الباب الثالث

في أحوال المسند إليه

المسند إليه: هو المبتدأ الذي له خبر، والفاعل، ونائبه، وأسماؤه، وأحواله هي النَّواسخ: الذكر، والحذف، والتعريف، والتنكير، والتقديم، والتأخير، وغيرها.

وفي هذا الباب عدة مباحث.

(١) المبحث الأول: في ذكر المُسند إليه

كل لفظ يدل على معنًى في الكلام خليق طبعًا بالذكر؛ لتأدية المعنى المراد به؛ فلهذا يُذكر المسند إليه وجوبًا؛ حيث إنَّ ذكره هو الأصل، ولا مُقتضيَ للحذف؛ لعدم قرينة تدل عليه عند حذفه، وإلا كان الكلام مُعمًّى مبهمًا، لا يستبين المراد منه.

وقد يترجَّح الذكر مع وجود قرينة تمكِّن من الحذف، حين لا يكون منه مانع؛ فمن مرجحات الذكر:١
  • (١)
    زيادة التقرير والإيضاح للسامع، كقوله تعالى: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.٢ وكقول الشاعر:
    هو الشمس في العَليا هو الدهر في السَّطا
    هو البدر في النَّادي هو البحر في النَّدى
  • (٢)

    قلة الثقة بالقرينة؛ لضعفها أو ضعف فهم السَّامع، نحو: سعد نعم الزعيم! تقول ذلك إذا سبق لك ذكر سعد، وطال عهد السامع به، أو ذُكر معه كلام في شأن غيره.

  • (٣)

    الرد على المخاطب، نحو: الله واحد؛ ردًّا على من قال: الله ثالث ثلاثة.

  • (٤)

    التَّلذُّذ، نحو: الله ربي، الله حسبي.

  • (٥)

    التعريض بغباوة السامع، نحو: «سعيد قال كذا» في جواب: ماذا قال سعيد؟

  • (٦)
    التسجيل على السامع؛٣ حتى لا يتأتَّى له الإنكار، كما إذا قال الحاكم لشاهد: هل أقر زيد هذا بأنَّ عليه كذا؟ فيقول الشاهد: نعم زيد هذا أقرَّ بأن عليه كذا.٤
  • (٧)

    التَّعجُّب، إذا كان الحكم غريبًا، نحو: «عليٌّ يقاوم الأسد» في جواب من قال: هل عليٌّ يقاوم الأسد؟

  • (٨)

    التعظيم، نحو: «حضر سيف الدولة» في جواب من قال: هل حضر الأمير؟

  • (٩)

    الإهانة، نحو: «السارق قادم» في جواب من قال: هل حضر السارق؟

(٢) المبحث الثاني: في حذف المسند إليه

الحذف خلاف الأصل، ويكون لمجرد الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على وجود قرينة تدلَّ على المحذوف، وهو قسمان:
  • (أ)

    قسم يظهر فيه المحذوف عند الإعراب: كقولهم: «أهلًا وسهلًا» فإنَّ نصبهما يدل على ناصب محذوف يُقدَّر بنحو: جئتَ أهلًا ونزلتَ مكانًا سهلًا، وليس هذا القسم من البلاغة في شيء.

  • (ب)
    وقسم لا يظهر فيه المحذوف عند الإعراب، وإنَّما تعلم مكانه إذا أنت تصفحت المعنى ووجدته لا يتم إلا بمراعاته، نحو: يُعطي ويمنع؛ أي: يُعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولكن لا سبيل إلى إظهار ذلك المحذوف، ولو أنت أظهرته زالت البهجة، وضاع ذلك الرونق.٥
ومن دواعي الحذف إذا دلت عليه قرينة، وتعلق بتركه غرض من الأغراض الآتية:
  • (١)
    ظهوره بدلالة القرائن عليه، نحو: فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ؛ أي أنا عجوز.
  • (٢)

    إخفاء الأمر عن غير المُخاطَب، نحو: «أقبلَ» تُريد عليًّا مثلًا.

  • (٣)

    تيسُّر الإنكار إن مسَّت إليه الحاجة، نحو «لئيم خسيس» بعد ذكر شخص لا تذكر اسمه؛ ليتأتَّى لك عند الحاجة أن تقول ما أردته ولا قصدته.

  • (٤)

    الحذر من فوات فرصة سانحة، كقول مُنَبِّه الصيَّاد: «غزال» أي: هذا غزال.

  • (٥)

    اختبار تنبُّه السامع له عند القرينة، أو مقدار تنبُّهه، نحو: نوره مستفاد من نور الشمس، أو هو واسطة عقد الكواكب «أي القمر» في كل من المثالين.

  • (٦)

    ضيق المقام عن إطالة الكلام بسبب تضجر وتوجع، كقوله:

    قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل
    سهر دائم وحزن طويل٦
  • (٧)
    المحافظة على السَّجع، نحو: من طابت سريرته، حُمِدَت سيرته.٧
  • (٨)

    المحافظة على قافية، كقوله:

    وما المال والأهلون إلا ودائع
    ولا بدَّ يومًا أن تُرَدَّ الودائع٨
  • (٩)

    المحافظة على وزن، كقوله:

    على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى
    وأخلص منه لا عليَّ ولا ليا٩
  • (١٠)

    كون المسند إليه معينًا معلومًا «حقيقة» نحو: «عالم الغيب والشهادة» أي الله أو معلومًا «ادِّعاءً» نحو: «وهَّاب الألوف» أي فلان.

  • (١١)
    اتباع الاستعمال الوارد على تركه،١٠ نحو: «رمية من غير رامٍ» أي هذه رمية، ونحو: «نعم الزعيم سعد!» أي: هو سعد.
  • (١٢)
    إشعار أن في تركه تطهيرًا له عن لسانك، أو تطهيرًا للسانك عنه، مثال الأول: «مُقَرِّرٌ للشرائع مُوضحٌ للدلائل» تريد صاحب الشريعة، ومثال الثاني: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ.
  • (١٣)
    تكثير الفائدة، نحو: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فأمري صبر جميل.
  • (١٤)
    تعيُّنه بالعهدية، نحو: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ١١ أي السفينة، ونحو: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ أي الشمس.

    ومرجع ذلك إلى الذوق الأدبي، فهو الذي يُوحي إليك بما في القول من بلاغة وحسن بيان.

تدريب

بيِّن أسباب ذكر وحذف المسند إليه في الأمثلة الآتية:

وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا.

الرئيس كلمني في أمرك.

(١) والرئيس أمرني بمقابلتك.

(٢) الأمير نشر المعارف، وأمَّن المخاوف.

(٣) محتال مراوغ.

(٤) مُنضِجة للزرع، مُصْلِحة للهواء.

فعباس يصُدُّ الخطب عنا
وعباس يجير من استجارا

خَلَقَ فَسَوَّى، مقرر للشرائع موضِّح للدلائل.

(٥) وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ.

وإني من القوم الذين همُ همُ
إذ مات منهم سيد قام صاحبه
أنا مصدر الكلم البوادي
بين المحاضر والنوادي
أنا فارس أنا شاعر
في كلِّ ملحمة ونادي
إن حل في رُومٍ ففيها قيصر
أو حلَّ في عُرب ففيها تُبَّع
تسائلني: ما الحب؟ قلت: عواطف
منوعة الأجناس موطنها القلب

(١) تخاطب غبيًّا.

(٢) جوابًا لمن سأل: ما فعل الأمير؟

(٣) بعد ذكر إنسان.

(٤) تعني الشمس.

(٥) أي: لو شاء هدايتكم.

تطبيق

وضح دواعي الحذف في التراكيب الآتية:

ملوك وإخوان إذا ما مدحتُهم
أحكَّم في أموالهم وأقرَّب
أما والذي أبكى وأضحك والذي
أمات وأحيا والذي أمره أمرُ
(١) لَسِنٌ إذا صَعِدَ المنابر أو نضا
قلمًا شأَى الخطباءَ والكتَّابا١٢
(٢) عليل الجسم ممتنع القيام
شديد السُّكْر من غير المُدامِ
(٣) أحجاج لا يفلل سلاحك إنما الـ
ـمنايا بكف الله حيث تراها١٣
(٤) حريص على الدنيا مضيع لدينه
وليس لما في بيته بمضيع
(٥) وإني رأيت البخل يُزرِي بأهله
فأكرمت نفسي أن يقال بخيل
(٦) لو شئت لم تفسد سماحة حاتم
كرمًا ولم تهدم مآثر خالد
(٧) برِّد حشاي١٤ إن استطعت بلفظة
فلقد تضر إذا تشاء وتنفع
(٨) نجوم١٥ سماء كلما غار كوكب
بدا كوكب تأوي إليه الكواكب
وقد عَلِمَ القبائلُ مِن مَعَدٍّ
إذا قُبَبٌ بأبطحها بُنِينا
بأنَّا المطعِمون إذا قدرنا
وأنَّا المهلِكون إذا ابتُلينا
وأنَّا المانعون لما أردنا
وأنا النازلون بحيث شِينا
وأنا التاركون إذا سَخِطنا
وأنَّا الآخذون إذا رَضِينا
الرقم المحذوف السبب
(١) المسند إليه ادعاء العلم به في مقام
(٢) المسند إليه المدح
(٣) المسند إليه ضيق المقام من التوجع
المسند إليه العلم به
(٤) المسند إليه ادعاء العلم به في مقام الذم
(٥) المسند إليه العلم به
(٦) المفعول البيان بعد الإبهام
(٧) المفعول عدم تعلق الغرض به
تنزيل المتعدي منزلة اللازم
(٨) المسند إليه ادعاء تعينه في مقام المدح

«أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» – «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر» – خلاق لما يشاء – الحمد لله الحمد – لا تخاطب السفيه اللئيم، وأحسن إلى الفقير المسكين.

حيوا العروبة في عُليا مراتبها
وخير فرسانها شيبًا وشُبَّانَا

(٣) المبحث الثالث: في تعريف المسند إليه

حق المسند إليه أن يكون معرفة؛ لأنه المحكوم عليه الذي ينبغي أن يكون معلومًا؛ ليكون الحكم مفيدًا.

وتعريفه:١٦ إما بالإضمار، وإما بالعَلَمِية، وإما بالإشارة، وإما بالموصولية، وإما بأل، وإما بالإضافة، وإما بالنداء.

(٤) المبحث الرابع: في تعريف المسند إليه بالإضمار

يؤتى بالمسند إليه ضميرًا لأغراض:
  • (١)

    لكون الحديث في مقام «التكلم» كقوله عليه الصلاة والسلام: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب.»

  • (٢)

    أو لكون الحديث في مقام «الخطاب» كقول الشاعر:

    وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني
    وأشمَتَّ بي من كان فيك يلوم
  • (٣)

    أو لكون الحديث في مقام «الغيبة» لكون المسند إليه مذكورًا، أو في حكم المذكور لقرينة، نحو: الله تبارك وتعالى.

ولابدَّ من تقدم ذكره:
  • (أ)
    إمَّا لفظًا، كقوله تعالى: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.
  • (ب)
    وإمَّا بمعنًى، نحو: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ؛ أي «الرجوع».
    ونحو: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى؛ أي العدل.
  • (جـ)
    أو دلت عليه قرينة حال كقوله تعالى: فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ؛ أي: الميت.

تنبيهات

  • الأول: الأصل في الخطاب أن يكون لمشاهد معين، نحو: أنت استرققتني بإحسانك.
    وقد يُخاطب:
    • (أ) غير المشاهد إذا كان مستحضرًا في القلب، نحو: «لا إله إلا أنت» ونحو:
      جودي بقربك أبلُغ كلَّ أمنيتي
      أنتِ الحياة وأنتِ الكون أجمعه
    • (ب) وغير المعين إذا قُصِدَ تعميم الخطاب لكلِّ من يُمكن خطابه على سبيل البدل، لا التناول دفعة واحدة، كقول المتنبي:
      إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
      وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
  • الثاني: الأصل في وضع الضمير عدم ذكره إلا بعد تقدُّم ما يفسِّره. وقد يُعدل عن هذا الأصل: فيقدم الضمير على مرجعه لأغراض كثيرة.
    • (أ) منها تمكين ما بعد الضمير في نفس السامع لتشوقه إليه كقوله:
      هي النفسُ ما حَمَّلْتَها تتحَمَّلُ
      فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ و«نِعْم رجلًا عليٌّ»: فالفاعل ضمير يفسِّره التمييز. ويطَّرِد ذلك في باب نعم وبئس، وفي باب ضمير الشأن، نحو قوله تعالى: هُوَ اللهُ أَحَدٌ.
    • (ب) ومنها ادعاء أن مرجع الضمير دائم الحضور في الذهن، نحو: أقبل وعليه الهيبة والوقار، ونحو قول الشاعر:
      أبت الوصال مخافة الرقباء
      وأتتك تحت مدارع الظلماء

      ويُسمى هذا العدول بالإضمار في مقام الإظهار.

  • الثالث: يُوضع الظاهر «سواء أكان علمًا، أو صفة، أو اسم إشارة» موضع الضمير؛ لأغراض كثيرة:
    • (١) منها إلقاء المهابة في نفس السامع، كقول الخليفة: أمير المؤمنين يأمر بكذا.
    • (٢) وتمكين المعنى في نفس المخاطب، نحو: اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا.
    • (٣) ومنها التلذذ كقول الشاعر:
      سقى الله نجدًا والسلام على نجد
      ويا حبذا نجد على القرب والبعد
    • (٤) ومنها الاستعطاف، نحو: اللهم عبدك يسألك المغفرة «أي أنا أسألك» ويُسمى هذا العدول بالإظهار في مقام الإضمار.

(٥) المبحث الخامس: في تعريف المسند إليه بالعلمية

يُؤتى بالمسند إليه علمًا؛ لإحضار معناه في ذهن السامع ابتداء باسمه الخاص؛ ليمتاز عمَّا عداه، كقوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ.

وقد يُقصد به مع هذا أغراض أخرى تناسب المقام:
  • (١)

    كالمدح في الألقاب التي تُشعر بذلك، نحو: جاء نصر، وحضر صلاح الدين.

  • (٢)

    والذم والإهانة، نحو: جاء صخر، وذهب تأبَّط شرًّا.

  • (٣)

    والتفاؤل، نحو: جاء سرور.

  • (٤)

    والتشاؤم، نحو: حرب في البلد.

  • (٥)

    والتبرُّك، نحو: «الله أكرمني» في جواب: هل أكرمك الله؟

  • (٦)

    والتلذذ، كقول الشاعر:

    باللهِ يا ظَبْياتِ القاعِ قُلْنَ لنا
    لَيْلايَ مِنْكُنَّ أَمْ لَيْلَى مِنَ البَشَرِ
  • (٧)

    والكناية عن معنًى يصلح العلم لذلك المعنى بحسب معناه الأصلي قبل العلميَّة، نحو: أبو لهب فعل كذا؛ كناية عن كونه جَهنميًّا؛ لأن اللهب الحقيقي هو لهب جَهنم، فيصح أن يلاحَظ فيه ذلك.

(٦) المبحث السادس: في تعريف المسند إليه بالإشارة

يُؤتى بالمسند إليه اسم إشارة إذا تعيَّن طريقًا لإحضار المشار إليه في ذهن السامع، بأن يكون حاضرًا محسوسًا، ولا يعرف المتكلم والسَّامع اسمه الخاص، ولا مُعَيِّنًا آخر، كقولك: «أتبيع لي هذا» مشيرًا إلى شيء لا تعرف له اسمًا ولا وصفًا.

أمَّا إذا لم يتعيَّن طريقًا لذلك، فيكون لأغراض أخرى:
  • (أ)

    بيان حاله في القرب، نحو: هذه بضاعتنا.

  • (ب)

    بيان حاله في التوسط، نحو: ذاك ولدي.

  • (جـ)

    بيان حاله في البُعد، نحو: ذلك يوم الوعيد.

  • (١)
    تعظيم درجته بالقرب، نحو: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أو تعظيم درجته بالبعد، كقوله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ.
  • (٢)
    أو التحقير بالقرب، نحو: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أو التحقير بالبعد، كقوله تعالى: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ.
  • (٣)

    وإظهار الاستغراب، كقول الشاعر:

    كم عاقلٍ عاقلٍ أعيَتْ مذاهبه
    وجاهلٍ جاهلٍ تلقاه مرزوقا
    هذا الذي ترك الأوهام حائرة
    وصيَّر العالم النِّحرير زنديقا
  • (٤)

    وكمال العناية وتمييزه أكمل تمييز، كقول الفرزدق:

    هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
    والبيت يعرفه والحِلُّ والحَرَم

    ونحو قوله: هذا أبو الصقر فردًا في محاسنه.

  • (٥)

    والتعريض بغباوة المخاطب، حتى كأنه لا يفهم غير المحسوس، نحو:

    أولئك آبائي فجئني بمثلهم
    إذا جمعتنا يا جرير المجامع
  • (٦)
    والتنبيه على أن المشار إليه المُعَقبَ بأوصاف جدير لأجل تلك الأوصاف بما يُذكر بعد اسم الإشارة، كقوله تعالى: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.١٧
    وكثيرًا ما يشار إلى القريب غير المُشاهد بإشارة البعيد؛ تنزيلًا للبُعد عن العيان منزلة البعد عن المكان، نحو: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا.

(٧) المبحث السابع: في تعريف المسند إليه بالموصوليَّة

يُؤتى بالمسند إليه اسمَ موصول إذا تعيَّن طريقًا لإحضار معناه، كقولك: الذي كان معنا أمس سافر، إذا لم تكن تعرف اسمه.

أما إذا لم يتعيَّن طريقًا لذلك فيكون لأغراض أخرى:
  • (١)

    منها: التشويق، وذلك فيما إذا كان مضمون الصلة حكمًا غريبًا، كقوله:

    والذي حارت البريَّة فيه
    حيوان مستحدَث من جماد١٨
  • (٢)

    ومنها إخفاء الأمر عن غير المخاطب، كقول الشاعر:

    وأخذت ما جاد الأمير به
    وقضيت حاجاتي كما أهوى
  • (٣)
    ومنها التنبيه على خطأ المخاطب، نحو: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ، وكقول الشاعر:
    إن الذين تُرَوْنَهم إخوانَكم
    يشفي غليل صدورهم أن تُصرعوا١٩
  • (٤)

    ومنها التنبيه على خطأ غير المخاطب، كقوله:

    إنَّ التي زَعَمَتْ فؤادَكَ مَلَّها
    خُلِقَتْ هَوَاكَ كما خُلِقْتَ هَوى لها
  • (٥)

    ومنها تعظيم شأن المحكوم به، كقول الشاعر:

    إن الذي سمك السماء بنى لنا
    بيتًا دعائمه أعزُّ وأطول٢٠
  • (٦)
    ومنها التهويل: تعظيمًا أو تحقيرًا، نحو: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ٢١ ونحو: مَنْ لم يدر حقيقة الحال قال ما قال.
  • (٧)
    ومنها استهجان التصريح بالاسم، نحو: الذي رباني أبي.٢٢
  • (٨)
    ومنها الإشارة إلى الوجه الذي يُبنى عليه الخبر من ثواب أو عقاب، كقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
  • (٩)

    ومنها التوبيخ، نحو: الذي أحسن إليك قد أسأت إليه.

  • (١٠)

    ومنها الاستغراق، نحو: الذين يأتونك أكْرِمْهم.

  • (١١)

    ومنها الإبهام، نحو: لكل نفس ما قدَّمت.

اعلم أنَّ التعريف بالموصوليَّة مبحث دقيق المسلك، غريب النزعة، يُوقِفك على دقائق من البلاغة، تؤنسك إذا أنت نظرت إليها بثاقب فكرك، وتُثلج صدرك إذا تأملتها بصادق رأيك، فأسرار ولطائف التعريف بالموصولية لا يمكن لها، واعتبر في كل مقام ما تراه مناسبًا.

(٨) المبحث الثامن: في تعريف المسند إليه بأل

يُؤتى بالمسند إليه مُعَرَّفًا «بأل العهديَّة» أو «أل الجنسية» لأغراض آتية:

(٨-١) أل العهدية

أل العهدية: تدخل على المسند إليه للإشارة إلى فرد معهود خارجًا بين المتخاطبين، وعهده يكون:
  • (أ)
    إما بتقدُّم ذكره «صريحًا» كقوله تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ويُسمَّى عهدًا صريحيًّا.
  • (ب)
    وإما بتقدُّم ذكره «تلويحًا» كقوله تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى فالذكر وإن لم يكن مسبوقًا صريحًا إلا أنه إشارة إلى «ما» في الآية قبله: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا٢٣ فإنهم كانوا لا يحررون لخدمة بيت المقدس إلا الذكور، وهو المعنيُّ «بما» ويسمَّى «كنائيًّا».
  • (جـ)
    وإما بحضوره بذاته، نحو: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ أو بمعرفة السامع له، نحو: هل انعقد المجلس، ويُسمى «عهدًا حضوريًّا».

(٨-٢) أل الجنسية

أل الجنسية: وتُسمَّى «لام الحقيقة» تدخل على المسند إليه لأغراض أربعة:
  • (١)

    للإشارة إلى الحقيقة من حيث هي بقطع النظر عن عمومها وخصوصها، نحو: الإنسان حيوان ناطق.

    وتسمَّى «لام الجنس»؛ لأن الإشارة فيه إلى نفس الجنس، بقطع النظر عن الأفراد، نحو: الذهب أثمن من الفضَّة.

  • (٢)
    أو للإشارة إلى الحقيقة في ضمن فرد مبهم، إذا قامت القرينة على ذلك، كقوله تعالى: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ ومدخولها في المعنى «كالنكرة» فيعامل معاملتها، وتُسمَّى «لام العهد الذِّهني».
  • (٣)
    أو للإشارة إلى كلِّ الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب اللغة:
    • (أ)
      بمعونة قرينة «حالية» نحو: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ؛ أي كل غائب وشاهد.
    • (ب)
      أو بمعونة قرينة «لفظية» نحو: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ؛ أي كل إنسان بدليل الاستثناء بعده، ويُسمَّى «استغراقًا حقيقيًّا».
  • (٤)

    أو للإشارة إلى كل الأفراد مقيَّدًا، نحو: جمع الأمير التجار، وألقى عليهم نصائحه؛ أي جمع الأمير «تجَّار مملكته» لا تجَّار العالم أجمع، ويُسمَّى «استغراقًا عرفيًّا».

تنبيهات

  • التنبيه الأول: علم مما تقدم أن أل التعريفية قسمان:
    • القسم الأول: لام العهد الخارجي، وتحته أنواع ثلاثة: صريحي – وكنائي – وحضوري.
    • والقسم الثاني: لام الجنس: وتحته أنواع أربعة: لام الحقيقة من حيث هي – ولام الحقيقة في ضمن فرد مبهم – ولام الاستغراق الحقيقي – ولام الاستغراق العرفي.
  • التنبيه الثاني: «استغراق المفرد أشمل» من استغراق المثنى، والجمع، واسم الجمع؛ لأن المفرد يتناول كل واحد واحد من الأفراد، والمثنى إنما يتناول كل اثنين اثنين، والجمع إنما يتناول كل جماعة جماعة؛ بدليل صحة «لا رجل في الدار» إذا كان فيها رجل أو رجلان، بخلاف قولك: «لا رجلَ» فإنه لا يصبح إذا كان فيها رجل أو رجلان.
    وهذه القضية ليست بصحيحة على عمومها، وإنما تصح في النكرة المنفية، دون الجمع المعرف باللام؛ لأن المعرف بلام الاستغراق يتناول كل واحد من الأفراد نحو الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ، بل هو في المفرد أقوى، كما دل عليه الاستقراء، وصرح به أئمة اللغة وعلماء التفسير في كل ما وقع في القرآن العزيز، نحو: أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا؛ إلى غير ذلك من آي الذكر الحكيم، كما في المطولات.
  • التنبيه الثالث: قد يعرف الخبر بلام الجنس لتخصيص المسند إليه بالمسند المعرف وعكسه «حقيقة» نحو: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، ونحو: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، أو «ادعاء» للتنبيه على كمال ذلك الجنس في المسند إليه، نحو: محمد العالم «أي الكامل في العلم»، أو كماله في المسند، نحو: الكرم التقوى «أي لا كرم إلا هي».

(٩) المبحث التاسع: في تعريف المسند إليه بالإضافة

يُؤتى بالمسند إليه مُعرَّفًا بالإضافة إلى شيء من المعارف السَّابقة لأغراض كثيرة:
  • (١)

    منها أنها أخصر طريق إلى إحضاره في ذهن السامع، نحو: جاء غلامي؛ فإنه أخصر من قولك: جاء الغلام الذي لي.

  • (٢)

    ومنها تعذُّر التعدُّد أو تعسُّره، نحو: أجمع أهل الحق على كذا، وأهل مصر كرام.

  • (٣)

    ومنها الخروج من تبعة تقديم البعض على البعض، نحو: حضر أمراء الجند.

  • (٤)

    ومنها التعظيم للمضاف، نحو: «كتاب السلطان حضر»، أو التعظيم للمضاف إليه، نحو: «الأمير تلميذي»، أو غيرهما، نحو: أخو الوزير عندي.

  • (٥)

    ومنها التَّحقير للمضاف، نحو: «ولد اللص قادم»، أو التحقير للمضاف إليه، نحو: «رفيق زيد لص»، أو غيرهما، نحو: أخو اللص عند عمرو.

  • (٦)

    ومنها الاختصار لضيق المقام لفرط الضجر والسآمة، كقول جعفر بن عُلبة، وهو في السجن بمكة:

    هواي مع الركب اليمانين مُصعِدٌ
    جنيب وجُثماني بمكة موثق٢٤

واعلمْ أنَّ هيئة التركيب الإضافي موضوعة للاختصاص المصحح لأن يقال: «المضاف للمضاف إليه» فإذا استعملت في غير ذلك كانت مجازًا كما في الإضافة لأدنى ملابسة، نحو: «مكر الليل» وكقوله:

إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرةٍ
«سُهيل» أذاعت غزلها في القرائب٢٥

(١٠) المبحث العاشر: في تعريف المسند إليه بالنداء٢٦

يُؤتى بالمسند إليه مُعرفًا بالنداء لأغراض كثيرة:
  • (١)

    منها إذا لم يُعرف للمخاطب عنوان خاص، نحو: يا رجل.

  • (٢)

    ومنها الإشارة إلى علة ما يُطلب منه، نحو: يا تلميذ اكتب الدَّرس.

(١١) المبحث الحادي عشر: في تنكير المسند إليه

يُؤتى بالمسند إليه نكرة لعدم عِلم المتكلم بجهة من جهات التعريف حقيقة أو ادعاء، كقولك: «جاء هنا رجل يسأل عنك» إذا لم تعرف ما يعينه من علم أو صلة أو نحوهما، وقد يكون لأغراض أخرى:

(١) كالتكثير٢٧ نحو: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ؛ «أي رسل كثيرون».

(٢) والتقليل، نحو: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ونحو: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ.

(٣) والتعظيم والتحقير، كقول ابن أبي السمط:

له حاجب عن كل أمر يشينه
وليس له عن طالب العرف حاجب
أي له مانع عظيم، وكثير عن كل عيب، وليس له مانع قليل أو حقير عن طالب الإحسان،٢٨ فيحتمل التعظيم والتكثير والتقليل والتحقير.

(٤) وإخفاء الأمر، نحو: قال رجل: «إنك انحرفت عن الصواب» تخفي اسمه؛ حتى لا يلحقه أذى.

(٥) وقصد الإفراد، نحو: «ويل أهون من ويلين» (أي ويل واحد أهون من ويلين).

(٦) وقصد النوعية، نحو: «لكل داء دواء» (أي لكل نوع من الداء نوع من الدواء).

(١٢) المبحث الثاني عشر: في تقديم المسند إليه

مرتبة المسند إليه:٢٩ «التقديم»؛ وذلك لأن مدلوله هو الذي يخطر أولًا في الذهن؛ لأنه المحكوم عليه، والمحكوم عليه سابق للحكم طبعًا؛ فاستحق التقديم وضعًا. ولتقديمه دواعٍ شتى:
  • (١)

    منها تعجيل المسرَّة، نحو: العفو عنك صدر به الأمر.

  • (٢)

    ومنها تعجيل المساءة، نحو: القصاص حكم به القاضي.

  • (٣)

    ومنها التشويق إلى المتأخر إذا كان المتقدِّم مشعرًا بغرابةٍ، كقول أبي العلاء المعرِّي:

    والذي حارتِ البريةُ فيه
    حيوان مستحدَث من جماد٣٠
  • (٤)

    ومنها التلذذ، نحو: ليلى وصلت، وسلمى هجرت.

  • (٥)

    ومنها التبرك، نحو: اسم الله اهتديت به.

  • (٦)

    ومنها النص على عموم السلب، أو النص على سلب العموم.

    «فعموم السلب» يكون بتقديم أداة العموم،٣١ ككل وجميع على أدة النفي، نحو: «كل ظالم لا يفلح»، المعنى: لا يفلح أحد من الظلمة.

    ونحو: «كل ذلك لم يكن»؛ أي لم يقع هذا ولا ذاك.

    ونحو: كل تلميذ لم يقصر في واجبه. ويُسمى شمول النفي.

    واعلم: أن «عموم السلب» يكون النفي فيه لكل فرد.

    وتوضيح ذلك أنك إذا بدأت بلفظة «كل» كنت قد سلطت الكلية على النفي، وأعملتها فيه، وذلك يقضي ألا يشذ عنه شيء.

    و«سلب العموم» يكون بتقديم أداة النفي على أداة العموم، نحو: لم يكن كل ذلك، لم يقع المجموع، فيحتمل ثبوت البعض، ويحتمل نفي كل فرد؛ لأن النفي يوجه إلى الشمول خاصة، دون أصل الفعل، ويُسمى «نفي الشمول».

    واعلم أن «سلب العموم» يكون النفي فيه للمجموع غالبًا، كقول المتنبي:

    ما كلُّ رأي الفتى يدعو إلى رَشدِ
    وقد جاء لعموم النفي قليلًا، كقوله تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ودليل ذلك الذوق والاستعمال.
  • (٧)
    ومنها إفادة التخصيص قطعًا٣٢ إذا كان المسند إليه مسبوقًا بنفي، والمسند فعلًا، نحو: «ما أنا قلت هذا بل غيري»؛ أي: لم أقله، وهو مقول لغيري؛ ولذا لا يصح أن يقال: ما أنا قلت هذا ولا غيري؛ لأن مفهوم «ما أنا قلت» أنه مقول للغير ومنطوق «ولا غيري» كونه غير مقول للغير «فيحصل التناقض سلبًا وإيجابًا».
    وإذا لم يسبق المسند إليه نفي كان تقديمه محتملًا٣٣ لتخصيص الحكم به، أو تقويته إذا كان المسند فعلًا،٣٤ نحو: «أنت لا تبخل» ونحو: «هو يهب الألوف» فإنَّ فيه الإسناد مرتين؛ إسناد الفعل إلى ضمير المخاطب في المثال الأول، وإسناد الجملة إلى ضمير الغائب في المثال الثاني.
  • (٨)

    ومنها كون المتقدِّم محط الإنكار والغرابة، كقوله:

    أبعْدَ المشيبِ المُنْقضي في الذَّوائب
    تحاول وصلَ الغانيات الكواعبِ
  • (٩)

    ومنها سلوك سبيل الرقي، نحو: هذا الكلام صحيح فصيح بليغ، فإذا قلت: «فصيح بليغ» لا يحتاج إلى ذكر صحيح، وإذا قلت: «بليغ» لا يحتاج إلى ذكر فصيح.

  • (١٠)
    ومنها مراعاة الترتيب الوجودي، نحو: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ.

تمرين

ما نوع المقدم وما فائدة التقديم في الأمثلة الآتية:
  • (١)
    قال الله تعالى: لِلهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
  • (٢)
    وقال تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا.
  • (٣)

    وقال أبو فراس:

    إلى الله أشكو أننا بمنازل
    تحَكَّمُ في آسادهن كلاب
  • (٤)

    وقال ابن نُباتة يُخاطب الحسن بن المهلبي:

    ولي همَّة لا تطلب المال للغنى
    ولكنها منك المودة تطلب
  • (٥)

    وقال أبو نواس:

    إني انتجعت العباس ممتدحًا
    وسيلتي جودُه وأشعارِ
    عن خبرة جئت لا مخاطرة
    وبالدلالات يهتدي الساري
  • (٦)

    وقال الأبيوردي:

    ومن نكد الأيام أن يبلغ المنى
    أخو اللؤم فيها والكريم يَخِيب
  • (٧)

    وقال أبو الطيب المتنبي يهجو كافورًا:

    من أيةِ الطرقِ مثلك الكرم
    أين المحاجم يا كافور والجَلَمُ؟
  • (٨)

    وقال المعري:

    أعندي وقد مارستُ كلَّ خَفِيَّةٍ
    يصدَّقُ واشٍ أو يُخَيَّب سائلُ؟
  • (٩)

    وقال أيضًا:

    إلى الله أشكو أنني كل ليلة
    إذا نمت لم أعدمْ خواطر أوهامِ
    فإن كان شرًّا فهو لا شك واقع
    وإن كان خيرًا فهو أضغاث أحلامِ
  • (١٠)

    وقال أيضًا:

    وكالنار الحياة فمن رماد
    أواخرها وأولها دخان
  • (١١)

    وقال بعض الشعراء في الحث على المعروف:

    يد المعروف غُنْمٌ حيث كانت
    تحملها شكور أو كفور
    ففي شكر الشكور لها جزاء
    وعند الله ما جحد الكفور
  • (١٢)

    وقال الآخر:

    أنلهو وأيامنا تذهب
    ونلعب والدهر لا يلعب؟!
  • (١٣)

    وقال محمد بن وهيب يمدح الخليفة المعتصم (وكنيته أبو إسحق):

    ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها
    شمس الضحى وأبو إسحق والقمر
  • (١٤)

    وقال آخر:

    ثلاثة يُجهل مقدارها
    الأمن والصحة والقوت
    فلا تثق بالمال من غيرها
    لو أنه دُرٌّ وياقوت
  • (١٥)

    وقال آخر يهجو بخيلًا:

    أأنت تجود إن الجود طبع
    وما لك منه يا هذا نصيب؟
  • (١٦)

    وقال آخر يستنكر أن يشرب الخمر حين دُعي لشربها:

    أبعد ستين قد ناهزتها حججًا
    أحكم الرَّاح في عقلي وجسماني؟
  • (١٧)

    وقال الآخر:

    غافل أنت والليالي حُبالى
    بصنوف الردى تروح وتغدو
  • (١٨)

    وقال ابن المعتز:

    ومن عجب الأيام بغي معاشر
    غضاب على سبقي إذا أنا جاريت
    يغيظهم فضلي عليهم ونقصهم
    كأني قسمت الحظوظ فحابيت

(١٣) المبحث الثالث عشر: في تأخير المسند إليه

يؤخر المسند إليه إن اقتضى المقام تقديم المسند كما سيجيء، ولا نلتمس دواعي التقديم والتأخير إلا إذا كان الاستعمال يبيح كليهما.

تطبيق عام على أحوال المسند إليه وما قبله

«أمير المؤمنين يأمرك بكذا» جملة خبرية اسمية من الضرب الثالث، المراد بالخبر بيان سبب داعي الامتثال. المسند إليه أمير المؤمنين، ذُكر للتعظيم، وقُدِّم لذلك، والمسند جملة يأمر، ذكر لأن الأصل فيه ذلك، وأُخِّر لاقتضاء المقام تقديم المسند إليه، وأُتِيَ به جملة لتقوية الحكم بتكرار الإسناد «والتعظيم وتقوية الحكم وكون ذكر المسند هو الأصل، ولا مقتضى للعدول عنه، واقتضاء المقام تقديم المسند إليه» «أحوال» والذكر والتقديم والتأخير «مقتضيات»، والإتيان بهذه الجملة على هذا الوجه «مطابقة لمقتضى الحال».

«أنت الذي أعانني، وأنت الذي سرني» ذكر «أنت» ثانيًا لزيادة التقرير والإيضاح، فزيادة التقرير والإيضاح «حال» والتقرير «مقتضى»، والإتيان بالجملة على هذا الوجه «مطابقة لمقتضى الحال».

«سعيد يقتحم الأخطار» (بعد مدحه) ذكر سعيد للتعظيم والتعجب، فالتعظيم والتعجب حال والذكر مقتضى، والإتيان بالجملة على هذا الوجه مطابقة لمقتضى الحال.

«حضر الكريم سعد» (بعد: أَحضَرَ سعد؟) ذكر الكريم لتعظيم سعد ومدحه، فالتعظيم حال، والذكر مقتضى، والإتيان بالجملة على هذا الوجه مطابقة لمقتضى الحال.

«علي كتب الدرس» (جواب: ما الذي عمل علي؟) ذكر علي للتعريض بغباوة السامع، وقُدِّم لتقوية الحكم لكون الخبر فعلًا، فالتعريض والتقوية حالان والذكر لتقديم مقتضيان، والإتيان بالجملة على هذا الوجه مطابقة لمقتضى الحالين.

«محمود نعم التلميذ» (بعد مدح كثير له) ذكر محمود لقلة الثقة بالقرينة، وقُدِّم لتقوية الحكم.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ حُذف المسند وهو «خلقنا» للعلم به.

خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ حُذف المسند إليه وهو الله تعالى للعلم به.

«معطي الوسامات والرتب» حُذف المسند إليه؛ للتنبيه على تعيين المحذوف ادعاء «كالسلطان مثلًا».

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى حُذف مفعول آوَى للمحافظة على الفاصلة.

«صاحبك يدعو إلى وليمة العرس» حُذف مفعول يدعو للتعميم باختصار.

«لا يعطي ولا يمنع إلا الله تعالى» حُذف المفعولان؛ لعدم تعلق الغرض بهما.

«أهين الأمير» حذف الفاعل؛ للخوف عليه.

«لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده» قدم نصف الثاني؛ للمحافظة على الوزن.

«ما كل ما يتمنى المرء يدركه» قدمت أداة النفي على أداة العموم؛ لإفادة سلب العموم ونفي الشمول.

«جميع العقلاء لا يسعَوْن في الشر» قدمت أداة العموم على أداة النفي لإفادة عموم السلب وشمول النفي.

وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قدم الجار والمجرور للتخصيص.

ونحن التاركون لما سخطنا
ونحن الآخذون لما رضينا

الجملة الأولى خبرية اسمية، من الضرب الابتدائي، والمراد بالخبر إظهار الفخر والشجاعة. المسند إليه نحن، ذكر؛ لأن ذكره الأصل، وقدم للتعظيم، وعرف بالإضمار لكون المقام للتكلم مع الاختصار، والمسند التاركون، ذكر وأخر؛ لأن الأصل ذلك.

وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني
وأشمتَّ بي من كان فيك يلوم

جملة خبرية اسمية من الضرب الابتدائي، والمراد بالخبر التوبيخ. المسند إليه أنت، ذُكِر وقُدِّم؛ لأن الأصل فيه ذلك، وعرف بالإضمار لكون المقام للخطابي مع الاختصار والمسند لفظة الذي، وقد ذُكِر وأُخِّر؛ لأن الأصل فيه ذلك، وعرف بالموصولية للتعليل؛ يعني أن إخلاف وعده كان سبب الشماتة واللوم.

وأما جملة «أشمت» فمعطوفة على جملة «أخلفت» ووصلت بها لما تقدم، وعرف المسند إليه وهو الفاعل في يلوم بالإضمار؛ لكون المقام للغيبة مع الاختصار.

«أبو لهب فعل كذا» جملة خبرية اسمية من الضرب الثالث؛ لما فيها من تقوية الحكم بتكرار الإسناد، والمراد بالخبر أصل الفائدة لمن يجهل ذلك. المسند إليه أبو لهب، ذكر وقدم؛ لأن الأصل فيه ذلك، وعرف بالعلمية عن كونه جهنميًّا.

أمثلة على أحوال المسند إليه يُطلب أجوبتها

ما هو المسند إليه؟ ما هي أحواله؟ متى يجب ذكره؟ ما هي الوجوه التي ترجح ذكره عند وجود القرينة؟ متى يحذف؟ ما الفرق بين المعرفة والنكرة؟ لِمَ يعرَّف المسند إليه بالإضمار؟ ما هو الأصل في الخطاب؟ ما الأصل في وضع الضمير؟ لِمَ يعرَّف المسند إليه بالعلمية؟ لِمَ يعرَّف بالإشارة؟ لِمَ يعرَّف بالموصولية؟ لِمَ يعرَّف بالنداء؟ لأي شيء ينكر المسند إليه؟ لِمَ يقدم المسند إليه؟ ما الفرق بين عموم السلب وسلب العموم؟ لِمَ يُؤخر المسند إليه؟

هوامش

(١) بيان ذلك أنه إذا لم يوجد في الكلام قرينة تدل على ما يراد حذفه، أو وُجِدت قرينة ضعيفة غير مصحوبة بغرض آخر يدعو إلى الحذف — فلا بد من الذكر جريًا على الأصل. وقد تدعو الظروف والمناسبات إلى ترجيح «الذكر» مع وجود قرينة تمكن من «الحذف» وذلك لأغراض مختلفة، ترجع إلى أساليب البلغاء؛ فنجدهم قد ذكروا أحيانًا ما يجوز أن يُستغنى عنه، وحذفوا ما لا يوجد مانع من ذكره، فرجحوا الذكر أحيانًا والحذف أحيانًا؛ لأسباب بلاغية اقتضت ذلك.
(٢) الشاهد في أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ حيث كرر اسم الإشارة المسند إليه للتقرير والإيضاح؛ تنبيهًا على أنهم كما ثبتت لهم الأثرة والميزة بالهدى فهي ثابتة لهم بالفلاح أيضًا.
(٣) أي: كتابة الحكم عليه بين يدي الحاكم.
(٤) فيذكر المسند إليه؛ لئلا يجد المشهود عليه سبيلًا للإنكار بأن يقول للحاكم عند التسجيل: إنما فهم الشاهد أنك أشرت إلى غيري فأجاب؛ ولذلك لم أنكر ولم أطلب الإعذار فيه.
(٥) وفي هذا القسم تظهر دقائق البلاغة ومكنون سرها ورائع أساليبها؛ ولهذا يقول الإمام «عبد القاهر الجرجاني» في باب الحذف: إنه باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانًا إذا لم تُبِنْ، وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر، وتدفعها حتى تنظر.
والأصل في جميع المحذوفات — على اختلاف ضروبها — أن يكون في الكلام ما يدل عليها، وإلا كان الحذف تعمية وإلغازًا لا يُصار إليه بحال. ومن شرط حسن الحذف أنه متى ظهر المحذوف زال ما كان في الكلام من البهجة والطلاوة، وصار إلى شيء غث لا تناسب بينه وبين ما كان عليه أولًا «والقرينة شرط في صحة الحذف» إذا اقترن بها غرض من الأغراض المذكورة.
(٦) أي: لم يقل: «أنا عليل» لضيق المقام بسبب الضجر الحاصل له من الضنى.
(٧) أي: لم يقل: «حمد الناس سيرته» للمحافظة على السجع المستلزم رفع الثانية.
(٨) فلو قيل: «أن يرد الناس الودائع» لاختلفت القافية لصيرورتها مرفوعة في الأول منصوبة في الثاني.
(٩) أي: لا عليَّ شيء، ولا لي شيء.
(١٠) وكذا أيضًا الوارد على ترك نظائره مثل الرفع على المدح، نحو: «مررت بزيد الهمام»، وعلى الذم، نحو: «رأيت بكرًا اللئيم»، وعلى الترحم مثل: «ترفق بخالد المسكين».
(١١) قيل: الجودي هو «الجبل» الذي وقفت عليه سفينة نوح، وهي معهودة في الكلام السابق في قوله تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا إلخ.
(١٢) نضا بمعنى جرد. شأى: سبق.
(١٣) فلول السيف: كسور في حده.
(١٤) الحشا: ما انطوت عليه الضلوع.
(١٥) أي: هؤلاء نجوم.
(١٦) اعلمْ أن كلًّا من المعرفة والنكرة يدل على معين، وإلا امتنع الفهم، إلا أن الفرق بينهما أن «النكرة» يفهم منها ذات المعين فقط، ولا يفهم منها كونه معلومًا للسامع، وأن «المعرفة» يفهم منها ذات المعين، ويفهم منها كونه معلومًا للسامع لدلالة اللفظ على التعيين، والتعيين فيها إما بنفس اللفظ من غير احتياج إلى قرينة خارجية كما في العلم، وإما بقرينة تكلم أو خطاب أو غيبة كما في الضمائر، وإما بقرينة إشارة حسية كما في الإشارة، وإما بنسبة معهودة كما في الأسماء الموصولة، وإما بحرف؛ وهو المعرف بأل والنداء، وإما بإضافة معنوية؛ وهو المضاف إلى واحد مما ذُكر، ما عدا المنادى.
واعلم أنه قدم ذكر «الإضمار» لأنه أعرف المعارف، وأصل الخطاب أن يكون لمعين، وقد يستعمل أحيانًا دون أن يقصد به مخاطب معين كقول المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
أُخرج الكلام هنا في صورة الخطاب؛ ليفيد العموم.
(١٧) أي: فالمشار إليه بأولئك هم المتقون، وقد ذكر عقبه أوصاف هي الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة وما بعدهما، ثم أتى بالمسند إليه اسم إشارة وهو أولئك؛ تنبيهًا على أن المشار إليهم جديرون وأحقاء من أجل تلك الخصال بأن يفوزوا بالهداية عاجلًا، والفوز بالفلاح آجلًا.
(١٨) يعني: تحيرت البرية في المعاد الجسماني.
(١٩) أي: من تظنون أخوتهم يحبون دماركم، فأنتم مخطئون في هذا الظن، ولا يفهم هذا المعنى لو قيل: «إن قوم كذا يشفي … إلخ».
(٢٠) أي: إن من سمك السماء بنى لنا بيتًا من العز والشرف، هو أعز وأقوى من دعائم كل بيت.
(٢١) أي: غطاهم وسترهم من البحر موج عظيم، لا تحيط العبارة بوصفه.
(٢٢) أي: بأن كان اسمه قبيحًا كمن اسمه «برغوث، أو جحش، أو بطة، أو غيره».
(٢٣) التحرير: هو العتق لخدمة بيت المقدس؛ أي: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها، فطلبها الذكر كان بطريق الكناية في قولها: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فإن ذلك كان مقصورًا عندهم على المذكور، فأل في «الذكر» عائدة إلى مذكر بطريق الكناية، وأل في «الأنثى» عائدة إلى مذكور صريحًا في قولها: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى فالعهد الخارجي ثلاثة أنواع: صريحي، وكنائي، وعلمي.
(٢٤) أي: من أهواه وأحبه ذاهب مع ركبان الإبل، القاصدين إلى اليمن، منضم إليهم، مقود معهم، وجسمي مقيد بمكة، محبوس وممنوع عن السير معهم، فلفظ «هواي» أخصر من الذي أهواه ونحوه.
(٢٥) أضاف الكوكب إلى «الخرقاء»؛ أي المرأة الحمقاء مع أنه ليس لها؛ لأنها لا تتذكر كسوتها إلا وقت طلوع «سهيل» سحرًا في الشتاء. وتفصيل ذلك أنه يقال: إن المرأة الحمقاء كانت تضيع وقتها في الصيف، فإذا طلع سهيل — وهو كوكب قريب من القطب الجنوبي في السحر، وذلك قرب الشتاء — أحست بالبرد، واحتاجت إلى الكسوة؛ ففرقت غزلها؛ أي قطنها أو كتانها الذي يصير غزلًا في أقاربها؛ ليغزلوا لها بسبب عجزها عن الغزل ما يكفيها لضيق الوقت، فإضافة كوكب الخرقاء لأدنى ملابسة، وقد جعل الشاعر هذه الملابسة بمنزلة الاختصاص.
(٢٦) اعلم أن أغلب البيانيين لم يثبت «التعريف بالنداء» في تعريف المسند إليه، وتحقيق ذلك يُطلب من المطولات في علوم البلاغة.
(٢٧) اعلم أن الفرق بين التعظيم والتكثير: أن التعظيم بحسب رفعة الشأن وعلو الطبقة، وأن التكثير باعتبار الكميات والمقادير؛ تحقيقًا كما في قولك: «إن له لإبلًا» و«إن له لغنمًا» أو تقديرًا نحو: ورضوان من الله أكبر؛ أي: قليل من الرضوان أكبر من كل شيء. ويلاحَظ ذلك الفرق في التحقير والتقليل أيضًا.
(٢٨) ومنه قوله:
ولله عندي جانب لا أضيعه
وللهو عندي والخلاعة جانب
ويحتمل التكثير والتقليل قوله تعالى: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ.
(٢٩) معلوم أن الألفاظ قوالب المعاني، فيجب أن يكون ترتيبها الوضعي حسب ترتيبها الطبيعي، ومن البيِّن أن «رتبة المسند إليه التقديم»؛ لأنه المحكوم عليه، ورتبة المسند التأخير؛ إذ هو المحكوم به، وما عداهما فهو متعلقات وتوابع تأتي تالية لهما في الرتبة، ولكن قد يعرض لبعض الكلم من المزايا والاعتبارات ما يدعو إلى تقديمها، وإن كان من حقها التأخير، فيكون من الحسن إذًا تغيير هذا الأصل، واتباع هذا النظام؛ ليكون المقدم مشيرًا إلى الغرض الذي يؤدي إليه، ومترجمًا عما يريد.
ولا يخلو «التقديم» من أحوال أربع:
  • الأول: ما يفيد زيادة في المعنى مع تحسين في اللفظ، وذلك هو الغاية القصوى، وإليه المرجع في فنون البلاغة، والكتاب الكريم هو العمدة في هذا، انظر إلى قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ تجد أن تقديم الجار في هذا قد أفاد التخصيص، وأن النظر لا يكون إلا لله، مع جودة الصياغة وتناسق السجع.
  • الثاني: ما يفيد زيادة في المعنى فقط، نحو: بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ فتقديم المفعول في هذا لتخصيصه بالعبادة، وأنه ينبغي ألا تكون لغيره، ولو أخر ما أفاد الكلام ذلك.
  • الثالث: ما يتكافأ فيه التقديم والتأخير، وليس لهذا الضرب شيء من الملاحة، كقوله:
    وكانت يدي ملأى به ثم أصبحت
    «بحمد إلهي» وهي منه سليب

    فتقديره: ثم أصبحت وهي منه سليب بحمد إلهي.

  • الرابع: ما يختل به المعنى ويضطرب، وذلك هو التعقيد اللفظي أو المعاظلة التي تقدمت، كتقديم الصفة على الموصوف، والصلة على الموصول، أو نحو ذلك من الأنواع التي خرجت عن الفصاحة، ومنها قول الفرزدق:
    إلى ملك ما أمه من محارب
    أبوه ولا كانت كليب تصاهره

    فتقديره: إلى ملك أبوه ما أمه من محارب؛ أي ما أم أبيه منهم، ولا شك أن هذا لا يُفهم من كلامه للنظرة الأولى، بل يحتاج إلى تأمل وتريث ورفق؛ حتى يُفهم المراد منه.

(٣٠) قيل: «الحيوان» هو الإنسان و«الجماد» الذي خلق منه هو النطفة، وحيرة البرية فيه هو الاختلاف في إعادته للحشر، وهو يريد أن الخلائق تحيرت في المعاد الجسماني، يدل لذلك قوله قبله:
بان أمر الإله واختلف النا
س فداعٍ إلى ضلال وهادي
(٣١) بشرط أن تكون أداة العموم غير معمولة للفعل الواقع بعدها كما مُثل، فإن كانت معمولة للفعل بعدها سواء تقدمت لفظًا أو تأخرت، نحو: «كل ذنب لم أصنع» و«لم آخذ كل الدراهم» أفاد الكلام سلب العموم ونفي الشمول غالبًا.
(٣٢) وذلك يكون في ثلاثة مواضع:
  • الأول: أن يكون المسند إليه معرفة ظاهرة بعد نفي، نحو: ما فؤاد فعل هذا.
  • الثاني: أن يكون المسند إليه معرفة مضمرة بعد نفي، نحو: ما أنا قلت ذلك.
  • الثالث: أن يكون المسند إليه نكرة بعد نفي، نحو: ما تلميذ حفظ الدرس.
(٣٣) وذلك في ستة مواضع:
  • الأول: أن يكون المسند إليه معرفة ظاهرة قبل نفي، نحو: فؤاد ما قال هذا.
  • الثاني: أن يكون المسند إليه معرفة ظاهرة مثبتة، نحو: عباس أمر بهذا.
  • الثالث: أن يكون المسند إليه معرفة مضمرة قبل نفي، نحو: أنا ما كتبت الدرس.
  • الرابع: أن يكون المسند إليه معرفة مضمرة مثبتة، نحو: أنا حفظت درسي.
  • الخامس: أن يكون المسند إليه نكرة قبل نفي، نحو: رجل ما قال هذا.
  • السادس: أن يكون المسند إليه نكرة مثبتة، نحو: تلميذ حضر اليوم في المدرسة.
واعلم أن ما ذكرناه هو مذهب عبد القاهر الجرجاني، وهو الحق، وخالفه السكَّاكي.
(٣٤) فإن قيل: لماذا اشترط أن يكون المسند فعلًا، وهل إذا كان المسند وصفًا مشتملًا على ضمير، نحو: «أنت بخيل» لم يكن كالفعل في إفادة التقوية؟
أقول: لما كان ضمير الوصف لا يتغير «تكلمًا، وخطابًا، وغيبة» فهو شبيه بالجوامد، وكانت تقويته قريبة من الفعل، لا مثلها تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤