خطاب أحد رؤساء كهنة قدماء المصريين إلى يوليوس قيصر الروماني بشأن منابع النيل

من المعلوم أن حقوق الاستعمار تحتِّم على القائمين به البحثَ في الأقاليم التي يحتلونها عن منابع ثروتها، ومصادر رغدها، وأساليب مجدها؛ ليتخذوا لهم في هذه المصادر سطوة فعالة؛ لتخضع النفوس إلى إرادتهم بدون أن يتجشموا في هذا الإخضاع معاناة شاقة؛ لأن الاستعانة بما يعدُّ من ضروريات الطبيعة في ترويج الاستعمار من ضروب السياسة، التي يتفنن فيها مهرتُهم لاجتذاب الشعوب وتسخيرهم، وعلى هذا المبدأ افتكر الرومان أن يتخذوا أساليب الاستعمار المعتادة مع الكهنة البارعين في عصر قدماء المصريين، وابتدءوا يخابرونهم عن مصادر النيل وينابيعه؛ ليستدرجوهم بعد ذلك إلى صيرورتهم في قبضتهم، وليبوحوا لهم بطرق الدهاء وأساليب السياسة عما استأثروا به علمًا؛ حتى يتوصلوا بذلك إلى السلطة الفعلية في هيمنة الأعمال وتسخير الظروف إلى ما يشاءون.

وقد جاء في أنشودة النيل ما يشير إلى أنه بطبيعته فيض سماوي، يحيي به الله الأرض بعد موتها، وأن ارتسام هذا المعنى في خيالات الكهنة مكَّنهم من اختراع الروايات والأقاصيص؛ ليحفظوا لأنفسهم مركز الاختصاص بالمعلومات الدقيقة، وليخلِّدوا لهيمنتهم على الشعب صفة أدبية أبدية.

وقد روى الكهنة للمؤرخ اليوناني هيردوت في القرن الخامس ق.م ولِيوليوس قيصر الروماني في القرن الأول ق.م أقاصيصَ نظمها الشاعر الروماني ليكين Lucain باللاتينية، وسردها بأسلوبِ خطاب بعثه رئيس كهنة قدماء المصريين إلى يوليوس قيصر الروماني، بشأن هذه الينابيع، ويحق لي التنويه بأني أول من وفِّق إلى ترجمته إلى اللغة العربية، وإليك فحواه بالاختصار:

أخطأ الأقدمون في تعبيرهم بأن النيل يزداد فيضانه عقب ذوبان الثلوج في جبال إثيوبيا؛ لأن سكان تلك الجهة من حرارة الشمس تبدو جلودهم سمراء، كما أخطأ الزاعمون بأن منابع الأنهار المتكونة من ثلوج يذيبها الحر وتزداد في أوائل فصل الخريف؛ لأن النيل لا تبتدئ زيادته قبل أن ترسل نجمة الشعرى اليمانية أشعتها إلى الأفق، وقبل أن يتساوى في ميزان الأفلاك زمن الليل والنهار.

فنواميس النيل ليست كنواميس بقية الأنهر، ولم يزدد فيضانه في الشتاء، فبعد ابتعاد الشمس عن درجات المقارنة الأفقية لها في فصل الصيف تتدفق المياه بنسبة تعويضه عن ذلك، وقد اختص النيل بلطافة حالة الجو، فهو يفيض في منتصف الصيف حينما تكون منطقة الأرض الحارة مانعة عن الحيلولة بتأثير القيظ، فيأتي النيل مساعدًا للعالم في أرجاء واديه، وقد يتجه أمام وجه برج الأسد المتأجج بالحرارة، ويبادر بلدة سيين Syéne المحترقة ببروج السرطان، فلا ترتفع مياهه قبل نزول الشمس في الخريف، ويتسع الظلُّ في بلدة مروى Méroé، «وهي بقرب شندى عاصمة المملكة المصرية بالسودان»، فلن يستطاع بيان السبب لسعة وأدوار فيضك أيها النيل؛ لأن القدرة الإلهية هي التي نظمته بقدر حاجة العالم إليك.

وأخطأ القدماء أيضًا في نسبتهم زيادة الفيضان إلى هبوب الرياح في وقت طويل، تكون الأمطار فيه مجبورة على أن تجود بقطراتها على هذا النهر، وتدفعه بلا انقطاع إلى المنافذ الكبيرة التي تسيل على شواطئ البحر الأحمر، ولوجود حواجز أمامه تعوق سرعة انحداره، ويتدفق في الجداول والجهات التي تستفيد مزارعها وحقولها لوصول فيوضاته إليها.

ومن الخطأ أيضًا التصديق بأقوال مَن زعموا أن فيض النيل ناتج عن قنوات مارة تحت الأرض، أو ثقوب مفتحة الأفواه في حفر واسعة تنحدر إليها المياه في مسافات عميقة آتية من الجهات الباردة في الدب الأكبر، وسط قطب الدنيا، وإن حرارة الشمس لما تضعف عند بلدة مروى تجلب مياهها وتجذب النهرين الكانج والألب بمسالك خفية يقذف عندها النيل تدفقاته إلى هذه الأنهار في منبع واحد، ولكنها لا تستطيع السريان في هوته فيدمج الأرض حين يغمرها، وينتزع من بعض طبقاتها الأملاح الكامنة في طول مجراه.

وظن البعض أن الشمس والهواء يجتذبان الماء من المحيط، ولما تصل الشمس إلى المنطقة الحارة أمام برج السرطان ينشق المحيط، ويأخذ مياهًا أكثر من الجو، وهذه الزيادة تنقلها الأعاصير إلى النيل.

وأرجوك أيها القيصر أن تسمح لي بأن أشرح لك تحليلات هذه المسألة العويصة فأقول:

إن مياه النيل منذ بدء الخليقة تتسرب من عروق في الأرض، أوجدها الله لتكون مجراه الطبيعي، تُسيِّره القدرة الإلهية بأنظمة وقوانين فوق مقدورات أمثالنا وأمثالكم، أتريد يا روماني معرفة منابع النيل، وقد اهتم قبلك بالبحث في موضوعها الملوك المصريون الجبابرة والعجم والمقدونيون منذ أجيال، ولم يتغلبوا على قوة الطبيعة في شيء؟ وأراد إسكندر ذو القرنين أكبر ملوك الأرض في عهده، والمعبود الأعلى في مدينة ممفيس معرفة منابع النيل، فأرسل بعثة في أواخر إثيوبيا، وهناك عاقتها حرارة الجوِّ الملتهب، وذهب سيزوستريس إلى الغرب وإلى أقاصي الدنيا تجرُّ الملوك عربته، وكان في استطاعته أن يشرب من منابع أنهاركم «كالرون والبو»، فإن ذلك أسهل عليه من أن يشرب من منابع النيل، ووصل كمبير الأحمق إلى الشرق بين الذين يعمرون طويلًا، ولما غابت عنه المئونة ذبح رجاله والتهمهم بدون أن يعرف منابع النيل، ولم يستطع أحد في القصص والروايات الوصول إلى مقرِّ منبعه، ولم تدخر الأمم وسعًا في السعي إلى اكتشاف منابع النيل، وإني أدرك حكمة الآلهة الذين أرادوا صيانة مجراك أيها النيل، من أن يستطيع أحد الوصول إلى منتهاك البعيد المدى، فإنك تقوم وسط قطب العالم ناصبًا شواطئك أمام برج السرطان المضطرب، فتسري إلى الجهات، وتراك فيها الشعوب القاصية والدانية، وتبحث القاصية عن منبعك ثم تعود مقهورة إلى حقول إثيوبيا المرتوية من مياهك الغربية ويجهل العالم منبعك.

وقد أعطيت وحدك أيها النيل حق الامتياز لتسير من قطب لآخر، يبحث الناس في بداية مجراك ونهايتك، تتسع مياهك ثم تضيق لتحيط مروى، وسكانها قوم سود الوجوه يفتخرون بغاباتهم المملوءة بخشب الأبنوس الكثيرة الأوراق، ولا يوجد هناك ظلٌّ يخفف حدَّة الحرِّ ما دام برج الأسد يرسل حرارته على خط مستوٍ على وجه الأرض، فتمر في منطقة الشمس بدون أن تضيع شيئًا من مائك، تدعو قريبًا تحت طبقتك مياهك المقسمة إلى حدود قبائل العرب وأراضي ببلاق «فيلا» التي هي منتهى حدود مملكتك المصرية، وعند ميلك تخطط الصحراء بممر التجارة بين البحر الأحمر وجبال ليبيا.

أرتنا لجج النيل عندما تحتد، فيلاقي مجراها في مسيره عراقيل وشلالات سريعة تعترضها بعض الصخور في الصحراء، ولكن لم يوقف مياهك شيء، فحينئذٍ تلقي الزبد حتى الكواكب، وكل شيء يخشى اضطراب أمواجك، ويتذمر الجبل تحت بياضها احترامًا؛ لأنك النهر الذي لا يُقهر، وبعد ذلك تظهر الأرض المقدسة والصحراء المعروفة بشرايين النيل؛ لأنها تبشر بالفيضان في أوائله عقب أن أغلقت الطبيعة أبواب المجاري بمياهك المتشردة عن دخول بلاد ليبيا بحاجر الجبال في هذا الوادي العميق، الذي فيه يجد مجراك نظامه المألوف، ويتقدم بهدوٍّ وسكينة، ويبتدئ من مدينة ممفيس التي تسلم إليك حقولها وتفتح أبواب السهول والوديان، ولا يوجد على شواطئك حواجز تعتبر حدًّا لفيضانك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤