سيحور

لم يكن سيحور اسمًا للنيل كله عند قدماء المصريين كأتور وغيره، بل كان اسمًا لجزء منه، وهو الجزء الواقع في الإقليم الرابع عشر بالوجه البحري الذي كانت قاعدته مدينة ذور، كما يُستفاد ذلك مما وُجد منقوشًا على جدران معبد إدفو باللغة المصرية القديمة، فقد نصت هذه النقوش على أن هذا الاسم «شيحور» كان علمًا على جزء من أجزاء النيل، في الإقليم الرابع عشر بالوجه البحري، ثم توسعوا في استعماله فأطلقوه على النيل كله، من باب إطلاق الجزء على الكل كما يسميه علماء البلاغة «بالمجاز المرسل»، ولهذا الإطلاق نظائر في جميع اللغات.

ويؤيد هذا أن شيحور «بالشين المعجمة» كلمة مصرية قديمة مركبة من كلمتين؛ الأولى «شي» ومعناها بحيرة، والثانية «حور» ومعناها المعبود، وكان يُطلق عليه حور أو هور أو حورس أو هورس، وهو إله هذا الإقليم الرابع عشر بالوجه البحري المذكور، وكان رمزًا للشمس التي هي أكبر الآلهة عندهم، فمعنى شيحور إذن؛ بحيرة حور؛ أي بحيرة الإله المسمى بهذا الاسم.

ومما ورد في رواية مصرية قديمة «أن النيل يبتدئ من جزيرة أسوان، ويمتد إلى شيحور»، فيؤخذ من ذلك أن شيحور هو الجزء الأخير من النيل، ويمكننا أن نقول أيضًا: إن شيحور آخر الحدود المصرية القديمة.

ثم لما أتى الإسرائيليون أرض مصر في عهد الأسرة التاسعة عشرة، واختلطوا بالمصريين سرت إليهم كلمات كثيرة من اللغة المصرية القديمة وامتزجت بلغتهم العبرية، ولذلك وردت بمعنى أسود وأطلقوها على النيل؛ للدلالة على مياهه المكدَّرة «بفتح الدال المشددة»، وطميه «الطينة السوداء» الذي يتركه وقت فيضانه.

وجاءت أيضًا كلمة شيحور في التوراة في سِفري أرميا وأشعيا، ويفهم من كلامهما أن المراد بها النيل أو جزء منه.

وقد نطق بها «الزَّبُور»، فإنه جاء فيه أنه «لما أراد سيدنا داود نقل تابوت العهد إلى مدينة أورشليم جمع الإسرائيليين المقيمين في البلاد، من شيحور الواقعة في الجنوب حتى «أماث» الواقعة في الشمال.» ويفهم من عبارة الزَّبُور أن شيحور كانت الحد الفاصل بين الأراضي المصرية وأملاك بني إسرائيل.

وفي سنة ٢٨٣ق.م تُرجمت التوراة من العبرية إلى اليونانية بأمر بطليموس فيلادلف، وسميت الترجمة السبعينية؛ لأن الذين ترجموه كانوا سبعين حَبرًا من أحبار بني إسرائيل، ثم تُرجمت بعدئذٍ إلى اللاتينية ودُعيت «فلجات»؛ أي العامة Vulgate، فترجمت لفظة شيحور بلفظ النيل، إذن فَهِمَ الأقدمون أن كلمة شيحور هي نفس كلمة النيل.

•••

ولا بأس من أن نثبت هنا خلاصة بحث جديد، هو آخر ما اطلعنا عليه في نوعه للعلامة الجليل المرحوم أحمد باشا كمال، أمين المتحف المصري سابقًا، في رسالة أفردها بالبحث عن أسماء النيل واشتقاق التسمية فقال:
إلى الآن لم يهتد أحدٌ من الأثريين إلى اسم النيل بالتحقيق، بل وجدوه في العربية واليونانية، فقال: إنه مأخوذ من اللغة الفنيقية أو الأشورية إلى نحو ذلك، ووقف بحثهم إلى هذا الحدِّ فخرجه «جروف» بطريقة لا تنطبق على الحقيقة لما فيها من التكلُّف، ولكن هناك لفظ مصري دالٌّ على النيل؛ لأنه ذكر في الجدول الشامل لأسماء هذا النهر المبارك المنقوش على الآثار، ونقله بروكش في قاموسه الجغرافي (فراجعْه في الصحيفة ١٤٠٨)، وهذا اللفظ هو «ننو ونينو»، ورد أيضًا في قاموس اللغة للأثري المذكور (جزء ٣ الصحيفة ٧٧٩ وجزء ٤ الصحيفة ٦٧٨)، وذكر كثيرًا في النصوص المصرية، ونونه الأخيرة تُقلب في العربية لامًا إذا أريد مقارنته بالنيل، كما سترى في الأمثلة الآتية من انقلاب النون المصرية إلى اللام في العربية:
  • ن: حرف نفي في المصرية، ويقابلها في العربية والعبرية لا.
  • نن: معناه الليل بقلب النونين لامين «وخلفه إشارة السماء مزينة بالنجوم.»
  • نن، ننو: الاء اللائي اسم إشارة في اللغتين.
  • نز: لوز شجر معروف.
  • نت: التي، الذي؛ «لأن التاء تقلب ذالًا» اسم موصول في اللغتين.
  • نبن، ننبن: لُبْنَى، وهي شجرة الميعة أي المُصْطُكَى.
  • نخب: لقب وألقاب، إلخ.
إذا علمنا ذلك جاز لنا أن نقول: إن «ننو» أو «نينو» هو النيل؛ لأن هذا التخريج لا يخرج الكلمة عن المعنى الذي وردت به في اللغة المصرية؛ إذ قد ذُكر في ورقة هريس (Harris I, 48, 9) نص معناه: قربان الأعياد الكبيرة لمبدء «ننو»؛ أي: القرابين التي كانت تُقدم للنيل في مبدأ الفيضان، في نقوش دندرة عبارة معناها (Demt Hist. Ins. 29): دمهم مثل «ننو»؛ أي مثل النيل، وجاء أيضًا في صحيفة ٢٥٦ من قاموس بروكش الجغرافي هذا النص: جبلا «ننو»؛ أي: الجبلين المحيطين بالنيل عند الشلال الأول، «وننو» تُطلق أيضًا في اللغة على جدول القسم العاشر في الوجه البحري، (راجع كتاب الجغرافية بروكش بصحيفة ١٥ و٢٥٢، والجزء الثالث منه الصحيفة ٢٩.)

أما اسم النيل المقدس فهو «حعب» و«حعبي»، والباء في المصرية تأتي لتضعيف الحرف الأخير.

واعلم أن «الحاء» و«النون» و«الراء» تسقط في بعض الكلمات المصرية، وهذا أمر معلوم عند الأثريين، فمثلًا كلمة «أمن حتب» اسم من أسماء ملوك مصر ذكر في اليونانية باسم: «أمنوفيس»، فإن فاء الكلمة تُحذف منه في أول إلى العربية، فهو يقابل طاب يطيب طيبة، والصفة منه طيب وطيبة إلخ.

فكلمة «حعب» تقابل إذن؛ في العربية «عب» (البحر عبابًا: ارتفع وكثر موجه)، وعبت: مياه متفرقة، «وعباب» معظم السيل وارتفاعه وكثرته، وقيل: موجه.

واليعبوب: (قال أهل اللغة: إن الياء فيه زائدة) النهر الشديد الجريان والجدول الكثير الماء، ﻓ «حعب»؛ أي «اليعبوب»: اسم متداول كثيرًا في اللغة، وذكر في مدحة النيل التي كتبها ماسبرو وترجمها في كتاب قصص العوام المصرية، وإليك مطلع هذه المدحة عن ترجمتي لا ترجمة ماسبرو:

تعظمت أيها اليعبوب، تنزهت أيها اليعبوب «حرف النداء محذوف كما يأتي ذلك في العربية» البارز في هذه الأرض، السائر لعيشة مصر مسيرك كمين ليلًا ونهارًا، مسيرك ممدوح؛ لأنه يروي الحقول التي أوجدتها الشمس ليعيش جميع الحيوانات، ويروي الصحراء البعيدة عن الماء، نداه هو السماء «أي مياهه من المطر؛ لأن هوى السماء هو ما يهوي منها في الماء؛ أي المطر»، فالأرض تروم وتتقرب بالحب «أي تجود بالمحصول» إلخ.

أما أسماء النيل الواردة في الجدول المنقوش على الآثار فهي اثنان وخمسون اسمًا، استعملت إما بوجه الحقيقة أو بوجه المجاز لعلاقات معلومة عند أهل اللغة قديمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤