ماذا يريد «زنجر»؟

كانت هذه الجملة أشبه بصدمةٍ أصابَتِ المغامرِينَ … لقد كانوا منذ لحظاتٍ قليلةٍ يظنُّون أن «وادي المساخيط» قد أصبح عند أطراف أصابعهم … وفجأة أصبح أبعد من القمر.

وقال «تختخ» بصوتٍ حاول أن يجعله هادئًا: من فضلك يا «محب» ابحث في هدوءٍ.

أخذ «محب» يبحث مرةً أخرى … قلَّب جيوبه واحدًا واحدًا … ثم خلع قميصه كله … ولكن دون أن يظهر أثر للخريطة.

ووقف الجميع ساكتِينَ … وقد تبدَّدَتْ آمالهم … ولكن «لوزة» التي لا تهدأ قالت فجأة: هذا شيءٌ مضحكٌ … كيف نقف حيارى أمام هذا اللغز البسيط؟! تعالَوا نبحث متى شاهدناها آخِر مرة … وتحركات «محب» من مكانٍ إلى مكانٍ … من المؤكَّد أننا سنجدها في النهاية.

نوسة: أذكر أننا رأيناها منذ حوالي ثلاث ساعات عند باب المقطورة … وقد كانت بيد «محب» ثم أخذها منه «تختخ» ولا أدري إذا كان قد ردَّها إليه مرةً أخرى أم لا.

بدَتْ علامات التفكير على وجه «تختخ» و«محب» معًا … كان «تختخ» يُحاول أن يتذكَّر إذا كان قد ردَّها إلى «محب» … أم لا … وكان «محب» يحاول أن يتذكر إذا كان قد أخذها من «تختخ» أم لا.

وقطعَتْ «نوسة» الصمت قائلةً: أعتقد أن «تختخ» ردَّ الخريطة إلى «محب»، فهذه عادةٌ، أن يردَّ الشخص أيَّ شيءٍ إلى صاحبه، وذلك يتمُّ بحركةٍ لا إرادية.

عاطف: هذا درسٌ في علم النفس … فهل يساعدنا في البحث عن الخريطة؟

كان «تختخ» يفتِّش في جيوبه هو الآخَر … ولكن لم يكن هناك أثرٌ للخريطة فقالت «نوسة»: لقد انتقلنا بعد رؤية الخريطة إلى مكان «البرِّيمة» حيث وقفنا فترةً ثم جئنا إلى هذا المكان … ومعنى ذلك أننا تحركنا في مثلث من المقطورة إلى البرِّيمة، إلى هذه البئر المهجورة … فإذا تتبَّعنا أضلاع المثلث ربما وجدنا الخريطة.

وفكَّر «تختخ» أنه إذا كانت الخريطة قد سقطت منهم على الرمال … فإن العاصفة ستحملها بعيدًا أو تدفنها، ولن يرَوْها مرةً أخرى، ولكنه مع ذلك هبَّ واقفًا وهو يقول: هيا بنا، وغادروا الظلَّ إلى الشمس … والهدوء إلى العاصفة الرملية.

ومشوا في نفس الطريق الذي جاءوا منه … وهم جميعًا ينظرون حولهم هنا وهناك، وقد انعكسَتْ أشعة الشمس على الرمال الذهبية، فأصبحَتْ نارًا تلسع عيونهم ووجوههم، ولكنهم مضوا يبحثون … ويجرون إلى أي شيءٍ يبدو على الرمال مثل الخريطة … ولكنهم وصلوا إلى البرِّيمة دون أن يجدوا أي شيءٍ.

وقفوا يرقبون العمل … كانت البرِّيمة تغوص ببطءٍ في أعماق الصحراء … وقد وقف المهندس «رضوان» و«المستر كوكس» يُراقبان العمل … ويُصدران توجيهاتهما إلى العمل.

وفي هذه اللحظة ظهر العالِم الإنجليزي «ماكلاجلن» يمشي متجهًا إلى البرِّيمة وقد بدا أحسن حالًا … ولاحظَتْ «نوسة» أنه طويل القامة أكثر مما كان يبدو وهو على ظهر الناقة … نافذ النظرات … قوي الشخصية حتى دون أن يتحدث، فقالت: إنه عالِمٌ من طرازٍ جديد … فعادةً ما يكون العلماء ضِعافًا.

محب: لا تنسي أنه عالِم آثار … وهؤلاء عادةً يمشون كثيرًا، ويعملون في الطقس الحار والبارد … ويتحمَّلون مشقَّاتٍ كثيرةً … ولعل هذا سر قوامه الممشوق وقوته الظاهرة.

اقترب منهم «ماكلاجلن»، فقدَّمَه «تختخ» إلى الأصدقاء، وقدَّمهم إليه، فسلَّم عليهم بحرارةٍ، وهنَّأهم على ما سمعه من انتصارهم على عصابة الأعراب الزُّرق في وادي المساخيط … ثم وقف بجوارهم يتفرَّج على البرِّيمة وهي تعمل … ثم قال مبتسمًا: إن التنقيب عن البترول … يُشبه التنقيب عن الآثار … كثيرًا ما ينتهي بالفشل … وقليلًا ما ينتهي بالنجاح.

تختخ: ولكن الأبحاث الدقيقة عادة ما تؤدِّي إلى النجاح.

ماكلاجلن: ليس ضروريًّا … فمثلًا في البترول قد ينتهي البحث بالعثور على بترول بكمياتٍ قليلةٍ … أو العثور على بترول من نوع سيئٍ … وكذلك في الآثار … فقد ينتهي بالعثور على آثار لا قيمة لها … أو قيمتها محدودة.

وصمت قليلًا ثم أضاف: إن عدد الأبحاث الأثرية التي انتهَتْ بالعثور على آثار ذات قيمةٍ تاريخيةٍ وماديةٍ كبيرة محدود للغاية.

قال «تختخ»: أين الأعرابي؟

رد «ماكلاجلن»: إنه نائمٌ … فقد أمضى الليل بطوله ساهرًا!

تختخ: للأسف إن الخريطة التي كنا نُريد أن نعرضها عليك قد فُقِدَت!

بدا الاهتمام على وجه «ماكلاجلن» وقال: فُقِدَت؟! كيف؟

تختخ: كانت مع صديقي «محب» وكنا نتفرَّج عليها معًا، ثم حضرتَ أنت والأعرابي فشُغِلْنا بكما ونسينا مع مَن كانت … وعندما بحثنا عنها لم نجدها.

لوزة: بقي أن نبحث عنها في المقطورة.

نوسة: سنذهب أنا و«لوزة» للبحث!

عاطف: سآتي معكما.

محب: وأنا أيضًا.

وغادر الأربعة المكان، وأخذوا يسيرون في الطريق الذي قطعوه منذ ساعات بين المقطورة والبرِّيمة … كأنهم أربعة من طلاب الصيد تبحث عن فريسة … ولاحظ «تختخ» أن «زنجر» لم يَعُد معهم من البئر المهجورة … وأدهشَتْه هذه الملاحظة قليلًا، ولكنه التفت إلى «ماكلاجلن» وهو يُحدِّثه قائلًا: ألا ننضمُّ إليهم للبحث عن الخريطة؟ إنها مسألةٌ هامَّةٌ جدًّا … ويجب العثور عليها.

تختخ: إذا لم يجدوها … فلن نستطيعَ نحن أن نجدها … إنهم متمرِّنون جدًّا على البحث عن الأشياء الصغيرة … وقد مرُّوا بعشرات التجارب التي علَّمَتْهم مهنة البحث والتحرِّي.

ماكلاجلن: وهل فهمتم شيئًا من هذه الخريطة؟

تختخ: لا شيء يُذكَر … سوى أنها تُمثِّل طريقًا من مكان ما في الصحراء إلى «وادي المساخيط»، وأهم المعالم التي عليها مجموعة من النقاط الخضراء نُرجِّح أنها آبار مياه أو واحات … وخط متعرِّج يوضِّح الطريق … ثم رسمٌ بدائيٌّ لتماثيل «وادي المساخيط».

ماكلاجلن: أليس عليها كتابة؟

تختخ: نعم … ولكن لم يتسع لنا الوقت لفهم معناها … خاصة وهي كتابات قديمة متآكلة وغير واضحةٍ!

ماكلاجلن: إن هذا شيءٌ مثيرٌ للغاية.

وتلفَّت «ماكلاجلن» إلى حيث كان المغامرون الأربعة منتشِرِينَ في المساحة بين البرِّيمة والمقطورة … كان واضحًا أنه مهتمٌّ جدًّا بالخريطة … وأحسَّ «تختخ» بالضيق لأنهم فقدوها بهذه البساطة … ثم فكَّر في «زنجر» مرةً أخرى … أين هو؟!

وكان وقت الغداء قد حان … وتوقَّف العمال في البرِّيمة … ودقَّ جرس مرتفعٌ يدعو الجميع إلى الغداء … وانتظموا جميعًا داخل مقطورةٍ كبيرة أُعِدَّت خِصِّيصَى للطعام، وجلس «كوكس» و«رضوان» و«ماكلاجلن» معًا … والأصدقاء معًا … وبقية العاملين في البئر في صفٍّ طويل.

كان «تختخ» قريبًا من الرجال الثلاثة … وقال «كوكس» موجِّهًا حديثه إلى «ماكلاجلن»: لقد أخطرنا الجهات المسئولة عمَّا حدث للبعثة الأثرية والعثور عليك، وأعتقد أنهم سينظِّمون حملةً للبحث عن بقية زملائك.

قال «ماكلاجلن»: أشكركم كثيرًا … ولكن كم من الوقت يكفي لبدء البحث؟ ردَّ «رضوان» على هذا السؤال: لا أدري بالضبط … ولكنَّ المكان الذي هاجمَتْكُم فيه العصابة غير محدودٍ … وسيكون من الصعب البحث في كل هذه المساحة التي تمتدُّ من الحدود الليبية إلى واحة «سيوة» … وبفرض أنهم استطاعوا تدبير طائراتٍ لهذه المهمة فستكون العصابة قد ابتعدَتْ … ويكون من الصعب بعد هبوب هذه العاصفة العثور على آثار المعركة في الرمال.

ماكلاجلن: على كل حالٍ سأبقى معكم بعض الوقت … فإن الأصدقاء الصغار يبحثون عن خريطةٍ هامَّةٍ كانت معهم وفقدوها … وهذه الخريطة تهمني كثيرًا … والعثور عليها قد يؤدِّي إلى كشفٍ أثريٍّ هام.

رضوان: مرحبًا بك.

ماكلاجلن: للأسف إن أوراقي كلها ضاعت … كما ضاعت أدوات الحفر وغيرها من وسائل البحث … ولكني سوف ألجأ إلى السفارة الإنجليزية في القاهرة للحصول على جواز سفرٍ جديد والعودة إلى لندن.

وانتهى «تختخ» من تناول غدائه سريعًا … فقد تذكَّر شيئًا بسيطًا، ولكن ربما كانت له دلالة … تذكر «زنجر» عندما قادهم إلى البئر الجافة … لقد كان يسير أمامهم بمسافةٍ بعيدة … ثم دار حول التلِّ واختفى … ولم ينبح ليدلَّهم على مكانه إلَّا بعد فترة من الوقت.

إن سلوك «زنجر» كان غريبًا بعض الشيء … فهل يُخفي «زنجر» شيئًا؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي العثور على «زنجر» ولا بد أنه شمَّ رائحة الطعام … ولا بد أنه يدور حول المقطورة.

وخرج «تختخ» وصدق استنتاجه، وكان «زنجر» يجلس بجوار المقطورة في الظل وقد وضع له الطبَّاخ بعض الطعام وانهمك في الأكل.

وقف «تختخ» يرقب «زنجر» وهو يتناول طعامه دون أن يُحدِّثه … حتى إذا انتهى الكلب الأسود من الطعام قال له «تختخ»: إنك تصرفتَ تصرفاتٍ مريبةً يا «زنجر» منذ ساعات … ما هي حكاية البئر؟

لم يرد «زنجر» … ولكنه لعق كميةً كبيرةً من المياه، ثم مضى يسير في اتجاه البئر الجافة … ومشى «تختخ» خلفه، وقد أحسَّ أن «زنجر» يُخفي شيئًا عنه … ربما على سبيل المزاح … وربما لأسباب لا يعرفها … المهم أنه مضى خلفه، وقد أحسَّ أن مفاجأةً في انتظاره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤