ذِكر مقاييس النيل وزيادته في عهد العرب

قال ابن عبد الحكم: أول مَن قاس النيل بمصر يوسف عليه السلام، ووضع مقياسًا بمنف، ثم وضعت العجوز دلوكة ابنة زبَّا، وهي صاحبة حائط العجوز، مقياسًا بأنصنا، وهو صغير الذرع ومقياسًا بإخميم، ووضع عبد العزيز بن مروان مقياسًا بحلوان وهو صغير، ووضع أسامة بن زيد التنوخي في خلافة الوليد مقياسًا بالجزيرة وهو أكبرها، قال يحيى بن بكير: أدركت القيَّاس يقيس في مقياس منف، ويدخل بزيادته إلى الفسطاط.

وقال القضاعيُّ: كان أول من قاس النيل بمصر يوسف عۤليه السلام، وبنى مقياسًا بمنف، وهو أول مقياس صنعه عۤليه السلام. وقيل: إن النيل كان يقاس بأرض علوة إلى أن بُني مقياس منف، وإن القبط كانت تقيس عليه إلى أن بطل، ومن بعده دلوكة العجوز بَنَتْ مقياسًا بأنصنا وهو صغير الذراع، ومقياسًا آخر بإخميم وهي التي بَنتِ الحائط المحيط بمصر، وقيل: إنهم كانوا يقيسون الماء قبل أن يوضع المقياس بالرصاصة، فلم يزل المقياس فيما مضى قبل الفتح بقيساريَّة الأكسية ومعالمه هناك، إلى أن ابتنى المسلمون بين الحصن والبحر أبنيتهم الباقية الآن، وكان للروم أيضًا مقياس بالقصر خلف الباب يمنة في مدخله في داخل الزقاق، أثره قائم إلى اليوم، وقد بُني عليه وحوله، ثم بنى عمرو بن العاص عند فتحه مصر مقياسًا بأسوان، ثم بنى بموضع يقال له: دندرة، ثم بُني في أيام معاوية مقياس بأنصنا، فلم يزل يُقاس عليه إلى أن بنى عبد العزيز بن مروان مقياسًا بحلوان وكانت منزله، وكان هذا المقياس صغير الذراع، فأما المقياس القديم الذي بني في الجزيرة فالذي وضعه أسامة بن زيد، وقيل: إنه كسر فيه ألفي أوقية، وهو الذي بنى بيت المال بمصر، ثم كتب أسامة بن زيد التنوخيُّ عامل خراج مصر لسليمان بن عبد الملك ببطلانه، فكتب إليه سليمان بأن يبني مقياسًا في الجزيرة فبناه في سنة سبع وتسعين، ثم بنى المتوكل فيها مقياسًا في أول سنة سبع وأربعين ومائتين في ولاية يزيد بن عبد الله التركي على مصر، وهو المقياس الكبير المعروف بالجديد، وأمر بأن يُعزل النصارى عن قياسه، فجعل يزيد بن عبد الله على المقياس أبا الردَّاد المعلم، واسمه عبد الله بن عبد السلام بن عبد الله بن الردَّاد المؤذِّن، كان يقول العمي: أصله من البصرة، قدم مصر وحدَّث بها، وجُعل على قياس النيل، وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب خراج مصر يومئذٍ دنانير في كل شهر، فلم يزل القياس من ذلك الوقت في يد أبي الردَّاد وولده إلى اليوم، وتُوفِّي أبو الردَّاد سنة ست وستين ومائتين، ثم ركب أحمد بن طولون سنة تسع وخمسين ومائتين، ومعه أبو أيوب صاحب خراجه وبكار بن قتيبة القاضي، فنظر إلى المقياس، وأمر بإصلاحه وقدر له ألف دينار، فعمَّر وبنى الخازن في الصناعة مقياسًا وأثره باقٍ لا يُعتمد عليه.

وقال يزيد بن أبي حبيب: إن موسى عۤليه السلام دعا على آل فرعون، فحبس الله عنهم النيل حتى أرادوا الجلاء، فطلبوا إلى موسى أن يدعو الله، فدعا الله رجاء أن يؤمنوا، وذلك في ليلة الصليب، فأصبحوا وقد أجراه الله في تلك الساعة ست عشرة ذراعًا، فاستجاب الله لعمر بن الخطاب كما استجاب لنبيِّه موسى عۤليه السلام.

قال القضاعيُّ: ووجدت في رسالةٍ منسوبة إلى الحسن بن محمد بن عبد المنعم، قال: لما فتحت العربُ مصرَ عرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يلقى أهلها من الغلاء عند وقوف النيل عن حده، في مقياس لهم، فضلًا عن تقاصره، وأن فرض الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار، ويدعو الاحتكار إلى تصاعد الأسعار لغير قحط، فكتب عمر إلى عمرو يسأله عن شرح الحال، فأجابه: إني وجدت ما تروَى به مصر حتى لا يقحط أهلها أربع عشرة ذراعًا، والحد الذي يروَى منه سائرها حتى يفضل عن حاجتهم، ويبقى عندهم قوت سنة أخرى، ست عشرة ذراعًا، والنهايتان المخوفتان في الزيادة والنقصان، وهما الظمأ والاستبحار اثنتا عشرة ذراعًا في النقصان، وثماني عشرة ذراعًا في الزيادة، هذا؛ والبلد في ذلك الوقت محفور الأنهار معقود الجسور عندما تسلموه من القبط، وخميرة العمارة فيه، فاستشار عمر أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه في ذلك، فأمره أن يكتب إليه أن يبني مقياسًا، وأن ينقص ذراعين على اثنتي عشرة ذراعًا، وأن يقرَّ ما بعدها على الأصل، وأن ينقص في كل ذراع بعد الست عشرة ذراعًا أصبعين، ففعل ذلك وبناه بحلوان، فاجتمع له بذلك كلُّ ما أراد من حل الإرجاف وزوال ما منه كان يخاف، بأن جعل الاثنتي عشرة ذراعًا أربع عشرة؛ لأن كل ذراع أربع وعشرون أصبعًا، فجعلها ثمانيًا وعشرين من أولها إلى الاثنتي عشرة ذراعًا، يكون مبلغ الزيادة على الاثنتي عشرة ثمانيًا وأربعين أصبعًا، وهي الذراعان، وجعل الأربع عشرة ستَّ عشرة، والست عشرة ثماني عشرة، والثماني عشرة عشرين.

قال القضاعيُّ: وفي هذا الباب نُظر في وقتنا لزيادة فساد الأنهار وانتفاض الأحوال، وشاهد ذلك أن المقاييس القديمة الصعيدية من أولها إلى آخرها أربعة وعشرون أصبعًا كل ذراع، والمقاييس الإسلامية على ما ذكر منها المقياس الذي بناه أسامة بن زيد التنوخيُّ بالجزيرة، وهو الذي هدمه الماء، وبنى المأمون آخر بأسفل الأرض بالبشرودات، وبنى المتوكل آخر بالجزيرة، وهو الذي يقاس عليه الماء الآن، وقد تقدم ذكره.

قال ابن عفير عن القبط المتقدمين: إذا كان الماء في اثني عشر يومًا في مسرى اثنتي عشرة ذراعًا فهي سنة ماء، وإلا فالماء ناقص، وإذا تم ست عشرة ذراعًا قبل النوروز فالماء يتم، فاعلم ذلك.

وقال أبو الصلت: وأما النيل وينبوعه فهو من وراء خط الاستواء من جبل هناك يُعرَف بجبل القُمْر، فإنه يبتدئ بالتزيُّد في شهر أبيب، والمصريون يقولون: إذا دخل أبيب كان للماء دبيب، وعند ابتدائه في التزيُّد يتغير جميع كيفياته ويفسد، والسبب في ذلك مروره بنقائع مياه آجنة، فيجتلبها معه إلى غير ذلك مما يحتمله، فإذا بلغ الماء خمس عشرة ذراعًا وزادت السادسة عشر أصبعًا واحدًا كسر الخليج، ولكسره يوم معدود ومقام مشهود ومجتمع غاص يحضره العامُّ والخاص، فإذا كسر فتحت الترع وهي فوهات الخلجان، ففاض الماء وساح وغمر القيعان والبطاح، وانضم الناس إلى أعالي مساكنهم من الضياع والمنازل، وهي على آكام ورُبًى لا ينتهي الماء إليها، ولا يتسلط السيل عليها، فتعود أرض مصر بأسرها عند ذلك بحرًا غامر الماء بين جبليها ريثما يبلغ الحد المحدود في مشيئة الله عزَّ وجلَّ له، وأكثر ذلك يحوم حول ثماني عشرة ذراعًا، ثم يأخذ عائدًا في صبه إلى مجرى النيل ومسربه، فينضب أولًا فيما كان من الأرض عاليًا ويصير فيما كان منها متطأمنًا فيترك كل قرارة كالدرهم، ويغادر كل تلعة كالبرد المسهم.

وقال القاضي أبو الحسن علي بن محمد الماورديُّ في كتاب الأحكام السلطانية: وأما الذراع السوداء فهي أطول من ذراع الدور بأصبع وثلثي أصبع، وأول مَن وضعها أمير المؤمنين هارون الرشيد، قدَّرها بذراع خادم أسود كان على رأسه قائمًا، وهي التي تتعامل الناس بها في ذراع البزِّ والتجارة والأبنية وقياس نيل مصر، والمقياس عمود رخام أبيض مثمَّن في موضع ينحصر فيه الماء عند انسيابه إليه، وهذا العمود مفصل على اثنين وعشرين ذراعًا كل ذراع مفصَّلٌ على أربعة وعشرين قسمًا متساوية، تُعرف بالأصابع، ما عدا الاثنتي عشرة ذراعًا الأولى فإنها مفصلة على ثمانية وعشرين أصبعًا كل ذراع.

figure
رسم عمود المقياس مأخوذ من كتاب عنوانه: The Nile Gauge at Roda. وَضْعُ قاسم بك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤