مدينة في الصخر

كان استرابون الجغرافي، الذي رافق إيليوس في حملته على الحِمْيَريين، ينظر إلى الوزير النبطي الذي رافق الحملة، هو الآخر، نظرة ارتياب واتهام.

ولعل الوزير النبطي أبى أن يكون مرشدًا صادقًا للرومان، ذلك أن الأنباط كانوا عربًا كالعرب، وكانوا يخشون نصرًا رومانيًّا ينقلب عليهم فيسحقهم بثقل وطأته.

ظهر الأنباط، أول ما ظهروا على مسرح التاريخ، قبائل هاجمت قومًا يقال لهم الإيديوميين، وانتزعت منهم موقع البطراء حوالي القرن السادس قبل الميلاد، وأنشأ الأنباط دولة عاشت في الشمال من شبه الجزيرة العربية على غذاء الأعمال التجارية.

ولكن ليس هذا كل شيء.

إن الواقف أمام خرائب البطراء اليوم يخيَّل إليه أنه يسمع وقع المطرقة على إزميل العامل، وهو ينقر مدينة بكاملها في الصخر.

أية يدٍ ثابتة بارعة تلك التي أتقنت نحت هذه الأعمدة، وتدويرها وصقلها؟

وأية نفسٍ عجيبة تلك التي اختارت صخرة عظيمة قاحلة على هضبة ترتفع ثلاثة آلاف قدم؟

لا ريب في أنها نفسٌ كانت تؤثر المنعة والحصانة على كل مطمح من المطامح.

ولقد أبدت البطراء منعة في أكثر من موقف: حاول انتيغونوس، الذي خلف الإسكندر المكدوني ملكًا على سوريا، أن يفتتحها فارتدَّ عنها كسير الهمة.

وبلغ من قوتها أن استنجد يوليوس قيصر بأحد ملوكها ليمدَّه بالخيَّالة أثناء حروبه في مصر.

… اتسعت دولة البطراء أعظم اتساعها أيام ملكها حارثة الثالث، وهو الذي افتتح دمشق وخلع عنها سيادة السلوقيين، وكان ابنه حارثة الرابع ملكًا ما كان أوغسطس قيصر إمبراطورًا، لما استقبل مِذْوَد البقر الطفل الناصري العظيم.

ولما كان الرسول بولس يتدلى بحبل وقفَّة إلى خارج سور دمشق، كان الحاكم الذي أمر بمطاردته، نبطيًّا ممثلًا لحارثة الرابع.

وحين حاصر الإمبراطور طيطش مدينة أورشليم حصاره الشهير، كان في قواته خمسة آلاف من المقاتلة، وألف جواد أنجده بها أحد ملوك الأنباط.

صادقت البطراء روما صداقة متينة بعد صداقة البطالسة في مصر، ولكن روما تضايقت باستقلال صديقتها.

وأخذ تيار التجارة يسلك طريقًا آخر لا يمر بالبطراء، بل بمدينة أخرى أخذ نجمها بالصعود، هي مدينة تدمر.

وفي نوبة من نوبات الغضب الاستعماري الأثيم، عزم الإمبراطور تراجان على محق عاصمة الأنباط، فالمدينة الصخرية كانت تتشبث بأكثر مما يستطيع أن يسيغ من الروح الاستقلالية.

زحف عليها وحاصرها في السنة ١٠٦ بعد الميلاد، وكان القتال داميًا رهيبًا، ولكن موقع المدينة على حصانته كان شحيح الماء، فنوَّخها العطش، وكالت لها الفيالق الرومانية ضربات قاتلة، فتمكن من دخولها الإمبراطور تراجان وخرَّبها تشفيًا وانتقامًا، على أن إزميل العامل الذي نقر الصخرة، يومًا في الماضي البعيد، تحدَّاه، وصمدت آثاره الرائعة للدهر.

ولكن ليس هذا كل شيء.

فقد يُقال إن الأنباط هم من الرعاة (الهيكسوس) الذين احتلوا مصر قديمًا بخيولهم الخاطفة التي دهش لها المصريون وتضعضعوا، وكان منهم الفرعون، المسمَّى الريان، وهو الذي استوزر يوسف بن يعقوب الإسرائيلي.

وأقام الهيكسوس في مصر نحوًا من خمسين سنة حتى أخرجهم منها الفرعون أحمس، فعادوا عبر سيناء إلى شبه الجزيرة العربية، واحتلوا البطراء حيث أقاموا مملكتهم وأبدعوا مدينتهم الخالدة.

وإذا صحَّت بعض النظريات فالأنباط كانوا في حديثهم اليومي يتكلمون العربية رغم أنهم استعملوا الآرامية في الكتابة.

وأية عربية؟ هذه اللغة الدارجة التي أتكلمها أنا وأنت اليوم، أو شيء قريب منها، ومما يؤيد هذه النظرية أن الأنباط شعب بقيت له صفاته خلال التاريخ العربي بعد ظهور النبي محمد وفي أيام الأمويين والعباسيين، وكانت إحدى صفاته اقتصار أفراده على العربية العامية، وضعفهم في إتقان الفصحى، بحيث بات الشعراء يعيِّرونهم ويكثرون مداعبتهم.

ولا ندري هل تذكر عشائر الحويطات، في شرق الأردن اليوم، أنها ترتفع بالنسب إلى الأنباط، وعصرهم المرموق؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤