«اللص الشريف» منذ أربعة عشر قرنًا

الحكاية قديمة جدًّا وطويلة، فلا نستطيع هنا أن نرويها على تفاصيلها كلها خشيةَ أن تشغلنا عن الحكاية الأخرى التي قصدنا روايتها.

ولكننا نستطيع أن نتصور إنسانًا ظهر مرَّة في التاريخ، واستقوى وأشار إلى أشياء، قال: هذه لي، مددتُ إليها يدي فحُزتُها، فمن مدَّ إليها يدَه كسرتُها! فأصبح ذلك سابقة درج عليها الناس من بعد، وبات فريق يشير إلى أشياء فيقول: هذه لي! وفريق أكبر لا يستطيع أن يشير إلى مثل تلك الأشياء فيقول: هذه لي!

ووقعت المشكلة العويصة، واعتصم كل فريق بمنطق من الكلام يحاول أن يقنع به الفريق الآخر، ولكنه احتفظ في النهاية بنوع آخر من المنطق هو أشد إقناعًا.

وانبرى كثيرون من السعاة بالخير لتسوية المشكلة.

أما في شبه الجزيرة العربية، أيامَ الجاهلية، فقد برز من هؤلاء السعاة بالخير حاتم الطائي فقال: لا يسوِّي المشكلة كالكرَم، وكان حاتم رجلًا مُوسِرًا، وكان سخيًّا بذَّالًا، فإذا وقع القحط أو اشتد البرد ويبست موارد الرزق من زرع وضرع، اجتهد في أن يعين الفقراء بما وسعته قدرته الواسعة.

على أن حاتمًا، وحده، لم يكن ليستطيع قومةً بعبء المعوزين، ولم يكن ليجاريه أحد في بذله وسخائه، فكانت الغاية أن حاتمًا لم يُطق، رغم طاقته، أن ينفع إلا نفرًا قليلًا من ذوي الحاجات، وكثيرًا ما ساءت الحال بينه وبين امرأته، ومات لما مات، والفقراء فقراء والأغنياء أغنياء.

وأراد رجل آخر، في زمن الجاهلية أيضًا، أن يحل المشكلة العويصة. ذلك هو عروة بن الورد العبسي.

لقد كره عروة طريقة حاتم في التسوية، وأبى على الصعاليك الذين لا يملكون شيئًا أن يعيشوا بكرم الأغنياء، إن كان الأغنياء كرماء.

وبات إذا وقع القحط، وقسا البرد، يقول للصعاليك: تعالوا نجعل رزقنا في أَسنَّة رماحنا. ففريق وافق، وفريق خالف، وقال الذين خالفوا: نطوف بأبواب الأغنياء حتى تنكشف الغمة وتنجلي الأزمة.

فأنشد عروة شعره الذي يقول فيه:

لحا الله صعلوكًا إذا جُنَّ ليله
مُصافي المشاش آلفًا كل مجزرِ
ينام عشاء، ثم يصبح ناعسًا
يحت الحصى عن جنبه المتعفر
ولكن صعلوكًا صفيحةُ وجهه
كضوء شهاب القابس المتنور
مُطلًّا على أعدائه يزجرونه
بساحتهم زجر المنيح المشهر
إذا بعدوا لا يأمنون اقترابه
تشوُّف أهل الغائب المنتظر
فذلك إن يلقَ المنيةَ يلقها
حميدًا وإن يستغنِ يومًا فأجدر

ولقد وضع رسامٌ مكسيكيٌّ عصريٌّ لوحة، فجعل فيها جماهير يواجهون، بعيون تعبة مكدودة وثياب بالية، نفرًا يقبضون على عصي مقمَّعة بالفضة، وسلاسل الذهب تلمع على صدورهم، والجماهير فئتان: فئة تمدُّ أيديها ضارعة مستعطية، وفئة تهز قبضاتها ساخطة مهدِّدة.

وعروة، في شعره، كذلك الرسام في لوحته، قسَّم الصعاليك إلى طائفتين: فطائفة ترتاد المنازل التي تُذبَح فيها الذبائح فتكتفي بنهش ما يُلقى لها من عظام، وطائفة ذات بأس وإباء تنقضُّ فتغتصب رزقها اغتصابًا.

وعاش عروة رئيسًا للطائفة الثانية من الصعاليك، عاش زعيم عصابة يضرب بها في الآفاق غازيًا، فيتناول أموال الموسرين ويقسمها بين أتباعه، حتى سُمِّي عروة الصعاليك، وأبا الصعاليك.

قال الراوي: وما أخلقنا هنا أن نرجع إلى صاحب الأغاني، فنتكئ على حديثه. روى أبو الفرج أن عروة كان في قوم إذا أجدبوا تركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف، فكان عروة يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس من عشيرته، في الشدَّة، فيُعنى بهم ويقيم لهم نفقًا تحت الأرض يأوون إليه، أو يضرب عليهم حظيرة من شجر تقيهم قَرْص الريح والبرد، فمن قويَ منهم، كأن يكون مريضًا فيبرأ أو ضعيفًا فتثوب قوته، خرج به فأغار وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبًا، حتى إذا أخصب الناس وألبنوا وذهبت السنة، ألحق كل إنسان بأهله وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها، فاتفق أن ضاقت بعروة الحال في بعض السنين فأنشد:

لعل ارتيادي في البلاد وبغيتي
وشدِّي حيازيم المطية بالرحل
سيدفعني يومًا إلى رب هجمة
يدافع عنها بالعقوق وبالبخل

فزعموا أن الله قيَّض له، وهو مع قوم من صعاليك عشيرته، في شتاء شديد، ناقتين دهماوين، فنحر لهم إحداهما، وحمل متاعهم على الأخرى، وجعل يتنقل بهم من مكان إلى آخر، فنزل بهم بموضع يقال له ماوان، ثم إن الله قيَّض له رجلًا صاحب مائة من الإبل قد فرَّ بها من حقوق قومه، وذلك أول ما ألبن الناس، فقتله وأخذ إبله وامرأته، وكانت من أحسن النساء، فأتى بالإبل أصحابَ الحظيرة ممن خلَّفهم وراءه، فحلب النياق لهم وحملهم عليها، حتى إذا دنوا من عشيرتهم أقبل يُقسمها بينهم، وأخذ مثل نصيب أحدهم، فقالوا: لا واللات والعزَّى، لا نرضى حتى تجعل المرأة نصيبًا، فمن شاء أخذها، فجعل يهمُّ بأن يحمل عليهم فيقتلهم وينتزع الإبل منهم، ثم يذكر أنهم صنيعته، وأنه إن فعل ذلك أفسد ما كان صنع، فأفكر طويلًا، ثم أجابهم إلى أن يرد عليهم الإبل إلا راحلةً يحمل عليها المرأة حتى يلحق بأهله، فأبوا ذلك عليه حتى تطوَّع رجل منهم، فجعل له راحلة كانت من نصيبه.

قال الراوي: فما كان أعظم عروة يطيق هذه الإطاقة من معشر أحسن إليهم هذا الإحسان، ولم يقابلهم بغير شعر نظمه فيهم، فزعم أنهم — أولًا وآخرًا — ناس كالناس حين يمرعون ويتموَّلون.

وذهب راويتنا مذهبًا في التأمل، فأردف قائلًا: وقبل أن يفكر كتَّاب الروايات، في عصرنا هذا، بذلك الخلق العجيب الذي دعوه «اللصَّ الشريف»، سبقهم عروة بن الورد بأجيال وعصور، ولكن عروة مات كحاتم، والفقراء فقراء والأغنياء أغنياء، فلم يحلَّ المشكلة.

ثم أضاف الراوي بعد سكتة: إن المشكلة لم يكن لها حل يومذاك.

وزاد مبتسمًا: لو لم يكن وضُح حل المشكلة اليوم، لآثرت أن أكون من عصابةٍ كعصابة عروة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤