أعمال ملوك الأسرة ١٢ في النيل

اشترك الفراعنة مع الشعب في عقائده نحو النيل، وفي الاهتمام بكل شئونه كواجب فطري تألفوه بالتوارث، ثم رأى الممتازون منهم بقوة الفطنة وحب الاستطلاع والتشوق في زيادة المزايا العمرانية التوسعَ في المباحث، فابتدءوا بانتداب المتضلعين في العلوم الفنية، فأرسل بعضهم مهندسين للشلالات لحصر الارتفاعات التي وصل إليها النيل في مُدد الفيضان، ليقيموا بنسبتها الجسورَ، ويشيدوا الخزانات، وبإتمام هذه الإصلاحات النظامية سميت مصر قديمًا الأرض المُرَوَّاة أو المتصلبة بالقنوات، أو الأرض السوداء، ولا غرو في ذلك؛ لأن مصر أرض زراعية، والزراعة هي الوسيلة للثروة، وحياة الزراعة تستلزم العناية بالمياه في الإيراد والصرف كيلا يضيع جزء منها في أراضٍ مهملة، ولا تحرم الأراضي الزراعية الخصبة من كفاية المياه لريها وإنماء مزارعها، وعرف قدماء المصريين أن مياه النيل المتدفقة بالفيضان تنقل كل عام كميات من الطمي النقي، الذي يمنح الأرض زيادة في الخصوبة وجودة في الزراعة، فاجتهدوا في توصيل هذه المياه بمحتوياتها إلى الجهات القاصية، لتأخذ حظها مما تجود عليها به طبيعة الفيض، فالعناية بموازنة المياه في الاستجلاب والصرف ليست من الوسائل الحديثة، أو من مبتكرات الأجيال الأخيرة كما يدعي الزاعمون، بل إنها من مجهودات الأفكار المتوالية في عهد الفراعنة، فامتازت الأرض بكثرة الإنبات وتعدد المحاصيل ووفرة الثمرات منها بأسباب ترجع إلى توفر المياه، وإلى فاعلية الشمس وحرارتها، واعتدال العنصر الأرضي، حتى إن الحبة الواحدة قد تبلغ في الإنبات إلى مائة حبة، فكانت مصر أمام بقية الممالك أشبه بخزائن حاصلات لكثير من الممالك، وكانت تُعد كمستودع الأرزاق للعالم الروماني مثل بلاد توميدي.

وقد جاء في التوراة أن أبانا إسحاق أرسل ابنه لمدينة ممفيس لاستجلاب القمح، وكان الفيضان الدوري يخفِّف عن الفلاح معالجة أرضه فتجود عليه بالحبوب والحاصلات الوافرة، وهو لا يتكبد إلا تخطيطًا بسيطًا في مواسم التقاوي، وانتقاء أنواعها؛ ليجني من حسن نقاوتها وتوفر مياه الري لديه خيرات وافرة.

ووضعوا في تلك العصور الماضية اللوائح والقوانين المشجعة على التحسين الزراعي، ومكافأة المجتهدين مكافأة مالية ليقتدي بهم الغير، وكانت الأراضي تقسم بين المزارعين بنسبة أفراد العائلات وخبرتهم الزراعية إذا كانت مساحة الأرض على سعة تمكن من كل ذلك، ومدَّ الجداول وإنشاء المجاري ونحوها رغبة في تعميم الفائدة، وتسهيلًا على الزرَّاع فيما تشتد حاجتهم إليه.

وكان كل عصر من الفراعنة يفتخر بما أحدثه من أنواع التحسينات، ولا يصرفه الاهتمام بما أحدثه عن دوام العناية بما استجيد منها في عهد أسلافه رغبة في تخليد المنفعة لذويها، وإبقاء الذِّكر الحسن لمن أدَّى للبلاد عملًا مشكورًا؛ لأن الجسور ونحوها إن لم يتعهدها ولاة الأمور بالعناية والإصلاح والقنوات والمجاري، وإن لم يتخذ نحوها الترميم والتطهير كل سنة في الوقت المناسب له يترتب على تركها انحطاط درجة الأرض من الخصوبة إلى الجدب، وتتحول حالة المُلَّاك من السعادة إلى الشقاء.

وقد عثرنا على نص رقيم حكوميٍّ صدر في عهد الملك سنوسرت الثالث يأمر بترميم قناةٍ، وهذا نصه (دلالة على ما سبقت إشارتنا إليه): «في السنة الثانية من حكم ملك الوجهين البحري والقبلي الملك سنوسرت، الحي الإرادة الدائم الذكر، أمر بإنشاء قناة جديدة طولها مائة وخمسون ذراعًا وعرضها عشرون ذراعًا وعمقها خمس عشرة ذراعًا.»

ووُجد منقوشًا على شاهد أقيم للملك تحوتمس الأول: «إنه في السنة الثالثة من حكمه، وفي اليوم ٢٢ من الشهر الأول من فصل الحصاد، أمر الملك المعظم بحفر هذه القناة، شكرًا لمعونة الرب الأعلى، وإسدائه بالنعمة على شعبه بمناسبة فوزه بالنصر والفوز على بلاد كوش.»

وفي عهد تحوتمس الثالث أنشئت قناة أخرى بعد ما أن ملأتها الحجارة، وفي هذا المرسوم نصٌّ بإلزام من يزاولون مهنة الصيد في جزيرة أسوان بتطهيرها سنويًّا؛ لأنهم هم الذين بترددهم عليها لأعمال الصيد بالزوارق وغيرها يتسببون في انهيار ميول الجسور تساقط الحجارة حولها حسب مستلزمات مهنتهم، فمن العدل أنهم كما يغنمون الأرباح بالصيد منها يتكبدون بعض الإجراءات الواجبة لتطهيرها وصيانتها حتى لا تنطمس مجاريها ولا يتعطل الانتفاع بها.

وقد وضعت في عهدهم القوانين الشديدة بالعقوبات الرادعة، والجزاءات الزاجرة لمنع الناس عن إحداث أي ضرر بمجاري المياه وطرق المواصلات، وعدم مس الأعمال الزراعية والمحاصيل أيضًا بأي ضرر أو تلف؛ لأنها في واقع الأمر أعدت لمنفعة المجتمع العمراني، وليس قيام الأفراد بالخدمة والزراعة فيما يكون تحت ملكيتهم إلَّا من أنواع التعاون الضمني؛ لأن كل فرد يؤدي خدمة شخصية ترتبط بالمنافع العامة يعتبر خادمًا للمجتمع، وإن لم يقصد هو في عمله هذه الملاحظة.

وقد وجد في نصوص الكتاب المقدس في كتاب الموتى ما يؤيد هذا الاهتمام الحكومي الذي تتناقله الأجيال: «إني لم أقطع قناة في ممرها، ولم أخالف نظام الري، ولم أتلف الأراضي الزراعية.»

وقد وجدت نقوش في قبور الأمراء بأسيوط تدلُّ على الأعمال التي تمت لإصلاحات النيل في عهد الأسرة الهراقلوبولتية، وفي هذه النقوش إشارة إلى أن الملك خيتي الأول يفتخر باستيلائه على المياه وحسن التصرف فيها كيفما شاء، ولم تكن في الوجه القبلي إلَّا أراضٍ منحطة، فاهتم بحفر قناة كبيرة في الأراضي الشراقي، وأقام لها أبوابًا، وغيَّر مجرى المياه القبلية، فوصلت إلى حدٍّ لم تبلغه المياه قبلها، ومكَّن حدود القناة، فارتوت منها بلاد كثيرة، وجعلت الهضاب المرتفعة بحيرات، وصار النيل يغمر الجزائر، وأصبحت الأراضي الجدباء ذات خصب ورغد، وكل الأراضي التي كانت في الماضي محرومة من الري النيلي، فأهلها ينسبون الفضل في سعادة حالهم وصفاء عيشهم إلى الملك سيتي الأول الذي حفر قناة تمَّ بها الاتصال من فرع النيل الثاني إلى بوباستيس بالبحيرات المرة ووادي طيبة، وأهم القنوات التي تمر بقرب قبطوس ذكرت في قصة ساتني خماييس.

وكان البحر اليوسفي في الحقيقة فرعًا للنيل في الجهة الغربية يبتدئ من أسيوط وينتهي إلى الدلتا.

وقد أتمَّ الملك نخاو الثاني ابن الملك بسامتيك مشروعات كثيرة في الري، ووضع مشروعًا جليلًا لإنشاء قناة تصل البحرين، ولكن هذا المشروع لم يتم في أيامه، والذي وفِّق لإنجازه هو الملك دارييس الفارسي، وقد نقش اسمه في شاهد شالوف بالفارسية، ونصه كالآتي: «أمرت بحفر هذه القناة تبتدئ بالنيل من مصر إلى البحر الأحمر.»

وذكر هيردوت أن الْفَمَيْنِ البولبستيكي والبيكوليكي لم يكونا طبيعيين، ولا بدَّ أن تكون يد الإنسان العاملة في العمران قد خطتهما، فإن الفراعنة أنشئوا قنوات كثيرة للبلاد ليسهل على أهلها الانتفاع بالمياه الوافرة لري الأراضي وكافة الاحتياجات البشرية، واقتفى اليونان والرومان آثار الفراعنة في إصلاحات الري، وكانوا يعتنون بتطهير الترع من رواسب الرمال والحجارة، وأول من افترض على الأهالي القيام بهذه التطهيرات هو أكتاف أغسطت Octave Auguste، وكان يراعي تقسيم الأعمال بينهم بمراعاة قرب أهالي كل جهة من القسم الذي يُكلفون بتطهيره.

وفي الأوراق البردية ومن بينها ورقتا باريز وبرلين أن الملوك بطليموس فيلادلف وإفرجت الثاني إبيفان وتراجان وجستنيان كانوا يعتنون سنويًّا بتطهير الترع وتقوية الجسور، ويكلفون مراقبين فنيين بدوام المرور عليها، وإيضاح ما يحتاج علاجًا، فيبادر لاتخاذه ولو قبل المواعيد المعتادة في الميزانيات السنوية وجداولها.

وروي أنه في السنة الثانية (سنة ١٩٨ق.م) من حكم الملك إفرجت الثاني بلغت شدة الفيضان درجة قصوى، أغرقت كثيرًا من الأودية والصحاري، فقام الملك بنفسه للإشراف على الأعمال المتخذة لتخفيف المضار والعناية بتقوية جسور النيل وسياج الترع وتجديد المصارف بين المسافات، حتى أوقف طغيان المياه، واطمأن باله بنجاة البلاد من الخطر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤