بحث العالم القديم والحديث في منابع النيل

فوق المزايا العلمية والصناعية التي امتازت بها مصر في قرونها الأولى، قرون العظمة والإسعاد، والتفوق الباهر على سائر الأمم، خصَّ الله هذا الإقليم بالنيل المبارك، وهو أكبر المنن الإلهية التي جعلت كافة مواهب البشر أمامها لا تكاد أن تكون شيئًا مذكورًا، فالنيل هو ينبوع الحياة ومهدُ الارتقاء ووسيلة الحياة الخالدة، ورغد العيش المزيد، فكلما أمعن الباحثون فكرتهم فيما تقله أرض مصر من العجائب الصناعية، والهياكل والآثار والمباني التي قاومت العصور ظاهرة فوق بعض المواطن، وتحت بطون الأرض في غيرها، يرتدُّ إليهم طرف مجهوداتهم الفكرية حائرًا ذاهلًا، كلما رأى النيل يتماوج بأعاجيب المناظر ويتدفق في مجاريه بأوفر الخيرات على بلاد أسعدتها الطبيعة بأن يفيض عليها من كنوزه وخيراته ما جعلها تمتاز بسعة الخصب وقوة النماء، وأن أهاليها كلما جَدُّوا في الأعمال الزراعية جادت عليهم بأضعاف ما كانوا يتمنون في مبادئ أعمالهم، فينشطون على الدوام إلى التوسع في استخدامها بقدر ما تشجعهم عليه سعة الآمال، فلا تضنُّ الأرض بما استودعت من المزايا، ولا تكلُّ السواعد ولا الهمم عن اجتناء أطيب الثمرات، وإحراز الأرباح الوافرة، وهكذا كان المصري وبلاده في دور نشأته الأولى وسعادتها الماضية كلٌّ على صاحبه يجود بأقصى المنح، فتجدد للأراضي زيناتها النباتية، وتتنوع لأقوام الشعب موارد ثروتهم المالية.

كانت مصر بهذا الاعتبار مصدرًا للمعجزات العقلية؛ لأن خصائصها الشهيرة ومميزاتها المدهشة لم تجتمع في غيرها من الأقاليم، وكفى أن منابع النيل وأدوار فيضه وتطورات انتقاصه، واستمرار مجاريه على حالة لا تعوقها الرواسب ولا كميات الرمال التي تذروها الرياح في المناطق، قد جعلت ألباب الباحثين حيارى، وطالما عاق الأقدمين الوصول إلى حل مسائله العويصة، ولكنهم وقفوا أمام أقاويل وآراء كل فريق يدلي فيها بحجته التي يؤيد بها رأيه على رأي مُناظريه، وامتدت بالقوم العصور الغابرة بدون أن يصلوا في هذه النقط إلى تمحيص نهائي يرفع النقاب ويزيل الشكوك.

ورُوي في عصر فايتون الخرافي رواية أشبه إلى الخيال منها إلى الحقيقية؛ إذ قيل فيها: إن النيل كأنه لما رأى قرب الشمس من الأرض خشي من احتراقه بلهيبها، فأخفى رأسه في آخر الكرة الأرضية، وإلى القرن السابع عشر ق.م لم تصل مباحث المؤرخين إلى رأي سديد في حقيقة ومبادئ منابعه.

وقد أفرغ الفراعنة مثل سيزوستريس «رعمسيس الثاني» وغيرهم جهدًا كبيرًا من عنايتهم؛ للوقوف على حقيقة الينابيع فما استطاعوا، ولما قدم إلى مصر هيردوت وابتدأ مباحثه عن الينابيع لم يرشده أحدٌ، وذكر أن بسامتيك أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين ألَّف بعثة مكونة من ٢٤٠٠٠٠ رجل، وأمدَّها بكل ما تحتاجه لتسهيل العقبات في مسيرها، والوسائل الصناعية الأخرى في نقل الأحمال والمؤن، والوسائل الدفاعية إذا صادفها شيء من ذلك، وترتيب وصول المعلومات منها إليه عن الأقاليم التي تجتازها، والمناظر التي اهتدت إليها، وعجائب الأودية والقبائل، وأمدها بسعة الإغداق والمعونات الكبرى؛ لتتغلب بالبذخ والسخاء والمعدات الكثيرة على إنجاح مأموريتها، فقضت فيها بعض السنين وعادتْ من حيث أتت، ولم تدوِّن غير اكتشافات جغرافية عن بعض المواقع في تلك المجاهل، ثم استحكمت هذه الفكرة لدى إسكندر المقدوني وكمبيز، ورتب كل منهم في عهده رحلة خاصة وأمدَّها بأساليب أقرب في الوصول إلى الغاية المطلوبة، وأسهل منالًا في الاستكشافات والتوسع في المعلومات، فعادت كباقي البعثات الماضية راضية من الغنيمة بالإياب.

وفي القرن الثالث ق.م في عهد بطليموس إفرجت Evergète تكلم المؤرخون عن منابع النيل، فكانت آراؤهم متطابقة مع المعنى الذي أورده الشاعر الروماني في كتابه المعروف بالفرساي Versailles، على لسان يوليوس قيصر، أن النيل يخفي رأسه عن الأنظار كحسناء لا تبرح عن دلالها مهما أطال إليها المشوق الضراعة والاستعطاف، فالنيل يستمرُّ في مجاريه فيَّاضًا متدفقًا، بينما أفكار الباحثين تكدُّ وتجهد وتعود بالملَلِ والضعف.

وفي القرن الأول ق.م أبدى «جوبا» ملك «موريتانيا» رأيَه عن منابع النيل، وتبعه فيه بلين وميلا والمؤرخ ديون كاسييُس، وهو أن منابع النيل القاصية لتعمقها تحت الصخور والتجاويف العميقة بتلك الأودية والوهاد، لا يستطيع أفراد البعثات التي تُنتدب من أجله خوض غمار تلك المياه، وفي هذه المنابع الفجوات التي تتفاوت بين الضيق والسعة، والمنعطفات الطويلة إلَّا إذا تطوعت بحياتها للخطر الذي لا يحتمل معه عود بعض أفرادها؛ لينبئ الباقين عما رأت عيناه ووعته ذاكرته من هذه المناظر وعجائب تكوينها.

وقال بطليموس الجغرافي، المولود في القرن الثاني ب.م: إن منابع النيل تلتقي في بحيرتين كبيرتين بأنحاء خط الاستواء، ولا يستطيع الغرباء التجول إلى ما وراءها؛ لأن الأذهان ممتلئة بالروايات المنفرة عن وجود الوحوش والحيوانات الضارية، التي تفتك بكل من أراد المسير في غاباتها أو مغاورها.

جاء العرب بعد اليونان خلفاء لهم في الاستعمار، وحكموا مصر واستولوا على بلاد النوبة وغيرها من البلاد المجاورة لمنابع النيل، وأحكموا صِلاتهم التجارية والسياسية مع السودان وشعوب أفريقيا الجنوبية، واتخذوا هذه التمهيدات وسيلة لوصولهم إلى ما عجز عنه أسلافهم في تلك الأقاليم المجهولة.

ومن مشاهير العرب الأجِلَّاء، الذين صرفوا وقتًا مديدًا وعزمًا صادقًا في الوقوف على معلومات صحيحة بشأن منابع النيل، الإمام الشهير أحمد بن محمد بن عبد السلام المنوفي، نسبة إلى منوف، في نهاية القرن التاسع الهجري، وكان إمامًا في العلوم الإسلامية وتواريخ الأمم، احترمه كثير من العلماء وأئمة البحث وعظماء الشعوب، ونقلوا عنه في مؤلفاتهم، وكان يثبت لتلامذته أن العلم الصحيح والتقوى توأمان، فمن لم يزدد عقله بقوة الإيمان الذي هو فوق نواميس الطبيعة يكون دائمًا في تردد الحيرة والضلال، دوَّن هذا المؤلف الشهير كتابًا عنوانه: «الفيض الجديد في أخبار النيل السعيد»، وتوجد منه الآن نسختان خطيتان إحداهما في دار كتب مرسيليا، والثانية في دار الكتب المصرية بالقاهرة، تكلم فيه عن منابع النيل وأصله واستمداده وطوله وعرضه، وتضمَّن أبحاثًا وافية فلخَّص منها ما أورده من الفوائد في الباب الأول «في فصل رأي العرب في منابع النيل».

ثم جاء نابليون مصر مع بعثة علمية بحثت في أحوال البلاد وأمورها، ودوَّنت عنها مؤلفات كثيرة، ولكنها لم توفَّق للبحث عن منابع النيل.

وفي سنة ١٨١٩ أرسل محمد علي باشا بعثته العلمية الشهيرة، يرأسها جالياردو المهندس الفرنسي، فسافر إلى الخرطوم وقال في مذكرته: «إن منابع النيل تبتدئ من جبال القمر.»

وفي سنة ١٨٥٦ توسَّع في الاستكشاف كلٌّ من الباحث برتون وبيك.

figure
خريطة وادي النيل لبطليموس نقلًا عن الخوارزمي.

وبيكر إلى ما خلف بحيرتي «فكتوريا والبيرنيانزا»، وتحقق أخيرًا أنهما أهم المنابع التي يتكون منها النيل، وقد ساعدت الاكتشافات الأخيرة رجال أوربا على التجوُّل في أواسط أفريقيا، واستطاعوا الوصول إلى قولٍ عززوه ببراهين الاكتشافات والرحلات المتوالية في هذه الأقطار، وكلَّل النجاح سعيهم، وكانوا مصداقًا للمثل القائل بأن مَن لازم السير في الدرب وصل إلى مرحلة النجاح، «كما سيأتي بيانه تفصيلًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤