الفصل الخامس

معسكر العمالقة

١

في الوقت الرَّاهن كان ريدوود على مَتن قطارٍ يتَّجِه جنوبًا ويَمرُّ فوق نهر التِّيمز. استطاع أن يَلمَح النَّهر لمحةً سريعةً وهو يتألَّق تحت أضواء القطار، ونَظَر إلى الدُّخَان وهو ما زَال يعلو المكان الذي أُلقيَت عليه القُنبُلة على الضِّفة الشَّمالية حيث جُمِع حَشدٌ ضَخمٌ من الرِّجال ليحرقوا الهرقليوفوربيا ويُبِيدوه من الأرض. أمَّا الضِّفة الجنوبية فقد كان يُخَيِّم عليها سوادٌ حالِكٌ، ولسببٍ ما؛ حتَّى الشَّوارع لم تكن مُضَاءة. لم يَكن يُرَى منها إلا هَيَاكِل أبراج الإنذار العالية والتَّجَمُّعات القاتمة من المنازل والمَدَارس، وبَعد دقيقةٍ من إنعام النَّظر والتَّحدِيق، أشَاحَ بوجهه عن النَّافِذة وغرقَ في بَحر التَّفكِير؛ فَلَم يكن هناك أيُّ شيءٍ ليُرَى أو ليُفعَل حتَّى يَرى أبناءه …

كان جسده وَاهِنًا من ثِقل ضُغُوط اليومين الفائتين؛ أحَسَّ أن مَشَاعره قد استُنزِفَت، لكِنَّه كان قد استَعَدَّ وحَصَّن نَفسَه بكوبٍ من القهوة قبل أن يبدأ يومه؛ فانسَابَت أفكاره في سَلاسَةٍ وجَلاء. جَالَ بخَاطِره العديدُ من الأشياء، ثمَّ أعادَ النَّظر، على ضوء الدُّروس المُستَفادة من الأحداث المَاضِية، في الطَّريقة التي خَرجَ بها طعامُ الآلهة إلى العالم وكيف انتَشَر فيه.

قال هامسًا بصوتٍ لا يسمعه سواه وارتسمت على شفتَيه ابتسامةٌ رقيقة: «كان ظَنُّ السيد بانزنجتن أنَّ هذا الطَّعام سيكون مُمتَازًا للرُّضَّع.» ثمَّ تَذَكَّر بوضوحٍ ما سَاوَره من شُكُوكٍ وارتِيابٍ تَلَا إعطاءَه الطَّعامَ لابنه بيدَيه؛ ويكَأنَّهَا لم تَهدَأ بَعد. وابتداءً من تِلك اللحظة، تَفَشَّى الطَّعام في عَالَم البَشَر على نحوٍ مستمر بالرُّغم من كل الجُهُود التي بُذِلت لإيقَافِه والحَدِّ من انتشَارِه. وما هو الحال الآن؟

هَمَسَ ريدوود مُجَدَّدًا وقال: «حتَّى لو قَتَلوهم جميعًا، فقد قُضيَ الأمر.»

كان سِرُّ خَلطَة الطَّعام مُنتَشِرًا في كل مكانٍ ويَعرِفه القَاصِي والدَّانِي؛ كان هذا هو عَمَله الذي انشَغَل به. فالنَّباتُ والحَيَوان وزُمرَة الأطفال العَمَالِقة المُزعِجين سيتآمرون ويُخطِّطون المَرَّة تِلو الأخرى بِلا هَوَادَةٍ ليُجبِروا العَالَم على الرُّجوع إلى هذا الطعام مُجددًا، بِغَضِّ النَّظَر عمَّا يَجرِي من صراعاتٍ رَاهِنة. قال وتَفكِيره قد أصبح مُنصبًّا بصورة حصرية على المَصِير الرَّاهن لأطفال الطَّعام ولوَلَده: «لقد قُضيَ الأمر.» هل سيجِدهم مُنهَكِين يتَضَوَّرون جوعًا وقد أجهَدَتهم المَعرَكة وأثخَنت جِراحهم وتَركتهُم على حَافة الهزيمة؛ أم سَيَلقاهم وقد سَرَت العَافِية في أجسادِهم ومَلأ الأملُ نفوسهم، بحيث يكونون مُتأهِّبين لصراع الغَد الذي ما تزال نيرانه مُوقَدة؟ أصيبُ وَلده! لكِنَّه قد بَعَثَ برسَالةٍ!

ثمَّ هَدَاه عَقله إلى التفكير في مُقَابَلته مع كاترام مُجَدَّدًا.

قَطَع صوتُ تَوقُّف القطار في محطة تشزِلهرست حِبَال أفكاره. تَعرَّف على المكان من أبراجِ الإنذار الضَّخمة التي طَوَّقت كامدِن هيل، ومن صَفِّ البَراعم العملاقة لنَبات الشَّوْكَران الذي اصطَفَّ مع الطَّريق.

جَاءه أمينُ سِرِّ كاترام من عَرَبة القِطار الأخرى وأخبره بأنَّ قضيبَ القطار قد حُطِّمَ على بُعد نصف ميلٍ من المكان، وأنَّ سائر الرِّحلة ستكون في سَيَّارة. نَزَل ريدوود على رصيفٍ لم يَقشَع ظُلمَته إلا شُعلَة نُورِ مصباحٍ يدوي كانت تُصارع البقاء وسط نَسِيم الليل البارد. كان الهدوء المُخَيِّم على تلك الضَّاحِية ذات المنازل الخَشَبيَّة والحَشَائِش الكَثِيفة، والتي لاذ أهلُها بالفِرار إلى لندن عندما اندَلَعت مَعرَكةُ أمس؛ هدوءًا يُثير الإعجاب. أنَارَ له المُحَصِّلُ طريقَه ليهبط درجات السُّلَّم حيث تَنتظِر السَّيارة بأضوائها البَرَّاقة التي هي مصدرُ الضوءِ الأوحَدِ وقتها. سَلَّمَه أمَينُ سِرِّ كاترام إلى عِناية السَّائق ورِعايته ثُمَّ وَدَّعه.

«أثِقُ أنَّك ستَبذُل قصارى جهدك من أجلنا.» قال ذلك لريدوود وهو يُحَاكِي أسلوبَ رئيسه ثُمَّ صَافَحه.

وفَور أن استَقَرَّ ريدوود في السَّيارة، انطَلَقا في سَفَرِهما في ثَنَايا الليل. وَقفت السَّيارةُ ساكنةً لِلَحظةٍ، ثم في اللحظة التي تَليها كانت تَشقُّ طريقَها مُندَفِعةً بهدوءٍ ورَشَاقةٍ على مُنحَدر المحطَّة. انعطفا مَرَّة تلو الأخرى، والتفَّا مع اعوجاجِ أحد الشوارع الذي ارتصَّت الفِيلَّات على جانبَيه ليجدا الطريق الذي يسلكانه. انتَقل مُحَرِّك السَّيارة لأقصَى سُرعةٍ لدَيه والليل الدَّامِس ينساب على جانبَيهما. كان كلُّ شيءٍ على مَدِّ البَصَر مُظلمًا، والعالَم من حَولهما قد سَكَن سكونًا غريبًا وسَادَ صَمتٌ مُطبِق. لم يُسمَع لتلك الأشياء الطائرة على جانبَي الطَّريق أيُّ صوتٍ؛ ذَكَّرته تِلك الفِيلَّات الشَّاحِبة البَياضِ والمَهجُورة ذات النَّوافِذ السَّوداء المُظلِمة بمَوكبٍ صَامتٍ للجماجِم. كان السَّائقُ رجلًا صامتًا، أو حَلَّ عليه الصَّمتُ بسبب ظُروفِ رحلته تِلك. أجابَ عن أسئلة ريدوود القصيرة برُدودٍ خَشِنَةٍ من كَلِمةٍ أو كَلِمَتَين. كانت أشِعَّة الكشَّافات في أفقِ سَمَاءِ الجَنوب تُلَوِّح للطُّرقِ الصَّمُوتَة؛ حيث كانت هي الإشارة الوَحيدة والغَريبَة التي تدلُّ على وجود حياةٍ في هذا الخَرَاب الذي يُحيط بالآلة المُسرِعة على الطَّريق.

بعد ذلك، صَارَ الطَّريقُ مُسَوَّرًا على جانبيه بأغصَان شَجَر الزَّعرور الأسود مِمَّا زَاد الطَّريقَ ظُلمة، وبنَباتِ شَعر الأرنَب وزُهور السِّيلين الضَّخمة والسِّيقان العملاقة لنبات اللاميُوم التي تبلغ في ارتفاعها ارتفاعَ الأشجار والتي كانا يمرَّان عليها سريعًا في الظلمة وترمي بظلالها فوق رأسيهما. بَعد أن مَرَّا بكستون، أتيَا على تَلٍّ صاعدٍ، فأبطأ السَّائق من سُرعة السيارة، وعند قِمَّة التَّلِّ تَوقَّف، وخَفَت صوت ارتِجاج المُحَرِّك حتَّى صار ساكنًا. «هناك!» قال السَّائقُ مُشيرًا بأصبعه الضَّخم، الذي كَسَاه هو وبَقِيَّة اليد قُفَّازٌ، إلى مكانٍ مُدلَهِمٍّ غَريبِ الهَيئةِ يَربِض أمام عينَي ريدوود.

بعيدًا كما كان يبدو للناظِر، كان السَّدُّ الضَّخمُ يَعلُوه وَهَجٌ انبَثَقَت مِنه أضواءُ الكَشَّافات وارتَقَتْ نحو السَّماء. كانت أشِعَّةُ تلك الكَشَّافات تتجَوَّل بين سُحبِ السَّماء ثم تَهبِط فتَجُول التِّلالَ المُحِيطة كأنَّها تَقْتَفِي أثرَ طَلَاسِم سِحريَّة.

قال السَّائق أخيرًا: «لا أعرف!» وكان بَادِيًا عليه أنَّه فَزِعٌ من المُضِيِّ قدمًا.

انسَلَّ ضوءُ أحد الكَشَّافات هابطًا من السَّماء ليَغمُرَهما، وتَوَقَّف كما لو كان قد تفاجأ، وأخذ يُدقِّق فيهما بإمعان، كان يتفحَّصهما في ارتباكٍ دون أن يمنعه عن ذلك بعض سيقان العُشب الضَّخمة أو ما شَابَهَها التي كانت تفصل بينه وبينهما. جَلسَا وهما يَضَعان قُفَّازَيهما فوق أعيُنِهما ويُحاولان النَّظر من تحتهما باتِّجاه ذلك الضوء.

قال ريدوود بعد قليلٍ: «هيَّا! وَاصِل السَّير!»

كانت الشُّكوكُ ما زَالتْ تُسَاور السَّائق، حاول أن يُعَبِّر عمَّا يَشعُر به ولكن انتَهى به المَطاف أن قال مجدَّدًا: «لا أعرف!»

وفي النِّهاية تَجَرَّأ وقَبِل بالمُجَازَفة وقال: «هَا نحن ذا!» ثُمَّ جَعَل السَّيارةَ تَتَحرَّك مرةً أخرى، وتِلك العَين البيضاء الضَّخمَة تَتبَعهما باهتمامٍ شديد.

بَدَا الأمر لريدوود أنَّهما لم يَعودا يسيران على الأرض، بَل أصبحا وكأنهما ينطلقان بسرعةٍ بالغة عبر سحابةٍ مضيئة. مَضَت السَّيارة في طَريقها وأخذ السَّائق الذي انتابتْه حالةٌ من التوتُّر يضغط على بُوق السَّيارة مرارًا وتكرارًا.

استقبلتهما ظُلمةُ حَارةٍ عاليةٌ أسوارها، ثمَّ انحدرَا في وادٍ ومَرَّا ببعض المَنازل، وما لَبِثَا أنْ غَمَرهما مُجدَّدًا هذا الضوء القوي المُتفحِّص لهما والذي عجزت أعينهما عن تحمُّله. بَعد ذلك صَار الطَّريقُ خاويًا مُنحدِرًا لمُدَّةٍ من الوقت، واشتدَّ صوتُ خفَقان المُحَرِّك. ارتَفَعت الحشَائشُ العملاقة مُجددًا من حولهما ومرَّت بها سيارتهما مرورًا خاطفًا. ثمَّ ظَهرت فجأةً مَلامِح هَيْكَلٍ عملاقٍ يقتَرِب منهما؛ كان جُزءُ جَسَدِه الذي وَقَع عليه الضَّوءُ لامِعًا مُضِيئًا، أمَّا الجزء الآخر فقد كان مُظلِمًا كالسَّماءِ من خَلفِه. قال بصوتٍ عالٍ: «مَرحبًا بمَن هناك!» ثمَّ قال: «تَوقَّفَا! فلقد انتهى الطَّريق هُنا … هل هذا الأب ريدوود؟»

وَقَف ريدوود وأطلق صيحةً غامضةً إجابةً عن السؤال، ولم يَمضِ الكثِيرُ من الوَقتِ حتَّى كان كُوسَار بجانبه على الطَّريق يُمسك بيدي ريدوود جاذبًا إيَّاه خارج السيارة.

سأل ريدوود: «ماذا حَلَّ بوَلَدي؟»

ردَّ عليه كُوسَار: «إنه بخير! لم تُصِبه إصابة خطرة.»

«وأبناؤك؟»

«بخير. جميعُهم بخير، ولكن اضطُرِرْنا أن نَخُوض حَربًا من أجل ذلك.»

كان العملاق يُخبِر سائق السيارة بشيءٍ ما، وانتحى ريدوود جانبًا بينما كانت السيارة تَدُور للخلف. ثُمَّ اختَفَى كُوسَار فجأةً، واختَبَأ كُلُّ شيءٍ تحت سِتَار الظَّلام لبُرهةٍ من الوقت. كان الضَّوءُ يُلاحِق السيارة في طريقها عائدةً إلى قمَّة تَل كستون. شَاهد ريدوود هذه العَرَبة الصَّغيرة وهي تَبتَعِد وبُقعة الضَّوء مُسَلَّطَة عليها. كان لها تأثيرٌ عجيب كما لو كانت لا تتحرَّك وما يتحَرَّك هو بُقعة الضَّوء. ظَهَرت في وَمضَةٍ مجموعةٌ من الأشجَار العَتِيقة الضَّخمَة التي طحَنَتها الحَربُ بوَعثَائِها وتَركَت عليها ما تَركَت من نُدُوبٍ وذُبُولٍ، ثمَّ ما لبثا أن ابتَلَعَهُما ظلامُ الليل مرة أخرى … التفت ريدوود مَرَّة أخرى إلى كُوسَار في تلك الظُّلمة وصافح يدَه قائلًا: «لقد مُنعتُ عن الكلام وحُبِسَت عَنِّي الأخبار لمُدَّة يومَين كاملين.»

قال كُوسَار: «لقد أطلَقْنا عليهم قَنَابِل الطَّعَام! هَه! ثلاثون قُنبُلة بالتَّمامِ والكَمال!»

«أتيتُ من عِند كاترام.»

ضَحِك كُوسَار وقد عَلت أسَارِيره مَرَارَةٌ ثمَّ قال: «أعلم ذلك! أظنُّ أنَّه مَشغولٌ بالتَّنظِيف.»

٢

سأل ريدوود: «أين وَلَدِي؟»

«إنَّه بخير! ينتَظِر العَمَالِقة خطَابَك.»

«نعم، ولكن ابني …»

ذهبَ مع كُوسَار ومَرَّا في نَفَقٍ طويلٍ منحدرٍ، كان مُضَاءً بنورٍ أحمرَ للحظاتٍ ثمَّ عمَّه ظلامٌ دامسٌ مرةً أخرى. انتهى النَّفَقُ بِهِما إلى الوَهدة العَظيمة للمأوى الذي كان قد شيَّده العمالقة.

كان أولُ ما رأى ريدوود هو تِلك الحَلبة الوَاسِعة مُحَاطَةً بالمُنحَدرات الصَّخرية العالية وأرضها مَليئة بالأشياء المُبعثَرة. كانت غَارِقةً في الظَّلام باستثناء انعِكاساتِ أضواء كَشَّافات الحَارِس الليلي تَلُفُّ بلا انقِطَاعٍ فوق الرءوس، وباستثناء الوَهَج الأحمر اللون الذي كان يظهر ويختفي من رُكنٍ بعيد حيث كان يَعمَل عِملاقَان معًا وَسطَ صَلِيل الحَديد. في عَرضِ السَّماء، حيث كان يظهر ضوء الكَشَّافات، رأت عيناه هَيَكلَين مَألوفَين، هما هَيكلا سَقِيفَة العَمل وكُوخ اللَّعِب اللذان صُنِعَا لأبناء كُوسَار. صَارَا الآن متدلِّيَين كما لو كانا على حَافة جُرفٍ صَخري وقد انحنَيا وشُوِّها على نحوٍ غريب تحت تأثير وابل القذائف التي أمطرتهما بها مَدافع كاترام. كان هُناك ما يُشبه المَدَافِع الضَّخمة مُتَمَركِزةً في الأعلى وعلى مَقرُبَةٍ منها أكوامٌ من الأسطوَانات الضَّخمَة كانت هي الذخائر على الأرجح. أمَّا في المِسَاحة الشَّاسِعة في الأسفل، فقد كانت تَقبَعُ أشياء على هيئة مُحَرِّكاتٍ كبيرة الحجم وكُتل ضخمة من الأشياء الغَامِضة، مُبعثرةً في فَوضى عَجيبة. كان العَمالقةُ يظهرون ويختفون تحت هذا الضوء المُتَرَدِّد؛ كانت هيئاتُهم ضَخمَةً لكِنَّها كانت مُتَناسقة مع الأشياء التي يَحمِلونَها. كان بعضُهم يَعمَل بهمَّةٍ، والبعضُ الآخر جالسًا أو مُستَلقيًا كأنَّ النومَ يُغازل عينيه، وكان على مقربة، عملاقٌ آخر، جَسَده مُضَمَّدٌ ويَستَلقِي على سَريرٍ خَشِنٍ من مُخَلَّفَات أغصان شجر الصنوبر وكان نائمًا بلا شَك. حدَّق ريدوود في تِلك الهَيئاتِ المُعتِمة وعَينَاه تَنتَقِل من عملاقٍ إلى آخر.

«أين هو وَلدي يا كُوسَار؟»

ثمَّ رآه.

كان وَلَدُه جالسًا تحت ظِلِّ حائطٍ فولاذي، وكانت هيئتُه تبدو معتمةً للنَّاظِر لا يُتَعَرَّف عليها إلا مِن وضعية جِلسَتِه؛ فملامِحه لم تكن مرئية. كان جالسًا وذقنه يتَوَسَّد ذراعَيه كرجلٍ أهلَكَه الدَّهر أو أغرَقه التَّفكِير. بجانِبه، تَبَيَّن ريدوود هيئة الأميرة بالقَدْرِ الذي سَمَح به سَوادُ الليل، ثمَّ بعد ذلك، وعندما عَاد الوَهَجُ الأحمر لأحد الكَشَّافات البَعِيدة وسَقَط على وجهها الرقيق، رأى في لحظةٍ خاطفةٍ، طيبةً وعطفًا لا يُوصَفان. كانت تَقِفُ وهي تستَنِدُ بيدها على الحائط الفولاذي، نَاظِرةً إلى حبيبها الجالس بجوارها كما لو كانت تَهمِسُ إليه بشيء.

كَادَ ريدوود أن يَذهب باتِّجاهِهما.

ولكن قال له كُوسَار: «الآن يتعيَّن عليك أن تُلقِي خِطَابك.»

ردَّ ريدوود وقال: «أجل! ولكن …»

توقَّف ريدوود في مكانه. كان ولدُه يتطلَّع إلى الأميرة ويَتَحدَّث إليها بصوتٍ هَامِسٍ يَسمَعه كِلاهُما ولا يَسمَعه غيرهما. رَفعَ ريدوود الشاب وَجهه إليها وانحَنَت هي باتِّجَاهِه ونظرت بِطَرفِ عينَيها جانبًا قبل أن تُحَدِّثه.

سَمِعا هَمسَ ريدوود الشاب وهو يقول: «ولكن ماذا إن غُلِبنَا …»

سَكَتت وكشفَ الوَهَجُ الأحمر عن عَينَيها المغرورِقَتَين بالدُّمُوع. انحَنَت لتَدنُوَ منه وحدَّثَته بصوتٍ كان لا يزال هامسًا. كان في هَيئتهِما شيءٌ حَمِيمِيٌّ ووُدِّيٌّ، وفي نبرة صَوتَيهِما لِينٌ وحَنانٌ أثَار فضولَ ريدوود؛ ريدوود الذي شُغِل تَفكيره لمُدَّة يومَين كامِلين بوَلَدِه ولا شيءَ سُواه، لكنَّه تَسَمَّر في مكانه فجأة؛ لَعَلَّه قد أدرَك للمَرَّة الأولى في حياته أنَّ اعتزاز الأب بولده يفُوق كثيرًا اعتزاز الولد بأبيه؛ أدرَك أنَّ الغَلَبة للمُستَقبَل على المَاضِي. فهُنَا بين هذَين الاثنين كان لا دَورَ له، فلقد انتهى. الْتَفت إلى كُوسَار في تلك اللحظَة التي أدركَ فيها تلك الحقائق. تَلاقَت أعيُنهما، وتَبَدَّل صَوتُه ليُسمع في نَبرَته عَزمٌ شَابَهُ كَمَدٌ.

قال ريدوود: «سألقِي خِطَابي الآن، ثم لننظُر ماذا سنفعل بعد ذلك.»

كانت الوَهدَةُ عظيمةَ الضَّخامة ومَلِيئةً بالأشياء المُتناثِرة وكان طريقه إلى المكان الذي يُمكِن له أن يُلقي خطبَته منه فيسَمَعوه جميعًا، طويلًا ومُتَعرِّجًا.

سَلَكَ هو وكُوسَار طريقًا مُنحَدِرًا انحِدارًا شديدًا يَمُرُّ تَحت قَوسٍ من الآلات المُتَشَابِكة، ثُمَّ عَبَرا مَمرًّا جَانِبيًّا عَمِيقًا امتَدَّ بِطُول قاع الوَهدَة. كان ذلك المَمَرُّ الجَانِبي فارغًا، إلا أنَّه كان ضيقًا نِسبيًّا، وكأنه تآمر مع جميع الأشياء من حوله ليَزيد من إحساس ريدوود بالضَّآلة. كان هذا المَمَرُّ أشبهَ بخندقٍ محفور. أمَّا أضواءُ الكَشَّافَاتِ فقد ظَلَّت تَدُور وتَدُور مُتَوَهِّجَةً فوق رأسه، لا يفصلها عنه سوى جُروف من الظُّلمة. وكانت الأشكَالُ اللامعة تَظهر وتَختَفي المَرَّة بعد المَرَّة. كانت الأصواتُ العِملَاقة تُنَادي بَعضها بعضًا من فَوقِه، يُنَادُون العَمَالِقة ليَحضروا مَجلِسَ الحَرب؛ ليَستَمِعوا إلى الشُّروطِ التي أملَاهَا كاترام. كان المَمَرُّ الجَانِبيُّ ما زَال يَنحَدِر نَحو الظلامِ الفَسِيح؛ نحو الظِّلالِ والأشيَاءِ الغَامِضة والعَجِيبة التي دَفَعت ريدوود ليَمشِي الهُوَينَى، أمَّا كُوسَار فقد كان يمَضِي وَاثِقَ الخُطَا …

كان عقلُ ريدوود مَشغُولًا. دَخَل الرَّجُلان إلى مكانٍ مُدلَهمٍّ وأمسَك كُوسَار بسَاعِد رَفِيقه، وسَارَا ببطءٍ معًا رُغمًا عنهما.

اندفعَ ريدوود قائلًا: «هذا كلُّه غريبٌ حقًّا.»

ردَّ كُوسَار: «غَريبٌ أشدَّ الغَرَابة!»

«غَريبٌ! غَريبٌ وغير مألوفٍ حتَّى بالنسبة إليَّ أنا باعتباري الرَّجُل الذي ابتدأ هذا الأمرَ كلَّه. إنَّه …»

تَوقَّف في مكانه، مُصارِعًا ما يعتمِل في عقله من أفكارٍ مُراوغة، وأومأ إيماءةً غير مرئية إلى الجُرف.

«لم أفكِّر في هذا الأمر من قبل؛ انشَغَلتُ ومَرَّت السَّنَوات، ولَكِنِّي أرى الآن يا كُوسَار؛ أرى جيلًا جديدًا ومَشاعِر واحتِياجَاتٍ جديدة. كلُّ ذلك يا كُوسَار …»

كان كُوسَار قد أدركَ الآن إيماءته الخفيَّة إلى تِلك الأشياءِ من حولهما.

«هؤلاء هم الشباب!»

لم يكن هناك ردٌّ من جانب كُوسَار الذي واصلَ السيرَ.

«ليست هذه المرحلة مرحلتنا يا كُوسَار. إنها مرحلة هؤلاء الشباب الذين يَتَولَّون زِمام الأمور الآن، وقد بدأت تتشكَّل لديهم مشاعرُ وتجارب خاصَّة بهم وشرعوا في أن يسلكوا الطريق الذي ارتضَوه لأنفسهم. لقد صَنَعْنَا عَالَمًا جديدًا لا نَمِلك فيه شيئًا لأنفُسِنَا. حتَّى إنَّه غير مُتَعاطِفٍ مَعَنا. هذا المكان العظيم …»

قال كُوسَار مُقرِّبًا وجهه منه: «لقد خَطَّطتُ للأمر.»

«ولكن ماذا عن الوقت الحالي؟»

«أها! لقد وهبتُه لأبنائي.»

أحسَّ ريدوود بما يشعُر الرجلُ به من إحباط.

«هذا كُلُّ ما في الأمر! لقد انتهَينا أو أوشَكْنَا على الانتهاء.»

«خِطَابك!»

«أجل! ثمَّ بعد ذلك …»

«نكون قد انتهَينا.»

«أحقًّا هذا …؟»

قال كُوسَار فجأةً بنبرته المُعتَادة عندما يَغضَبُ: «بكلِّ تأكيدٍ لم يَعُد لنَا، نحن العَجُوزين، شأنٌ في ذلك الأمر. بكلِّ تأكيد. فكلُّ إنسانٍ له زمانه، وها هو زمانهم قد بدأ الآن. لا بأسَ بذلك. نحن أشبَهُ بمجموعةٍ من العاملين في مجال الحفر، يؤدي كلٌّ منهم وظيفته ويُغادر. أتَرَى؟ لِهَذَا خُلِقَ الموت. نحن نُعمِل عقولنا الصَّغِيرة ونَستَنزِف مَشاعِرنا المحدودة، ثمَّ يُعِيد من يأتي بَعدَنَا الكَرَّة من جَدِيد! يَستَهِلُّ الأمر من بِدايَته، ببسَاطة! ما المشكلة إذن؟»

ثمَّ سَكَتَ ليُرشد ريدوود نحوَ دَرَجٍ يصعدُه.

قال ريدوود: «أجل! ولكن يشعُر المرءُ …»

ولم يُكمِل جُملَته.

سَمِع كُوسَار بالأسفل منه وهو يُرَدِّد بإصرَارٍ: «لهَذا خُلِقَ الموت! كيف يُمكن للأمور أنْ تَتِمَّ إذن؟ لهذا خُلِقَ الموت.»

٣

بعد الكثير من التَّسَلُّق والطُّرق المُلتَوِية والمُتَعَرِّجة، وَصَلا إلى حافةٍ بَارِزةٍ حيث يُمكنك رؤية جميع أرجاءِ وَهدَة العَمَالِقة تلك، وحيث يُمكِن لريدوود أن يَتَكَلَّم فَيُسمَع من جميع الحاضرين. كان العمالقة مُجتَمِعين أسفله وحَولَه على مستوياتٍ مُختَلِفة ليَسمعوا الخِطابَ الذي سَيُلقِيه عليهم. وَقفَ الابنُ الأكبر لكُوسَار على الضِّفَّةِ في الأعلى يُرَاقِب ما تكشفُ عنه أضواءُ الكَشَّافات لأنَّهم يخشون أن تُنقَض الهُدنَة. أمَّا عُمَّال الآلات الضَّخمَة فَقد بَرَزوا بوضوحٍ في ركنٍ وضوءٍ خاصَّين بهما، كانوا شِبْهَ عُرَاةٍ وقد وجَّهوا أنظارهم نحو ريدوود ولكن بحذرٍ شديدٍ إذ كانوا ينظرون بين الفَينَة والأخرى إلى سَبَائِكهم المَصبُوبَة التي لم يكن بمقدورهم تركُها. وَقَعت عيناه على هَيئَاتِ العَمَالِقة القَرِيبة، بِفَضل الأضواء المُتَحَرِّكة، وقد كانت جَمِيعُها مُتَشَابهة إلا النزر اليَسِير. أمَّا الواقفون بَعِيدًا فقد كانوا أكثر تَشَابُهًا. كانوا يظهرون ثُمَّ يَختَفون مُجَدَّدًا في هذا الظَّلام المُمتَد. فهؤلاء العمالِقة لم يكن لديهم أيُّ مَصَادر للضوء أكثر مما تَستَدعِيه الحاجةُ في تلك الوَهدَة، لكي تَكون عُيُونُهم مُستَعِدَّة لرَصد أي قُوَّاتٍ مُهَاجِمةٍ قد تُغِير عليهم من وَسَطِ هذا الظَّلام المُحيط بهم.

مِرَارًا وتَكرَارًا، كان ضوء الكَشَّافَات العَشوَائي يُسَلَّط فيُظِهر هذه الجماعة أو تلك من العمالقة ذوي الأجسَاد القَويَّة والطَّويلة. كان عَمَالِقةُ سَندرلاند يتَدَرَّعُون بصَفَائِح فُولاذِيةٍ مُتَشَابِكةٍ، بينما ارتدى العَمَالِقة الآخرون السُّترَات الجِلدِيَّة أو السُّترَات التي حِيكت من الحِبَال أو من الفُولَاذ حسبما سَمَحت لهم ظُرُوفُهم. كانوا يَجلسون على الأرضِ وَسط الآلات والأسلِحَة التي لم تكن تقلُّ قوةً عن قوتهم، أو يَستَنِدون عليها بأيديهم أو يَقِفون مُنتَصِبين بينها في شُمُوخٍ واعتِدَادٍ بالنفسِ. أمَّا عَن وُجُوهِهم جميعًا، فقد كانت كلَّمَا مَرَّ عليها الضَّوء وظَهَرت رأيت أعيُنَهم قد مُلئَت عَزمًا وصَرَامة.

بَذَل جهدًا ليبدأ خطابه لَكِنَّه لم يفعل. ثمَّ ظَهر للحظاتٍ وجهُ وَلَده لامِعًا على ضَوءِ ألسِنَة النَّارِ المُستَعِرة، كان وَجهه وهو يَنظُر إليه رقيقًا لكن فيه قوةً وعَزمًا؛ فانطَلَق لِسَانه ليَصِل صَوته إليهم جَمِيعًا مُتَحدِّثًا عبر تلك الوَهدة؛ وموجِّهًا نظره شطر وَلَدِه.

استَهَلَّ وقال: «أتَيتُكم من عند كاترام، أرسَلنِي إليكم لأخبِركم بشُرُوطِ عَرضِه.»

سَكَت ثمَّ قال: «تِلك الشُّرُوطُ مُستَحِيلة، أيقَنتُ ذلك عِندَما رأيتُكم الآن مُجتَمِعين معًا. تِلك الشُّرُوطُ مُستَحِيلةٌ، ولكن جِئتُكُم بها لأنِّي أرَدت رؤيتَكم جميعًا ورؤية وَلَدي. أجل، لقد أرَدتُ رُؤيَة وَلَدي …»

قال كُوسَار: «أخبِرهم بالشُّرُوط!»

«هذا ما عَرَضَه كاترام؛ يُرِيدُكم أن تَتَفَرَّقوا وتَترُكُوا هذا العَالَم!»

«نَترُكُه إلى أين؟»

«إنَّه لا يَعرِف! إلى مكانٍ غير معلومٍ في هذا العَالَم؛ إقلِيم شَاسِع مَعزُول سيُخصَّص لكم. كمَا أنَّكُم لن تَصنَعوا المَزِيدَ من الطَّعام، ولن تُنجِبُوا أطفَالًا لَكُم. سَتَعِيشون حَياتَكم كما يَحلُو لكم ثم تَفْنَونَ وتَذْرُوكم الرِّيَاحُ كأنْ لم تَكُونُوا قطُّ.»

ثمَّ سَكَتَ عن الكَلام.

«أهذا كلُّ شيء؟»

«أجل! هذا كلُّ شيء.»

تَلَا ذلك صَمتٌ رَهِيبٌ، وبَدَا كما لو كانت الظلمة ذاتها التي غطَّت العَمالِقة بجَناحِها كَانَت تُحَدِّق فِيه بتَمَعُّن.

شَعَر بلَمسَةٍ على مِرفَقِه؛ كان كُوسَار يَحمِل كُرسِيًّا له؛ بَدَا الكُرسِيُّ كقِطعةٍ غَريبةٍ من ألعاب الأطفال وَسط تلك الأشياء الضَّخمة المُتَرامِية. جَلَس وضمَّ ساقَيه واضِعًا وَاحِدةً فوق الأخرى، ثمَّ وَضَع إحدى ساقيه بالعَرض فوق رُكبَة ساقه الأخرى وقَبضَ على حِذائِه في تَوَتُّرٍ. شَعَر بالضَّآلة والخَجَل، كما أحَسَّ أنَّه مَرئِي تَختَرِقه النَّظَرات وأنَّه في المَكان الخطأ.

ثمَّ عندما سمعَ صدى الصوت، استغرقَ في التفكير مُجددًا.

قال صدى الصَّوت الصَّادِر من الظَّلام: «أسَمِعتُم ما قال يا إخوَتِي؟!»

أجَابَه صوتٌ آخر: «أجل، سَمِعنَا!»

«ومَا ردُّكم يا إخوَتِي؟»

«أتقصد ردَّنا على كاترام؟»

«ردُّنا بالتأكيد «لا!»»

«مَاذَا بعدُ إذن؟»

سَادَ صمتٌ لعِدَّة ثوانٍ.

ثُمَّ سُمِع صَوتٌ ما يقول: «هؤلاء البَشَر على حَقٍّ! فبَعد وِجهة نَظَرهِم تِلك، هم على حقٍّ. كان الحَقُّ مَعَهُم عندما أبَادوا كلَّ ما نَما وكَبر زِيَادةً عن بني جِنسِه؛ سَواءٌ أكان نَبَاتًا أم حَيَوانًا أم غير ذلك من الأشياء الضَّخمَة التي نَمَت. كان الحَقُّ مَعَهُم عندما حاوَلوا أن يذبحونا. وهم أيضًا على حَقٍّ بِقَولِهم إنه يجِب ألَّا يتزوَّج بعضنا بعضًا. وَفقًا لوِجهَة نَظَرِهم، فإنَّ الحَقَّ مَعَهم. لقد عَلِموا، كما أنَّه قد حان الوقت لنَعلَم نحن أيضًا، أنَّهُ لا مَجَالَ في هذا العَالَم ليَعِيش العَمَالِقةُ والأقزامُ معًا. رَدَّد كاترام ذلك مَرَّاتٍ كَثيرة وبوضُوحٍ؛ عَالَمُهم أو عَالَمُنا.»

قال عملاقٌ آخر: «عَدَدُنَا لا يَصِل إلى خَمسِين فَردًا، أمَّا هم، فأعدَادُهم مَلايين لا تُحصَى.»

«قد يكون هذا صحيحًا، لَكِنَّ الأمرَ كما قُلت لَكم.»

ثمَّ سَادَت مُدَّةٌ أخرى من الصَّمتِ الطَّويل.

«هل كُتِبَ علينا المَوتُ إذن؟»

«لا قَدَّر الله!»

«إذن هل كُتِبَ المَوتُ عليهم؟»

«لا!»

«لكن هذا ما يقوله كاترام؛ سَوف يَدَعُنَا نَعيش حَيَاتَنا لنَموت واحدًا تِلو الآخر، حتى لا يبقى سوى واحدٍ منَّا ثمَّ يموت هو الآخر في النِّهاية. ثمَّ سيُبِيدون كُلَّ النَّبَاتَاتِ والحشائش العِملاقَة، ويَجتَثُّون شَجَرة العَمالِقَة من جُذُورِها ويَحرِقون كل آثار الطَّعام ليضعوا نِهَايَةً له للأبد. ثمَّ يعيش بعد ذلك عَالَمُ الأقزامِ في أمان. سيُكمِلون مَسِيرَتَهُم بأمانٍ إلى الأبد، سيَعِيشُون حياةَ الأقزام القَصِيرة تِلك، ويُظهِرون عَطفَ الأقزام وقَسوَتَهم بعضِهم لبعض؛ ولرُبَّما يَصِلون إلى شَيءٍ من ألفِيَّةٍ قزمَةٍ، يضَعُون فيها حَدًّا للحَرب وللزِّيَادة السُّكانِيَّة، ويَسكُنُون مَدينةً واحدةً تَشمَل العالم كله ليُمَارِسوا الفَنَّ فيها ويعبد بعضهم بعضًا حتَّى يَبدَأ العَالَم في التَّجَمُّد …»

في ذلك الرُّكنِ؛ هَوَت صَفِيحةُ حديدٍ على الأرضِ مُحدثةً دوِيًّا كالرعد.

«يا إخوتي! أنتم تَعرِفون ما الذي عَلينا فِعلُه.»

في ومضةٍ سريعة من ومضات الكَشَّافَات، رأى ريدوود الوُجوه المَليئة بالشَّبَاب وقد نظرت باتِّجاه وَلَدِه.

«من السَّهلِ صُنع الطَّعام، وسيكون من السَّهلِ أيضًا أن نَصنَع طَعامًا يكفي العالَم بأسره.»

قال صوتٌ صَدر من الظَّلام: «أتعني يا أخَانا ريدوود أن نَصنَع الطَّعَام ليأكُله البَشَرُ الأقزَام.»

«ما الذي يُمكِنُنَا فِعله غير هذا؟»

«عددُنا أقلُّ من خمسين وأعدادُهم بالملايين.»

«ولَكِننا نَمْتَلِك زِمَامَ أمورنا.»

«حتَّى الآن.»

«إنْ كانت مَشيئة الله، فسَنُكمِل امتِلاكَ زِمَام أمورنا.»

«صحيح! ولكن فَكِّر فيمَن ماتوا!»

صَاحَ صوتٌ آخر ليَزِيد من حِدَّة التَّوَتُّر: «مَن مَاتوا؟ فَكِّر فيمَن لم يُولَدوا بعد …»

عَلا صوتُ ريدوود الشاب: «يا إخوتي! ما الذي في وُسعِنَا فِعله إلَّا أن نُحَارِبَهم؛ لو غلبنَاهم سنُجبِرهم جَميعًا على أكل الطَّعام؟ لا يسَعُهم الآن إلا أخذ الطَّعام. تَخَيَّل معي أنَّنَا رَضَخْنَا لتلك الحَمَاقَات التي اقترحها كاترام وتَخَلَّينا عن إرثِنَا! تَخَيَّل أنَّنَا صَدَدنا ذلك الشيء العَظِيم الذي يَتَوهَّج بدَاخِلنا وتَبَرَّأنا منه؛ هذا الشَّيء الذي مَنَحنا إيَّاه آباؤنا؛ الذي مَنَحتَه أنت لنا يا أبي، ثمَّ نُنسَى ونَتَلاشَى إلى العَدَم عندما تحين آجَالنا. ماذا سيحدث حينها؟ هل سَيَعودُ عَالَمهم الصَّغير هذا كما كان من قبل؟ رُبَّما يُحَاربون العَظَمة مُتَمَثِّلةً فينا نحن أبناء الرجال، ولكن هل يستَطِيعون الفَوز والتَّغَلُّب علينا؟ حتَّى وإن أبَادُونا عن بَكرة أبينا، ماذا سَيَحدُث حينها إذن؟ هل سيُنقِذُهم ذلك؟ لا! لأنَّ العَظَمة في كلِّ مكانٍ حولنا، ليسَت مُتَمَثِّلة بدَاخِلنا نحن فقط ولا في الطَّعام وَحده، ولكن موجودة في غَايَات كلِّ الأشياء ومُتَغَلغِلة في طَبيعتها، هي جزءٌ من الزَّمَان والمكان. فالنموُّ واستمرارية النمو من المَهد إلى اللَّحد هما مَعنى الوُجُود وقَانون الحياة الأوحد. هل توجد قَوانين أخرى؟»

«أنْ نُسَاعِد الآخرين؟»

«نُسَاعِدهم على النموِّ والاستمرارية. يظلُّ الأمر متعلِّقًا بالنمو والاستمرارية. إلا إذا سَاعَدْنَاهم ليفشَلوا …»

قال صَوتٌ ما: «سيُحَاربون بكل ما أوتوا من قوَّةٍ للتَّغَلُّب علينا.»

صَاحَ صَوتٌ آخر: «وماذا عن ذلك؟»

ردَّ ريدوود الشاب: «سَيُحَارِبُونَنا بلا أدنى شَكٍّ إذا رَفضْنا تِلك الشُّرُوط. وأرجو أن يكونوا صُرَحاء ويُحاربونا، فإذا جَنَحوا للسِّلمِ بعد كل ما حَدَث، فسَيَكون ذلك حتَّى يتَمَكَّنوا من القَضَاء عَلَيْنَا على حِين غِرَّة. لا تَقَعوا في الخَطأ يا إخوتي؛ فهم سَيُحَارِبُونَنا بطريقةٍ ما أو بأخرى، فقد استَعَرت نيرانُ الحَربِ ولا بُدَّ لنَا من أن نُحارِب. إذا لم نتحلَّ بالحكمة، فسوف نجد أنفسَنَا بعد ذلك وقد انقَضَت أعمَارُنَا في صُنعِ أسلِحةٍ أقوى لهم ليستَخدِمُوها ضِدَّ أطفالِنا وبني جِنسنا. ما حَدَث حتَّى الآن لا يُعَدُّ شيئًا إلا مُنَاوَشَات للمَعرَكة. ستكون حياتُنا بأكملها معركة، سَيُقتَل بعضٌ منَّا أثناء المُوَاجَهة، وسَيُغدَر ببعضٍ آخر، ولكن ليس هناك نصْرٌ سهل. ثِقوا بأن أيَّ شيءٍ دون النصر هو بمثابة نصف هزيمة. وما قولُكم إذا استَطَعنَا فقط أن نُثَبِّت مَوطئ أقدَامنا ولا نَتَرَاجع، ما قولُكم إذا استَطَعنا أن نُخلِّف وراءنا حَشدًا مُتَزَايدًا ليُواصِل القِتال عندما نَرحلُ عن هذا العالم؟!»

«وماذا عن الغَد؟»

«سنَنثُر الطَّعام في كلِّ مكان، سوف ننشُره في جميع ربوع العَالم.»

«وماذا لو حَاوَلوا التَّفَاهم مَعنا؟»

«سوف نتمسَّك بالطعام. الأمرُ لا يتعلق بإمكانية عيشِ الضئيل والعملاق معًا في ظلِّ تَنَازُلاتٍ مُنَاسِبة من الطرفين. الأمر يتعلق بحياة طرفٍ وفناءِ آخر. أيُّ حقٍّ يملكه الأب ليقول: «وَلَدِي لن يَعيش إلا كما عِشتُ أنا، ولن يبلُغ من الضخامة أكثر ممَّا بلغتُ أنا؟» أليس هذا صحيحًا يا إخوتي؟»

أكَّدَت همهمات المُستمعين كلامه وأجَابَت عن سؤاله.

قال صوتٌ من وسط الظَّلام: «هذا من أجل كُلِّ الفتيات اللائي سيصِرن نساءً، وكل الصبية الذين سيَصِيرون رجالًا …»

«بَل أكثر من ذلك، من أجل من سيكُنَّ أمهاتِ نوعٍ جديدٍ …»

قال ريدوود وعيناه تَنظران إلى وجه ابنه: «ولكن يجِب أن يكون هناك ضَئيلٌ وعِملاق في الجِيل القَادِم.»

«بَل لأجيَالٍ قَادِمةٍ؛ سَيعُوق الضَّئيل مَسِيرة العِملاق، وسَيضغَط العِملاق على الضَّئيل؛ لذلك يجب أن يكون هذا الأمر يا أبي.»

«ستكون هناك صِراعات.»

«صراعاتٌ لا تَنتَهِي، وسُوءُ فَهمٍ لا حَدَّ له. هكذا هي الحياة؛ العِملاقُ والضَّئِيل لا يُمكن أن يَتَفَاهَمَا، ولكن بداخِل كلِّ طِفلٍ يُولَد للبَشَر، يا أبانا ريدوود، تكمُن بُذُور العَظَمَة بانتِظَار الطَّعام.»

«إذن، سأذهبُ إلى كاترام مرةً أخرى وأُخبره.»

«أنت ستَبقَى معنا هنا يا أبَانَا، وجَوابُنا سيَذهب إلى كاترام عند مَطلَع الفجر.»

«لقد قال إنَّه مُستَعدٌّ للقِتَال.»

قال ريدوود الشاب: «لِتَكن الحَربُ إذن!» وَعَلَت هَمهَمَات إخوته بالمُوافَقة.

نَادَى صوتٌ ما وقال: «الفولاذُ جاهزٌ وينتَظِر.» ثمَّ بَدأ العِملاقَان اللذان كانا يعمَلان في ذلك الرُّكن بالطَّرق مَعًا في تَنَاغُمٍ، فأضفى صَوتُ طَرقِهما إيقاعًا مَهيبًا على المشهد. كان الفُولاذ يَلمع مُتَوهِّجًا أكثر مِن تَوَهُّجِه السَّابِق، فأتَاح لريدوود رُؤيَةً أوضَح للمُعَسكَر أفضَل مِمَّا رآه آنِفًا. رأى المِسَاحة المُستَطِيلة بجَمِيع ما فيها؛ آلات الحَربِ الضَّخمة مُصطَفَّة ومُهَيَّأة. وَراءها وعلى مُستَوًى أعلى، بَرَز بيت آل كُوسَار. أمَّا حَوله فقد كان العَمَالِقة الشباب بضخامتهم وحسن منظرهم، يَتَألَّقون بدُرُوعِهم وَسْط استِعدَادَات الغَد وتَجهِيزَاتِه. شَرَحت رُؤيته لَهم صَدرَه؛ فقد كانوا أقوياء دون شك! كانوا فارعي الطول، أقوياء البِنية، تُرى خُطُواتُهم وحَرَكَتُهُم وقد مُلِئت إصرارًا وعَزِيمة. وكان وَلَده وسطهم هناك، وبصُحبَتِه أُولى نساء العمالقة؛ الأميرة …

ثمَّ قَفَزت إلى عَقله أغرَبُ ذِكرَى على الإطلاق، ذكرى تُناقض ما يراه أمام عينَيه؛ فقد تذكَّر السيد بانزنجتن ذا الجسم الضئيل، وهو يَقِف وسط غُرفَتِه ذات الأثَاثِ التَّقلِيدي، وأصَابع يَده وسط الرِّيش النَّاعِم لصَدر أول دَجَاجةٍ عِملاقةٍ ويَنظُر من فَوق عدستَي نَظَّارَته بارتِيَابٍ عندما طَرَقت ابنة عَمِّه «جين» البَاب.

لقد كان هذا الموقف منذ إحدى وعشرين سنة مرَّت كلمح البصر.

ثمَّ اعتَرَتْه رِيبةٌ سَيطَرت عَلَيه؛ فقد ظنَّ أن هذا المكان وكلَّ تِلك الضَّخَامَة ما هي إلا أضغَاثُ أحلامٍ؛ كلُّ ذلك كان حُلمًا سَيفِيق منه في لَحَظَاتٍ ليجد نفسه مُنكَبًّا على الطاولة في مكتبه مرةً أخرى وقد ذُبحت العَمَالِقة وأُبِيد الطَّعام، كما وقعَ هو نفسه في الأسر. في واقع الأمر، ما الذي كانت عليه الحياة غير ذلك؟ فلطالَما كان أسيرًا محبوسًا. كانت تِلك هي ذُروَة حُلمِه ونِهَايَته. سَيفِيق أثناء القِتَال وسَفك الدِّماء، ليجدَ طَعَامَه وقد صَار أكثرَ الأوهام حَمَاقَةً، وليكتشف أنَّ كلَّ ما كان يأمله ويؤمن به مجرد سراب؛ فالضَّآلة هي مصيرُ العالم لا ريب!

جعلته نَوبَة الجَزَعِ تِلك يظنُّ أنَّ التحرُّر من الأوهام قد أصبحَ وشيكًا. ونظرًا لقوتها وعُمقها، فقد انتفضَ فزعًا من كُرسيِّه. غطَّى عينيه بقبضتَي يديه، وظَلَّ هكذا لحظَاتٍ يَخشَى أن يَفتَحهما مُجدَّدًا فيرى هَذَا الحُلم وقد زَال وانقَضَى …

كان صوتُ مطارق الحدَّادين يطغى على أصوات العمالقة وهم يتحدَّث بعضهم إلى بعض. زالت عنه شكوكه. كان، برغم كل شيء، لا يزال يسمع أصواتَ العَمَالِقة من حوله ويشعُر بحركاتهم، كلُّ شيء من حوله كان حقيقيًّا وواقعيًّا بكُلِّ تأكيد، مِثلما أن وجود الشرِّ في هذا العالم حقيقيٌّ وواقعي. بَل ربما الأكثر واقعية أنَّ الأشياء العظيمة في طريقها إليهم بينما الأشياءُ الضَّئيلة والبَهِيمِيَّة والضَّعِيفة ستذهبُ أدراجَ الرياح. ثُمَّ فَتَح عينَيه. صَاحَ أحدُ الحَدَّادِين العَمَالِقة قائلًا: «انتهينا!» ثمَّ رَمى مِطرَقَته جَانِبًا.

أتى صَوتٌ من الأعلى. كان ابنُ كُوسَار الوَاقِف على الضِّفَّة الكَبيرة قد وَلَّى الآن وجهَه شَطرَهم وأخذ يُحَدِّثُهم جميعًا.

خَطَبَ فيهم قائلًا: «لا تظنُّوا أنَّنَا نُريد أن نستأصِل شأفة هؤلاء البَشَر الأقزام من هذا العَالَم لكي نَسُود فيه نحن ويَسُود نَوعُنا إلى الأبد؛ نحن الذين لا يفصلنا عَن ضآلتِهم سوى خطوةٍ واحدة. إننا نُحارب من أجل تِلك الخطوَة لا مِن أجل أنفُسِنَا. يا إخوتي! ما غَاية وجودِنا هنا؟ نحن هنا لنَخدم الرُّوح والغَايَة التي نُفِثَت في حَيَاتِنا. نحن لا نُقَاتِل من أجل أنفُسِنَا، فَمَا نحن إلا ضيوف على هذه الحَياة، وهكذا عَلَّمْتَنا أيُّها الأب ريدوود. فَمِن خِلالِنا ومن خِلال البَشَر الأقزام، تُشَاهِد الرُّوح وتَتَعَلَّم. فَبِكَلامِنَا وأفعَالِنا وبِنَسلِنا، ستَعبُر تِلك الرُّوح إلى حَيَواتٍ أعظَم وأعظَم. هذه الأرضُ ليسَت مَكانًا للرَّاحة ولا مَرتَعًا للَّعِب. رُبَّمَا وَضَعنَا حنَاجِرَنا تحت نِصَال سَكاكِين هؤلاء الأقزام؛ ظنًّا منَّا أننا لا نَملِكُ حَقَّ الحَيَاة أكثر مِنهم، ورُبَّما استَسلَموا هُم للنَّمل والحَشَرات. نحن لا نُحَارِب من أجل أنفسِنَا، بل من أجل النُّمو والتَّطور الذي سيَستَمر إلى الأبد. غدًا، سَواءٌ أحَيينا أم قُتِلنَا، سيغزو النُّمو العالم بأسره من خِلالِنا، وسينتصر. فهَذا هو القَانون الخَالِد للرُّوح، أن ننموَ وَفقًا لإرادة الله. أن ننمو خارجين من تلك الشُّقُوق والفَجَوات، ومن تِلك الظُّلُماتِ والظِّلال إلى النُّور والعَظَمة!» ثمَّ أكمَل في تمهُّلٍ وتَرَوٍّ: «لنَصِرْ أعظم وأعظم، يا إخوتي! لنكبر أكثر وأكثر حتَّى نَصِل في نهاية الأمر إلى مَعِيَّة الله وفَهم كَلِمته. لنكبر … حتَّى تَضِيق الأرض ولا تَسَع إلا مواطئ أقدامنا … حتَّى تُصيِّر الرُّوحُ الخَوفَ عدمًا وتَنتَشر.» ثمَّ رَفَع يَدَيه إلى السَّمَاءِ وقال: «هُناك!» انقَطَع صَوته. ودَار أحد الكَشَّافَات بضَوئه الأبيض حَولَه، ثمَّ سُلِّط عليه لِلَحظَة. كان يَقِفُ هُناك ضَخمَ الجَسَد ويَده مرفوعةٌ إلى السَّمَاء.

لِوَهلَةٍ، بَدَا مُتألقًا في درعِه وهو يَنظُر إلى السَّمَاء المُرَصَّعة بالنجوم من فَوقه بِبَسَالةٍ دون مِثقَال ذرةٍ من خَوفٍ؛ شَابًّا فَتِيًّا ذا حَزمٍ وثَبَات. ثمَّ ما لَبِثَ الضَّوءُ أن مَرَّ وتَرَكه مُجَرَّدَ هيكلٍ ضخمٍ لا تُرَى له مَلامِح قُبَالَة السَّمَاء اللامِعة؛ هيكل ضخم مُعتِم هَدَّدَ بإيماءةٍ واحدةٍ جَبَّارَةٍ قُبَّة السَّمَاءِ من فَوقه وما فيها من نجوم لا تُحصى عددًا.

(النِّهَاية)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤