مِن أجنبي إلى أجنبي

جلس كسرى إلى مرازبته، يفاوضهم في شأن الأمير سيف وقضية الحملة على اليمن، وكأن المرازبة كانوا على تفاهم سابق، فتقدم أحدهم بهذا الاقتراح الطريف، قال: في سجونك، أيها الملك، ثمانمئة، بل ألف، من المحاربين، وليس منهم إلا من اقترف ذنبًا يستحق له الموت، وجميعهم إلى الفضاء الطليق مشتاق، فأخرجهم وجهِّز منهم حملة لقتال الأحباش، فإذا نجحوا فذاك، وإذا تلفوا فما ظُلموا.

فأصغى كسرى مليًّا، ثم قال: ومن يقود حملة كهذه؟

فأجابه المرازبة: سمعنا أن الأسوار وهرز يتطوَّع لتدريب الحملة وقيادتها، ووهرز عظيم الإعجاب بالأمير العربي.

فأشار كسرى بالموافقة.

وأُخرج المحابيس من سجونهم، ودُرِّبوا على فنون القتال وأخصُّها الرماية، وجهِّزوا بأنواع السلاح.

ثم تحركت الحملة الصغيرة من المدائن، وقد تعاهد وهرز وسيف على أن لا يختلفا، بل على أن يموتا أو يظفرا.

حتى إذا بلغ سير الحملة شط العرب، عند مصب الدجلة والفرات، ركب المقاتلون ثمانية من السفن وأبحروا إلى ساحل حضرموت، فتحطمت سفينتان بعصف الريح، وفقدت الحملة نحوًا من مائتي رجل، ونزل الجنود الباقون إلى البر، وقيل: إن وهرز أمرهم بإحراق السفن لئلا يلتفتوا وراءهم.

وطارت الأخبار إلى اليمن بقدوم الأمير سيف، وجعل اليمنيون يمشي بعضهم إلى بعض، ويتناقلون فيما بينهم أن سيفًا عاد من بلاد الفرس ومعه حملة عظيمة كفيلة بطرد الأحباش، وطفق الفتيان اليمنيون يجمعون السلاح، فيتسللون خفية ويلحقون بسيف، ونمى الخبر إلى مسروق فأعد جيشًا جرارًا بلغ عشرات الألوف، وزيَّن رأسه بالتاج، وعلَّق لؤلؤة ساطعة تتحدَّر على جبينه، وركب الفيل، وزحف إلى معركة يعتبر أن نتيجتها مقررة.

وكان سيف قد قال لوهرز: أنتم الفرس رماة نشَّاب، ونحن أمهر مع الرمح والسيف، وأكثر هؤلاء الذين سنلقاهم من جيش مسروق إنما هم يمنيون ساقهم إلى قتالنا، فإذا باشرتهم أنا بنفسي وباشرهم مَن معي من العرب دعوناهم فانحازوا إلينا، فكن أنت ورجالك في المؤخرة نكن نحن في المقدمة.

فوافقه وهرز، وكان سيف والعرب في الطليعة.

فما ظهر جيش مسروق حتى لاحت دلائل الاستخفاف على الملك الحبشي، فقال: «أيقابلني المجنون بحفنة من الرجال يلتقمها جيشي لقمة واحدة؟ والله لا أقاتله وأنا على فيل، هاتوا لي فرسًا أركبها»، ثم تحوَّل عن رأيه فصاح: «بل هاتوا لي جملًا، بل هاتوا حمارًا، فإن الحمار خير ما ألقى به هذا المدَّعي المغرور؟».

على أن مسروقًا ما لبث أن رأى عجبًا، إذ انقضت تلك الحفنة من الرجال فخالطت طلائع جيشه غير حاسبة للموت حسابًا، وجعل يسمع نداءً عربيًّا ويرى سلاحًا كان إلى جانبه ينقلب عليه.

ثم انهلَّ مطر من النشَّاب حوله وحول حماره، فلقد أحكم رماة الفرس نشابهم هذا الإحكام لغرض في النفس، فارتاع مسروق وصاح بالأحباش فالتفوا حوله ليقوه الشر، ففتك بهم النشاب فتكًا ذريعًا، فتساقط من تساقط، وتبعثر من تبعثر، ولم تطل الوقعة حتى انحلَّت عرى الجيش الحبشي وتمَّت هزيمته.

وتابع الجيش الظافر زحفه حتى صنعاء، وكان باب المدينة واطئًا، فأبى وهرز أن يمر بالباب وينكس رايته فصاح: اهدموا الباب.

فنظر سيف إلى حُسْن صنعة البناء، وشحبت وجوه اليمنيين، أيكون ذلك أول جزاء الاستعانة بالأجنبي الفاتح على الأجنبي الفاتح؟

وما استطاع سيف إلا أن يقرَّ هدم الباب، ودخر وهرز ورايته مرفوعة يداعبها النسيم.

وكان أول ما فعل أن طلب الأموال والهدايا، فسيق له منها الشيء الكثير، فبعث به إلى كسرى.

فكتب إليه كسرى يقول: توِّج سيفًا، وعاهده على الأمانة للفرس، وافرض عليه الجزية كل عام، وأن يتزوَّج الفرس من قومه، ولا يتزوَّج قومه من الفرس.

فنفذ وهرز ما أمره به ملكه وقفل راجعًا، وانتقلت اليمن من سيطرة أجنبية إلى سيطرة أجنبية، واستوى سيف على عرش أجداده من بني حِمْيَر في غمدان، وجاءته الوفود مهنئة.

على أن بعض الأحباش الذين أراد إذلالهم، فجعلهم خولًا وجمازين بين يديه، غدروا به فقتلوه.

وانقلب الفرس إلى حكم البلاد حكمًا مباشرًا حتى نهض الإسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤