ريمون … ذو القبعة

كان من الممكن أن يكون «أحمد» أسعد شخص على ظهر الأرض، لو أنه كان يقوم برحلة أو نزهة في هذا اليوم المُشرق في الريف الإيطالي … فقد كانت المزارع والحقول تترامى على امتداد البصر … وقمم الجبال البعيدة تبدو كأشباح خرافية … ورائحة الورد والمطر الذي انتهى تملأ الجو … ولكن «أحمد» كان مشغول الذهن تمامًا … في الأغلب تقوم الشرطة الإيطالية بالبحث عنه الآن بتُهمة قتل هذا الرجل الذي ألقى نفسه عبر الباب … خاصةً وأنه هرَب من النافذة … واسمه وجواز سفره مسجَّلان عند السيدة العجوز، وطبعًا لا بد أنها قالت للشرطة أوصافه … وأخذ يفكر … هل يعود إلى ميلانو … إلى بنسيون فابريلُّو ويضع نفسه بين رجال الشرطة ليُثبِت براءته، إن دون ذلك مخاطر كثيرة جدًّا … أخطرها على الإطلاق المهمَّة التي جاء من أجلها، والمظروف الذي معه … ثم إن هؤلاء المُطارِدِين الذين فعلوا المستحيل للقضاء عليه … هل يعود ليُلقيَ بنفسه بين أيديهم؟

كانت هذه الخواطر تطوف بذهنه وهو يمشي وقد أحس بالجوع. ناظرًا إلى السيارات القليلة التي كانت تمرُّ به مشيرًا إليها … لعلَّ واحدة منها تقف وتلتقطه، ونجح في المرة الخامسة … وتوقفت سيارة سوداء من طراز «لانسيا» الإيطالي يقودها شاب وبجواره فتاة لاحظ «أحمد» أنها جميلة للغاية.

نظر «أحمد» إلى الشاب قائلًا: أريد الذهاب إلى فينسيا.

ابتسم الشاب وصاح: فينسيا … إنك تَحلُم يا صديقي!

أحمد: هل هي بعيدة جدًّا؟

الشاب: طبعًا … ولكن لحُسنِ حظِّكَ نحن ذاهبان إلى فيرونا وهي في منتصَف المسافة بين ميلانو وفينسيا … ومن هناك يُمكن أن تركب القطار إلى فينسيا.

أحمد: شكرًا … هذا يُناسبني جدًّا.

وقفز «أحمد» إلى السيارة التي انطلقت سريعًا … كانت الفتاة الحسناء تنظر إلى «أحمد» بين لحظة وأخرى … وأحسَّ «أحمد» ببعض الحرج، خاصةً وقد كان الشاب يتحدَّث إليها طول الوقت، فكانت تجيبه في كلمات مُقتضَبة … ثم تعاود النظر إلى «أحمد».

ما هي الحكاية؟

هكذا فكَّر «أحمد» وهو يحول وجهه لينظر من النافذة إلى الخارج. إن هذَين الشابين ذاهبان إلى فيرونا بلد العُشاق … حيث جرت مغامَرة روميو وجولييت الشهيرة … فما الذي يشغل الفتاة عن الفتى؟

وجاء الجواب سريعًا … فقد التقطَت الفتاة مجموعة من الصحف اختارت من بينها صحيفة «لاستامبا» وأخذت تتصفَّح الورق سريعًا … وكان «أحمد» يرقب الصحيفة بطرف عينيه … ودقَّ قلبه سريعًا عندما توقفت الفتاة عند صفحة معيَّنة وأخذت تقرأ … وبنظرة طويلة استطاع «أحمد» أن يلحظ صورة الرجل القتيل في الصفحة … الرجل الذي لم يأتِ بالمظروف … وعرف على الفور أن الصحيفة قد وصفتْه هو … وأن الفتاة تَشتبه فيه …

كانت لحظةً لم يَسبِق لها مثيل في حياة «أحمد» … ها هو في بلد غريب … متَّهم بالقتل … يَركب سيارة مع غريبَين تفضَّلا بالسماح له بالركوب معهما … ومع ذلك قد يجد نفسَه مُضطرًّا لاستخدام العنف معهما … فمن المؤكَّد أن الفتاة ستَلفِت نظر الشاب إلى الراكب الخطير الراكب معهما … وفي الأغلب سيتَّجه الشاب بالسيارة إلى أقرب مركز شرطة … وكان هذا ما يتمنى «أحمد» ألا يحدث … إنه بريء … بريء جاء في مهمَّة لا يعرف ما هي بالضبط … ولكن الوقت ليس مناسبًا لإثبات براءته … المهم الآن أن يَبتعِد … أن يصلَ إلى فينسيا … إن معه جواز سفر آخر لبناني … ومعه أدوات التنكُّر … ولو خلا بنفسِه نصف ساعة فقط لغيَّر ملامحه وأصبح شخصًا آخر … ولكن المهم الآن ماذا يفعل؟

فجأةً قالت الفتاة: هل أنت قادم من ميلانو؟

رد «أحمد» بثبات: نعم!

ولدهشة «أحمد» الشديدة قالت الفتاة: وهل معك المسروقات؟

لم يردَّ «أحمد» لحظات ثم قال: أيَّة مسروقات؟

الفتاة: المسروقات التي كانت مع القتيل!

أحمد: ليس معي مسروقات لسبب بسيط … هو أنني لم أَسرق شيئًا ولم أقتل أحدًا!

كان الحديث يدور بين «أحمد» والفتاة، بينما الفتى يقود السيارة دون أن يشترك معهما وكان ذلك مثار دهشة «أحمد» الشديدة.

ابتسمت الفتاة قائلة: تستطيع أن تَثق بنا أنا وكارلو … إننا من أبناء المهنة.

أحمد: أي مِهنة؟

زمت الفتاة شفتَيها باستنكار، ثم قالت: كل مهنة مُخالِفة للقانون نحن معها … ومؤقتًا نحن نقوم بتصريف المسروقات … ألا تَعرف سوق الحرامية في روما؟

أحمد: لم أسمع عنه في حياتي؟

الفتاة: دعك من اللف والدوران … إننا نُرجِّح أن ما سرقته مما خفَّ حملُه وغلا ثمنُه … إنه مجوهَرات بالطبع … وفي هذه الحقيبة بلا شك … ونحن على استعدادٍ لمُعاوَنَتك فورًا … المهم أن نرى البضاعة.

أحمد: أُؤكِّد لكِ أنني لا أحمل هذه البضاعة التي تتحدَّثين عنها. والرجل قتله شخص كان يُطاردُه … ولو أن الشرطة على قدرٍ من الذكاء لعرفَت أن الرجل قد أُطلِقَ عليه الرصاص من الخلف، وأنني كنت في الغرفة، ولم يكن في إمكاني أن أطلق عليه الرصاص بهذه الطريقة.

عند هذه اللحظة انحرفَ الشاب بالسيارة انحرافًا شديدًا مالت معه السيارة على جانبها حتى كادت تنقلب … وأدرك «أحمد» على الفور أنهما يَنويان الاستيلاء على الحقيبة منه … فمد يده سريعًا وأخرج مسدَّسه وقال وهو يضعه في صدر الشاب: رغم أنني لستُ لصًّا ولا قاتلًا … فهذا لا يعني أنني عبيط … أرجو أن تقود السيارة بانتباهٍ كامل وأن تَعرف أن أيَّ محاولة للغدر بي ستخسر معها رأسك الجميل.

نظرت الفتاة إلى وجه «أحمد» الصارم … وأدركت أنه يَعني ما يقول … وسمعها تقول للشابِّ أن يمضي إلى فيرونا، دون أيِّ توقف … بينما كان «أحمد» يفكر في أنه منذ وضع قدمه في إيطاليا لم يَسترِح لحظة واحدة من مطارَدةٍ أو محاولة قتلٍ … أو حتى من تهمة … شيء مُذهل وغريب!

مضت السيارة تشقُّ طريقها على أرض الشارع الناعمة، و«أحمد» يُراقِب كل شيء … الفتاة والشاب … والسيارات … وكلَّما وصلوا إلى مكان مُزدحِم أخفى مسدسه وراء أحد الصحف، وإن ظل مصوِّبه إلى رأس الشاب.

كان «أحمد» يُفكِّر أنه لو كان معه بعض الشياطين؛ «عثمان» … «إلهام» … «بو عمير» … «خالد» لو كانوا معه لعرفوا الآن كيف يَعملون … ولكنه وحده … وعليه أن يتصرَّف … أن يذهب إلى فينسيا … أن يذهب إلى سانتا كيارا ولا يَعرف ما هي … وأن يرى «كارميلا» ولا يَعرف من هي … ربما استطاع في النهاية أن يحصل على المظروف الذي يُريده رقم «صفر».

مضى الوقت والسيارة ماضية تقطع الطريق … وبعد ساعات لاحظ «أحمد» ازدياد حركة المرور. وعرف أنهم يَقتربون من فيرونا … كان مُتأكِّدًا أن كارلو لن يذهب إلى قسم الشرطة فهو يخشى الشرطة أكثر مما يخشاها «أحمد» … ولكن من المُمكِن أن يذهب به إلى عصابة من العصابات التي يتعامل معها … طمعًا في المجوهَرات المزعومة التي يظن … كما ظنَّت الفتاة … أنها معه …

ازدادت حركة المرور ازدحامًا … كما ازدادت أفكار «أحمد» ازدحامًا … كان عليه أن يتصرف سريعًا قبل أن يقع في مصيدة … خاصةً وقد هبط المساء مبكرًا وسيدخلون فيرونا في الظلام. وأخيرًا استقرَّ رأي «أحمد» على خطة محدَّدة … وجلس مشدود الأعصاب في انتظار الفرصة الملائمة لتنفيذها.

وجاءت الفرصة عندما توقَّفت السيارة في إشارة المرور في مدخل البلدة، وكان «أحمد» قد فتح الباب بهدوء وانتظر … وظلَّ ساكنًا هادئًا حتى بدأت السيارة تتحرَّك بعد فتح الإشارة … وانتظر حتى بدأت السيارة تُسرع وفتح الباب وبحركة بارعة نزل … وصفق الباب خلفه، وقبل أن يَعرف راكبا السيارة ما حدَث كان «أحمد» قد اندس في الزحام ومشى بسرعة وانحرف في أول شارع قابله.

سار «أحمد» يُفكِّر … إنه الآن في مدينة العُشاق … مدينة فيرونا الجميلة … وبدلًا من أن تكون معه «إلهام» … فهو وحيدٌ مطاردٌ … ليس من الشرطة فقط، ولكن من عصابات إيطاليا كلها التي تبحث الآن عن الشابِّ الذي استولى على المجوهرات كما تَظن.

كان عليه أن يتصرف بسرعة … وكان محتاجًا إلى أن يختلي بنفسه نصف ساعة فقط … وبعدها يُغيِّر مظهره واختار «أحمد» متجرًا صغيرًا للملابس المستعمَلة كان يجلس على بابه رجل عجوز يبدو نائمًا … ودون أن يتردَّد تقدم منه ثم دخل المحل. ورفع العجوز إليه عينَين متعبتَين، ثم عاد إلى سباته … وكانت فرصة «أحمد» الذهبية أسرع يختار بعض الملابس فدخل … وخلع ثيابه بسرعة … وارتدى الملابس التي اختارها … ثم فتَح الحقيبة … وأخرج أدوات التنكُّر وأخذ يعمل في وجهه … شارب قصير … شعر مُتهدِّل على طريقة الهيبيز … شرائح من البلاستيك الرقيق تُلصَق على العينين تحت الأجفان فتُحوِّلان العينين إلى لونٍ أخضر ضارب للسمرة.

كان يعمل بسرعة وثبات … فانتهى من كل شيء في أقل من عشرين دقيقة، ثم أخرج جواز السفر الإضافي … وبه أوصاف مظهره الجديد … وبقيَ نقلُ ختم وتأشيرات الدخول إلى إيطاليا … ولم تكن هذه مُشكلة … فمعه مسطحات صغيرة من مادة خاصَّة ألصقها على الأختام في جواز سفره الأول، فنقلت الأختام إليها … ثم أعاد إلصاقها على جواز السفر الثاني فنقَلَت الأختام والتأشيرات إليه … وهكذا أصبح «أحمد» «ريمون» اللبناني الجِنسية … ولم يَعُد له علاقة بأحمد المصري …

وابتسم «أحمد» لأول مرة منذ ترك ميلانو، وأخذ يُحدِّق في المرآة وينادي نفسه: «ريمون» … «ريمون».

وجمَعَ ملابسه الأولى، واختار كومة من الملابس المستعملة دسها تحتها، ثم شدَّ قامته وخرج من المحل، ورفع الرجل إليه عينَيه المتعبتَين فوضع «أحمد» في يده قبضة كبيرة من الليرات أخذ يعدها في رضًا … بينما كان «ريمون» … أو «أحمد» … يبتعد عن المحل ويَختفي في الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤