احتمالات الأيام القادمة

وصل الكلب الأسود الذكي إلى البئر الجافة … واختار مكانًا ظليلًا وتمدَّد فيه، وأخذ ينظر إلى صاحبه وهو يُغمض عينَيهِ ويفتحهما كأنه يريد أن يُخفي شيئًا … وعاد «تختخ» يقول: ماذا حدث لك يا «زنجر»؟

واقترب منه وأخذ يفحص الأرض حوله … كان واضحًا أن ثمة حفرة قد حُفِرَت بسرعة في المكان الذي ينام فيه «زنجر» … وربما كان السبب أنه يبحث عن رمالٍ باردة تحت الرمال الساخنة التي على السطح … وربما لسبب آخَر … ولمعَتْ في ذهن «تختخ» فكرة، فصاح: «زنجر» قُم من مكانك!

لم يتحرك «زنجر» … فعاد «تختخ» يقول: تعالَ هنا!

وفي هذه المرة تحرَّك «زنجر» … وتقدَّم «تختخ» من المكان الذي كان ينام فيه، وأخذ يدقِّق النظر … ثم مدَّ يده، وأزاح الرمال … وعلى عمق سنتيمترات قليلة كانت قطعة القماش القديمة التي يبحثون عنها!

أخرج «تختخ» الخريطة … ونظَّفها من الرمال العالقة بها، وقال ﻟ «زنجر»: لماذا فعلت هذا؟

لم يرد «زنجر» … ولكنه أخذ يُطلق نباحًا خافتًا حزينًا … وأحسَّ «تختخ» أن كلبه يريد أن ينقل له رسالة ما … ولكنه لم يهتم … كان سعيدًا لأنه وجد الخريطة، وهذا يعني أن حدثًا مثيرًا سوف يقع الآن … هو العثورُ على «وادي المساخيط»، وفكُّ طلاسمه … بل من الممكن عن طريق الخريطة الوصول إلى مكان عصابة الرجل الأزرق، والقبض عليهم جميعًا.

وعاد «تختخ» مُسرعًا إلى المعسكر … ولاحظ بدهشةٍ أن «زنجر» بقي مكانه في الظل … ولكنه — مرةً أخرى — لم يهتم.

عندما وصل إلى المعسكر وجد المغامرِينَ الأربعة يقطعون المسافة بين البئر والمقطورة باحثِينَ مدقِّقِينَ في الأرض برغم الشمس الحامية … والريح … وكان العمال يقومون بعملهم، ولم يكن هناك أثرٌ للمهندس «رضوان» ولا «كوكس» ولا «ماكلاجلن» … وتقدم «تختخ» إليهم قائلًا: ألم تعثروا على الخريطة بعد؟

عاطف: لقد عثرنا عليها ولكننا الآن نبحث عن البترول.

وضحك «تختخ» وقال: إنكم تتَّبعون وسائل قديمة في البحث … لقد عثرتُ عليها بمجرد الاستنتاج.

وأسرع الأربعة إلى «تختخ» الذي روى لهم ما حدث مع «زنجر»، فانهالت الأسئلة والتعليقات من كل جانبٍ … لماذا فعل «زنجر» هذا؟ هل يريد أن يُقدِّم لنا لغزًا من إنتاجه؟ لا بد من معاقبة هذا الكلب على ما فعل.

وأشار «تختخ» بيده وقال: لا بد أن عند «زنجر» سببًا ليفعل ما فعل، دعونا منه الآن … المهم أين «ماكلاجلن»؟

نوسة: لقد قال إنه سيدخل المقطورة ليرتاح … وإذا عثرنا على الخريطة فلنبلغه فورًا.

نظر «تختخ» إلى ساعته … كانت الثالثة تقريبًا، فقال: دعوه يرتاح أطول وقتٍ ممكن، فقد لاقى متاعب قاسيةً … وتعالوا نجتمع في المقطورة … نناقش هذه الخريطة … وما سنفعله بها.

لوزة: ماذا سنفعل إلا أن نُسلمها ﻟ «ماكلاجلن» … ثم نصحبه إلى «وادي المساخيط»!

تختخ: إن «ماكلاجلن» برغم هذه الخريطة، قد لا يستطيع الوصول إلى الوادي … إننا في حاجةٍ لمعونة الأعرابي … ثم هناك الخوف من ألَّا يسمح لنا خالي «رضوان» أن نذهب إلى الوادي مرة أخرى.

لوزة: إنني لا بدَّ أن أذهب … لقد رأيته أنت و«محب» فقط، ومن حقِّنا أنا و«عاطف» و«نوسة» أن نذهب لنراه!

تختخ: إنني غير معترضٍ يا «لوزة»، المهم موافقة خالي المهندس «رضوان» فهو قائد هذا المكان … ومن واجبه أن يحافظ على كل من فيه … خاصةً نحن؛ لأنه هو الذي أحضرنا إلى هذا المكان.

دخلوا المقطورة وجلسوا، ووضعوا الخريطة أمامهم … ومرةً أخرى أخذ كلٌّ منهم ينظر إلى الكتابة التي على ظهر الخريطة … وتأكَّدوا هذه المرة أنها مكتوبةٌ بلغةٍ غريبةٍ عنهم، أكثر من هذا، وأن مَن كتبها قصد أن يترك بينها فجواتٍ … بحيث لا يستطيع قراءتها إلا مَن يفهم سرها.

قال «تختخ»: إذا استطاع «ماكلاجلن» قراءة هذه اللغة … فسيتمكَّن فعلًا من فحص الآثار التي ﺑ «وادي المساخيط» … كذلك إذا استطاع الأعرابي أن يدلَّنا على مكانها بما له من خبرةٍ بدروب الصحراء.

محب: دعونا نرى أولًا ماذا سيقول «ماكلاجلن» والأعرابي.

تختخ: بعد ساعةٍ بالضبط سوف نذهب إليهما …

وفي هذه الساعة … وقبل أن يُتمَّ «تختخ» جملته، ظهر «زنجر» عند باب المقطورة … والتفتَ إليه الأصدقاء جميعًا، وقالت «لوزة»: تعالَ أيها الثعلب اللئيم … ماذا فعلْتَ بنا؟

أحنى «زنجر» رأسه … ثم قفز السلالم الخشبية ودخل المقطورة، ولدهشة الأصدقاء اقترب من الخريطة، وأخذ يتشمَّمها بشدة … ثم يلوي عنقه وينظر إلى الخارج … ويتجه إلى الباب ثم يعود.

تختخ: ماذا جرى يا «زنجر»؟ إنك لم تتصرف هكذا من قبل أبدًا؟!

اقتربت «لوزة» من الكلب الأسود الذكي، وأخذت تربت على رأسه، ثم قالت: إنه يرتعد … وأعتقد أنه حائرٌ … أو خائف من شيءٍ ما.

نوسة: كيف تُسبِّب له هذه القطعة من القماش هذا الذي تقولينه يا «لوزة»؟ لماذا يخاف؟ ولماذا يُصاب بالحيرة؟!

لوزة: لا أدري … ولكن هذا بالضبط ما أحسَسْتُه من تصرُّفاته ومن ارتعاد جسده.

مضى الأصدقاء في حديثهم حول الخريطة … لم تكن هناك استنتاجات غير ما قاله «تختخ»، ولم يَعُد أمامهم إلا الانتظار حتى يراها العالِم الإنجليزي «ماكلاجلن» … وبعد مرور ساعة بالضبط، اتَّجه الجميع إلى المقطورة التي ينزل بها «ماكلاجلن» والأعرابي، كان «تختخ» معه الخريطة، فسار في المقدمة … وقرَّر ألا يوقظ الرجل إذا كان لا يزال نائمًا … ولحسن الحظ عندما اقترب من المقطورة سمع حديثًا … وعرف أن الرجلَينِ قد استيقظا … فدقَّ على باب المقطورة … وسمع صوت الأعرابي يسأل: من؟

قال «تختخ»: أنا «توفيق».

وفتح الباب … وكان الأعرابي يقف خلفه، فلما شاهد «تختخ» وبيده الخريطة … صاح: لقد وجدوها؟!

وسمع «تختخ» صوت أقدام العالِم وهو يجري داخل المقطورة … وأطلَّ وجهه المبتهج وهو يقول: هل وجدتموها حقًّا؟

تختخ: نعم … لقد قام كلبنا الذكي بلعبةٍ مضحكةٍ معنا، ولا ندري لماذا قام بإخفاء الخريطة تحت الرمال.

أفسح «ماكلاجلن» الطريق ﻟ «تختخ» … فدخل وخلفه الأصدقاء، وجلسوا جميعًا يرقبون «ماكلاجلن» وهو يتأمَّل الخريطة … ثم دفع بها إلى الأعرابي موجِّهًا حديثه إلى «تختخ»: قل له هل من الممكن أن يتعرَّف على المكان؟

جلس «تختخ» بجوار الأعرابي، ومدَّ يده له بالخريطة، وقال له، هل تستطيع أن تعرف طريقك إلى هذا المكان!

وأشار «تختخ» إلى رسم التماثيل المشوَّه الموجود في نهاية الخريطة، فأخذ الأعرابي يتأمله لحظات ثم قال وهو يُشير بأصابعه إلى أماكن الآبار: هذه العلامات تدلُّ على آبارٍ جافةٍ، وبعضها يدلُّ على وجود بعض النباتات الصحراوية … وهذا الطريق يأتي من نهاية الصحراء الجزائرية مارًّا بالصحراء الليبية حتى الوصول إلى الصحراء المصرية، حيث يقع «وادي المساخيط».

تختخ: هل سمعتَ عن «وادي المساخيط» من قبل؟

الأعرابي: بالطبع أسمعُ عنه … تُثار حوله أساطير كثيرةٌ … ولكن هذه أول مرة أرى فيها رسمًا له.

تختخ: وهل نحن على مسافةٍ بعيدةٍ منه؟

فكَّر الأعرابي لحظات ثم قال: نعم … إنها لا تقلُّ عن مسيرة يومٍ كامل بالناقة؛ لأننا سنتجه جنوبًا حتى الحدود المصرية الليبية، ثم ننحرف يسارًا لنتبع الآبار حتى الوصول إلى الوادي.

قام «تختخ» بترجمة حديث الأعرابي إلى «ماكلاجلن» الذي قال مبتهجًا: عظيم، إننا نستطيع أن نبدأ غدًا.

تدخَّلت «لوزة» في الحديث قائلةً: نريد أن نذهب معك.

قال «ماكلاجلن» ضاحكًا: أنت يا صغيرتي؟! إن الرحلة ستكون شاقةً جدًّا عليكِ، يكفي واحدٌ منكم … أو فلتبقوا جميعًا، وسأذهب أنا مع «مولود»!

قال «تختخ»: إننا مُصرُّون على الذهاب … فنحن الذين وجدنا الخريطة … وسنحتفظ بها حتى نعثر على «وادي المساخيط» … المشكلة أن يوافق خالي على الرحلة!

ماكلاجلن: المشكلة الثانية أن نوفر ما يكفي من النياق لتحملكم جميعًا … ليس معنا هنا سوى ناقةٍ واحدةٍ، هي ناقة «مولود»، وهي لا تستطيع أن تحمل أكثر من شخصَينِ.

تختخ: سأحاول التفاهم مع خالي المهندس «رضوان» … ومن الممكن أن يذهب «مولود» ويُحضر لنا عددًا من النياق من قبيلته العربية.

وتحوَّل «تختخ» محدثًا «مولود» وسأله: هل يمكنك توفير عدد من النياق للرحلة إلى «وادي المساخيط»؟! إننا نريد أن نذهب معكما.

هزَّ «مولود» رأسه … ولم يرد … ثم قال بعد لحظاتٍ: سأحاول … وبعد ساعة ستكون الشمس قد مالت للمغيب … ويمكنني أن أخرج وأعود لكم في الفجر بالنياق المطلوبة.

تختخ: يبقى أن نحصل على موافقة خالي «رضوان»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤