الباب الأول

في تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء

وفي هذا الباب ثلاثة مباحث

(١) المبحث الأول: في حقيقة الخبر

الخبر: كلام يحتمل الصدق والكذب لذاته.١

وإن شئت فقل: «الخبر هو ما يتحقق مدلوله في الخارج بدون النطق به» نحو: العلم نافع؛ فقد أثبتنا صفة النفع للعلم، وتلك الصفة ثابتة له (سواء تلفظت بالجملة السابقة أم لم تتلفظ)؛ لأن نفع العلم أمر حاصل في الحقيقة والواقع، وإنما أنت تحكي ما اتفق عليه الناس قاطبة، وقضت به الشرائع، وهدت إليه العقول، بدون نظر إلى إثبات جديد.

والمراد بصدق الخبر مطابقته للواقع ونفس الأمر.

والمراد بكذبه عدم مطابقته له.

فجملة «العلم نافع» إن كانت نسبتها الكلامية (وهي ثبوت النفع للعلم) المفهومة من تلك الجملة مطابقة للنسبة الخارجية — أي موافقة لما في الخارج والواقع — «فصدق» وإلا «فكذب» نحو: «الجهل نافع» فنسبته الكلامية ليست مطابقة وموافقة للنسبة الخارجية.٢

(١-١) المقاصد والأغراض التي من أجلها يُلقى الخبر

الأصل في الخبر أن يُلقَى لأحد غرضين:
  • (أ)

    إما إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنته الجملة، إذا كان جاهلًا له، ويسمى هذا النوع «فائدة الخبر» نحو: «الدين المعاملة».

  • (ب)

    وإما إفادة المخاطب أن المتكلم عالم أيضًا بأنه يعلم الخبر، كما تقول لتلميذ أخفى عليك نجاحه في الامتحان وعلمته من طريق آخر: أنت نجحت في الامتحان. ويُسمى هذا النوع: «لازم الفائدة»؛ لأنه يلزمُ في كل خبر أن يكون المخبر به عنده علم أو ظنٌّ به.

وقد يخرج الخبر عن الغرضين السابقين إلى أغراض أخرى تُستفاد بالقرائن ومن سياق الكلام، أهمُّها:
  • (١)
    الاسترحام والاستعطاف، نحو: إني فقير إلى عفو ربي.٣
  • (٢)

    وتحريك الهمة إلى ما يلزم تحصيله، نحو: ليس سواء عالم وجهول.

  • (٣)
    وإظهار الضَّعف والخشوع، نحو: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي.
  • (٤)
    وإظهار التحسُّر على شيء محبوب، نحو: إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى.
  • (٥)
    وإظهار الفرح بمُقْبِل والشماتة بمُدبِر، نحو: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ.
  • (٦)

    والتوبيخ كقولك للعاثر: «الشمس طالعة».

  • (٧)

    والتذكير بما بين المراتب من التفاوت، نحو: «لا يستوي كسلان ونشيط».

  • (٨)

    والتحذير، نحو: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق».

  • (٩)

    والفخر، نحو: «إن الله اصطفاني من قريش».

  • (١٠)

    والمدح كقوله:

    فإنك شمسٌ والملوك كواكب
    إذا طلعْتَ لم يَبْدُ منهن كوكبُ

وقد يجيء لأغراض أخرى، والمرجع في معرفة ذلك إلى الذوق والعقل السليم.

تمرين

عيِّن الأغراض المستفادة من الخبر في الأمثلة الآتية:
  • (١)
    قال تعالى: لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
  • (٢)
    وقال تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى.
  • (٣)

    وقال : «عدلُ ساعةٍ في حُكومةٍ خَيْرٌ من عبادةِ ستينَ سنة.»

  • (٤)

    وقال: «إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه، فأدخل عليه الجور في عدله.»

  • (٥)

    ومن خطبة له عليه الصلاة والسلام بمكة حين دعا قومه إلى الإسلام: «إنَّ الرائدَ لا يَكْذِبُ أهلَه، واللهِ لو كَذَبْتُ الناسَ ما كَذَبْتُكم، ولو غَرَرْتُ الناسَ ما غَرَرْتُكم، واللهِ الذي لا إلهَ إلا هو إني رسولُ اللهِ إليكم حقًّا، وإلى الناس كافَّةً.»

  • (٦)

    وقال الشريف الرَّضِيُّ:

    جار الزمان فلا جواد يُرْتجى
    للنائبات ولا صديق يشفق
    وإذا الحليم رمى بسرِّ صديقه
    عمدًا فأولى بالوداد الأحمق
  • (٧)

    وقال المعري:

    عرفت سجايا الدهر أما شروره
    فنقدٌ وأما خيره فوعود
  • (٨)

    وقال:

    رأيت سكوتي متجرًا فلزمته
    إذا لم يُفد ربحًا فلست بخاسر
  • (٩)

    وقال أيضًا:

    أرى ولد الفتى عبئًا عليه
    لقد سعد الذي أمسى عقيما
    فإما أن يربِّيه عدوًّا
    وإما أن يُخلِّفَهُ يتيما
  • (١٠)

    قال ابن حيوس مادحًا:

    بني صالح أقصدْتُمُ من رَمَيْتُمُ
    وأحييتم من أم معروفكم قصدا
    وذَلَّلْتُمُ صعبَ الزمان لأهله
    فذلَّ وقد كان الجماح له وكدا
    مناقب لو أن الليالي توشحت
    بأذيالها لابيضَّ منهن ما اسودَّا
  • (١١)

    وقال أبو فراس:

    صبرت على اللأْواء صَبْرَ ابن حُرَّةٍ
    كثير العدا فيها قليل المُساعِدِ
    منعتُ حِمى قومي وسُدْتُ عشيرتي
    وقلد أهلي غُر هذي القلائدِ

(٢) المبحث الثاني: في كيفية إلقاء المتكلم الخبر للمخاطب

حيث كان الغرض من الكلام الإفصاح والإظهار يجب أن يكون المتكلم مع المخاطب كالطبيب مع المريض، يشخِّص حالته، ويُعطيه ما يُناسبها.

فحق الكلام أن يكون بقدر الحاجة، لا زائدًا عنها؛ لئلا يكون عبثًا، ولا ناقصًا عنها؛ لئلا يُخلَّ بالغرض، وهو «الإفصاح والبيان».٤
لهذا تختلف صور الخبر في أساليب اللغة باختلاف أحوال المخاطب الذي يعتريه ثلاث أحوال:
  • أولًا: أن يكون المخاطب خالي الذهن من الخبر، غير متردد فيه، ولا منكر له، وفي هذه الحال لا يُؤكد له الكلام؛ لعدم الحاجة إلى التوكيد، نحو قوله تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
    ويُسمى هذا الضرب من الخبر «ابتدائيًّا» ويُستعمل هذا الضرب حين يكون المخاطب خالي الذهن من مدلول الخبر؛ فيتمكن فيه لمصادفته إيَّاه خاليًا.٥
  • ثانيًا: أن يكون المخاطب مترددًا في الخبر، طالبًا الوصول لمعرفته، والوقوف على حقيقته، فيُستحسن تأكيد٦ الكلام المُلْقَى إليه؛ تقوية للحكم؛ ليتمكن من نفسه، ويطرح الخلاف وراء ظهره، نحو: إنَّ الأمير منتصر.

    ويُسمَّى هذا الضرب من الخبر «طلبيًّا» ويؤتى بالخبر من هذا الضرب حين يكون المخاطب شاكًّا في مدلول الخبر، طالبًا التثبت من صدقه.

  • ثالثًا: أن يكون المخاطب منكرًا للخبر الذي يُراد إلقاؤه إليه، معتقدًا خلافه، تأكيد الكلام له بمؤكد أو مؤكدين أو أكثر، على حسب حاله من الإنكار قوةً وضعفًا، نحو: إنَّ أخاك قادم، أو: إنَّه لقادم، أو: والله إنَّه لقادم، أو: لعمري إنَّ الحق يعلو ولا يُعلى عليه.

    ويُسمَّى هذا الضرب من الخبر «إنكاريًّا» ويُؤتى بالخبر من هذا الضرب حين يكون المخاطب منكرًا.

    واعلم أنه كما يكون التأكيد في الإثبات يكون في النفي أيضًا، نحو: ما المقتصد بمفتقر، ونحو: والله ما المستشير بنادم.

تنبيهات

  • الأول: لتوكيد الخبر أدوات كثيرة، وأشهرها: إنَّ، وأنَّ، ولام الابتداء، وأحرف التنبيه، والقسم، ونونا التوكيد، والحروف الزائدة ﮐ «تفَعَّل واستفعل» والتكرار، وقد، وأمَّا الشرطيَّة، وإنَّما، واسمية الجملة، وضمير الفصل، وتقديم الفاعل المعنوي.
  • الثاني: يسمى إخراج الكلام على الأضرب الثلاثة السابقة إخراجًا على مقتضى ظاهر الحال.٧
    وقد تقتضي الأحوال العُدول عن مقتضى الظاهر، ويورد الكلام على خلافه لاعتبارات يلحظها المتكلم (وسلوك هذه الطريقة شعبة من البلاغة).
    • (١) منها: تنزيل العالم بفائدة الخبر، أو لازمها، أو بهما معًا — منزلة الجاهل بذلك؛ لعدم جريهِ على موجب عِلمه، فيُلقَى إليه الخبر كما يُلقى إلى الجاهل به، كقولك لمن يعلم وجوب الصلاة وهو لا يُصلي: «الصلاة واجبة.» توبيخًا على عدم عمله بمقتضى علمه، وكقولك لمن يُؤذي أباه: هذا أبوك.
    • (٢) ومنها تنزيل خالي الذهن منزلة السائل المتردد، إذا تقدَّم في الكلام ما يُشير إلى حُكم الخبر، كقوله سبحانه وتعالى: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ فمدخول إنَّ مؤكد لمضمون ما تقدمه؛ لإشعاره بالتردد فيما تضمنه مدخولها، وكقوله سبحانه وتعالى: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ لما أمر المولى «نوحًا» أولًا بصنع الفلك، ونهاه ثانيًا عن مخاطبته بالشفاعة فيهم، صار — مع كونه غير سائل — في مقام السائل المتردد.٨
      هل حكم الله عليهم بالإغراق؟ فأجيب بقوله: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.
    • (٣) ومنها: تنزيل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار، كقول حَجَل بن نَضْلة القيسي (من أولاد عم شَقيق):
      جاء شَقيق عارضًا رمحه
      إن بني عمك فيهم رماح

      «فشَقيق» رجل لا ينكر رماح بني عمه، ولكن مجيئه على صورة المعجب بشجاعته، واضعًا رمحه على فخذيه بالعرض وهو راكب أو حاملًا له عرضًا على كتفه في جهة العدو بدون اكتراثه به — بمنزلة إنكاره أن لبني عمه رماحًا، ولن يجد منهم مقاومًا له كأنهم كلهم في نظره عُزْلٌ، ليس مع أحد منهم رمح.

      فأكد له الكلام؛ استهزاءً به، خوطب خطاب التفات بعد غيبة؛ تهكمًا به، ورميًا له بالنزق وخرق الرأي.

    • (٤) ومنها تنزيل المتردد٩ منزلة الخالي، كقولك للمتردد في قدوم مسافر مع شهرته: «قدم الأمير.»
    • (٥) ومنها تنزيل المتردد منزلة المنكر، كقولك للسائل المستبعد لحصول الفرج: «إنَّ الفرج لقريب.»
    • (٦) ومنها تنزيل المنكر منزلة الخالي، إذا كان لديه دلائل وشواهد لو تأملها لارتدع وزال إنكاره، كقوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وكقولك لمن يُنكر منفعة الطب: «الطب نافع.»
    • (٧) ومنها تنزيل المنكر منزلة المتردد، كقولك لمن يُنكر «شرف الأدب» إنكارًا ضعيفًا: «إنَّ الجاه بالمال إنَّما يصحبك ما صحبك المال، وأما الجاه بالأدب فإنه غير زائل عنك.»
  • الثالث: قد يؤكد الخبر لشرف الحكم وتقويته، مع أنه ليس فيه تردد ولا إنكار، كقولك في افتتاح كلام: «إنَّ أفضل ما نطق به اللسان كذا.»١٠

تدريب

بيِّن أغراض الخبر والمقاصد منه فيما يأتي:

(١) قومي هُمُو قتلوا أُمَيْمَ أخي
فإذا رَمَيْتُ يُصيبني سهمي
(٢) قد كنت عُدَّتي التي أسطو بها
ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي
(٣) أبا المسك أرجو منك نصرًا على العدى
وآمل عزًّا يخضب البيض بالدم
(٤) كفى بجسمي نُحولًا أنني رجل
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
(٥) وأنت الذي ربيت ذا الملك مرضعًا
وليس له أم سواك ولا أبُ
(٦) ذهب الذين يُعاش في أكنافهم
وبقيتُ في خلف كجِلد الأجرب
(٧) إن كان لا يرجوك إلا محسن
فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوكَ ربِّ كما أَمَرْتَ تضرعًا
فإذا رددتَ يدي فمَن ذا يَرْحَمُ
(٨) ظمئتُ وفي فمي الأدبُ المصفَّى
وضِعْتُ وفي يدي الكنز الشين

(١) إظهار الحسرة على موت أخيه بيد من قرابته.

(٢) إظهار الضعف لكونه أصبح بلا معين.

(٣) الاسترحام بطلب المساعدة وشد الأزر.

(٤) إظهار الضعف بأن نحوله صيره إلى ما وصف.

(٥) إفادة المخاطب أن المتكلم عالم بقصته وسابق أعماله، فالغرض لازم الفائدة.

(٦) الحسرة لفقد ذوي المروءة والمصير إلى لئام لا خير فيهم.

(٢-١) نموذج في بيان مقاصد وأغراض الأخبار

(١) كان معاوية — رضي الله عنه — حسن السياسة والتدبير، يحلم في مواضع الحلم، ويشتد في موضع الشدة.

(٢) لقد أدبتَ بَنِيك باللين والرفق، لا بالقسوة والعقاب.

ولما دعوت الصبر بعدك والأسى
أجاب الأسى طوعًا ولم يجب الصبر
فإن ينقطع منك الرجاء فإنه
سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر

(٣) توفي عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — سنة ثلاث وعشرين من الهجرة.

(٤) قال أبو فراس الحمداني:

ومكارمي عدد النجوم ومنزلي
مأوى الكرام ومنزل الأضياف

(٥) وقال أبو الطيب:

وما كل هاوٍ للجميل بفاعل
ولا كل فعَّال له بمتمِّم

(٦) وقال أيضًا يرثي أخت سيف الدولة:

غدرتَ يا موتُ كم أفنيتَ من عدد
بمن أصبت وكم أسكتَّ من لجب

(٧) وقال أبو العتاهية يرثي ولده عليًّا:

بكيتُك يا عليُّ بدمع عيني
فما أغنى البكاء عليك شَيَّا
وكانت في حياتك لي عظاتٌ
وأنت اليوم أوعظُ منك حيَّا
(٨) إن الثمانين وبُلِّغْتُها
قد أحوجَتْ سمعي إلى تَرْجمان

(٩) قال أبو العلاء المعري:

ولي منطقٌ لم يَرْضَ لي كُنْهَ مَنزلي
على أنني بين السِّماكينِ نازلُ

(١٠) قال إبراهيم بن المهدي يخاطب المأمون:

أتيتُ جُرْمًا شنيعًا
وأنتَ للعفو أهلُ
فإنْ عفوتَ فمَنٌّ
وإنْ قتلْتَ فعَدْلُ

(١) الغرض إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنه الكلام.

(٢) الغرض إفادة المخاطب أن المتكلم عالم بحاله في تهذيب بنيه.

(٣) الغرض إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنه الكلام.

(٤) الغرض إظهار الفخر؛ فإن أبا فراس إنما يريد أن يفاخر بمكارمه وشمائله.

(٥) الغرض إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنه الكلام؛ فإن أبا الطيب يريد أن يبين لسامعيه ما يراه في بعض الناس من التقصير في أعمال الخير.

(٦) الغرض إظهار الأسى والحزن.

(٧) الغرض إظهار الحزن والتحسر على فقد ولده.

(٨) الغرض إظهار الضعف والعجز.

(٩) الغرض الافتخار بالعقل واللسان.

(١٠) الغرض الاسترحام والاستعطاف.

تطبيق

أحصِ المؤكدات في العبارات التالية، وبيِّن ضروب الخبر الثلاثة:

(١) ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل
عفاف وإقدام وحزم ونائل
(٢) وإنَّ امرأ قد سار خمسين حجة
إلى منهل من وِرْده لقريبُ
(٣) ليس الصديق بمن يعيرك ظاهرًا
متبسمًا عن باطن متجهِّم

(٤) قال تعالى: لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.

(٥) قال تعالى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا.

(٦) أما الفراق فإنه ما أعهدُ
هو تَوْءَمِي لو أن بينًا يولدُ
(٧) وإن الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمي لمختلف جدًّا

(٨) إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ.

(٩) وإني لصبَّارٌ على ما يَنُوبُني
وحَسْبُك أن الله أَثْنَى على الصبر
(١٠) وإني لقوَّال لذي البثِّ مرحبًا
وأهلًا إذا ما جاء من غير مرصد
وإني لحلْوٌ تعتريني مرارة
وإني لترَّاك لما لم أعَوَّدِ
(١١) ولقد نصحتُكَ إن قبلْتَ نصيحتي
والنصح أغلى ما يُباع ويوهَبُ
(١٢) إن الغنى من الرجال مكرَّم
وتراه يُرجى ما لديه ويُرغَبُ
(١٣) فما الحداثة عن حِلم بمانعة
قد يوجد الحِلم في الشبان والشِّيب
الرقم المؤكدات ضرب الخبر
(١) ألا «أداة استفتاح وتنبيه» طلبي
(٢) إن – قد – اللام في «لقريب» إنكاري لزيادة المؤكدات على واحد
(٣) الباء الزائدة في «بمن» طلبي
(٤) لام القسم – لام التوكيد – نون التوكيد إنكاري
(٥) تكرار جعلنا طلبي
(٦) أما – إن – أن طلبي لأن كل مؤكدة في جملة
(٧) إن – لام الابتداء إنكاري لزيادة المؤكدات على واحد

(٨) لما روى القرآن قصة رسل عيسى الذين أرسلهم إلى قومه فأنكروا رسالتهم قال لهم الرسل: إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ فألقوا إليهم الكلام مؤكدًا بمؤكِّدين، فكذبوا فقالوا لهم: إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ مؤكدين لهم القول بمؤكد ثالث، فجحدوا، فقالوا لهم: رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ فزادوا مؤكدًا رابعًا وهو القسم.

الرقم الجملة المؤكدات ضرب الخبر
(٩) وإني لصبار إن ولام الابتداء إنكاري
(١٠) وإني لقوال إن ولام الابتداء إنكاري
وإني لحلو إن ولام الابتداء إنكاري
وإني لتراك إن ولام الابتداء إنكاري
(١١) ولقد نصحتك القسم وقد إنكاري
والنصح أغلى الجملة الاسمية ابتدائي
(١٢) إن الغنى إن والجملة الاسمية طلبي
وتراه يرجى ابتدائي
(١٣) فما الحداثة … إلخ الباء الزائدة «بمانعة» طلبي
قد يوجد الحلم قد طلبي

تمرين

اذكر أضرب الخبر وأدوات التوكيد:

(١) قال تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ.

(٢) وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.

(٣) وقال : «شر الناس الذين يُكرَمون اتِّقاء ألسنتهم.»

(٤) وقال علي كرم الله وجهه: «مارسْتُ كل شيء فغلبْتُه، ومارسني الفقرُ فغلبني، إن سترتُه أهلكني، وإن أذعتُه فضحني.»

(٥) وقال النبي عليه الصلاة والسلام يصف الأنصار: «إنكم لتقلون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع.»

(٦) وقال بشار بن بُرد:

خليليَّ إن المال ليس بدافع
إذا لم يَنَلْ منه أخٌ وصديق

(٧) وقال أبو العتاهية:

قد يُدرِك الراقد الهادي برقدته
وقد يخيب أخو الروحات والدُّلج١١

(٨) وقال:

إن البخيل وإن أفاد غنًى
لتُرى عليه مخايل الفقر
ما فاتني خير امرئ وضعَتْ
عني يداه مثوبة الشكر

(٩) وقال آخر:

وما لب اللبيب بغير حظ
بأغنى في المعيشة من فتيل

(١٠) وقال آخر:

وللحِلم خير فاعلَمَنَّ مَغَبَّةً
من الجهل إلا أن تُشَمَّس من ظلم

(١١) وقال حسان بن ثابت:

أصون عِرضي بمالي لا أدِّنسه
لا بارك الله بعد العرض في المال
أحتال للمال إن أودى فأكسبه
ولست للعرض إن أودى بمحتال

(١٢) وقال الشاعر:

ولم أر كالمعروف: أما مذاقه
فحلو، وأما وجهه فجميل

(١٣) وقال صرَّدُر:

تذل الرجال لأطماعها
كذل العبيد لأربابها
وأعلم أن ثياب العفا
ف أجمل زي لمجتابها١٢

(١٤) وقال آخر:

لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي
إذا هو لم يجعل له الله واقيا

(١٥) وقال سعيد بن حميد في العتاب:

أقلل عتابك فالبقاء قليل
والدهر يعدل تارة ويميل
ولعل أحداث المنية والرَّدَى
يومًا ستَصْدَع بيننا وتحول
فلئن سبقت لتبكين بحسرة
وليكثرن عليَّ منك عويل
ولئن سبقتَ — ولا سبقتَ — ليمضين
من لا يشاكله لديَّ خليل
وليذهبن بهاء كل مروءة
وليُفْقَدَّن جمالُها المأهول
(١٦) إنَّ الحياة لثوب سوف نخلعه
وكل ثوب إذا ما رثَّ ينخلع

(١٧) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ.

الرقم الجملة المؤكدات ضرب الخبر
(١٦) إن الحياة لثوب إن ولام الابتداء إنكاري
وكل ثوب … إلخ ابتدائي
(١٧) غفلتهم عن الموت تعد من أمارات الإنكار إنكاري

تطبيق

اذكر أضرب الخبر وبيِّن المؤكدات فيما يأتي:

(١) وعاد في طلب المتروك تاركه
إنَّا لنغفل والأيام في الطلب

(٢) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا.

(٣) أمَا دون مصر للغنى متطلب
بلى إن أسباب الغنى لكثير
(٤) فيومٌ لنا ويوم علينا
ويوم نُساء ويوم نُسر

(٥) إنَّ من البيان لسحرًا وإنَّ من الشعر لحكمة.

(٦) قد يُدرك الشرفَ الفتى ورداؤه خلق.

الرقم الجملة المؤكدات ضرب الخبر
(١) وعاد في طلب المتروك ابتدائي
إنا لنغفل إن ولام الابتداء إنكاري
(٢) وجعلنا نومكم … إلخ تكرير جعل طلبي
(٣) أمَا دون مصر حرف التنبيه «أما» طلبي
إن أسباب الغنى لكثير إن ولام الابتداء إنكاري
(٤) يوم لنا ويوم علينا التكرير طلبي
(٥) إن من البيان لسحرًا إن ولام الابتداء إنكاري
إن من الشعر لحكمة إن ولام الابتداء إنكاري
(٦) قد يدرك طلبي

(٣) المبحث الثالث: في تقسيم الخبر إلى جملة فعلية وجملة اسمية

  • (أ)
    الجملة الفعلية: ما تركبت من فعل وفاعل، أو من فعل ونائب فاعل؛ وهي: موضوعة لإفادة التجدد والحدوث في زمن معيَّن مع الاختصار،١٣ نحو: يعيش البخيل عيشة الفقراء، ويُحاسب في الآخرة حساب الأغنياء. ونحو: أشرقت الشمس وقد ولى الظلام هاربًا.

    فلا يستفاد من ذلك إلا ثبوت الإشراق للشمس، وذهاب الظلام في الزمان الماضي.

    وقد تفيد الجملة الفعلية الاستمرار التجددي شيئًا فشيئًا بحسب المقام، وبمعونة القرائن، لا بحسب الوضع،١٤ بشرط أن يكون الفعل مضارعًا نحو قول المتنبي:
    تدبِّر شرقَ الأرض والغرب كفُّه
    وليس لها يومًا عن المجد شاغل

    فقرينة المدح تدل على أن تدبير الممالك ديدنه، وشأنه المستمر الذي لا يحيد عنه، ويتجدد آنًا فآنًا.

  • (ب)
    والجملة الاسمية: هي ما تركبت من مبتدأ وخبر، وهي تفيد بأصل وضعها ثبوت شيء لشيء١٥ ليس غير — بدون نظر إلى تجدد ولا استمرار — نحو: الأرض متحركة، فلا يُستفاد منها سوى ثبوت الحركة للأرض، بدون نظر إلى تجدد ذلك ولا حدوثه.
    وقد تخرج الجملة الاسمية عن هذا الأصل، وتفيد الدوام والاستمرار بحسب القرائن إذا لم يكن في خبرها فعل مضارع؛ وذلك بأن يكون الحديث في مقام المدح، أو معرض الذم كقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ.

    فسياق الكلام في معرض المدح دال على إرادة الاستمرار مع الثبوت، ومنه قول النضر بن جؤبة يتمدح بالغنى والكرم:

    لا يألف الدرهم المضروب صرَّتنا
    لكن يمر عليها «وهو منطلق»

    يريد أن دراهمه لا ثبات لها في الصرة ولا بقاء، فهي دائمًا تنطلق منها، وتمرق مروق السهام من قِسيِّها؛ لتوزع على المعوزين، وأرباب الحاجات.

    واعلم أن الجملة الاسمية لا تفيد الثبوت بأصل وضعها، ولا الاستمرار بالقرائن، إلا إذا كان خبرها مفردًا، نحو: الوطن عزيز؛ أو كان خبرها جملة اسمية، نحو: الوطن هو سعادتي.

    أما إذا كان خبرها فعلًا فإنها تكون كالجملة الفعلية في إفادة التجدد والحدوث في زمن مخصوص، نحو: الوطن يسعد بأبنائه، ونحو:

    تعيب الغانياتُ عليَّ شيبي
    ومن لي أن أمتَّع بالمشيب

    وكقول الآخر:

    نروح ونغدو لحاجاتنا
    وحاجة من عاش لا تنقضي

أسئلة يُطلب أجوبتها

ما هو علم المعاني؟ ما هو الإسناد؟ ما هي مواضع المسند والمسند إليه؟ ما المراد بصدق الخبر وكذبه؟ ما الفرق بين النسبة الكلامية والنسبة الخارجية؟ ما هو الأصل في إلقاء الخبر؟ ما هي الأغراض الأخرى التي يُلقى إليها الخبر؟ ما هي أضرب الخبر؟ ما هي أدوات التوكيد؟ لماذا يعدل عن مقتضى الظاهر؟ إلى كم ينقسم الخبر؟ لأي شيء وُضعت الجملة الاسمية والفعلية؟ هل تُفيد الجملة الفعلية والاسمية غير ما وُضعتا لأجله؟

تدريب

بيِّن فائدة التعبير بالجملة الاسمية أو الفعلية في التراكيب الآتية:

(١) قال تعالى: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.

(٢) نروح ونغدو لحاجاتنا
وحاجة من عاش لا تنقضي
(٣) وعلى إثرهم تساقط نفسي
حسرات وذكرهم لي سقام

(٤) يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام.

(٥) أَوَكلما وردت عكاظ قبيلة
بعثوا إليَّ عَريفهم يتوسم
الرقم الجملة نوعها ما تفيده الإيضاح
(١) يمحو الله مضارعية الاستمرار التجددي محو بعض الخلائق وإفناؤها، وإثبات البعض الآخر مستمر على جهة التجدد.
وعنده أم الكتاب اسمية الدوام أم الكتاب: اللوح المحفوظ، والقرينة: الإسناد إلى الله.
(٢) نروح ونغدو مضارعية الاستمرار التجددي والقرينة قوله: وحاجة من عاش.
(٣) تساقط مضارعية الاستمرار التجددي
وذكرهم لي سقام اسمية الاستمرار والدوام القرينة: حالية، وهي الحزن والأسى.
(٤) يأتي مضارعية التجدد

(٥) يريد أن كل قبيلة ترد سوق عكاظ تبعث عريفها ورئيسها ليتفرس في وجوه القوم مرة بعد أخرى؛ لعله يهتدي إلى معرفتي؛ لتأخذ بثأرها مني، وتنكل بي؛ لأني طالما أوقعت بها، وأذقتها صنوف المذلة والهوان. وعكاظ: سوق للعرب كانت تجتمع فيها للتفاخر والتنافر ليلًا، ولتصريف المتاجر نهارًا.

هوامش

(١) أي بقطع النظر عن خصوص المخبر أو خصوص الخبر، وإنما يُنظَر في احتمال الصدق والكذب إلى الكلام نفسه لا إلى قائله؛ وذلك لتدخل الأخبار الواجبة الصدق كأخبار الله تعالى، وأخبار رسله، والبديهيات المألوفة، نحو: «السماء فوقنا» والنظريات المتعين صدقها ولا تحتمل شكًّا؛ كإثبات العلم والقدرة للمولى سبحانه وتعالى، ولتدخل الأخبار الواجبة الكذب كأخبار المتنبئين في دعوى النبوة.
(٢) فمطابقة النسبة الكلامية للنسبة الخارجية ثبوتًا ونفيًا صدق، وعدم المطابقة كذب، فالنسبة التي دل عليها الخبر وفُهمت منه تُسمى كلامية، والنسبة التي تُعرف من الخارج بقطع النظر عن الخبر تُسمى خارجية. فحينئذ هناك نسبتان: نسبة تُفهَم من الخبر، ويدل عليها الكلام، وتُسمى النسبة الكلامية، ونسبة أخرى تُعرَف من الخارج بقطع النظر عن الخبر، وتُسمى النسبة الخارجية. فما وافق الواقع فهو صدق، وما خالف الواقع فهو كذب.
(٣) فليس الغرض هنا إفادة الحكم ولا لازم الفائدة؛ لأن الله تعالى عليم، ولكنه طلب عفو ربه؛ ولهذا ترى في الكلام العربي أخبارًا كثيرة لا يُقصد بها إفادة المخاطب الحكم، ولا أن المتكلم عالم به، فتكون قد خرجت عن معناها الأصلي السالف ذكره إلى أغراض أخرى.
(٤) كتب معاوية إلى أحد عماله فقال: لا ينبغي لنا أن نسوس الناس سياسة واحدة، لا نلين جميعًا فيمرح الناس في المعصية، ولا نشتد جميعًا فنحمل الناس على المهالك، ولكن تكون أنت للشدة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة.
وكتب أبو العباس السفاح فقال: لأعملن اللين حتى لا ينفع إلا الشدة، ولأكرمن الخاصة ما أمنتهم على العامة، ولأغمدن سيفي حتى يسله الحق، ولأعطين حتى لا أرى للعطية موضعًا.
(٥)
عَرَفْتُ هَواها قَبْلَ أنْ أَعْرِفَ الْهَوَى
فَصادفَ قلبًا خاليًا فَتَمَكَّنَا
(٦) المراد بالتأكيد في هذا الباب تأكيد الحكم، لا تأكيد المسند إليه، ولا تأكيد المسند.
واعلم أن الخطاب بالجملة الاسمية وحدها آكد من الخطاب بالجملة الفعلية، فإذا أريد مجرد الإخبار أتي بالفعلية، وأما إن أريد التأكيد فبالاسمية وحدها، أو بها مع «إن»، أو بهما وباللام، أو بالثلاثة والقسم، واعلم أن لام الابتداء هي الداخلة على المبتدأ واللاحقة للخبر، كما أن السين وسوف لا تفيدان التوكيد إلا إذا كانت للوعد أو الوعيد.
(٧) اعلم أن «الحال» هو الأمر الداعي إلى إيراد الكلام مكيفًا بكيفية ما، سواء أكان ذلك الأمر الداعي ثابتًا في الواقع أو كان ثبوته بالنظر لما عند المتكلم، كتنزيل المخاطب غير السائل منزلة السائل.
و«ظاهر الحال» هو الأمر الداعي إلى إيراد الكلام مكيفًا بكيفية مخصوصة بشرط أن يكون ذلك الأمر الداعي ثابتًا في الواقع، فكل كيفية اقتضاها ظاهر الحال اقتضاها الحال، وليس كل كيفية اقتضاها الحال اقتضاها ظاهره.
(٨) أي فصار الكلام مظنة للتردد والطلب وإن لم يتردد المخاطب ولم يطلب بالفعل؛ وذلك لأنه تكاد نفس الذكي إذا قدم لها ما يشير إلى جنس الخبر أن تتردد في شخص الخبر، وتطلبه من حيث إنها تعلم أن الجنس لا يوجد إلا في فرد من أفراده، فيكون ناظرًا إليه بخصوصه، كأنه متردد فيه، كنظر السائل، فقوله: «ولا تخاطبني» يشير إلى جنس الخبر، وأنه عذاب، وقوله: «إنهم مغرقون» يشير إلى خصوص الخبر الذي أشير إليه ضمنًا في قوله: «ولا تخاطبني»، كقول الشاعر:
ترفق أيها المولى عليهم
فإن الرفق بالجاني عتاب
فالأصل أن يورد الخبر هنا خاليًا من التوكيد؛ لأن المخاطب خالي الذهن من الحكم، ولكن لما تقدم في الكلام ما يشعر بنوع الحكم أصبح المخاطب متشوقًا لمعرفته فنزل منزلة السائل المتردد الطالب، واستحسن إلقاء الكلام إليه مؤكدًا؛ جريًا على خلاف مقتضى الظاهر.
(٩) وفائدة التنزيل وجوب زيادة التأكيد قوة وضعفًا؛ لأنه نزل المتردد منزلة المنكر، فيُعطَى حكمه حينئذ، وهكذا نفهم في عكسه، وهو تنزيل المنكر منزلة المتردد في استحسان التوكيد له. واعلم أنه إذا التبس إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر بإخراجه على مقتضى الظاهر يحتاج إلى قرينة تعين المقصود أو ترجحه، فإن لم توجد قرينة صح حمل الكلام على كل من الأمرين، وذلك كجعل السائل كالخالي، وجعل المتردد كالمنكر، فإن وجدت قرينة عُمل بها، والأصح الحكم بأحدهما.
(١٠) من مزايا اللغة العربية: دقة التصرف في التعبير، واختلاف الأساليب باختلاف المقاصد والأغراض، فمن العيب الفاضح عند ذوي المعرفة بها «الإطناب» إذا لم تكن هناك حاجة إليه و«الإيجاز والاختصار» حيث تطلب الزيادة. وقد تخفى دقائق تراكيبها على الخاصة بله العامة، فقد أشكل أمرها على بعض ذوي الفطنة من نابتة القرن الثالث إبان زهو اللغة ونضرة شبابها، يُرشدك إلى ذلك ما رواه الثقاة من أن المتفلسف الكندي ركب إلى أبي العباس المُبَرِّد، وقال له: إني لأجد في كلام العرب حشوًا. فقال أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال: أجد العرب يقولون «عبد الله قائم» ثم يقولون «إنَّ عبد الله قائم» ثم يقولون «إنَّ عبد الله لقائم» فالألفاظ متكررة والمعنى واحد! فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ، فالأول إخبار عن قيامه، والثاني جواب عن سؤال سائل، والثالث جواب عن إنكار منكر قيامه؛ فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني. فما أحار المتفلسف جوابًا.
ومن هذا نعلم أن العرب لاحظت أن يكون الكلام بمقدار الحاجة، لا أزيد وإلا كان عبثًا، ولا أنقص ولا أخل بالغرض، وهو الإفصاح والبيان.
(١١) الدلج: الظلام.
(١٢) لابسها.
(١٣) وذلك أن الفعل دال بصيغته على أحد الأزمنة الثلاثة بدون احتياج لقرينة، بخلاف الاسم فإنه يدل على الزمن بقرينة ذكر لفظه «الآن أو أمس أو غدًا»، ولما كان الزمان الذي هو أحد مدلولي الفعل غير قار بالذات؛ أي لا تجتمع أجزاؤه في الوجود — كان الفعل مع إفادته التقييد بأحد الأزمة الثلاثة مفيدًا للتجدد أيضًا.
(١٤) وذلك نظير الاستمرار الثبوتي في الجملة الاسمية نحو: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ؛ أي: لو استمر على إطاعتكم وقتًا فوقتًا لحصل لكم عنت ومشقة.
(١٥) فالجملة الاسمية موضوعة لمجرد ثبوت المسند للمسند إليه.
قال الشيخ عبد القاهر: موضوع الاسم على أن يثبت به الشيء للشيء من غير اقتضاء أنه يتجدد ويحدث شيئًا فشيئًا، فلا نعرض في نحو: «زيد منطلق» لأكثر من إثبات الانطلاق له فعلًا، كما في «زيد طويل وعمرو قصير»؛ أي أن ثبوت الطول والقصر هو بأصل الوضع، وأما استفادة الدوام فمن الملازمة في هذين الوصفين، وحينئذ فالتمثيل للمنفي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤