في الوقت المناسب

تردَّدَتْ صيحة «محب» في السكون … ولم يكن شيئًا مُهمًّا أن يكون القادم واحدًا أو اثنين … ولكن ربما كان بداية إحساسهم بالملل هو السبب في الاهتمام بالراكب القادم … وبأنهما اثنان وليسا واحدًا.

وأخذت الناقة تقترب، حتى أصبحت واضحةً تمامًا … ونظر «عاطف» إلى ساعته وقال: لا أحد يكسب!

لم يَعُد أحد من المغامرين مهتمًّا إذا كان سيكسب أو يخسر … فقد أصبح اهتمامهم مُنصَبًّا على القادمين … مَن هما؟! ولماذا أتيا إلى المعسكر؟ وما هي الأخبار التي يحملانها؟

وعندما أصبحَتِ الناقة على بُعد نحو مائة مترٍ من مكان الأصدقاء، خرجوا جميعًا من البئر الجافة ومن ظلال الصبَّار، واندفعوا إلى القادمِينَ.

كانت الناقة تقترب … وبدأت ملامح الرَّجُلَينِ تتَّضح … كان أحدهما أعرابيًّا طويل القامة، نافذ النظرات … وكان الآخَر رجلًا يغلب عليه الطابع الأوروبِّي … أصفر الشعر … طويلًا … وقد ربط ذراعه بقطعةٍ من القماش … مما يدلُّ على أنه مُصاب … ويحمل كاميرا مُعلَّقة في كتفه.

توقَّفت الناقة عندما جذب الأعرابي زمامها … وقال: هل فيكم مَن يتحدَّث الإنجليزية؟

ردَّ «تختخ»: نعم!

أشار الأعرابي إلى الرجل قائلًا: لقد عثرنا على هذا الرجل تائهًا في الصحراء، ولم نستطع التفاهم معه … فجئتُ به إلى بئر البترول لعل هنا مَن يستطيع الكلام معه.

تختخ: وأين وجدته؟

الأعرابي: وجدته هائمًا على وجهه في الصحراء … يكاد يموت جوعًا وعطشًا … وقد قُمنا بالإسعافات اللازمة له … ولكن المشكلة أننا لا نستطيع التفاهم معه.

تردَّد «تختخ» لحظات، ثم قال: تقدَّم.

وسار الأصدقاء وبجوارهم الناقة إلى حيث بئر البترول … وكان «تختخ» في إمكانه طبعًا أن يتفاهم مع الرجلَينِ … ولكن لا بدَّ من تقديمهما أولًا إلى المهندس «رضوان»، باعتباره المسئول عن المعسكر، فلا أحد يدري ما خلفهما!

ووصل الجميع إلى حيث كان العمل دائرًا في «البرِّيمة» … وكانت مفاجأةً للمهندس «رضوان» والمستر «كوكس» وبقية الرجال ظهور الناقة وعليها الأعرابي والرجل الأجنبي.

قال «تختخ» موجِّهًا حديثه إلى المهندس «رضوان»: لقد رأيناهما قادمَينِ … ويقول الأعرابي: إنهم عثروا عليه في الصحراء تائهًا … وإنه لا يعرف الحديث بالعربية.

أشار المهندس «رضوان» فنزل الأعرابي … وأناخ الناقة فهبط الرجل الأجنبي … وكان واضحًا عليها الإجهاد والتعب … ولم يَكَدْ ينزل من ظهر الناقة حتى سقط على الأرض، فأسرع إليه المهندس «رضوان» يسنده، ثم تقدَّم «كوكس» منه، وسنده أيضًا، ومضى به الرجلان إلى إحدى المقطورات وخلفهما مضى الأعرابي يمسك بزمام الناقة حتى وصلوا إلى المقطورة … وأسرع «تختخ» خلفهم قائلًا للأصدقاء: انتظروني عند البئر الجافة حتى أعرف قصة هذَينِ الرجلَينِ.

لوزة: لا تنسَ أننا نريد أن نعرض على الأعرابي الخريطة التي عثر عليها «محب».

تختخ: سأتذكر هذا!

مضى «تختخ» حتى وقف أمام باب المقطورة، ثم دقَّ الباب مستأذنًا … ودخل. كان الرجال الأربعة يجلسون … وقد أمسك كلٌّ من الأعرابي والأجنبي بزجاجةٍ من الماء، وانهمكا في الشرب بشراهةٍ.

وبعد أن انتهيا من الشرب، قال المهندس «رضوان» موجِّهًا حديثه إلى «الأعرابي»: ما هي حكاية العثور على هذا الرجل؟

ردَّ «الأعرابي»: إنني من قبيلة «بني علي» التي تسكن هذه الأنحاء … وأمس مساءً بينما كُنَّا في طريقنا إلى واحة «سيوة»، سمعنا استغاثةً من خلف أحد التلال … لم نفهم ماذا يقول المستغيث، ولكن كان من الواضح من صوته أنه في محنةٍ شديدةٍ، فأسرعنا إليه … ووجدنا هذا الرجل مُلقًى على الرمال، مُصابًا بجُرحٍ في ذراعه، وآخَرَ في رأسه … وهو يكاد يموت جوعًا وعطشًا … فحملناه معنا … وعبثًا حاولنا التفاهُم معه … ولكن بالإشارات فهمنا أنه تعرَّض لاعتداءٍ … وأنه يريد مَن يتحدَّث معه بالإنجليزية … ولما كانت المسافة بين المكان الذي عثرنا عليه فيه وواحة «سيوة» بعيدة … فقد وجدنا من الأفضل أن نحمله إليكم هنا … فلا بد أنَّ فيكم مَن يعرف الحديث باللغة الأجنبية التي يتحدَّث بها الرجل.

وصمت الأعرابي … فوجَّه المهندس «رضوان» حديثه إلى الرجل الأجنبي، وسأله بالإنجليزية: من أنت … وماذا حدث بالضبط؟

قال الأجنبي: إنني عالِمٌ ضمن بعثةٍ إنجليزية جاءت للبحث في الصحراء بين مصر وليبيا عن آثارٍ رومانيةٍ قديمةٍ.

وسكتَ لحظة ثم مضى يقول: وقد انتهينا من مسح الجانب الليبي من الصحراء ثم جئنا إلى الصحراء المصرية … وكنَّا نقترب من منطقة نعتقد أنها حافلةٌ بتماثيل مجهولةٍ من العصر الفرعوني … عندما هاجمتنا مجموعةٌ من الأعراب أسرَتْ زملائي، واستطعتُ الهرب.

كان «تختخ» يستمع بانتباهٍ شديدٍ … فلا بد أن هذه البعثة كانت تقصد «وادي المساخيط» … وأن التماثيل التي يتحدث عنها هذا العالِم … هي التماثيل الحجرية التي شاهدها.

قال «كوكس»: هل الذين هاجموكم مجموعةٌ مُكوَّنةٌ من نحو أربعين رجلًا … وهم ملثَّمون … ويقودهم رجل أزرق اللون؟!

صاح العالِم: نعم … بالضبط … بل إنهم جميعًا زُرْقُ اللون.

قال «كوكس»: لقد هاجمونا نحن أيضًا … ووقعنا في أسْرهم … ولكن استطاع أصدقاؤنا الصغار في البعثة تخليصنا في الوقت المناسب.

ونظر «كوكس» إلى «تختخ»، ونظر إليه العالِم الإنجليزي … فابتسم «تختخ» في تواضعٍ شديدٍ … وقال العالِم الإنجليزي: إنني أُحيِّيِكَ … هل أنت الذي قُمتَ بالمغامرة؟

ردَّ «تختخ»: لستُ وحدي … إن معي مجموعة من الزملاء وكلبًا مُخلِصًا!

العالِم: وهل تستطيعون معرفة المكان الذي كانوا يُقيمون فيه؟

تختخ: لا … ولكنه وادٍ يُسمَّى في الأساطير الشعبية «وادي المساخيط»، ويقع في مكان تُخفيه التلال الرملية والصخرية تمامًا … ومن الصعب رؤيته من الجو.

العالِم: هذه معلوماتٌ هامةٌ … فهل عندكم معلومات أخرى؟

فكَّر «تختخ» لحظات ثم قال: في أثناء عملية الاختطاف والهرب، عثر أحد زُملائي على قطعةٍ قديمةٍ من القماش … نظن أنها خريطةٌ بدائيةٌ ﻟ «وادي المساخيط».

بدا الاهتمام الشديد على وجه العالم وقال: هل في إمكاني أن أرى هذه الخريطة؟ إن ذلك سيكون حدثًا هامًّا … وإذا استطعنا الوصول إلى هذا الوادي فإن الدنيا كلها ستتحدث عن هذا الاكتشاف!

تختخ: هذا ممكنٌ بالطبع.

مدَّ العالِم الإنجليزي يده إلى «تختخ» مُصافحًا، وقال: إنني أُدعَى «ماكلاجلن» ويسرُّني أن نصبح أصدقاء!

ردَّ «تختخ»: وأنا أُدعَى «توفيق» وأصدقائي يُسمُّونني «تختخ»، ويُسعدني يا سيدي أن نصبح أصدقاء، وأن نحلَّ لغز «وادي المساخيط».

قال المهندس «رضوان»: سنتركك الآن لترتاح … وسنعود لك ساعة الغداء.

وقاموا جميعًا، وشكر «ماكلاجلن» الأعرابي الذي قال إنه سيبقى حتى المساء؛ ليتحركَ قُرب غروب الشمس.

خرج «كوكس» و«رضوان» و«تختخ»، وتركوا «ماكلاجلن» والأعرابي معًا … بعد أن طلب الأعرابي أن يُرسلوا له كوبًا من الشاي.

خرج «تختخ» إلى ضوء الشمس مرةً أخرى … كانت عشرات الخواطر تقفز في ذهنه … إن الصُّدف قد ساقَتْ إليهم عالِمًا من علماء الآثار … ودليلًا من الأعراب لكشف غموض «وادي المساخيط».

وأسرع «تختخ» إلى حيث كان الأصدقاء ينتظرونه عند البئر المهجورة … وكانت ريحٌ قويةٌ قد بدأت تهبُّ من الجانب الغربي … ريحٌ ساخنةٌ تشوي الوجوه، مصحوبةٌ بالرمال، ولكن «تختخ» لم يتوقَّف … فقد كان يريد أن ينقل الأخبار الجديدة إلى المغامرِينَ بسرعةٍ.

ووصل «تختخ» إلى مكان البئر، وقد تحوَّلَتِ الريح إلى شبه عاصفة، وأخذ يقاوم الريح التي كانت تدفعه إلى الخلف … وتجعل الرؤية متعذرةً.

وأخيرًا وصل إلى مكان البئر … ولم يستطع للوهلة الأولى أن يرى أحدًا … ولكنه سمع أصوات المغامرِينَ يتحدَّثون … ثم سمع همهمة «زنجر» … ودار حول التلِّ، ووصل إلى حيث يجلسون.

أسرع إلى ظلِ شجرةٍ من أشجار الصبَّار الصحراوي الضخم، والتفَّ حوله الأصدقاء متسائلِينَ عمَّا حدث … فروى لهم بإنجازٍ قصة الرجلَينِ … الأعرابي … والعالِم «ماكلاجلن» … وأنهى حديثه قائلًا: لقد ساقَتْ لنا الصُّدف أكثر مما كنَّا نحلُم به … فعندنا عالِمٌ متخصِّص في الآثار، ودليلٌ من أبناء الصحراء … وأعتقد أننا نستطيع الوصول إلى وادي «المساخيط ببساطةٍ».

صاحَتْ «لوزة» بابتهاجٍ: ياه … لقد أصبح عندنا لغزٌ لا مثيل له … وقد نُصبح مشهورِينَ مثل كبار البحَّاثِينَ والمستكشفِينَ والعلماء.

قال «تختخ»: نعم … إنها فرصةٌ ذهبيةٌ … وسننتهزها … هاتِ الخريطةَ يا «محب».

وضعَ «محب» يده في جيب القميص … وفتَّش لحظات … ثم في الجيب الآخَر، ثم بدا عليه الاضطراب، وهو يبحث في جيوب البنطلون … وانتقل انزعاجه إلى بقية المغامرِينَ … وقالت «نوسة»: ماذا حدث؟

ردَّ «محب» في حزنٍ: إنني لا أجد الخريطة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤