فيضان النيل وأسبابه عند قدماء المصريين

كان فيضان النيل الدوري أمرًا هامًّا لسعادة مصر، وأيقظ أنظار أولي الأمر إليه فجدوا في وسائل تحسينه، وإن هذا الفيضان الطبيعي الذي يفسره العلم الحديث بكل سهولة، كان في عقيدة قدماء المصريين دليلًا ساطعًا على أنه لا يتم إلَّا بمعونةٍ وقدرة إلهية.

figure
المعبودة إزيس والأصل بالمتحف المصري.

قال بوزانياس المؤرخ اليوناني الجغرافي المولود في القرن الثاني ق.م: إن المصريين اعتبروا النيل في بدء فيضانه مجموعةً من دموع المعبودة إزيس التي تبكي زوجها أزوريس، وقال لاباج رينوف: يحتمل أن يكون هذا تقليدًا قديمًا؛ لأن إزيس وأختها نفتيس تسميان في كتاب الموتى بالنادبتين، وجاء في نصوص أخرى كثيرة أن مجرى النيل منسوب لإزيس أو لمعبود آخر مثل سوتيس الشبيه بإزيس.

ومن الغريب أن جميع سكان مصر لا يزالون على اعتقادهم القديم، بأن يوم ١١ من شهر بئونة، الموافق ١٧ يونيو تنزل فيه نقطة، فتسبب فيضان النيل، ولا زالت تُعرف إلى الآن بليلة النقطة.

والجدير بالذكر هو معرفة أسباب الفيضان الواقع بأمر إلهي كما يعتقدون.

figure
المعبودة نفتيس، والأصل بالمتحف المصري.

ينتظر المصريون أشهُر الفيضان بلهف وشغف، فإن تأخر قليلًا بسبب غير متوقع، فزعت القلوب وخافوا من الدمار، وتكسد الأعمال، وتنتشر الأوبئة، وتفتك بالناس فتكًا ذريعًا، ويعقب ذلك اضطراب في الأحوال، وتنضب ينابيع الثروة، وتتوالى العداوات والمشاحنات بين الناس، وقد يستبيحون الاعتداء على بعضهم، وحينما يأتي الفيضان تسكن تلك المخاوف وترتفع الشرور، ويستقبل الناس أسباب سعادتهم ووسائل رزقهم بالنشاط والبشاشة، فيقبلون على المستلزمات الزراعية، ويعمُّ الفرح القلوب إلى درجةٍ تقلُّ معها نسبة الوفيات في البلاد عن اعتيادها في الأيام الأخرى، وتقام للفيضان مظاهر الاحتفاء كأكبر الأعياد، ويظهر أن الفيضان يقترن بزمن ظهور نجمة الشعرى المعروفة بالشعرى اليمانية في السماء، وقد جاء في نقوش معبد دندرة أن سوتيس الإله يَجلب الفيضان، وأنه يشبه إزيس أم حورس التي تفيض من دموعها ماء النيل، وكان بمدينة أسوان معبد خاص لعبادة إزيس سوتيس احترامًا لذلك.

ووجد في بعض نصوص مصرية قديمة أن النيل يبتدئ فيضانه في أول السنة المصرية، ويعرف بدؤه بظهور النجمة سوتيس في فصل الصيف في السنة المصرية القديمة.

وورد في ورقة هريس السحرية البردية أن ظهور النجمة المذكورة يوافق ابتداء الفيضان، واتفق جميع المؤرخين على ذلك، وقال هيردوت وديودور الصقلي وبلين أن النيل يبتدئ في زمن انقلاب الشمس في الصيف.

واستدام جهل قدماء المصريين بأسباب الفيضان مع اعتقادهم بأنه من دموع إزيس، وظنوه ناشئًا عن الرياح الشمالية، ولكن ديودور الصقلي خالفهم في ذلك، وأبدى أن أمطارًا كثيرة تنزل في كل السنين ابتداء من الصيف حتى يتعادل الليل والنهار في فصل الخريف، ومن المعقول جدًّا أن ينخفض النيل في الشتاء ويزداد في الصيف من تهاطل الأمطار التي تهبط عليه، فهي التي تأتي دائمًا إلى مصر من إثيوبيا، فتملأ في الصيف مجرى النهر، وهذه النظرية صحيحة، وهي أصدق المعلومات عن السبب الوحيد في فيضان النيل الذي هو مصدر الحياة لمصر وقاطنيها.

تتراوح مدة الفيضان بين تسعين يومًا أو مائة «على رأي قدماء المصريين والأقباط»، ويبتدئ الفيض رويدًا إلى يوم ٢٠ سبتمبر، وهو أقصى مدته، وتتغير مياه النيل أثناء زيادته، فتكون خضراء في الأوائل حينما تقذف الزيادة من مجاريها المياه الراكدة في مستنقعات بحر الغزال ونحوه، ثم تصير حمراء قاتمة مغبرة حينما تنزل من سطوح جبال الحبشة الرمضاء، ومنها تنحدر إلى النيل الأخضر والنيل الأحمر اللذين أشبها ساكني تلك الجهات المجاورة، وهذه التغييرات لم تمنع ماء النيل من صلاحيته للشرب، وقد جاء في أمثال العرب «على سبيل المبالغة» أن مَن شرب من ماء النيل مرة يشتاق أن يشرب منه أبدًا، وبالغوا من قديم في شهرته وخواصه، حتى زعموا أنه يبعث الأموات في الدار الآخرة، وذكر في كتاب الموتى أن من أكبر مشتهيات الميت الشرب من المياه الباردة الآتية من نهر الجنة الذي كان يشبه النيل.

واعتاد قدماء المصريين كما اعتاد أبناء هذا العصر اعتبار النيل المورد الأول لحياتهم وأرزاقهم، فيحتفلون بالفيضان ومستوى الزيادة احتفالات سنوية، فإذا تأخر فيضانه امتلأت المعابد بمن يؤدون الصلوات والتضرع، ويقدمون الضحايا ابتهالًا للآلهة في أن يجود النيل عليهم بفيضه المعتاد، فإذا أبطأ ولم يستجب دعاؤهم، توجهوا إلى فرعون ليضرع معهم في طلب الزيادة، فيسمع النيل أمر أبيه فيأتي فتعم الأفراح، ويأخذ القوم في الاطمئنان على معايشهم ورخائهم.

النصوص المصرية القديمة الخاصة بالفيضان قليلة، وما ورد منها لم يؤيد قصة سيدنا يوسف عليه السلام.

وقد ورد في شاهد حجري ترجمه بروكش باشا أنه وقعت بمصر مجاعة دامت سبع سنين، ولم يمكن الجزم بأنها هي السبع سنوات الواردة في نص التوراة أو غيرها، وإليك ترجمتها:

يقول الملك لرجال بلاطه: أنا الملك حزين على عرشي، وقلبي مفعم بالكآبة لتأخر النيل عن فيضه المعتاد سبع سنوات، فأصبحت ثمرات الأرض نادرة، وجفت الخضرة، واستحال كل شيء على وجه الأرض، إني أفكر كثيرًا فيما مضى، وأتضرع معكم إلى إِمْحُتِبْ بن فتاح الذاهب إلى منبع النيل؛ ليمنحنا جميعًا الشفاعة والإغاثة بفيضه سريعًا.

وورد في حَجر كانوب المحفوظ بالمتحف المصري تحت رقم ٩٨٠ بقاعة حرف T بالطبقة السفلى، أنه في عهد الملك بطليموس إفرجت الأول سنة ٢٣٨ق.م اشتدَّ انخفاض النيل وحدثت بذلك الأهوال والمجاعة.
وقال الفيلسوف سنيك: إن النيل لم يفض سنتين؛ أُولاهما في السنة العاشرة في حكم الملكة كليوبطرة، ويؤكد لنا كليماك أن النيل سبق أن تخلَّف فيضانه عن عادته تسع سنين لما قُتل بطليموس بومباوس الروماني Pompée الشهير، حتى قال رجاله: إن النيل لم يفض غضبًا لارتكاب هذه الجناية في أرضه.

وقد يتجاوز النيل في زيادته الحدَّ المعتاد، وأحيانًا تبلغ الزيادة إلى درجة الخطر فتكون البلاد تحت نطاق الحصار، وتتهدم مبانيها وتفسد مدخراتها الزراعية، وتتعطل المواصلات، ويلجأ المستطيعون إلى النجاة بأرواحهم آبقين إلى الأراضي العالية، أو حواجز الجبال إن كانوا قريبين منها.

وفي أنشودة النيل عن تأخره بعض السنين، ما يثبت أن تأخير فيضانه كما يضر بالآدمي والحاصلات الزراعية المدخرة، يؤذي البهائم أيضًا؛ لأنها لا تجد ما تعودت الاقتيات به من الحشائش ونحوها التي كانت تجوب الأودية في طلبها قبل أن يغمرها الفيضان ويقطع عليها السبيل.

ووُجد باللغة المصرية القديمة في جدران فناء معبد أَمِنْحُتِبْ الثالث بالأقصر أنه حصل فيضان زائد في عهد الأسرة ٢٢، فامتنع الناس عن حفلات المعبد، وخربت الأرض وما فيها، ولم توقفنا الآثار على شيء من هذا القبيل في العصر الفرعوني، ولم يذكر لنا شيئًا مؤرخو اليونان والرومان، بل أجمعوا على مدح جمال مصر في أزمنة فيضانها المعتادة، وأن به يتغير منظر البلاد ويتلطف ميزان الحرارة في الجوِّ.

وقال سنيك الفيلسوف: «ما أبدع منظر مصر وقت فيضان نيلها على الأودية والحقول!» وقال هيردوت: «إن مصر تصير بحرًا في ذاك الوقت، وإن النيل إذا بلغ ارتفاعه ١٥ أو ١٦ ذراعًا اعتبر الفيضان مباركًا.» وأيدت هذه الأقوال المعلومات المستفادة من الأوراق البردية، والنقوش الموجودة على الحجارة الأثرية.

figure
نيل مدينة تانيس. تمثالان يمثلان نيل الوجه القبلي ونيل الوجه البحري، وهما يحملان أثمار النيل من الأسماك والطيور المائية وزهرة اللوطس، ويقدمانها هدية لملك مصر. والأصل بالمتحف المصري بالطبقة السفلى بالطرقة J رقم ٥٠٨.

ومتى انتهى الفيضان، أو كما يعبر قدماء المصريين في لغتهم: لما تخرج الأرض من الماء، يباشر الفلاح الزراعة، فتغطي الخضرة وجه الأرض، وتصبح على سعتها بساطًا سندسيًّا يبهر النواظر ويروق الألباب.

وإذا بلغت زيادة النيل أكثر من ذلك تعطلت مواعيد الزراعة، وإلى هذا أشار مارييت باشا في قوله: إن مصر كما تهتز بالجزع إذا تأخر الفيضان، فكذلك يعمها الضرر إذا كان فيضانه زائدًا عن الحالة المألوفة، ولهذا فحياتها تتوقف على اعتداله في مجيئه بآونة الحاجة إليه وعدم زيادة فيضه عن قدر هذه الحاجة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤