الوادي الغامض

التفَّ الأصدقاء حول «محب»، وأخذوا يتأمَّلون قطعة القماش القديمة … كان من الواضح أنها خريطة بدائية رُسِمَتْ باليد … وبأصباغٍ طبيعيةٍ.

قالت «نوسة» بعد تفكيرٍ عميقٍ: أظنُّ أنها ليست مشكلة أن نفهم حقيقة هذه الخريطة.

محب: أعتقد أنها خريطة «وادي المساخيط» … هذا الوادي الغامض الذي دخلناه وخرجنا منه دون أن نعرف مكانه بالتحديد.

مدَّ «تختخ» يده وأخذ يتأمل الخريطة بإمعانٍ، ثم قلبها على الوجه الآخَر، ولاحظ وجود كتاباتٍ مطموسةٍ كُتبَتْ بخطٍّ عريضٍ … وقرَّب الخريطة من عينَيْهِ، وحاول أن يقرأ الكلمات المكتوبة … ولكنها كانت مطموسةً تمامًا، وبلغةٍ لا يعرفها.

وقال «تختخ»: شيءٌ مثيرٌ هذه الخريطة … من الواضح أن شخصًا ما في زمنٍ قديمٍ قد رسمها؛ ليحدِّد خط السير من نقطة ما في الصحراء إلى مكان قد يكون «وادي المساخيط»، فالرسم الأحمر لبعض هياكل التماثيل … وهي تشبه إلى حدٍّ ما التماثيل الحجرية التي رأيناها في الوادي الغامض.

لوزة: وهل يمكن أن تدلَّنا هذه الخريطة على مكان «وادي المساخيط»؟

ردَّ «عاطف» ضاحكًا: حتى ولو كانت … فهل عندك استعدادٌ للذهاب إلى هذا الوادي الرهيب؟!

لوزة: أنت و«نوسة» وأنا … لم نُشاهده … ويجب أن نُشاهده!

عاطف: أنا شخصيًّا متنازل عن هذا الشرف.

محب: إنني لن أنسى لحظات الخوف التي مررتُ بها في هذا المكان … لقد ظننتُ أحيانًا أنني لن أعود إلى العالم مرة أخرى.

ظل «تختخ» صامتًا يتأمَّل الخريطة ثم قال: أعتقد أن من الصعب جدًّا أن تُوصِلَنا إلى مكان الوادي … إن النقط الخضراء تدلُّ على مكان وجود زرعٍ أو واحةٍ، وهذا كل ما يمكن الخروج به من هذه الخريطة … فنحن لا نستطيع أن نعرف أين توجد هذه الواحات من الصحراء الغربية وهي أكبر صحراء في العالم.

نوسة: لعلنا لو عثرنا على أحد الأعراب الذين يعيشون في هذه الأنحاء نستطيع أن نعرف عن طريقه أماكن الواحات هذه، وبالتالي يمكن أن نصل إلى «وادي المساخيط»!

تختخ: فلنترك ذلك للمصادفة … فقد جئنا نتعرَّف على عالَمٍ جديدٍ، هو عالَم اكتشاف البترول، وهو عالَمٌ مثيرٌ … وسوف نعود بعد يومَينِ أو ثلاثة، ومن الصعب البحث عن «وادي المساخيط» في هذه الفترة القصيرة، بالإضافة إلى المخاطر التي قد تترتَّب على هذا البحث.

وانطلق الجميع إلى حيث كانت البرِّيمة تعمل … وقد أحاط بها المهندسون والعمال … وقد أخذَتِ البرِّيمة تغوص تدريجيًّا في أعماق الأرض … وبين فترةٍ وأخرى كانت تُضاف ماسورةٌ إلى البرِّيمة من أعلى؛ لتزيد من طولها وقدرتها على الغوص في أعماق الأرض.

استمروا فترةً يتفرَّجون … ثم اتفقوا أن يطوفوا بالمنطقة؛ ليتعرفوا عليها ثم يعودوا ساعة الغداء، ومشوا … لم يكن هناك حول البئر إلا سلسلةٌ من التلال الرملية، وعلى امتداد البصر … الصحراء الواسعة … دون أي دليلٍ على وجود منطقةٍ مأهولة بالسكان.

وقالت «لوزة»: إن الحياة في الصحراء حياةٌ موحشةٌ … ولستُ أدري كيف تحمَّلَ الناس الحياة في هذه الرمال!

ردَّ «تختخ»: بالطبع إن الحياة في الصحراء شاقةٌ وقاسيةٌ، ولكن الصحراء ليسَتْ كلها مثل هذه … فهناك الواحات … وأكثرُ وأهم من هذا أن أكبر مناطق البترول في العالم الآن موجودة في الصحاري … مثل: المملكة العربية السعودية … والكويت، وليبيا … وحول هذه الآبار تنشأ حياةٌ جديدة.

وكاد الأصدقاء يُغادرون مكانهم عندما أشارت «نوسة» إلى نقطةٍ سوداء تتحرك من بعيدٍ، قاصدة المعسكر … وقالت: يبدو أن هناك بعض الضيوف.

عاطف: ضيوف؟! ولكنَّ أحدًا لم يتصل بنا تليفونيًّا … كيف يأتي الضيوف بدون موعدٍ سابقٍ لنفرشَ الأرض رملًا؟

وضحك الأصدقاء … فلم يكن على الأرض سوى الرمال.

قالت «لوزة»: هل ننتظر حضور هؤلاء الضيوف … أقصد هل ينتظر رجال البترول ضيوفًا؟

محب: ربما … لعلهم بعض الأعراب الذين يعيشون في هذه الأنحاء قد جاءوا يبيعون شيئًا من إنتاجهم.

لوزة: إن هذا يُفيدنا في قراءة الخريطة … ألم نتفق على ذلك؟!

سكتَ الجميع لحظات … ثم قالت «نوسة»: كم من الوقت تُقدِّرون ليصلوا إلى هنا؟

نظر كلٌّ منهم إلى ساعته، وقال «عاطف»: نصف ساعة … إنهم على بُعد حوالي خمسة كيلومترات … إذا قلنا إنهم يقطعون الكيلومتر في ست دقائق.

نوسة: كيلومتر في ست دقائق؟ إنك تحلم … معنى هذا أنهم يسيرون بسرعة ١٠ كيلومترات في الساعة … مَن يستطيع أن يسير بهذه السرعة في الرمال؟!

عاطف: إنني أتصوَّر أنهم يركبون جملًا … وسفينة الصحراء كما يقولون تسير بهذه السرعة وأكثر.

محب: دعونا نتراهن.

نوسة: على أي شيءٍ؟! ليس هنا جيلاتي … ولا كوكاكولا!

تختخ: فلنقل إن مَن يستطيع حساب الوقت بدقةٍ … هو «ملك التوقيت»!

عاطف: هذا أحدث ملك في العالَم … لماذا لا نصنع له عرشًا؟

لوزة: المهم … إنني أعتقد أنهم سيصلون في ساعة.

عاطف: نصف ساعة.

محب: ٤٥ دقيقة.

نوسة: ٥٠ دقيقة.

وبقي «تختخ» ساكتًا، فقالت «لوزة»: وأنت يا «توفيق»؟

ردَّ «تختخ»: خمسة وخمسون دقيقة.

عاطف: ياه، وكم ثانية؟!

تختخ: وستون ثانية!

وضحك الأصدقاء، ثم قالت «نوسة»: على كل حالٍ … يجب أن نبحث عن مكان ظليلٍ … فلو وقفنا في الشمس أيَّ مدةٍ من هذه المدد لأُصِبْنا جميعًا بضربة شمسٍ.

ونظروا حولهم … كانت الشمس قد أصبحَتْ عموديةً تقريبًا … ولا ظِلَّ هناك مطلقًا، ولكن «زنجر» الذي كان يقف بعيدًا ومتضايقًا من هذا الحوار لوى عنقه ثم سار … وصاح به «تختخ»: إلى أين يا «زنجر»؟!

لم يرد «زنجر» بهز ذيله … أو بالنباح كما اعتاد أن يفعل، بل استمرَّ يسير وكأنه على موعدٍ هامٍّ … وقال «تختخ» مقترِحًا: تعالوا نسير خلف «زنجر» فمن الواضح أنه يقصد هدفًا ما.

وساروا جميعًا خلفه … ومشى «زنجر» بهدوءٍ، ودار حول أحد التلال ثم انحرف يسارًا واختفى … وأسرع الأصدقاء خلفه، وقد أدهشهم تصرُّفه، والشيء المدهش الذي حدث أنهم لم يجدوه … ووقفوا مذهولِينَ … أين ذهب «زنجر»؟!

وبالطبع فكَّرت «لوزة» أنه خُطِف … وأن عصابة «وادي المساخيط» قد عادت، وأنها ستدخل مغامرة في اللحظات التالية … ولكن ظن «لوزة» لم يتحقق، فقد سمعوا نباح «زنجر» يصدر من خلف تلٍّ صغيرٍ … فداروا مسرعِينَ حوله، واتجهوا إلى مصدر الصوت … المدهش أنهم بدلًا من أن يروا «زنجر»، وجدوا بئرًا قديمة قد أحاطَتْ بها بعض الأعشاب النامية … وبعض شجيرات الصبار!

كانت مفاجأةً مُفرِحة للجميع أن يشاهدوا اللون الأخضر في هذه الصحراء الصفراء الواسعة … ثم تقدَّموا فوجدوا «زنجر» قد قبع في فوهة البئر الجافة حيث كانت تبدو بعض الرمال رطبةً من تسرُّب مياهٍ خفيفٍ … ضحكوا جميعًا … وأسرعوا إلى ظل الصبَّار … حيث وجدوا بقعًا متناثرةً من الظلِّ … واختار كلٌّ منهم مكانًا وجلس فيه … وأحسُّوا براحةٍ كبيرةٍ في هذا الظل، وهذه الرطوبة بعد لفحة الشمس القاسية، والريح الساخنة … خاصةً وقد تمكنوا من مشاهدة القادم البعيد … لم يكن في البداية شيئًا واضحًا، ولكنه بعد عشر دقائق بدا واضحًا … إنها ناقةٌ تسير ببطءٍ، وإن عليها راكبًا … وإنها متجهةٌ إلى مكان بئر البترول … وقالت «نوسة» مبتسمةً: يبدو أننا جميعًا سنخسر الرهان … فالناقة تسير ببطءٍ شديدٍ.

لوزة: ولكن لماذا تسير بهذا البطء؟

محب: ربَّما عليها حمولة ثقيلة!

عاطف: أو مريضة … أو عطشى … أو جائعة.

وأخذوا يضعون أيديهم على أعينهم اتِّقاءً لوهج الشمس، وهم ينظرون إلى الناقة وهي تتقدَّم … وتتقدم … وفجأة صاح «محب»: إن عليها راكبَينِ وليس راكبًا واحدًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤