الموظفون قد سمعوا عن دقة مواعيده، ومن ثَم فوجئوا جميعًا عندما وصل متأخرًا. بَيْد أنه شرح لهم الظروف، ورتَّب مواعيده كي تبدأ من الغد في الساعة التاسعة والنصف.

ظلَّ في المكتب حتى وقت متأخر، ثم عاد إلى منزله. ولم يستطِع أن يأكل في وجبة العشاء — التي عادةً ما تكون الوجبة الرئيسية — سوى قطعة من البسكويت وبعض الفاكهة. وعزا فقدان الشهية هذا إلى أنه لم يقُم بجولته المعتادة على ظَهر حصانه. وطوال المساء، كان يشعر بقلق غريب، ثم ذكر أن ميعاد لعبة الويست قد فات، وعزم على البحث دون تأخير في المنطقة المحيطة عن نادٍ هادئ ومحترم. في الحادية عشرة مساءً أوى إلى سريره برفقه زوجته، لكنه عجز عن النوم. شرع يتقلَّب يمينًا ويسارًا، لكنه ازداد تيقُّظًا ونشاطًا. وبعد منتصف الليل بقليل، شعر برغبة عارمة في الذهاب إلى غرفة الأطفال كي يتمنى لهم ليلة طيبة. انسلَّ من السرير برداء النوم، وتسلَّل إلى الغرفة غير أنه أيقظهم عندما فتح الباب، وسرَّه ذلك. جلس على طرف السرير ولفَّ لحافًا حولهم وأخذ يحكي لهم قصصًا ذات مغزًى أخلاقي حتى الساعة الواحدة صباحًا.

بعد ذلك قبَّلهم وطلب منهم أن يكونوا أطفالًا مهذَّبين ويخلدوا للنوم؛ بعد ذلك قرصه الجوع، فنزل السلالم حتى بلغ المطبخ في الجزء الخلفي من المنزل، وهناك تناول وجبة ثقيلة مكوَّنة من فطيرة لحم باردة وبعض الخيار.

عاد إلى السرير شاعرًا بمزيد من الهدوء والاطمئنان، لكنه ظلَّ عاجزًا عن النوم، فأخد يفكِّر في شئون العمل حتى الساعة الخامسة، وحينئذٍ غلبه النعاس.

استيقظ في تمام الواحدة ظهرًا. وأخبرته زوجته أنها حاولت إيقاظه بكل ما في وسعها دون جدوى. كان الرجل متكدرًا ومغتاظًا. ولو لم يكن رجلًا صالحًا، لتلفَّظَ بشتائم. هكذا تكرَّر ما حدث يوم الخميس، ووصل إلى المدينة في الساعة الثالثة.

استمرَّ الحال على هذا المنوال طوال شهر. خاض خلاله الرجل صراعًا مع نفسه، لكنه عجز عن تغيير وضعه. كان يستيقظ صباحًا، أو ظهرًا بالأحرى، في الساعة الواحدة. وكان يتسلَّل في كل ليلة إلى المطبخ باحثًا عن طعام. وكان ينام كل صباح في الساعة الخامسة.

لم يستطِع فَهْم ما يحدث له، ولم يستطِع أحد تفسير ما أصابه. أعطاه الأطباء أدوية لعلاج استسقاء الرأس، وانعدام المسئولية الناجم عن التنويم المغناطيسي، والخبل الوراثي. وفي غضون ذلك، تأثَّرَت أعماله سلبًا، وساءت حالته الصحية. كان يعيش حياته بالمقلوب. بدَت أيامه بلا بداية أو نهاية، بل اقتصرت على المنتصف فحسب. لم يجد وقتًا لممارسة الرياضة أو الترويح عن نفسه. فعندما يكون في حالة معنوية جيدة ويشعر بالرغبة في الاختلاط بالناس يكون الجميع نائمين.

وفي أحد الأيام اكتشف بالصدفة البحتة تفسيرًا لحالته. كانت كبرى بناته تؤدي واجباتها الدراسية بعد العشاء، عندما رفعت بصرها عن كتاب الجغرافيا وتساءلت: «كم الساعة الآن في مدينة نيويورك؟»

قال أبوها ناظرًا إلى ساعته: «نيويورك … فلنرَ، الساعة الآن العاشرة مساءً تقريبًا، وبحساب فرق التوقيت الذي يزيد قليلًا على أربع ساعات ونصف، تكون الساعة في نيويورك الخامسة والنصف عصرًا على وجه التقريب.»

حينئذٍ قالت الأم: «الوقت أبكَر من ذلك في جيفرسون، أليس كذلك؟»

نظرت الفتاة إلى الخريطة ثم أجابت: «بلى، تبعد جيفرسون عن نيويورك درجتين تقريبًا في اتجاه الغرب.»

قال الأب متأملًا: «درجتين … كل درجة تعادل أربعين دقيقة. ما يعني أن الساعة الآن في جيفرسون …»

عندئذٍ قفز واقفًا فجأةً وصاح: «وجدتها! الآن فهمت.»

تساءلت زوجته في فزع: «فهمتَ ماذا؟»

رد قائلًا: «الساعة الآن الرابعة عصرًا في جيفرسون، موعد نزهتي اليومية بالحصان. هذا ما أحتاج إلى فعله.»

كان هذا التفسير صحيحًا دون شك. فطوال خمسة وعشرين عامًا كانت حياته تسير بنظام زمني دقيق؛ نظام مضبوط على توقيت مدينة جيفرسون، لا توقيت لندن. لقد غيَّر موقعه، لكنه لم يغيِّر نفسه. والعادات التي الْتَزم بها على مدار ربع قرن يستحيل تبديلها بمجرد تبدُّل التوقيت.

درس بطلنا المشكلة من أوجهها كافةً، وقرَّر أن الحل الوحيد هو أن يعود إلى نظام حياته القديمة. كان يدرك الصعوبات التي ينطوي عليها هذا الحل، لكنها لم تكُن تضاهي المتاعب التي يعاني منها حاليًّا. كان أسير عاداته إلى حدٍّ منَعَه من التأقلُم مع الظروف. ومن ثَم لا بد أن تتأقلم الظروف معه.

عدَّل مواعيد العمل كي تصير من الساعة الثالثة عصرًا حتى العاشرة مساءً، وكان يغادر في التاسعة والنصف. وفي العاشرة مساءً كان يمتطي حصانه، ويعدو به في طريق روتن رو، وفي الليالي الشديدة الظلام كان يحمل معه مصباحًا. ذاعت أخبار نزهته تلك، وتجمَّعَت حشود من الناس لمشاهدته يمرُّ أمامهم ممتطيًا حصانه.

كان يتناول عشاءه في الواحدة صباحًا، ثم يتمشى حتى النادي. حاول في البداية إيجاد نادٍ هادئ حسَن السمعة، يرحِّب أعضاؤه بلعب الويست حتى الرابعة صباحًا، لكنه لم ينجح في مسعاه، ومن ثَم اضطر إلى التردُّد على نادي قمار صغير ووضيع في سوهو، حيث علَّمه الرواد لعب البوكر. كانت الشرطة تداهم النادي دوريًّا، لكن مظهره المحترم ساعده في أغلب الأحيان على الإفلات من الاعتقال.

في الرابعة والنصف صباحًا كان يعود إلى المنزل ويوقظ عائلته كي يؤدوا معًا صلاة المساء. وفي الخامسة صباحًا كان يأوي إلى فراشه وينام ملء جفنَيه. كان الموظفون في المدينة يمازحونه حول نظامه العجيب، ولم يرضَ سكان حي بايزواتر عن تصرُّفاته، لكن ذلك لم يهمه. الأمر الوحيد الذي كان يزعجه هو عجزه عن حضور قدَّاس المناولة في الكنيسة. ففي الساعة الخامسة عصرًا بأيام الآحاد كان يشعر برغبة في الذهاب إلى الكنيسة، لكنه اضطر إلى الاستغناء عن هذا النشاط. وفي الساعة السابعة مساءً، كان يأكل وجبة خفيفة، وفي الحادية عشرة كان يحتسي الشاي ويتناول الكعك، وفي منتصف الليل كان يشتاق مجددًا إلى الأناشيد والعظات الدينية. وفي الثالثة صباحًا كان يتناول عشاءً من الخبز والجبن، ثم يأوي مبكرًا إلى فراشه في الرابعة صباحًا، شاعرًا بالحزن وعدم الرضا.

كما ترون، لقد كان أسير العادة بكل ما تحمله الكلمة من معنًى.»

•••

أنهى الغريب ذو السمت المتواضع حديثه، وجلسنا نحدِّق صامتين في السقف.

وأخيرًا، نهض صديقي، وأخرج عشر شلنات من جيبه، ووضعها على الطاولة، وبعدما وضع ذراعه في ذراعي خرجنا إلى شرفة النادي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤