قطعة من القماش الأزرق

وقف «زنجر» يلهث لحظات … وأسرع إليه «تختخ» وأخذ يربت عليه قائلًا: ماذا جرى يا «زنجر»؟ إنك تتصرف هذه الأيام بطريقةٍ غريبةٍ … أين كنت الآن؟!

أخذ «زنجر» يرتعد، وهو يتمسَّح في «تختخ»، وكان واضحًا أن الكلب قد مرَّ بمغامرةٍ عنيفة لا يستطيع الإفصاح عنها … ولم يكن في إمكان «تختخ» أن يفهم شيئًا من تصرُّفاته هذه المرة … فهو يتصرَّف مستقلًّا عن المغامرِينَ الخمسة، وكأنه قد عثر على لغزٍ يريد أن يحلَّه وحده.

قال «تختخ»: سننام الآن يا «زنجر» فسوف نرحل في الفجر.

وفهم الكلب الذكي وهو يرى «تختخ» يُغير ثيابه … و«محب» يضع بعض الضمادات الباردة على رأسه، أنه غير مرغوبٍ فيه … فغادر المقطورة، وقال «محب»: ماذا حدث ﻟ «زنجر»؟ هذه أول مرة أراك لا تفهمه!

تختخ: لا أدري في الحقيقة ما حدث … لقد أخفى الخريطة أولًا … ثم اختفى ثانيًا دون أن نعرف مكانه … وها هو ذا يعود مُرهَقًا كأنه اشترك في مغامرةٍ مثيرةٍ … ولو كنا في مكانٍ آهِلٍ بالسكان لاستطعنا أن نعرف شيئًا … ولكن في هذه الصحراء الواسعة ليس علينا إلا أن ننتظر.

محب: هل أنفِّذ ما اتفقنا عليه؟

تختخ: بالطبع … بل إنني بعد تصرُّفات «زنجر» أعتقد أن خطتنا هي الخطة الوحيدة الممكنة في هذه الظروف.

ونام الصديقان … وفي الظلام تقدَّم شبح الليل الغامض، ولكن «زنجر» هذه المرة كان موجودًا … فلم يكد يحسُّ بأقدامه تقترب من المقطورة حتى زام مهدِّدًا … وابتعد الشبح.

في الفجر استيقظ الجميع … كان «مولود» قد عاد ومعه ثمانٍ من النياق القوية … ولبس الجميع ثيابهم عدا «محب»، فقد أثَّرت عليه الضربة التي تلقَّاها ليلًا … ولم يكن مستعدًّا للرحيل … وكان ذلك خبرًا سيئًا بالنسبة للمغامرين … وزاد الأمر سوءًا أن «تختخ» طلب من «زنجر» أن يبقى مع «محب» قائلًا: لقد أصبح «زنجر» يتصرَّف تصرُّفاتٍ غير مفهومة، وأخشى أن يعطِّلنا عن أداء مهمتنا.

وتحركت القافلة … «مولود» في المقدمة، وبجواره «ماكلاجلن» … ثم «كوكس» وبجواره «نوسة» … ثم «تختخ» وبجواره «لوزة» و«عاطف».

كان الجو جميلًا في الفجر … ومضَتِ القافلة في طريقها … يقودها «مولود» بعد أن أخذ الخريطة معه … وظل السير سريعًا حتى ارتفعَتِ الشمس في الأفق، وبدأت «لوزة» تحسُّ بآلامٍ في عظامها … إنها لم تركب ناقةً من قبلُ … وركوب النياق ليس مسألةً سهلة … فهي تحتاج إلى مرانٍ طويٍل حتى يعتادها الجسم، ولم تكن «لوزة» وحدها هي التي شعرَتْ بهذا التعب … لقد بدا الإرهاق على الجميع عدا «مولود» و«ماكلاجلن».

وأخذت «لوزة» تفكِّر في هذه المغامرة المرهقة … وتتمنَّى لو كانت في هذه اللحظة في منزلهم بالمعادي … تأخذ حمَّامًا باردًا … وتأوي إلى فراشها بعد أن تشرب كوبًا من عصير الليمون.

ولكن هذه الخواطر كانت مجرد أحلامٍ … فلم يكن هناك سوى الشمس الحارقة والرمال الساخنة تمتدُّ إلى ما لا نهاية … وحركات الناقة إلى الأمام والخلف … الأمام والخلف … الأمام والخلف … وعظامها تؤلمها … وتسأل نفسها متى ينتهي هذا العذاب؟!

وصاحَتْ تسأل «تختخ»: متى نصل إلى الوادي؟

ردَّ «تختخ»: لا أدري … ولكني أتمنَّى الآن لو كنتُ في المعادي.

وأكملت «لوزة» الجملة: تشرب كوبًا من عصير الليمون … وتأوي إلى فراشك.

تختخ: تمامًا، تمامًا!

ابتسمَتْ «لوزة» رغم إرهاقها … وازدادَتِ ابتسامتها اتساعًا عندما رأَتْ ذراع «مولود» ترتفع إلى فوق … وفهمَتْ أنه يطلب منهم التوقُّف.

كانوا بجوار جبلٍ مرتفع من الرمال … قد ألقى ظلًّا رفيعًا مستطيلًا … وأدركَتْ أنهم توقفوا للغداء … ولم تكن بها أية رغبةٍ في تناول الطعام … كان كل ما تتمناه كوبًا من الماء … بل عشر أكواب من الماء.

ولم تستطع في البداية أن تُنيخ الناقة … ولكن الناقة أدركَتْ بتجاربها الطويلة أن عليها أن تنيخ … فهبطَتْ بساقَيْها الأماميتَينِ … وكادت «لوزة» تسقط على وجهها، ولكن الناقة نزلت بساقيها الخلفيتَينِ … ووجدت «لوزة» نفسها لا تكاد تستطيع النزول … فلما تمكَّنَتْ في النهاية أن تميل إلى الجانب الأيمن … ألقَتْ بنفسها على الرمال.

اجتمعَتِ القافلة الصغيرة … وحمل «مولود» قربة من الماء، وكوبًا من الجلد السميك، ومرَّ بهم جميعًا يسقيهم، ولاحظَتْ «لوزة» لدهشتها الشديدة أن «مولود» لم يتوقف عند «ماكلاجلن» ليسقيه … بل مرَّ به سريعًا وتجاهله واتجه إلى «كوكس» … وقالت «لوزة» في نفسها: لا بد أن عند «ماكلاجلن» قربة خاصة به!

وبعد أن تناولت جرعة الماء القليلة التي أعطاها لها «مولود» أحسَّت ببعض الراحة، ثم جلسَتْ في الظل الخفيف تفكِّر … وكان «تختخ» يجلس بجوارها ساكتًا … ثم قال لها فجأة: أليس طعم الماء متغيِّرًا قليلًا؟!

ردَّت «لوزة» التي تذكَّرَتْ نفس الشيء: أظن أنه طعم القربة والكوب الجلدي! سرح «تختخ» لحظات ولم يرد … وعاد «مولود» يوزِّع عليهم بعض الخبز الجاف وحبات الزيتون الأسود قائلًا: في المساء … ستتناولون وجبةً ساخنة وسوف تكونون ضيوف القبيلة!

سألت «لوزة»: كم من الوقت سنمضي هنا؟

ردَّ «مولود»: ثلاث ساعات … حتى تبدأ الشمس تبرد!

أحسَّت «لوزة» بالضيق … كيف يمكن قضاء ثلاث ساعات في هذا الفرن؟! فالظل الخفيف الذي كانوا يجلسون فيه، لم يكن يمنع عنهم حرَّ الصحراء اللافح … وأخذت تنظر إلى «تختخ» … وهو ينظر لها … ولاحظت شيئًا غريبًا … لقد أخرج «تختخ» من جيبه قطعة من القماش الأزرق … تذكَّرَتْ أنها من قميص له بنفس اللون … وأخذت ترقبه وهو يدفن القطعة في الرمال لا يترك منها أثرًا ظاهرًا سوى طرف في حجم الكف …

وكادت تسأله عمَّا يفعل … ولكنه أشار إليها أن تسكت، ثم أشار إليها أن تنتقل من مكانها إلى يساره.

دُهشت «لوزة» لما يفعل «تختخ»، ولكنها امتثلت لأوامره … فقد كانت تشعر أنها مسلوبة الإرادة تمامًا … وأن ستارًا كثيفًا من السواد يهبط على ذهنها … وعندما وقفَتْ شعرَتْ أنها ستفقد توازنها … وأنها أصبحت ترى كل شيءٍ مزدوجًا.

اقتربت من «تختخ» مترنِّحةً … وقالت بصوتٍ واهن: «توفيق» … لقد أُصِبتُ — فيما أظن — بضربة شمس!

سمعَتْ «تختخ» يردُّ عليها، ولكنها لم تسمع ما قال … فقد أحسَّتْ أنها تهبط في بئر عميقةٍ … عميقةٍ … وأنها لم تعد تسمع شيئًا إلا ما يشبه هدير الأمواج البعيد.

ظل «تختخ» يقاوم نفس الإحساس التي شعرت به «لوزة» … ولكن مقاومته لم تستمر طويلًا … لقد استسلم هو أيضًا إلى غيبوبةٍ كثيفةٍ … وكان يفكر وهو يفقد وعيه تدريجيًّا … إنه توقَّع شيئًا ما يحدث … ولكنه لم يتوقع أن يحدث بهذه السرعة.

•••

عندما استيقظت «لوزة» كان الظلام يلفُّ المكان الذي تنام فيه … ظلامٌ كاملٌ ليس فيه بارقة ضوء … كانت تستيقظ تدريجيًّا كأنها قادمةٌ من مكانٍ بعيدٍ … بعيد، وأخذَتْ تتذكَّر ما حدث، الرحلة في الفجر … راحة الظهيرة … كوب الماء المتغير المذاق … حديثها مع «تختخ»، وعندما تذكَّرَتْ «تختخ» … عاد الاطمئنان إلى نفسها تدريجيًّا … إنها ليست وحيدةً … وقالت: «تختخ»!

وسمعت على الفور صوت «تختخ» يردُّ: «لوزة»!

لوزة: ماذا جرى؟

تختخ: لقد دسَّا لنا مُخدِّرًا في المياه التي شربناها!

لوزة: مَن هما؟

تختخ: «ماكلاجلن» و«مولود»!

ذُهِلَت «لوزة» وقالت: «ماكلاجلن» العالم الإنجليزي؟!

تختخ: أظن أنه ليس عالمًا … أو هو عالِمٌ انحرف عن رسالة العلم لأسباب لا أعرفها.

لوزة: وأين نحن الآن؟

تختخ: على الأغلب في «وادي المساخيط»!

لوزة: «وادي المساخيط»؟!

تختخ: نعم … إنه المكان الوحيد في هذه الأنحاء التي تُوجد به مثل هذه الكهوف.

لوزة: وأين «نوسة»؟

تختخ: لا أدري … ولكنها بالتأكيد في مكانٍ قريبٍ.

وسمعا في هذه اللحظة صوت خطوات ترنُّ في الصمت … كان واضحًا أنهما في كهفٍ حقًّا … فقد كانت الأرض صلبةً … وكان لصوت الأقدام صدى مرعب … ثم بدا ضوءٌ بعيدٌ يقترب … ومرَّت لحظات … وصدى صوت الأقدام يزداد اقترابًا ثم ظهرَتْ شعلةٌ من النار في طرف عصا … وعلى الضوء الناري ظهر وجه «مولود» كأنه شيطانٌ … وكان مفتوح الفم في ابتسامةٍ أشبه بتكشيرة أسدٍ جائع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤