الفصل الرابع

يومان مرَّا على ريدوود

١

عندما أدرك كاترام أنَّ لحظة اقتلاع الشجرة العملاقة قد حَانَت، طَوَّع القانون بما يخدُم أغراضه وأرسل أمرًا بالقبض على ريدوود وكُوسَار.

كان ريدوود هناك في منزله فريسةً سهلة؛ فقد كانت تُجرى له عملية جراحية في أحد جنبَيه، وقد مَنع عنه الأطباء كل الأخبار المُزعجة حتَّى يتماثل للشفاء. في ذلك الوقت، كانوا قد أذِنوا له بالخروج. كان قد نَهَض لتَوِّه من فِراشِه وجَلَس في غُرفةٍ أدفأتها مدفأة كما أحاطت به كَومة صُحُفٍ. كان يقرأ للمَرَّة الأولى عن الاضطِرابَات التي حدثت وجَرَفت البلاد لتقَع في قبضة كاترام، والمشكلات التي عَصَفَت بابنه والأميرة. كان ذلك في صبيحة اليوم الذي قُتِل فيه صغيرُ آل كادِلز، والذي حاول فيه رجال الشُّرطة أيضًا مَنع ريدوود الابن من الذَّهاب لمُلاقَاة الأميرة؛ لذلك كانت الصُّحف التي بحَوزة ريدوود تُشِير على استحياءٍ وبغموضٍ إلى تِلك الأحداث الوشيكة. كان يقرأ مُجددًا تلك الإشارات المَبدئيَّة بقَلبٍ مَفجوعٍ، يقرأ ليتبَيَّن له أنَّ شَبح الموت كان يقترِب أكثر فأكثر. كان يقرأ ليَشغل عقله حتَّى تأتيه أخبارٌ جديدة؛ لذلك عندما رأى رجال الشُّرطة يتبعون الخادم إلى غرفته، نَظر إليهم بلَهفةٍ وحَمَاس.

قال: «كنتُ أظنُّ أنك أتيتَ لي بصحيفة مسائية مبُكرة.» ثم هبَّ واقفًا ليقول وقد تغيَّر حاله فجأة: «ما هذا؟»

بعد ذلك، لم يُحِط ريدوود علمًا بأي أخبار طيلة يومَين.

كانوا قد جاءوا بعَرَبةٍ لاعتقاله، ولكن عندما تَبَيَّن لهم أنَّه مَريض قرَّروا أن يتركوه ليومٍ أو يومَين حتَّى يتأتى لهم نقله إلى السجن بأمان. استولى رجال الشُّرطة على البيت وحَوَّلُوه لسجنٍ مؤقَّت. هذا البيت هو نفسه المكان الذي وُلِد فيه ريدوود العملاق، والذي أُعطيت فيه للمرة الأولى مادة هرقليوفوربيا لكائن بشري، والذي عاش فيه ريدوود أرملَ وحيدًا لثماني سنوات بعد أن ماتت زوجتُه.

كان شعره قد اكتسى باللون الرمادي وصارت لحيتُه المُدبَّبة نوعًا ما رمادية اللون في حين احتفظت عيناه البُنِّيتان بحيويتهما. كان ما يزال، كما اعتاد أن يكون، نحيل الجَسَد ذا صوتٍ هادئ ولكنَّ سِمَاتِه قد اكتَسَت بتلك الصِّبغَة المُبهَمة التي اكتسبها من كثرة التفكُّر في الأشياء العملاقة. كان مَظهَر ريدوود في نَظَر الضَّابِط المُوكَّل بأمر الاعتقال، يتناقض تمامًا مع جسامة ما اقترفه من مُخالفات. قال الضَّابط المسئول للشُّرطي الذي بجانبه: «انظر إلى صَدِيقنا هذا! لم يترك شيئًا يُفِسد به حياتنا ويُخَرِّبها إلا وفعله، ومع ذلك، إذا نَظَرت إليه تَرى وجهه هادئًا وَدِيعًا كنَبِيلٍ من النُّبَلاء. وها هو القاضي هَنجبرُو الذي يسعى جاهدًا لجعل الأمور تجري في نِصَابها الصحيح بالنسبة إلى الجميع، وإذا نَظَرتَ إلى رأسه وجدتَه أشبهَ برأس كلبٍ. ثمَّ قارن بين أخلاق هذا وذاك! هذا الرجل في غاية الهدوء والوداعة بينما نجد القاضي مُزمجرًا مُتذمرًا. ألا يُعَلِّمُنا ذلك أنَّ المَظَاهر لا يُمكن أن تُتَّخذ أساسًا للحكم مهما كانت؟»

ولكن ما لَبِث أن أحبَطَ ثَنَاءه على أخلاق ريدوود؛ فقد وجده الضباط مُزعجًا ومُثيرًا للمتاعب في البداية إلى أن وَضَعوا حدًّا للأمر وأوضحوا له أنَّه لا طَائِل من طرحه للأسئلة أو استجداءاته من أجل الحصول على الصحفِ كي يَطَّلع على الأخبار. في الواقع، فتشوا مكتبه بل وأخذوا الصُّحف القديمة التي لدَيه. كان صوت ريدوود عاليًا عندما صاح مُعترضًا مرارًا ومُكرِّرًا: «ألا تستوعبون الأمر؟ ذَاك وَلَدي! ذَاك وَلَدي الوحيد. إنه في وَرطَة. لا يُهِمُّني طعام الآلهة في شيء، لا يُهِمُّني سوى ولدي!»

قال الضَّابط: «وددتُ لو أستطيع إخبارك يا سيدي، ولكن لدَينا أوامر صَارِمة.»

صاح ريدوود: «مَن الذي أعطى تِلك الأوامر؟»

ردَّ الضَّابط: «أها! إنَّه السير …» ومَشَى باتِّجاه الباب مغادِرًا.

قال الضَّابط الثَّاني للضابط الذي يعلوه رتبةً بعدما نَزَل: «الرجل يَذرَع غرفته جيئةً وذهابًا! ولكن لا بأس، لنَدَعه يَتَرَيَّض قليلًا وسَيَهدأ!»

قال الضَّابط المسئول: «أرجو حقًّا أن يهدأ! الحَقُّ يُقال، أنا لم أفكِّر بالأمر من هذا المنظور من قبل، ولكن هذا العملاق في مدينتنا، ذلك الذي كان بصُحبَة الأميرة دَومًا، هو ابن هذا الرَّجل!»

سَكت الاثنان لحظاتٍ يُفَكِّرَان ويَنظُرَان إلى بعضهما وإلى الشُّرطِي ثالثهما.

قال الشرطي الثالث: «لذلك نَرَى وَقْعَ الأمر شديدًا عليه؟»

صَار واضحًا أنَّ ريدوود لم يَستَوعِب تمامًا حقيقة أنَّه مَعزولٌ عن العالم الخارجي بستارٍ فولاذي استيعابًا كاملًا. سَمِعوا صوت ذهَابِه إلى باب الغرفة يُمسِك بمِقبَضه ويَهُزُّ القُفلَ محاولًا أن يفتحه، ثمَّ صوت الضابط المُتَمركِز على السُّلَّم وهو يُخبره أن لا جَدوى من فِعلِه هذا. ثُمَّ بَعد ذلك سمعوه وهو في نَافِذة الغرفة وقد رأى رجال الشُّرطة في الخارج ينظرون إليه. قال له الضَّابطُ الثَّاني: «لن تُجدِي تلك الطريقة نفعًا!» لم يَجد ريدوود أمامه إلا الجَرَس فأخذ يقرَعه، فصَعد إليه الضَّابط المسئول وأوضحَ له بهدوءِ أعصابٍ أنَّ قَرْع الجَرَس هكذا لن يُقَدِّم ولن يُؤخِّر. وإذا استمَرَّ في قَرعِه عَبَثًا فربَّما سيتَجاهلونه وقتما يَقرعُه وهو في أمَسِّ الحاجة إلى شيءٍ. قال الضَّابط: «أرجو أن تَقرَعه في حدود المعقول يا سيدي. ولكن إذا ما استمرَّ قَرعُكَ له كوسيلةِ احتجاجٍ فسنُضطرُّ إلى عدَم الاستجابة أو فصل الجرس تمامًا.»

كانت آخر جملةٍ سمعها الضَّابط هي ما قاله ريدوود بحنقٍ شديدٍ وصوتٍ مرتفع: «على الأقل أخبرْني إذا ما كان وَلَدي …»

٢

قَضَى ريدوود بعد ذلك جُلَّ وقته يتطَلَّع من النَّوافِذ.

ولكن النَّوافِذ لم تُتِح له اطِّلاعًا واسعًا على مُجرَيات الأحداث في الخارج. كان الشَّارع هادئًا على الدَّوام، وفي ذلك اليوم كان على غير العادة أكثر هدوءًا؛ طوال الصَّباح، لا يَكادُ يَذكر أن سيارة أجرةٍ قد مرَّت أو عَرَبة لبيع البَضَائع. بين الفينة والأخرى، يمرُّ رجلٌ أو رجلان مرورًا رتيبًا دون أن يبدو أي شيءٍ مُثيرٍ على وجوهِهم، بين الحين والآخر، تَمرُّ مجموعة صِغارٍ أو مُربِّية أطفالٍ أو امرأة ذاهبة للسُّوق وهَلمَّ جرًّا. كانوا يظهرون جِهَة اليمين أو الشمال، ذاهبين أو عائدين، كلُّهم تَعلو وجوههم حالة من اللامبالاة بأيِّ شأنٍ عدا شئون حياتهم الخاصَّة. كانوا يتعجَّبون عند رؤيتهم للمنزل الذي تملؤه الشُّرطة وتُحَاصِره ويخرجون في الاتجاه المُعاكِس حيث حزَمٌ كثيفةٌ من شُجيرات الهِدرَنجِيَّة العملاقة على طول المَمشى، ويُشِيرون بأصابِعهم ويُحدِّقون. ومن وقتٍ لآخر، يأتي رجلٌ ويسأل رجال الشُّرطة سؤالًا ليَلقَى جوابًا فَظًّا …

أمَّا المنازل المُقابلة فقد بَدت مهجورة، إلا مرَّة أطلَّت فيها مُربِّية أطفالٍ من نافذة غرفة نومٍ وحدَّقت للحظاتٍ، فأخذ ريدوود يُشير إليها بِيَدَيه ليلفِت انتباهها. شاهدت إشاراته باهتمامٍ لمُدَّةٍ ثمَّ ردَّت عليها بإشارةٍ غامضةٍ والتفَتَت لتنظُر وراءَها ثمَّ انتابها شيءٌ من القلق فالتفتت وراءَها واختفت فجأة. خَرجَ رجلٌ عجوزٌ من المنزل رقم ٣٧ ونَزَل الدَّرَج ثُم اتجه يمينًا دون أن ينظر للأعلى. لمُدَّة عشر دقائق بأكملها، لم يكن هناك أي كائن حي في الشارع سوى هِرٍّ.

وهكذا، طالَ هذا الصباحُ الكئيب الذي لم تظهر له نهاية في الأفق.

وفي السَّاعة الثَّانية عشرة تقريبًا، سُمِعَ صوتُ بائعي الجَرائد من شارعٍ قريبٍ ولكنَّه تلاشى بعد ذلك. لقد تَركوا شارع ريدوود على غير عادتهم، فسَرَى الشَّكُّ في نفسه أنَّ الشُّرطة تُحاصِر نهاية الشَّارع أيضًا. حاول أن يفتَح إحدى النَّوافذ، ولكن فِعلته تلك جَلبَت رجل شرطةٍ إلى الغرفة على الفور.

دقَّت ساعة كنيسة الأبرَشِيَّة تمام الثَّانية عشرة، ومَرَّ الوقت كأنه دهرٌ قبل أن تَدُقَّ مرة أخرى تمام الواحدة.

قدَّموا له طعام الغداء.

أكل لُقمَةً أو لُقمَتَين ثُم أبعد الطَّعام عنه ليُؤخذ بعيدًا، شَرِب حتَّى ارتَوى من الويسكي، ثم أخذ كرسيًّا وعاد إلى مكانه بجانب النَّافذة. كان الوَقتُ يَمُرُّ بطيئًا كأنَّه سَرمَدي؛ ربَّما دَفَعه ذلك للغَطِّ في النَّوم حِينًا.

استيقَظَ من النَّوم وهو يَشعُر بهَزَّاتٍ أرضِيَّةٍ بعيدة وغريبة، رأى النَّوافذ تهتَزُّ وتَرتَعِش كأنَّها هزَّة أرضية استمرَّت لدقيقةٍ أو أقل ثمَّ خَمَدت. ثمَّ عادت مرةً أخرى بعد لحظاتٍ من الصَّمت … ثمَّ خَمَدت مُجدَّدًا. ظَنَّ أنَّها ربما كانت مجرَّد عَرَبة ثقيلة تعبر الطَّريق الرئيسي. فماذا عَسَاها تكون غير ذلك؟!

بعد مدَّةٍ، بدأ يَشكُّ ما إذا كان قَد أحسَّ حقًّا وسَمِع صوت تلك الهزَّة الأرضية.

أخذ يُفَكِّر بينه وبين نفسه بلا توقُّف. فبرغم كلِّ شيء، لماذا احتجزوه؟ ظَلَّ كاترام في مكتبه يومَين كاملين؛ مدَّةٌ كافيةٌ ليقتلع الشَّجَرة من جذورها! بَل ليجتَثَّ شجرة العَمَالِقة تِلك اجتِثاثًا! ولكن ما انفَكَّت تِلك الأسئلة تَدور في رأسه، بعد أن طُرحِت أول مرةٍ ودَوَّى صوتُها في عَقلِه مرارًا وتكرارًا.

فبرغم كل شيء، ما أقصى ما يستطيع كاترام فعله؟ إنه رجلٌ مُتدَيِّن. كان قد عَهِد إلى نفسه ألَّا يَركَن إلى العُنف بلا داعٍ.

ليقتَلِع تلك الشَّجَرة من جذورها إذن! على سبيل المثال، ربَّما يحتَجِز الأميرة ويُرسلها خارج البلاد. يُحتَمَل أن يُثِير ابنه بعض المتاعب، وفي هذه الحالة … ولكن لماذا اعتُقِلَ كل تِلك المدَّة؟ لماذا كان ضَرُوريًّا إخفاء أخبار أمرٍ كهذا عنه؟ أثار هذا التَّسَاؤل في نفسه رِيبةً أنَّ الأمر أعظم مما يبدو.

ربَّما أرادوا أن يعتَقِلوا العَمالقة جميعًا ويُدخِلوهم السِّجن معًا مثلًا! كانت هناك إشاراتٌ لذلك في خُطَبِ الانتخابات الدِّعائية. ثمَّ ماذا بَعد؟

لا شكَّ أنَّهم احتجزوا كُوسَار هو الآخر؟

تَشَبَّث عقلُ ريدوود بفَرضيَّة أنَّ كاترام رجلٌ مُتَدَيِّن. كان عقله البَاطِن مُمَثَّلًا في سِتَارٍ أسود مكتوبةٌ عليه كلمةٌ تُومِضُ وتختَفِي؛ كلمةٌ خُطَّت حروفُها بالنَّار. كان يتجَاهَل الكلمة ويُجَاهِد ألَّا يَرَاها مُجَاهدةً أبَدِيةً. كانت تبدو كأنَّها تُكتَبُ على السِّتَار ولكن لا تَكتَمِل حروفها أبدًا.

في نِهاية المَطاف، وَاجَه الكلمة التي خُطَّت كاملةً بكل ما تحمِله من وَحشِيَّة؛ «مَجزَرَة!»

لا! لا! لا! هذا مُستحيل! كاترام رجلٌ مُتَدَيِّن ومُتَحَضِّر. وعِلاوةً على ذلك، ليس بعد كلِّ تلك السِّنين وكلِّ تلك الآمال!

انتَفَض ريدوود واقِفًا وأخذ يَذرَع الغرفة هائمًا يُفَكِّر. أخَذ يُحدِّث نفسه ويصيح.

«لا يُمكن!»

مهما عَلا جنون البَشَر فلا يُمكن أن يصِل قَطعًا إلى هذا الحَدِّ! هذا مُستحيلٌ لا يُصدَّق ولا يُمكِن أن يكون! ما الخَيرُ الذي سَيجلبه قَتلُ البَشَر العمالقة وقد استَحَالَ كُلُّ شيءٍ كان يومًا ضئيلًا عِملاقًا بلا رَجعةٍ؟ لا يُعقَل أن يكونوا قد بلغَ بهم الجنونُ هذا المَبلغ؟ صَاح قائلًا: «يجب أن أصرف تفكيري عن تلك الفِكرة! أصرِفه عن تِلك الفكرة، كليًّا!»

تَوقَّف لحظاتٍ وقال: «ما هذا الذي حدث؟»

لقد اهتَزَّت النوافِذ وارتَجَّت بالتَّأكيد. تحرَّك ليُلقِي نظرةً خارجًا على الشَّارع، وفي المنازل المُقابلةِ له رأى ما أكَّد له ما سَمِعه من ارتجاجٍ؛ كانت هناك امرأة في غرفة نومٍ بالمنزل رقم ٣٥، وبيدها مِنشَفَة؛ ورجلٌ آخر هناك في غرفة الطَّعام بالمنزل رقم ٣٧ كان بَادِيًا من خلفِ مِزهَريَّةٍ ينبَثِقُ منها نبات كُزبَرة البئر المُتضخم. كان المرأة والرَّجل كلاهما يُحدِّقان خارجًا من النَّافذة وينظُران للأعلى وقد غشَّى وجهيهما ارتباكٌ وفضول. أدركَ بعدَها وبوضوحٍ أنَّ رجال الشُّرطة على المَمشَى قد سمِعوا هذا الصَّوت أيضًا. إذن لم يكن هذا الصَّوتُ من صَنِيع خَياله.

وَلَّى وَجهَه لدَاخِل الغُرفَة المُظلمة.

قال: «إنه صوتُ البنادق!»

ثمَّ أطلقَ عِنانَ فِكرِه وأنعَمَ التَّفكير في الأمر.

«صوتُ البنادق؟»

أحضَروا له في الغرفة كوبًا من الشَّاي الثَّقيل كالذي اعتاد احتساءَه. لاحظ حينها أنَّ مُدبِّرة منزله قد اقتيدت للاستجواب. بعد أن شَرِب الشَّاي، كان مُتوتِّرًا ليجلِس مرةً أخرى بجانب النَّافِذة، فأخذ يقطع الغرفة جيئةً وذهابًا. أصبَح عقله الآن قادرًا على التَّفكِير المتسلسل.

كانت تلك الغُرفة هي مكتبه لأربعٍ وعشرين سنة. أُثِّثَت عند زواجِه وكلُّ ما فيها من تجهيزاتٍ أساسية يعُود تَاريخُ وجُوده لذلك اليوم؛ ذلك المكتبُ الكبير والمُعَقَّد، وهذا الكرسيُّ الدَّوار، وتِلك المَكتَبةُ المُثَبَّتة التي تملأ فجوة الجِدار. السَّجَّادةُ التُّركيَّة الزَّاهِية، والسَّتائرُ والبُسُط من العصر الفيكتوري المُتأخِّر أصبَحت عَتيقةً بما يكفي لإشعارك بالهَيبَة والجَلال، كما أخذت الأواني النحَاسيَّة بجانب نيران المدفأة تَلمَعُ في تَوهُّجٍ. حلَّت المصابيحُ الكهربائية المصابيحَ القديمة؛ وكانت تِلك هي أكبر التَّغييرات التي طرأت على أثاث الغرفة الأصلي. وبين كلِّ تلك الأشياء، تَركَت صِلَته بطعام الآلهة آثارًا جَمَّة عليها. فعلى أحد الجُدرانِ، وتحديدًا فوق القِسم السُّفلِي منه، تَرى الكثير من الصُّور الفوتوغرافية ذات الإطار الأسود والصور المطبوعة بالنقش الغائر، تُظهِر ابنه وأبناءَ كُوسَار وآخرين من الأطفال العمالقة في مختلف الأعمار وفي بيئاتٍ مُتعدِّدة. حتَّى صغير آل كادِلز وَوَجهُه الذي خلا من أي ملامح، كان له صورةٌ مُعلَّقةٌ وسط تلك المجموعة. في زاوية الغرفة، كانت هناك حُزمةٌ من عُشبٍ عملاقٍ لأحد مُرُوج تشيزينج آيبرايت، وعلى سطح المكتب تستلقي ثلاثة رءوسٍ ضخمةٍ لزهرة الخَشخاش حجم الواحدة منها كحجم قَلنسُوَة. كانت قُضبَان تعليق السَّتائر من جذوع العُشب، وكانت هناك جُمجُمةٌ ضَخمةٌ لخِنزيرِ مدينة أُوكَم العملاق مَوضُوعة على رفٍّ بَهِيٍّ من العاج فوق الموقد، وقد ثُبِّتت جَرَّتَان صِينِيَّتَان في مَحجِرَي العينين، وتدلى أنفه فوق نِيران المِدفأة.

ذهبَ ريدوود إلى الصُّوَرِ المُعلَّقة على الحائط، وإلى صُورِ ابنه تحديدًا.

أعادت تِلك الصور الفوتوغرافية إلى ذاكرته ذكرياتٍ لا تُحصى لأشياء كان قد نسِيَها؛ ذكرياتٍ تتعلق بالطعام المُكبِّر في أيامه الأولى. ذكَّرته ببانزنجتن وابنة عمِّه جين، كما ذكَّرته بكُوسَار وبالعمل الليلي في مزرعة التَّجَارب. غَمَرته تِلك الذِّكريات بجَلاءٍ ووضوحٍ شيئًا فشيئًا، كأنَّه يراها من تلسكوبٍ في يومٍ مُشمِس. ثمَّ تَذكَّر حَضَانة الأطفال العَمَالِقة وفترة الطفولة العملاقة؛ تَذكَّر محاولات العملاق الصَّغِير الأولى للتَّكَلُّم، وأول إشاراتِه الواضِحة والمُعبِّرة عن مَشاعِره.

«بنادق؟»

غَمَرته تِلك الفِكرَة وتَدفَّقَت تدَفُّقًا لا يُقَاوم؛ فكرة أنَّ هناك بالخَارج وراء هذا الصَّمت المَشئوم والغُمُوض اللعين، يقِف ابنه وأبناء كُوسَار وجميع العَمَالِقة العُظَماء من بَاكُورة تَجارب طعام الآلهة؛ يقفون جميعًا في خِضَمِّ حربٍ ما. يُحَاربون من أجل بقائهم. حتَّى تصوَّر أنَّ ابنه ربَّما يكون في ورطةٍ صعبةٍ مُحاصَرًا في زاويةٍ ما، مَقهورًا وقد أثخَنه الأعداء بالجِراح.

ابتَعَدَ عن الصُّوَر التي على الحائط وأخذ يَجُول في الغرفة وهو يُشِير بيديه كأنَّه يوضِّح شيئًا ما ثم أخذ يصيح قائلًا: «لا يُمكِن أن يحدُث هذا! لا يُمكِن؛ لا يُمكِن أن ينتهي الأمر هكذا!»

«ما الذي حدث للتو؟»

توقَّف والرُّعب يملأ أوصَاله التي تَخَشَّبت.

اهتَزَّت النَّوافذ مُجدَّدًا ثم حدثت هزَّة قوية ارتجَّ لها البيتُ بأكمله. امتَدَّت الهزةُ هذه المَرَّة مدةً بَدت كأنَّها دهرٌ من الزَّمن؛ لا بُدَّ أنَّها كانت قريبة من المَنزل. لِوَهلَةٍ بَدَا أنَّ شيئًا ما قد ارتَطَم بسَقف المنزل ارتِطَامًا قويًّا انكَسَر الزُّجَاج مُتَنَاثِرًا في إثرِه. تَلَت الارتِطَام لحظَاتٌ من السُّكُون، ما لَبِثَت أن بَدَّدَتها أصواتٌ خافتةٌ لأقدامٍ تُهَرول في الشَّارع بالأسفل.

حرَّكَته أصواتُ تلك الأقدام من تَيَبُّسِه واتَّجه إلى النَّافذة فرأى بقايا حطام زُجاجها.

تَزايدَتْ خَفَقاتُ قلبه وأحَسَّ أنَّ مُصِيبةً قد حَلَّت؛ أحَسَّ بأنَّ شُكُوكَه قد صَدَقَت؛ أحَسَّ بالارتياح. ومَرَّة أخرى، هبط عليه كَسِتارٍ تَدَلَّى من عَلٍ إحساسٌ بأنَّه مُحاصرٌ وعَاجِزٌ.

نَظَر خارجًا فلم يَرَ شيئًا إلا عمود الإنارة على الجِهة المقابلة وكان مُنطفئًا، ولم تَلتَقِط أُذناه أيَّ صوتٍ بعد أوَّلِ إنذار بأنَّ كارثةً ستقَع. ولكن لا شيءَ جديدًا يُسَاعده على تحليل هذا اللغز وتفسيره إلا بَريق أحمر بَدَا مُتَذبذِبًا في السَّماء في ذلك الوقت باتِّجاه الجنوب الشَّرقي.

كان الضَّوء يُومِض وينطَفئ، وكان إذا انطَفَأ يَشكُّ أنَّه قد وَمَضَ قط. أسَرَه ذلك الوَميضُ شيئًا فشيئًا وغَشَّاه كما غشَّته الظلمة، ليُصبِح الحقيقة المُهَيمِنة على لَيلِه الطَّويل الذي مُلِئ قَلَقًا. أحيانًا كان يَظُنُّ أنَّ رَعشَةً كرَعشة الجَسد بالقُربِ من ألسنة اللَّهَب تَنتابه، ثمَّ يعود فيَظُنُّ في أحيانٍ أخرى أنَّ ما ينتَابه ليس إلا تأثير هذا الوَميض الليلي. مَرَّت سَاعاتُ الليل الطِّوال، وما فَتِئ الضَّوءُ يُومِض وينطَفِئ حتَّى اختَفَى في النِّهاية عندما بَزَغ الفجر وغَمَرتْه أشعَّة الشَّمس المُشرِقة. هل كان هذا يعنِي أنَّ …؟ ما الذي يُمكِن أن يَعنِيَه؟ كان ذلك الضَّوء نارًا على الأرجحِ، وسواءٌ قَرُبَتْ أم بَعُدَت، لم يكن ريدوود قادرًا على أن يَجزِم ما الذي هناك، أهو دُخَانٌ أم هي سُحب تسير في السماء. وبحلول السَّاعة الواحدة ظَهَرت أضواء الكَشَّافَات الوامِضة حول ذلك الضَّوء الأحمر واستمرَّت هكذا الليل بِطُولِه. هذا أيضًا قد يُفَسَّر بالكثير؟ ما الذي قد يعنيه؟ وماذا كان بالضَّبط؟ كان كلُّ ما لديه ليُفَكِّر فيه هي صَفحة السَّماء المُضطَّرِبة والمُصطَبِغة باللون الأحمر، وفَرضِيَّة أنَّ ذلك لم يكن سوى انفجارٍ ضخمٍ. حَلَّ الصَّمتُ فلم تكن هناك أصواتٌ تُسمَع وهدأت الشَّوارع فلم تكن هناك أقدامٌ تُهرول، لا شيءَ سوى صوت صِياحٍ ربَّما كان آخر ما تبقَّى من طَاقةٍ في جَسَد رجالٍ مَخمورين.

لم يُضِئ مَصابِيحه، بل وَقَف على أطلال نافذته المُحطَّمة رأى هيئةً كئيبةً تَميل إلى السَّواد لأحد رِجال الشُّرطَة الذي كان ينظُر من آنٍ لآخر في غرفته وينَصَحه بأن يَخلُد إلى النوم.

ظَلَّ ريدوود طوال الليل مُحدِّقًا من النَّافِذة في أفُق السَّماء حتَّى بَزَغ الفَجر، فأطَاع جَسَده المُجهَد واستَلقَى على الفراش الصَّغير الذي أعدُّوه له بين طاولة الكتابة خاصَّته ونِيران المِدفأة المُكئِبة وتحت جُمجُمة الخِنزير العملاق.

٣

لثَلاثٍ وستِّين ساعةً مَرَرنَ كأنَّهن دهرًا، ظلَّ ريدوود مَحبُوسًا ومَعزُولًا عمَّا كان يجري حوله من أحداثٍ عظيمة خلال اليومين الفائتَين اللذين قَاتَل فيهما البَشَرُ الأقزامُ أطفالَ طعام الآلهة في الفجر العظيم. ثمَّ ودون سَابِق إنذارٍ، أزِيل الستار الفولاذي ليَجِد نفسه في قلب الأحداث؛ اختفت أسوار سِجنه فجأةً تمامًا كما بُنِيت حَولَه. في وقتِ العَصر، أثارت أصوات سيَّارة أجرةٍ وقَفَت أمام منزله فُضُوله لينظُر من النَّافذة. رأى شَابًّا يَتَرجَّل منها وفي غُضُون دقيقةٍ وَجَده يقِف أمامه في الغرفة؛ كان شابًّا نحيلًا في الثلاثين من عمره تقريبًا، حَلِيق الذقن حَسَن الهِندَامِ والأخلاق.

استَهَلَّ الشَّابُّ الحديثَ وقال: «سَيِّدي ريدوود، هلَّا تَفضَّلت وأتيتَ معي إلى السيِّد كاترام؟ إنَّه يحتاجك لأمرٍ عاجلٍ ومُلِح.»

ردَّ عليه ريدوود: «يحتاجني!» وانبَثَق سؤالٌ في رأسِه لم يستطِع لعِدَّة لحظاتٍ أن يصوغَه ليسأله. تَردَّد ثُم سأل في صوتٍ كَسِيرٍ: «ماذا فَعل بابني؟» وحَبَس أنفَاسه مُنتَظِرًا الجَواب.

ردَّ الشَّاب: «ابنك يا سيدي؟ ابنك بخيرٍ الآن، على حَدِّ معرفتنا!»

«بخيرٍ الآن؟»

«لقد أصيبَ البَارحة يا سيدي! ألم تَسمع بالأمر؟»

نَحَّى ريدوود تلك المَظَاهِر جانبًا؛ فلم يَعد يَشُوب صوته خوفٌ، بَل تَأجَّجَ غَضَبًا: «أنت تَعلم تمامَ العِلم أنِّي لم أسمع بالأمر! أنت تعلم أنه لم تصِلني أيُّ أخبارٍ!»

«لقد كان وقت اضطرابٍ فاجأ الجَميع يا سيدي؛ لذلك خَشِي السَّيد كاترام عليك وقَرَّر أن يحتجِزك ليُؤمِّنَك من أي مَخاطِر …»

«احتجَزَني ليمنعني من أن أحَذِّر أو أنصَح وَلَدي! أخبِرْني إذن! ما الذي حَدَث؟ هل وُفِّقتُم في مَسعاكم؟ أقتَلتُموهم جميعًا؟»

خَطَا الشَّاب خَطوَة أو خَطوَتين تِجاه النَّافِذة ثمَّ استدار.

قال باقتِضَابٍ: «لا يا سيدي!»

«أفصِح عمَّا لدَيك من أخبارٍ إذن؟»

«أُؤكد لك أنَّنَا لم نُخَطِّط لخَوضِ تلك الحرب يا سيدي! هم من بدءوا وقد وَجدونا غير مُتَهَيِّئين تمامًا …»

«ماذا تعني؟»

«ما أعنيه يا سيدي أنَّ شَوكَة العَمَالِقة قد قَوِيت قوَّة لا بأس بها.»

تَغَيَّر العَالَمُ في نظر ريدوود، ولوَهلةٍ أصابت عضلات حلقِه نَوبَةٌ انفِعَالِيَّةٌ شَبِيهةٌ بنَوبَةٍ هيستيرية، ثم تأوَّه تأوُّهًا عميقًا وقَال وفؤاده يخَفِق ابتهاجًا: «شَوكَة العَمَالِقة قد قَوِيت!»

«نَشَب قِتالٌ مُروِّعٌ ودَمارٌ هائلٌ. وكُلُّ هذا بسبب سوء تَفَاهُمٍ فَظِيعٍ؛ فلقد قُوتِلَت العَمَالِقة في شَمَال البِلاد وأوسَطها … قُوتلوا في كل مكانٍ.»

«هل ما زالوا يُقَاتَلون؟»

«لا، يا سيدي! أعلِنَت الهُدنَة.»

«هل هم مَن طَلَبُوها؟»

«كلَّا، يا سيدي! طَلبَها السَّيد كاترام. الأمر برمَّتِه سوءُ تفاهمٍ كبير؛ لهذا يُريد الحديثَ معك ليَعرِض عليك الأمر ويُناقِشه معك. إنَّهم يُصِرُّون أن تَتَوسَّط في هذا النِّزاع يا سيدي …»

قاطَعه ريدوود وقال: «هل تدري ما الذي حَصَل لابني؟»

«سَقَط جَريحًا.»

«أخبِرْني ماذا حدث! أخبرني!»

«لقد أتى برفقة الأميرة قبل أن يكتمل التحرُّك من أجل حصار مُعَسكَر أولاد كُوسَار في تشزِلهرست. أتيا فجأة، يا سيدي، وهما يُحطِّمان تحت أرجُلِهما أجماتٍ كثيفة من نبات الشُّوفان قُرب النَّهر وفوق طابورٍ من الجُند. كانت أعصَابُ الجنود مشدودةً طوال اليوم وهذا ما سبَّبَ لهم ذعرًا.»

«هل أطلقوا عليه الرَّصاص؟»

«كلَّا، يا سيدي! بَل فرُّوا من أمامه، ولكن أطلق بعضهم عليه الرَّصاص بهَوَج في مُخَالَفَةٍ صريحة للأوامِر.»

أومأ ريدوود مُكذِّبًا ما قَاله. «تِلك هي الحقيقة، يا سيدي! ولن أدَّعِي أن أوامر عدم إطلاق الرَّصَاص كانت لأجل ابنك، بل كانت لأجل الأميرة التي معه.»

«أجل! هذا صحيح!»

«كان العملاقَان يركُضَان باتِّجاه المُعَسكَر ويَصرُخَان. تَفرَّقت الجنود وتَنَاثَروا هنا وهناك، ثمَّ أطلق بعضهم الرَّصاص. قالوا إنَّهم شَاهدوه يَتَرنَّح.»

«وا أسفاه!»

«هذا ما حدث يا سيدي! ولكن عَلِمنا أنَّ جراحه ليست خطيرة.»

«كيف علِمتُم ذلك؟»

«لقد أرسل رسالةً يا سيدي. رسالة يقول فيها إنَّه يتَعافى!»

«رسالة إليَّ أنا؟»

«ومن غَيركَ يا سيدي؟!»

وَقَفَ ريدوود ما يُقَارب الدَّقيقة مُطبقًا ذراعيه بشدة، يُحاول استيعابَ ما سَمِع، ثمَّ صَبَّ جَامَّ سَخَطِه وغَضبه على الشَّاب.

«لأنَّكم كنتم أغبياء في تعاملكم مع الأمر، لأنَّكم أخطأتم خطأً فادحًا في حساباتكم. أتريدُني أن أصدِّق أنَّكم لستم قَتَلَة مُتَعَمِّدين؟ وماذا عن البقيَّة؟»

تَظَاهر الشَّابُّ أنه لم يَفهَم وسأل مستوضِحًا.

«أتقصِد بَقِيَّة العَمَالِقة؟»

لم يُكمِل الشَّاب تَظَاهُره بعدم الفَهم وقال بنبرة صوت ذابِلة: «ثلاثة عشر، يا سيدي! قُتِل ثلاثة عشر!»

«وهل سقطَ الباقون جَرحَى؟»

«صحيحٌ، يا سيدي!»

قال ريدوود شَاهِقًا: «وبَعد كل ذلك، يريد كاترام أن يُقَابلني! أين بَقِيَّة العمالقة الجَرحَى؟»

«أُدخِل بعضُهُم إلى المُعَسكَر أثناء القِتال … بَدَا أنَّهم كانوا يعرفون.»

«بالطَّبع! هم يعرِفون! فلولا كُوسَار … هل هو موجودٌ هناك؟»

«نعم، يا سيدي! هو وجميع العمالقة النَّاجين الذين أُدخِلوا إلى المُعَسكَر والذين لم يشاركوا في القتال. هم الآن تحت لواء الهُدنَة.»

ردَّ ريدوود: «هذا يعني أنَّكم قد هُزمتم؟»

«لا، يا سيدي! لم نُهزم. لا تستطيع أن تقول إننا هُزمنا. ولكن ابنك قد انتَهَك قوانين الحَرب. مرَّةً البَارحة ومرَّةً الآن بعد أن تَقَهقَرت قوات هجومنا. بدءوا في ظهيرة اليوم بتَفجِير لندن.»

«هذا حقٌّ مشروع!»

«كانوا يَقذِفون قَنَابِل مملوءة بالسُّم.»

«بالسُّم؟»

«أجل. سُم! طعام الآﻟ …»

«هرقليوفوربيا؟»

«هذا صحيحٌ يا سيدي! السَّيد كاترام …»

«لقد سُحِقتُم! بكل تأكيدٍ كانت هذه ضَربة مُوجِعة لكم. إنَّه كُوسَار! ما الذي تأملون في فِعلِه الآن؟ ما جَدوى فعل أي شيءٍ الآن؟ ستَستَنشِقُونه في تُرَاب شَوارعِكم شارعًا شارعًا. ما الذي تُحَارِبون من أجله إذن؟ أهي قوانين الحرب؟ بالطَّبع هي! والآن يُريد كاترام خِدَاعي لأساعِده في المُفَاوضات. يا إلهي! لماذا عليَّ أن أذهب لأقَابِل هذا الثَّرثَار المَدحور؟ لقد خَاضَ مَعرَكته … سَفَكَ فيها الدِّماءَ وأوقعَ نفسه في ورطة … لماذا عليَّ أن أقابِله؟»

وَقَفَ الشَّابُّ وقَد بَدَا عليه الحَذَرُ والانتباه.

«في الحقيقة يا سيدي …» قَاطعه الشَّابُّ وأكمل: «يُريد العَمَالِقة رؤيتك ويُصِرُّون عليها. فلا أحدَ يُمَثِّلهم سواك. وأخَشَى أنَّك إن لم تَذهب إليهم فسَتُسفَك المزيدُ من الدِّماء.»

«سَتُسفَك المزيدُ من دمائكم أنتم!»

«لا، يا سيدي! سَتُسفَكُ المزيدُ من الدِّماءِ في كلا الفَريقين. فالعَالَمُ عَازِمٌ على وضعِ نهاية لهذا الأمر.»

نَظَر ريدوود إلى الزَّاوية التي يَدرُس فيها وحَطَّ نَاظِريه على صورة ابنه للحظاتٍ، ثمَّ الْتَفت وقال في النِّهاية مُصَدِّقًا توقُّعَات الشَّاب: «سآتي معك إذن!»

٤

كان لقاؤه مع كاترام مُخَالفًا تمامًا لما تَوقَّعَه. فلقد رآه ريدوود مرَّتين في حياته؛ الأولى في حفل عَشَاءٍ والأخرى في بهو مجلس العموم. كانت مُخَيِّلته مَشغُولةً لا بالرَّجل نفسه، بل بالصُّورة التي رسمتها الصُّحُف ورَسَّامو الرسومات السَّاخِرة له؛ «كاترام الأسطوري»، «جَاك قَاتِل العمالقة»، «بِرسيوس قاطع رأس مِدوسَا» وكل ما يُشبِه ذلك من الأساطير، ولكن عُنصُر الطَّبيعة البَشَريَّة كان موجودًا ليُدَمِّر كل ذلك.

عندما رآه لم يجد أمامه ذلك الوجه الذي اعتاده في الصُّور الفنِّية والرسومات السَّاخِرة؛ ووَجَد وجهًا لرجلٍ مُنهَكٍ لم يذُق طعم النوم؛ وجهًا شَاحبَ اللون مغَضنًا ملأته التَّجَاعِيد، بَيَاضُ عينيه أصفر اللون، وعضلاتُ فَكِّه السُّفلي وَاهِنةٌ فتَدَلَّى شيئًا يَسيرًا، ولكن كانت سِمَاته المُمَيِّزة حاضرةً؛ عيناه ذات اللون الطُّوبِي، وشعره الأسود، وأنفه المَعقوف المُمَيِّز للزُّعَماء العِظَام. لَيس هذا فقط، بَل كان بَادِيًا عليه شيءٌ آخر بَدَّد ونَحَّى كل ما لدَيه من فصاحةٍ وازدِراءٍ مُتَعمَّد جانبًا. كان هذا الرَّجل يُعاني معاناةً شديدة وتحت وَطأة ضُغوطٍ هائلة. في البِدَاية، كان يُحاول أن يَجمَع شَتات نَفسه ليظهر بالمظهر الذي عهده الناس به. أمَّا الآن، فكلُّ إيماءةٍ وكلُّ حَرَكةٍ بسيطةٍ كانت تُنبِئ ريدوود بأنَّ هذا الرَّجل يتنَاوَل العَقَاقِير لكي يُواصِل عَمَله. مَدَّ يدَه إلى جيب صَدرِيَّته، وبعد أن نَبَس بجُملَةٍ أو جُملَتَين أُخريين، فَضَّ عنه رداءَ التَّصنُّع ووَضَعَ حَبَّة الدَّواء الصَّغِيرة بين شَفتَيه.

فَضلًا عن ذلك، وبالرُّغم من كلِّ تلك الضُّغوطات التي تُثقِل كَاهِله، وبالرغم من أنَّه كان ممَّن أخطئوا، وأنه كان أصغر عمرًا من ريدوود باثنتي عشرة سنة، كانت تِلك الصِّفَة الغريبة التي حَظِي بها — هذا الشيء الذي قد نُسَمِّيه مؤقَّتًا الجاذبية الشَّخصِية بسبب احتياجنا لاسمٍ أفضل، والذي أوصَلَه إلى ما هو عليه الآن من مصائب عظيمة — لا تزال مُلازِمة له. وهذا ما كان ريدوود مُخطئًا في تَخمِينه أيضًا. فمنذ بِداية حِوَارِهِما وفي خِضَمِّ مُجرَياته، كان كاترام مُهَيمِنًا على ريدوود. ففي الجُزء الأول من اجتماعهما، كان هو المُسيطر بنبرته وإجراءاته. كلُّ ذلك حدث كما لو كان أمرًا متوقع الحدوث وقضاءً لا يُرَد. صَارت توقُّعات ريدوود كلها هباءً منثورًا في حَضرَتِه. تَصَافَحا قبل أن يتذكَّر ريدوود أنَّه كان يَنوِي أن يَصُدَّ تِلك الأُلفَة، فمنذ البداية، تمكَّن كاترام من تَوجِيه دَفَّة الاجتماع بثقةٍ وثباتٍ ووضوحٍ، كمَن يبحث عن الإجراء المناسب الذي ينبغي اتخاذه لمواجهة كارثةٍ عامة.

فلو كان ثمَّة خطأٌ ارتكبه، فقد كان ذلك عندما أثَّر فيه الإعياءُ مرارًا وتكرارًا ومَنَعه من تركيزه الفوري، ولكن حَمَله اعتيادُه على مثل تِلك الاجتماعات العامَّة على الاستمرار. بعد ذلك اعتدلَ في وقفَته وكانا طوال اجتماعهما واقفَين، ولَملَم شتاتَ نفسه ثم أشَاحَ بوجهه عن ريدوود وبدأ في الدِّفاع عن نَفسه وبالتَّبرير؛ حتَّى إنه اندَمَجَ في مُرَافَعته وقال في مرةٍ وهو يحدِّث ريدوود: «أيُّها السَّادة!»

بدأ كلامه بهدوءٍ وطمأنينة ثمَّ أسهبَ في الحديث.

مَرَّت لحظاتٌ شَعرَ فيها ريدوود أنَّه لم يَعُد حتَّى مُشتَركًا في الحوار، بل مَحض مُستَمعٍ لتَمثِيلية يُنَاجِي فيها كاترام نَفسه ويُحدِّثها. كان المُشاهِد المحظوظ الذي تَسَنَّى له رُؤية هذه الظَّاهِرة الاستثنائية. أدرَك أنَّ شيئًا ما يُشَكِّل فرقًا واضحًا بينه وبين هذا المخلوق الذي غَمَره صوته العَذبُ في حديثه الذي استمر دَهرًا. كان أمام عقلٍ جَبَّارٍ ومَحدودٍ في الوقت ذاته. فبدايةً بالطَّاقة التي تَدفَعه، ثمَّ تأثيره وأهميَّته الشَّخصية، ثمَّ جهله الكبير بأشياء مُعَيَّنة، كلُّ ذلك جعل عَقل ريدوود يرسم صورةً مُتنافرة وغريبةً لكاترام. فبدلًا من كونه غريمًا له من بني البشر، رُجلًا يمكن تحميله مسئولية أخلاقية، ويمكن التحاور معه بالمنطق، رسم له صورةً بَدا فيها كأنَّه وحيد قرنٍ بشع، أو قُل وحيد قرنٍ مُتَحضِّر وُلِد من رَحِم أدغَال الديمقراطية وشئونها. تصوَّره ريدوود وكأنه وحشٌ إذا هَجَم فهجومه لا يُصَدُّ ولا يُردُّ، وإذا قَاوَم فهو مَنيعٌ لا يُقهَر. في كل النِّزَاعات الطَّاحنة التي خَاضَها كان فيها مُتَفوِّقًا. والأدهَى من ذلك هو تأقلُم هذا الرَّجل ببراعةٍ على شَقِّ طريقه وسط حُشُود الرِّجَالات. فأعظم الخَطَايا عنده هي التَّناقض مع الذَّات، وأنفع العلوم هو علم التَّوفِيق بين المصالح المُختلِفة. أمَّا الحقائق الاقتصادية والضرُورَات الطُّبوغرافيَّة والأسرار العلمية فكان اهتمامه بوجودها لا يزيد عن اهتمام الحيوان بوجود السكك الحديدية أو بنادق الرصَاص أو المؤلَّفات الجغرافية. أمَّا ما كان يُهِمُّه؛ فهو الاجتماعات والتَّكَتُّلات السِّياسِيَّة وأصوات النَّاخِبين؛ أصوات النَّاخِبين فوق كُلِّ شيء. إذا أردتَ النَّظر إلى ملايين الأصوات مُجتَمِعةً في شخصٍ واحدٍ؛ فما عليك إلَّا النظر إلى كاترام.

والآن، في خِضَمِّ هذه الأزمة الطَّاحِنة؛ حيث العمالقة قد خَسِروا مَعرَكتهم ولكن لم يخسروا الحرب بعد، بدأ هذا الوحش المُتَعَطِّش لأصوات النَّاخِبين بالحديث.

كان جَليًّا أنَّه كان لدَيه كلُّ ما يحتاجه ليَتَعلَّم، حتَّى في ذلك الوقت. كان لا يَدري شيئًا عن وجود قوانين الفيزياء والاقتصاد، عن المَقَادير والتَّفاعلات التي لا يختلف اثنان على أهميتها، والتي إن خُولفت، تُصبح عاقبة مخالفتها دمارًا. كان لا يَدري شيئًا عن وجود المَعايير الأخلاقية التي لا يُمكن أن تُلوَى تحت أي قوةٍ من قوى السِّحر والإغراء وإن استجابت والْتَوت، تَرَتدُّ بأشدِّ أنواع العنف انتقامًا. كان واضحًا لريدوود أنَّ هذا الرجل ربما يلجأ إلى التصويت في مجلس العموم ظانًّا أنه سيحميه من شظايا القنابل أو حتى من يوم القيامة.

لم يكن أكثر ما يَشغل تفكيره في ذلك الوقت هؤلاء العمالقة الذين انتصروا على بعض رجالاته وأقصَوهم نحو الجنوب؛ لم تكن الهَزيمة أو الموت هما أكثر ما يخشاه. بَل كان أكثر ما يشغله أثر كل ذلك على شَعبِيَّته التي يَعُدُّها أهمَّ ثوابت حياته. كان عَليه أن يَدحَر العمالِقة أو يُدفَن تحت أقدامهم. كان لا يُسَاوِره أيُّ يأسٍ على الإطلاق. ففي خِضَمِّ هذه السَّاعة التي بلغ فيها الفَشَلُ ذُروَته، وأصبحت الدِّمَاءُ تُلَطِّخ يدَيه وأتتْه الكوارث مِن كل مكانٍ، ولاحت في الأفق نُذُرٌ تُنبئ بوقوع المَزيد من الفاجعات مع تزايُد مظاهر العَملقة التي بدا أنها ماضية في الهيمنة على العالم وأنها حتمًا ستطاله في يوم من الأيام. كان كاترام مؤمنًا في قرارة نفسِه بأنَّه عن طريق صوته فحسب، وبمُجَرَّد الشَّرح والوَصف والتَّأكيد، فإنَّ لديه فُرصَة ليستَجمِع قواه مرةً أخرى. كان بلا شَكٍّ مُرتَبِكًا بَائسًا ومُنهَكًا يُقَاسِي الآلام، ولكن كان يُمَنِّي نَفسه بأنه لو استطاع أن يواصل أحاديثه وخُطَبه، فسوف يتحقَّق له ما يريد.

أثناء حديثه، بَدَا لريدوود أنَّه يتقدَّم ويتراجع، ويتوسَّع وينحسر، كان يُسهِب في حديثه ثم ما يَلبث أن يَختَصِر ويَقتَضِب. كان نصيبُ ريدوود في هذه المُحادثَة محدودًا للغاية؛ «هذا هُراء!» «لا!» «لا طَائل من هذا الاقتراح!» «إذن، لماذا بدأت؟»

ربما لم يكن كاترام يسمع أو يلتفِت إلى تِلك الجُمل المُقتَضَبة التي كان يتفوَّه بها ريدوود. كان حديثُ كاترام يتَدَفَّق كَسَيلٍ جارفٍ. وقفَ هذا الرَّجُلُ المُدهِش على بساطِه الرَّسمي مُتَحدِّثًا بقدْرٍ هائلٍ من اللباقةِ والحماسة. استرسل في حديثه دون توقُّف كما لو كان يخشى أن تؤدي لحظةُ صمتٍ واحدة أثناء حديثه وتَوضيحه وشَرحِه لوِجهات النَّظر وللوسَائِل والاعتِبارات المُختَلِفة إلى تمكين بعضٍ من معارضيه من إظهار نفوذهم؛ نُفُوذهم الصَّوتِي بالطبع؛ إذ هو نوع النُّفوذ الوحيد الذي يَفهَمه. وقفَ هناك وسط مظاهر العَظَمة والأبَّهة التي اضمحلت قليلًا لتلك الغرفة الرَّسمِيَّة التي خضعَ فيها الرَّجلُ تِلو الرَّجلِ للفكرة القائلة بأنَّ سُلطةَ التدخل هي الوسيلة الخلَّاقة للسيطرة على الإمبراطورية …

كُلَّمَا استمرَّ كاترام في حديثه، ازدادَ إحساسُ ريدوود بأنه لا جدوى من ذلك الحديث. هل كان هذا الرَّجُل يَدرى أنَّه وبينما هو واقفٌ هناك يتَكَلَّم، كان العمالقة يتحركون وتزداد مظاهر العَملَقة أكثر فأكثر؟ هل كان يَدري أنَّ هناك أوقاتًا في الحياة بخلاف السَّاعات التي يقضيها في البرلمان؟ هل كان يعلمُ شيئًا عن الأسلحة التي يمتلكها المُنتَقِمون لدِمَائهم؟ في الخارج، مَالَت وَرقةٌ عملاقة من أوراق شجرة لبلابَة فِرجينيا على زُجاج النَّافذة فأظلَمَت الغُرفَة دون أن يُعير أيٌّ منهما لذلك انتباهًا.

ضَاقَ ريدوود ذَرعًا بذلك العرْض المنفرد الرَّائِع الذي يُنَاجِي فيه كاترام نفسه، وهَمَّ أن يَضع له نِهايةً وأن يَفِرَّ إلى المَنطِق وسَلامة العقل؛ إلى المُعَسكَر المُحَاصَر، إلى أرض المُستَقبَل ومركز العَظَمة حيث يجتَمِع أبناء الطَّعام معًا. هذا هو السَّبب الذي حمله على تَحمُّل ذلك الحديث. كان لدَيه انطباعٌ غريبٌ، وهو إن لم تَنتَهِ هذه المَسرَحيَّة الفَردِيَّة، فلَيَجِدنَّ نفسه وقد انسَاقَ وراء أفكارها واتَّبعها؛ لذلك عليه أن يُحارِب ويَصُدَّ صوتَ كاترام كما يُحارِب المرءُ المُخَدِّرات. كانت الحقائق قد تبدَّلت وما زَالت تتبدَّل تحت تَأثير تِلك التَّعويذة.

ماذا كان يقول هذا الرَّجل؟

وبما أنَّه يجِب على ريدوود أن يَنقل هذا الحديث إلى أبناءِ الطَّعَام، كان استيعابه لما يُقال أمرًا ضروريًّا؛ فكان لِزامًا عليه أن يسمع كلامَ كاترام ولكن بآذانٍ وَاعيةٍ تُفَرِّق بين الغَثِّ والسَّمين على قدر استطاعته.

الكثير من النَّدم على سَفك الدِّماء. يَا له من كلامٍ لَبقٍ وجَزل، ولكن غير مُهم. ما التَّالي؟

كان يَقتَرِح عَقد مُعَاهدة!

كان يَقتَرِح أن يَستَسلِم أبناءُ الطَّعَام الناجون ثم يذهبوا في حَال سبيلهم ليؤسِّسوا مجتمعًا خاصًّا بهم. وعلى حَدِّ قوله؛ كانت هُناك تَجارب سَابِقة ومُمَاثلة لهذا. «سنُخَصِّص لهم أرضًا …»

قاطَعه ريدوود، وهو يُحاول أن يَشتَرِك في الحِوار، قائلًا: «أين هي تلك الأرض؟»

استَغلَّ كاترام هذه المُوافَقة الضِّمنِيَّة، وأدَار وجهه إلى وجه ريدوود وتَحَوَّلت نَغمة صوته إلى نَغَمَة إقناعٍ تُعزَف على أوتَار الاعتِدَال والمَنطِق. هذه المسألة يمكن اتخاذ قرارٍ بشأنها. فقد كان يظنُّ أنَّ تلك مسألةٌ فرعية. ثُمَّ قال مُشتَرطًا: «وبخلافِهم هم والأرض التي سنُخَصِّصها لهم، يجب أن تُهيمن قبضتُنا على كل شيءٍ وبإحكام؛ فالطَّعامُ المُكَبِّر وكلُّ نِتَاجِه يجِب أن يُبَاد وأن ينتهي أمرُه.»

وَجَدَ ريدوود نفسه يُساوم في صَفقة: «والأميرة؟»

«لا شأنَّ للأميرة بذلك!»

قال ريدوود وهو يُنَاضِل ليستعيد موقِفه القديم: «لا! هذا نوعٌ من السُّخف!»

«سَننظر في هذا لاحقًا، ولكن على أي حالٍ؛ اتَّفَقنا على أنَّ صِنَاعة طعام الآلهة ستَنتهي …»

«أنا لم أتَّفِق على أي شيء. أنا لم أنبس ببنتِ شَفة …»

«ولكن كيف يكون على كوكبٍ واحدٍ نوعان من البشر؛ عَماليق وأقزَام؟! انظر واعتَبِر مِمَّا حدث! فهو ليس إلا إنذارًا لما يُمكن أن يحدُث إذا استَمَرَّ هذا الطَّعام في الانتِشار! انظر إلى ما جَنَتْه يَداك وحَلَّ على العالم! ماذا سيحدث إنْ كان هُنَاك نوعٌ من البَشَر العَمَالِقة يتَكَاثَرون ويَتَضاعف عددُهم …»

ردَّ ريدوود قائلًا: «هذا الأمر ليس من شأني أن أُجادلك فيه؛ يجب أن أذهب إلى أبنائي العَمالِقة … أريد أن أرى وَلَدي؛ لهذا جئتُ إليك. أخبِرني بالضَّبط ما هو عرضُك الذي تُقدِّمه.»

فألقَى كاترام خُطبَةً حول الشُّروط التي يرتضيها.

سيُمنَح أبناءُ الطَّعَام أرضًا رحبَةً في شمال أمريكا أو أفريقيا على الأرجح حيث سيُتَاح لهم أن يعِيشوا حياتَهم كما يشاءون.

قال ريدوود: «ولكن هذا هُراء! هناك عمالقة آخرون خارج البلاد الآن؛ هم مُبعثرون في كل أنحاء أوروبا!»

«يُمكِن أن نَعمَل على إبرام مُعَاهَدةٍ دولية، ليس هذا بمُستَحِيل. في الواقع، أمرٌ كهذا قد نُوقِش بالفعل … ولكن في تلك الأرض سيَتَسنَّى لهم أن يعيشوا حياتهم كما يروقُ لهم، وأن يفعلوا ويَصنعوا ما يَحلُو لهم. وسنكون مُمتَنِّين إذا صَنَعوا لنا المُنتجَات. ربَّما ستتحقَّق لهم السعادة بفضل هذا الأمر … أنعِم التَّفكِير في المسألة!»

«كلُّ هذا بافتراض أنَّه لن يكون هناك المزيدُ من الأطفال العَمالقة.»

«بالضَّبط! الأطفالُ حقٌّ لنا نحن! وهكذا أيُّها السَّيد المُبَجَّل سَنُنقِذ العالَم؛ سَنُنقِذه ونُخَلِّصه من ثِمَار اكتشَافِك الفَظِيع. لم يَفُت الأوان بعد. نحن نَتَطَلَّع إلى أن نكسو مَصَالِحنا رداءَ الرَّحمَة، حتَّى ونحن نحتَرق الآن ونَكتَوي في تلك الأماكن التي أصابَتها قَنابِلُهم البارِحة. سَنَتَغاضى عن ذلك. ثِق بي، لسَوف نَتَغاضى عن ذلك. ولكن بهذه الطَّريقة، دون وَحشِيَّةٍ أو إجحَاف …»

«ماذا لو افترضنا أنَّ الأطفال لم يُوافِقوا؟»

لأول مرةٍ نظر كاترام إلى وجه ريدوود بأكمله نَظرةً مُتَمَعِّنَة.

«يجِب أن يوافقوا!»

«لا أظنُّ أنَّهم سَيقبَلون بالأمر.»

ردَّ عليه كاترام في نَبرةٍ مُلئَت دهشة: «ما الذي سيحملهم على الرفض؟!»

«افتَرِض أنَّهم لن يقبلوا!»

«لا أرى إلَّا الحربَ إذن! فنحن لا نَملِكُ خيارَ تركِ هذا الشَّيء ينمو ويَنتشر. لا نَملِكُ خيارًا كهذا أيُّها السَّيد المُبَجَّل. ألم يَهبكم الله خيالًا أيُّها العُلَماء؟ أليس في قلوبكم رحمة؟ لن نَسمح بأن نَترك كوكبًا تحت وَطأة زُمرَة الوحوش المُتَزَايدة هؤلاء وتلك الأشياء التي تنمو بضخامةٍ فَجَّةٍ والتي تَسبَّب فيها طَعامُك الذي صَنَعْت. لن ولن نَسمَح بذلك! ودَعنِي أطرح عليك سؤالًا أيُّها السَّيد، هل تَرى خيارًا إلا الحرب؟ وتَذكَّر أنَّ ما حدث لم يكن إلا البِداية فقط! ما حدث لا يُعَدُّ إلا مُنَاوشَاتٍ مع رجالِ الشُّرطة. صَدِّقنِي، لقد تَولَّت الشُّرطة وحدَها ذلك الأمر. فلا تَغُرَّنَّك الضَّخامةُ الهائلة لهؤلاء المخلوقات الجديدة إذا ما قُورِنُوا بنا. أمَّا نحن فمن ورائنا تَدعَمنا الأمَّة؛ تُسَانِدنا البَشَرية جَمعاء. وخَلف هؤلاءِ الآلاف الذين ماتوا ستَزحَفُ الملايين. فلولا خَشيَتُنا أيُّها السَّيد الكريم من سَفكِ الدِّماء في هجومنا الأول لوجدتَنا نَشُنُّ الآن هجومًا بعد الآخر. فسواءٌ أكُنَّا نَقدِر على إبادة الطَّعام أم لا، أنا مُتَيَقِّن أنَّنا نستطيع أن نقتل أبناءك! أنت تَركَن وتعتَمِد في حِسَابَاتِك على أحداث الأمس؛ على مُجرَيَات عشرين سنة فقط؛ على نَتَائج معركة واحدة! أنت لا تَشعُر بالتَّحَرُّك البطيء لمَجرى التَّاريخ. أنا أعرضُ هذه الاتفاقية من أجل إنقاذ الأرواح، لا لأنَّها ستُغَيِّر من النِّهاية المحتومة. إذا كان ظَنُّك أنَّ جَماعةً مؤلفة من أربعةٍ وعشرين عملاقًا مسكينًا سيقفون في وجه قواتِ شعبنا، فضلًا عن الشُّعُوب الأخرى التي سَتَهُبُّ لتُسانِدنا؛ إذا كنت تَظُنُّ أن باستطاعتك أن تُغيِّر النَّوع البشري جملةً واحدة وفي غضون جيلٍ واحد؛ وأن تُبَدِّل خِلقة الإنسان وطبيعته …»

أشار بذراعِه قائلًا له: «اذهب إليهم الآن أيُّها السَّيد، فأنا أراهم جَاثِمين مُثخَنين في جِراحِهم جزاءً لما اقترفتْهُ أياديهم من شُرور …»

توقَّف كما لو أنَّه لمَح وَلد ريدوود مُصادفةً.

حَلَّت لحظة صمتٍ.

ثمَّ قال: «اذهب إليهم!»

«هذا ما أريده؛ أن أذهب إليهم.»

«إذن لِتَذهب الآن.»

الْتفت وقَرَع جَرسًا؛ فسُمِع على الفَورِ صوت أبوابٍ تُفتَح وأقدامٍ تَقتَرب مُسرِعةً.

وصلَ الحديثُ إلى نهايته، وانتهى العرْض. وفجأة ظَهرت على كاترام آثار انكماشٍ وتَضَعضَع إلى رجلٍ شَاحب الوجه مُنهَك القُوى، جسده لا بالنَّحِيل ولا بالسَّمين، وقد انتَصَفَ عُمره. خَطا خطوَةً للأمام كأنَّه يَخرج من لوحةٍ مَرسومةٍ كان محبوسًا بها، وعَلا وجهَه وُدٌّ وبَشَاشَةٌ تَراهما حاضرَين في كل الصِّراعات العَلَنِيَّة لنَوعِنا البَشري، ومَدَّ يده نحو ريدوود مُصافِحًا.

وكقَدَرٍ لا مَفَرَّ منه، مَدَّ ريدوود يده وصَافحه للمَرَّة الثَّانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤