لم يعد العالم كما كان

لم يُجِب «أحمد» على الفور … وظلَّ يراقب الرجل بطرف عينه … ولكن الرجل اختفى فجأة في الزحام كما ظهر … واستأنف الشياطين سيرهم … ولكن «أحمد» لم يَعُد يستمتع بما يجري حوله … ولا حتى بصحبة «إلهام» … وأخذ يُفكِّر أن ظهور الرجل لم يكن عبثًا … إنما كان لإنذارهم … إنها بلغة العصابات … نصيحة بالانسحاب قبل إطلاق الرصاص …

وكان على ثقة من أنه لا يُمكن أن يحدث شيء … في ضوء النهار … وفي وسط الناس. ولكن بعد ساعات يَهبط الظلام … ويُواجهون العصابات الأربع … ولا بد أن الموضوع سيحسم كله الليلة.

بعد جولة في المدينة الجميلة ذهبوا للغداء … ثم ارتاحوا قليلًا ساعة العصر … وفي المساء قال «أحمد»: سأدعوكم لسماع «كارميلا» في الليدو … إنها لم تتكلَّم تليفونيًّا ولعلها تركت رسالة في محلِّ الدانتيلا.

وعندما أشرفت الساعة على التاسعة ليلًا نزلوا جميعًا واتجهوا إلى الليدو … وفي طريقهم مرُّوا بالمحل … ولكن كان قد أغلق أبوابه … ووصلوا الليدو … وبعد أن جلسوا ساعة في الشرفة الزجاجية بعيدًا عن الرياح التي بدأت تعصف … دخلوا النادي الليلي … كانت الموسيقى الراقصة تعزف … وبعد لحظات انهمكوا جميعًا في الرقص … «زبيدة» و«عثمان» … «إلهام» و«أحمد» … كان الجو شاعريًّا دافئًا … وكلُّ شيء يبدو هادئًا وممتعًا … ولكن في أعماق «أحمد» كان هناك شعور بالخطر … شعور غامض … ولكنه كاليقين، وبعد العشاء … أُعلن في الميكروفون أن «كارميلا» ستظهر بعد دقائق. واستعدَّ الحاضرون جميعًا للاستماع.

وتحت الأضواء الملوَّنة ظهرت «كارميلا» … ولاحظ «أحمد» على الفور أنها لم تكن على ما يُرام. كان يشوب صوتَها وحركاتها توتُّر … ولم يكن في إمكانها أن تراه بعد أن أطفئت أنوار الصالة وأضيئت أنوار المسرح حيث تقف «كارميلا».

كان «أحمد» يتمنَّى أن يبلغها رسالة … أن يقول لها إنه قريب منها … وأنه وثلاثة من الشياطين يمكن أن يَحموها من أي خطر.

ورغم المكان المحكَم … كان صوت الريح يأتي من الخارج عاليًا وصاخبًا … متسللًا إلى الصالة مشيعًا فيها قدرًا من البرودة … ومضت «كارميلا» تغنِّي أغنيتها الشهيرة:

لم يعد العالم كما كان،
كل واحد أصبح جزيرة وحده،
كانت فينسيا،
ولكنَّني أحاول أن أصل إليك …
أن أعبر البحر،
ولو كانت حياتي ثمنًا،
المهم أن نُحاول،
فنحن لسنا سوى محاولة.

كانت قد نسيَت توتُّرها مع جو الأغنية … فاندفعت تُغني بكل قوتها … وجسدها الصغير يهتزُّ بانفعال … وأحس «أحمد» بيد «إلهام» تُمسك بيده وتضغط عليها … كان جو الأغنية لا يقاوم …

ولكن أذنَي «أحمد» التقطت أصواتًا لا علاقة لها بالأغنية … أصواتًا تأتي من خارج الكازينو وأدرك أن هناك حركةً غير عادية … خاصةً عندما لاحظ أن الجرسونات يتجمَّعون في طرف الصالة ويتحدَّثون.

ونظر «أحمد» إلى الباب، ولاحظ أن عددًا من رجال الشرطة يقفون هناك … وأحس بالخطر، لا بد أن أحدًا وشى به … واحدٌ يعرف حقيقته … وأنه ليس «ريمون» ولكن «أحمد» المتهم بالقتل … وبحركة غير إرادية تحسَّس شاربه … وأحسَّ أنه يقع … ولكن من الواشي؟!

ليس هناك من يعرف حقيقته غير الشياطين الثلاثة … و«كارميلا» … فهل وشَتْ به «كارميلا»؟ ولكن لماذا؟

كان عليه أن يتصرَّف سريعًا … فهمس في أذن «إلهام»: رجال الشرطة يسدون الباب … سأخرج فورًا … وسنَلتقي في سانتا كيارا بعد ساعة … فإذا لم أحضر فانتظروا رسالة مني.

ووضع يده في جيبه فأخرج المظروف وأعطاه لإلهام تحت المائدة قائلًا: احتفظي به … وتسلَّل «أحمد» في الظلام مسرعًا ناحية دورة المياه … فتحها ودخل … وأسرع إلى النافذة … كانت تكفي جدًّا للقفز منها إلى الخارج … ولم يتردَّد … فتح النافذة واندفعت الريح العاصفة … وقفز في هدوء إلى الخارج …

وجد نفسه في شريط ضيق من الأرض عند ظهر الكازينو … وسار مسرعًا حتى نهاية شريط الأرض … ولكن فجأةً وجد شرطيًّا يقف يسد الطريق، فعاد في الاتجاه المضاد … ودار حول الكازينو … ووجد نفسه خلف غرفة مضاءة. نظر إلى داخلها وعرف على الفور أنها غرفة «كارميلا» … وفكر لحظات … ولكن تفكيره لم يَطُل فقد فتح الباب ودخلت «كارميلا» … كانت قد انتهت من أغنيتها … ولم تكد تُغلق الباب حتى شاهد رجلَين يَخرُجان من خلف الستائر … وكان أحدهما يرفع مسدسًا ضخمًا. ودار نقاش عنيف بين الرجلَين و«كارميلا» لم يسمع «أحمد» منه شيئًا … ثم انقضَّ أحد الرجلين عليها وكمَّم فمها … وفي لحظات كانا قد أوثقاها … ثم اتجها إلى النافذة التي يَربض «أحمد» خلفها.

التصق «أحمد» بالجدار وأخرج مسدَّسه … وتجاوز أحد الرجلين النافذة … ولم يكد يضع قدمه على الأرض حتى جذبه «أحمد» جانبًا وهوى بمسدسه على رأسِه … وجاء الآخر يَحمل «كارميلا» على كتفه … وصوَّب «أحمد» إلى بطنه لكمة هائلة جعلتْه يترنَّح … وأسرع «أحمد» يلتقط «كارميلا» قبل أن تسقط … وكان الرجل يضع يدَه ليخرج مسدَّسه … ولكن «أحمد» أصابه بضربة قاسية في وجهه جعلته يصرخ … ثم دفعه بكل قوته فسقط في البحر.

أسرع «أحمد» يفكُّ وثاق «كارميلا» … وفي هذه اللحظة انطفأت أنوار الكازينو كلها. وارتفعت أصوات طلقات الرصاص … وأمسك «أحمد» بذراع «كارميلا» وصاح: هيا بنا.

اندفعا يجريان على الشريط الضيق وعلى ضوء النجوم البعيدة … شاهد «أحمد» أشخاصًا يَجرُون في كل اتجاه … وسيارات تُطلِق أبواقها … وأدرك أن معركة قد نشبت بين رجال الشرطة وبين بعض الرواد … من هم؟ هل هم رجال العصابات الأربع؟ أم الشياطين الثلاثة؟

وأنصت رغم الضجة إلى صوت الطلقات … وعرف صوت طلقات مسدسات الشياطين. إذن فالشياطين الثلاثة مُشتبكُون في صراعٍ ما … وأسرع يجري في اتجاه ميدان المعركة ومعه «كارميلا» ووجد بجوار الشاطئ جندولًا واقفًا ليس فيه أحد. فقال «أحمد»: اقفزي هنا وانتظري!

قفزت «كارميلا» إلى الجندول … واندفع «أحمد» إلى ميدان المعركة … كانت الطلقات تأتي من كل اتجاه … شيء أشبه بميدان معركة في الحرب … وليس في فينسيا … وفجأةً وجد «زبيدة» تقفز إلى جواره دون أن تراه … وصاح بها: ماذا حدث؟

زبيدة: محاولة لقتلِنا في الظلام!

أحمد: وأين «إلهام» و«عثمان»؟

زبيدة: لا أدري.

أحمد: هناك جندول بجوار الشاطئ … اقفزي إليه … ولا تجعلي أحدًا يقترب من «كارميلا» … إنها فيه.

واقترب «أحمد» أكثر … وشاهَدَ في هذه اللحظة «إلهام» تدور بسرعة وتندفع ناحية البحر وخلفها رجل يُحاول الإمساك بها … وأطلق «أحمد» الرصاص مرتَين … وسقط الرجل، ولكنه ظل يطلق مسدَّسه.

أمسك «أحمد» بذراع «إلهام» وطلب منها الاتجاه إلى الجندول … ووقف يحدق في الظلام مختفيًا وراء جدار … وكانت طلقات الرصاص قد خفت صوتها … وبدأت أصوات الرجال تُنادي هنا وهناك … انتظر لحظات … ولكن «عثمان» لم يظهر … وقرَّر «أحمد» أن يعود إلى الجندول.

أسرع على شريط الأرض الضيق … وقفز إلى الجندول … وقالت «كارميلا»: دعوني أُجدِّف أنا؟

وأمسكت بالمجداف وأخذت تُجدِّف مُبتعِدة … كانت الرياح تهب بشدة … والأمواج تلعب بالجندول الرفيع والمياه تصب فيه … وبدا أنه سيغرق في أي لحظة … ولكن لم يكن في إمكانهم العودة إلى ميدان المعركة.

صاح «أحمد» في الظلام: ماذا حدث بالضبط؟

صاحت «إلهام»: بعد أن قمتَ من مكانك بلحظات، اندفع رجال الشرطة نحونا … وسألوا عنك فقلنا إنه ذهب إلى دورة المياه … فاندفعوا خلفكَ وقُمنا نحاول الانصراف … ولكن بعض رجال العصابات اعترضوا طريقنا … كان عددهم كبيرًا. فأطلق «عثمان» مسدَّسه على صندوق الكهرباء وساد الظلام … وتبادَلنا معهم إطلاق الرصاص مُحاوِلين شقَّ طريقنا إلى الخارج.

أحمد: وأين «عثمان»؟

زبيدة: رأيته يتعلَّق بالباب ويضرب رجلًا بقدمه في وجهه … ثم اختفى بعد ذلك.

أحمد: إننا لن نستطيع العودة إلى سانتا كيارا … إننا مُطارَدُون برجال الشرطة، ورجال العصابات.

كارميلا: ستأتون معي إلى منزلي.

أحمد: إنه أول مكان سيَبحثون فيه.

كانوا يتصايحون حتى يَسمعوا أصواتهم وسط العاصفة … وقال «أحمد»: هل يمكن الذهاب إلى المحل؟

كارميلا: إنَّ معي مفتاحًا له.

أحمد: هذا أنسب مكان!

ووصل الجندول إلى ميدان سان ماركو الذي كان خاليًا … واتجهوا جميعًا إلى محل الدانتيلا … ودخلوا … وأسرعت «كارميلا» إلى نهاية المحل … وفتحت مطبخًا صغيرًا وأخذت تعدُّ لهم الشاي … فقد كانوا في أشد الحاجة إلى شيء يدفئهم.

عادت «كارميلا» بصينية الشاي وقدم لها «أحمد» «زبيدة» و«إلهام» فقالت على الفور: إن الموقف يتطور بسرعة … ولا بد أن أقول لكم الآن ماذا في المظروف الذي جئتم من أجله.

سكتت لحظات ثم قالت: إن في هذا المظروف ما يكفي للقضاء على العصابات الأربع ويُدمِّرها إلى الأبد … إن به كشوفًا بأسماء رجال العصابات وتفاصيل عن خططهم في التهريب … وأسماء عملائهم في بلادكم … وهذا سرُّ الصراع الرهيب الذي يدور حول هذا المظروف … فقد جمع فيه أبي كل الأدلة التي تُحطِّم هذه العصابات.

ورشفت «كارميلا» من كوب الشاي ثم نظرت إليهم طويلًا وقالت: إن المظروف معي الآن! وتوقفت يد «أحمد» التي امتدَّت لكوب الشاي وقال: معك الآن؟

كارميلا: نعم … لقد حصلت عليه من صاحب فندق سانتا كيارا، قبل أن أصل إلى الكازينو بدقائق، ولم يتَّسع الوقت لأتصل … وقد كادت العصابات تصلُ إليه … لولا وجودكم …

ومدت «كارميلا» يدها في حقيبتها ثم أخرجت المظروف … هذا المظروف الذي يَحوي أخطر قائمة وأخطر أدلة ضد العصابات الأربع وببساطة ناولت «كارميلا» المظروف إلى «أحمد».

وفي هذه اللحظة سمعُوا دقًّا على الباب ووقف الشياطين الثلاثة ووقفت «كارميلا» معهم …

وقال «أحمد» بلهفة: هل هناك طريق للخروج سوى الباب؟

ردت «كارميلا»: لا …

وشهر الشياطين الثلاثة مسدساتهم وتقدموا من الباب … واستمعوا … وفجأة ابتسمت «زبيدة» وقالت: إنه «عثمان» … ألم تتبيَّنوا عدد الدقات إنها الدقات التي يعرفها كل الشياطين!

وتقدمت «كارميلا» وفتحت الباب … وأمامهم ظهر الشيطان الأسمر وقد تورَّمت إحدى عينيه من إصابة قوية.

صاحت «زبيدة»: كيف عرفت أننا هنا؟!

ابتسم «عثمان» وقال: لم يكن من المعقول أن تعودُوا إلى سانتا كيارا … وهكذا مررت بالمحل … وشاهدت الضوء من تحت الباب.

أشار «أحمد» إلى «إلهام». فأخرجت المظروف من حقيبتِها … المظروف الذي أرسله رقم «صفر» إلى «بازوليني» … وقال «أحمد»: إن التعليمات تقضي أن أتسلَّم هذا المظروف، وأسلِّم هذا.

ردت «كارميلا» دون أن تمدَّ يدها: إن به مبلغًا كبيرًا من المال وجواز سفر لأبي … ولستُ في حاجة إلى المال. ولا أبي في حاجة إلى الجواز … ردُّوا المال إلى رئيسكم … فإنني أساعدكم من أجل العدالة … ومن أجل الانتقام لأبي … وأنصحكم أن تَخرُجوا الآن معي. إنني أعرف رجلًا يؤجر قوارب كبيرة فيجب أن تخرُجُوا من فينسيا فورًا!

أحمد: وأنت؟

كارميلا: سأجد وسيلة للخروج أنا الأخرى من هذه المدينة … فلم يَعُد لي فيها مكان.

أحمد: وأين ستذهبين؟

كارميلا: لم يستقرَّ رأيي بعد … ولكن في الأغلب سوف أذهب إلى فرنسا.

أحمد: إذا احتجتِ إلى مساعدة … فأرسلي برقية إلى هذا العنوان … وسنأتي فورًا.

وأخرج «أحمد» ورقة وسطر عليها عنوان المقر السري في بيروت …

وبعد لحظات كان الخمسة يغادرون المحل. ويطويهم الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤