الباب الثامن

في الوصل والفصل

تمهيد

العلم بمواقع الجمل، والوقوف على ما ينبغي أن يصنع فيها من العطف والاستئناف، والتهدي إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها، أو تركها عند عدم الحاجة إليها — صعب المسلك، لا يوفق للصواب فيه إلا من أوتي قسطًا موفورًا من البلاغة، وطبع على إدراك محاسنها، ورزق حظًّا من المعرفة في ذوق الكلام؛ وذلك لغموض هذا الباب، ودقة مسلكه، وعظيم خطره، وكثير فائدته، يدل لهذا أنهم جعلوه حدًّا للبلاغة.

فقد سُئل عنها بعض البلغاء، فقال: «هي معرفة الفصل والوصل.»

تعريف الوصل والفصل في حدود البلاغة

الوصل عطف جملة على أخرى بالواو، والفصل ترك هذا العطف١ بين الجملتين، والمجيء بها منثورة، تستأنف واحدة منها بعد الأخرى.

فالجملة الثانية تأتي في الأساليب البليغة مفصولة أحيانًا، وموصولة أحيانًا.

فمن الفصل، قوله تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فجملة «ادفع» مفصولة عمَّا قبلها، ولو قيل: «وادفع بالتي هي أحسن» لما كان بليغًا.

ومن الوصل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ عطف جملة «وكونوا» على ما قبلها.

ولو قلت: «اتقوا الله كونوا مع الصادقين» لما كان بليغًا.

فكل من الفصل والوصل يجيء لأسباب بلاغية.

ومن هذا يُعلم أن الوصل جمع وربط بين جملتين «بالواو خاصة» لصلة بينهما في الصورة والمعنى، أو لدفع اللَّبس.

والفصل: ترك الربط بين الجملتين؛ إما لأنهما متحدتان صورة ومعنى، أو بمنزلة المتحدتين، وإما لأنه لا صلة بينهما في الصورة أو في المعنى.

بلاغة الوصل

وبلاغة الوصل: لا تتحقق إلا «بالواو» العاطفة فقط دون بقية حروف العطف؛ لأن «الواو» هي الأداة التي تخفَى الحاجة إليها، ويحتاج العطف بها إلى لطف في الفهم، ودقة في الإدراك؛ إذ لا تفيد إلا مجرد الربط، وتشريك ما بعدها لما قبلها في الحكم، نحو: «مضى وقت الكسل، وجاء زمن العمل، وقم واسْعَ في الخير».

بخلاف العطف بغير «الواو» فيفيد مع التشريك معاني أخرى، كالترتيب مع التعقيب في «الفاء» وكالترتيب مع التراخي في «ثمَّ»؛ وهكذا باقي حروف العطف التي إذا عُطف بواحد منها ظهرت الفائدة، ولا يقع اشتباه في استعماله.

وشرط العطف «بالواو» أن يكون بين الجملتين «جامع»؛ كالموافقة في نحو: «يقرأ ويكتبُ»، وكالمضادة في نحو: «يضحك ويبكي»، وإنما كانت المضادة في حكم الموافقة؛ لأن الذهن يتصور أحد الضدين عند تصور الآخر «فالعلم» يخطر على البال عند ذكر «الجهل» كما تخطر «الكتابة» عند ذكر «القراءة».

و«الجامع» يجب أن يكون باعتبار المسند إليه والمسند جميعًا، فلا يقال: «خليل قادم، والبعير ذاهب» لعدم الجامع بين المسند إليها، كما لا يقال: «سعيد عالم، وخليل قصير» لعدم الجامع بين المسندين، وفي هذا الباب مبحثان.

(١) المبحث الأول: في إجمال مواضع الوصل

الوصل: عطف جملة على أخرى «بالواو» ويقع في ثلاثة مواضع:٢
  • الأول: إذا اتحدت الجملتان في الخبرية والإنشائية لفظًا ومعنًى، أو معنًى فقط،٣ ولم يكن هناك سبب يقتضي الفصل بينهما، وكانت بينهما مناسبة تامة في المعنى.
    فمثال الخبريتين قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ٤  * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ومثال الإنشائيتين قوله تعالى: فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ، وقوله سبحانه: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.

    وصل جملة «ولا تشركوا» بجملة «واعبدوا» لاتحادهما في الإنشاء، ولأن المطلوب بهما مما يجب على الإنسان أن يؤديه لخالقه، ويختصه به.

    ومن هذا النوع قول المرحوم شوقي بك:

    عالجوا الحكمة واستشفوا بها
    وانشُدوا ما حلَّ منها في السِّيَرْ

    فقد وصل بين ثلاث جمل، تتناسب في أنها مما يتعلق بأمر «الحكمة» وبواجب «الشباب» في طلبها والانتفاع بها.

    ومثال المختلفتين قوله سبحانه: إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أي: إني أشهد الله وأشهدكم،٥ فتكون الجملة الثانية في هذه الآية إنشائية لفظًا، ولكنها خبرية في المعنى.٦

    ونحو: «اذهب إلى فلان، وتقول له كذا» فتكون الجملة الثانية من هذا المثال خبرية لفظًا، ولكنها إنشائية معنًى «أي: وقُلْ له»، فالاختلاف في اللفظ لا في المعنى المعول عليه؛ ولهذا «وجب الوصل».

    وعطف الجملة الثانية على الأولى لوجود الجامع بينهما، ولم يكن هناك سبب يقتضي الفصل بينهما، وكل من الجملتين لا موضع له من الإعراب.

  • الثاني: دفع توهُّم غير المراد؛ وذلك إذا اختلفت الجملتان في الخبرية والإنشائية، وكان الفصل يُوهِم خلاف المقصود٧ كما تقول مجيبًا لشخص بالنفي: «لا، شفاه الله»٨ لمن يسألك: هل برئ عليٌّ من المرض؟ «فترك الواو يُوهم السامع الدعاء عليه، وهو خلاف المقصود؛ لأن الغرض الدعاء له».٩ ولهذا «وجب أيضًا الوصل».

    وعطف «الجملة الثانية» الدعائية الإنشائية على «الجملة الأولى» الخبرية المصدَّرة بلفظ «لا» لدفع الإيهام، وكلٌّ من الجملتين لا محل له من الإعراب.

  • الثالث: إذا كان «للجملة الأولى» محل من الإعراب، وقُصِدَ تشريك «الجملة الثانية» لها في الإعراب حيث لا مانع، نحو: «عليٌّ يقول ويفعل».١٠

تمرين

وضح أسباب الوصل في الجمل الآتية:
  • (١)
    قال عز وجل: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا.
  • (٢)
    وقال سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا.
  • (٣)
    وقال سبحانه: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ.
  • (٤)

    وقال عليه الصلاة والسلام: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن.»

  • (٥)

    قال أبو العتاهية:

    تأتي المكاره حين تأتي جملة
    وأرى السرور يجيء في الفلتات
  • (٦)

    وقال المتنبي:

    وكل امرئ يولي الجميل محبَّب
    وكل مكان يُنبِت العزَّ طيب
  • (٧)

    وقال المعري:

    اضربْ وليدَك وادْلُلْهُ على رَشَدٍ
    ولا تقل هو طفل غير محتَلِمِ
    فرُبَّ شقٍّ برأسٍ جَرَّ منفعةً
    قِسْ على نَفْعِ شقِّ الرأسِ في القلمِ
  • (٨)

    وقال:

    يصون الكريمُ العِرضَ بالمال جاهدًا
    وذو اللؤم للأموال بالعِرض صائن
  • (٩)

    وقال مسلم بن الوليد:

    يجود بالنفس إن ضنَّ الجواد بها
    والجود بالنفس أقصى غاية الجود
  • (١٠)

    وقال أبو نواس:

    نسيبك من ناسبتَ بالود قلبه
    وجارك من صافيتَ لا من تُصاقِب
  • (١١)

    وقال الغزي:

    إنما هذه الحياة متاع
    والسفيه الغبي من يصطفيها
    ما مضى فات والمؤمَّل غيب
    ولك الساعة التي أنت فيها

تمرين آخر

بيِّن أسباب الفصل في الأمثلة الآتية:

قال الله تعالى:
  • (١)
    وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ.
  • (٢)
    وقال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.
  • (٣)
    وقال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
  • (٤)
    وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ.
  • (٥)
    وقال سبحانه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا.
  • (٦)
    وقال عز وجل: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ.
  • (٧)

    قال أبو العتاهية:

    الصمت أجمل بالفتى
    من منطق في غير حينه
    لا خير في حشو الكلا
    م إذا اهتديت إلى عيونه
    كل امرئ في نفسه
    أعلى وأشرف من قرينه
  • (٨)

    وقال أبو تمام:

    ليس الكريم الذي يُعطي عطيته
    عن الثناء وإن أغلى به الثمنا
    إن الكريم الذي يُعطي عَطِيَّته
    لغير شيء سوى استحسانه الحَسَنا
    لا يستثيب ببذل العُرف مَحْمَدة
    ولا يَمُنُّ إذا ما قلَّد المننا
  • (٩)

    وقال المتنبي:

    لولا المشقة ساد الناس كلهم
    الجود يُفقر والإقدام قَتَّال
  • (١٠)

    وقال الشريف الرَّضِيُّ:

    لا تأمننَّ عدوًّا لانَ جانبُه
    خشونةُ الصِّل عُقْبَى ذلك اللين
  • (١١)

    وقال المعري:

    لا يُعجبنَّك إقبالٌ يريك سَنًا
    إن الخمود لعمري غاية الضرم
  • (١٢)

    وقال الخفاجي:

    الناس شتَّى وإن عمَّتهم صورٌ
    هي التناسب بين الماء والآل
  • (١٣)

    وقال أبو فراس:

    لا تطلبن دنوَّ دا
    رٍ من خليل أو مُعَاشِرْ
    أبقى لأسباب المودَّة
    أن تزور ولا تجاور
  • (١٤)

    وقال الحُطَيْئة:

    من يفعل الخير لا يعدم جَوازِيَهُ
    لا يذهب العُرف بين اللهِ والناسِ
  • (١٥)

    وقال أعرابي قَتل أخوه ابنًا له:

    أقول للنفس تَأْساءً وتعزيةً
    إحدى يديَّ أصابتني ولم تُرِدِ
    كلاهما خلف من فقد صاحبه
    هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
  • (١٦)

    وقال الغزي:

    من أغفل الشِّعر لم تعرف مناقبه
    لا يُجتنى ثمر من غير أغصان
  • (١٧)

    وقال ابن شرف:

    لا تسألِ الناسَ والأيامَ عن خبر
    هما يَبُثَّانِكَ الأخبارَ تفصيلا
    (١٨) ولكل حُسْنٍ آفة موجودة
    إن السراج على سناه يُدَخَّن
    (١٩) بالعلم والمال يبني الناس ملكهم
    لم يُبْنَ مُلْكٌ على جهل وإقلال

(٢) المبحث الثاني: في مُجمل مواضع الفصل١١

من حقِّ الجُمَل إذا ترادفت ووقع بعضها إثر بعضٍ أن تُربط بالواو؛ لتكون على نسق واحد، ولكن قد يَعرض لها ما يوجب ترك الواو فيها، ويُسمى هذا فصلًا، ويقع في خمسة مواضع:
  • الموضع الأول: أن يكون بين الجملتين اتحاد تام، وامتزاج معنوي، حتى كأنهما أُفْرِغَا في قالب واحد، ويُسمى ذلك «كمال الاتصال».
  • الموضع الثاني: أن يكون بين الجملتين تباين تام، بدون إيهام خلاف المراد، ويُسمى ذلك «كمال الانقطاع».
  • الموضع الثالث: أن يكون بين الجملتين رابطة قوية، ويُسمى ذلك «شبه كمال الاتصال».
  • الموضع الرابع: أن يكون بين الجملة الأولى والثانية «جملة أخرى ثالثة متوسطة» حائلة بينهما، فلو عُطفت الثالثة على «الأولى المناسبة لها» لتُوِهِّم أنها معطوفة على «المتوسطة» فيُترك العطف، ويُسمى ذلك «شبه كمال الانقطاع».
  • الموضع الخامس: أن يكون بين الجملتين تناسب وارتباط، لكن يمنع من عطفهما مانع، وهو عدم قصد اشتراكهما في الحكم، ويُسمى ذلك «التوسط بين الكمالين».

(٣) المبحث الثالث: في تفصيل مواضع الفصل الخمسة السابقة

أحيانًا تتقارب الجمل في معناها تقاربًا تامًّا، حتى تكون الجملة الثانية كأنها الجملة الأولى، وقد تنقطع الصِّلة بينهما.

إمَّا لاختلافهما في الصورة، كأن تكون إحدى الجملتين إنشائية والأخرى خبرية.

وإمَّا لتباعد معناهما، بحيث لا يكون بين المعنيين مناسبة، وفي هذه الأحوال يجب الفصل في كل موضع من المواضع الخمسة الآتية، وهي:
  • الموضع الأول: «كمال الاتصال» وهو اتحاد الجملتين اتحادًا تامًّا، وامتزاجًا معنويًّا، بحيث تنزل الثانية من الأولى منزلة نفسها:
    • (أ) بأن تكون الجملة الثانية بمنزلة البدل من الجملة الأولى، نحو: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ.١٢
    • (ب) أو: بأن تكون الجملة الثانية بيانًا لإبهام في الجملة الأولى، كقوله سبحانه: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ فجملة «قال يا آدم» بيان لما وسوس به الشيطان إليه.
    • (جـ) أو: بأن تكون الجملة الثانية مؤكدة للجملة الأولى، بما يشبه أن يكون توكيدًا لفظيًّا أو معنويًّا، كقوله عز وجل: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا وكقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا فالمانع من العطف في هذا الموضع اتحاد الجملتين اتحادًا تامًّا يمنع عطف الشيء على نفسه «ويوجب الفصل».
  • الموضع الثاني: «كمال الانقطاع» وهو اختلاف الجملتين اختلافًا تامًّا.
    • (أ) بأن يختلفا خبرًا وإنشاءً، لفظًا ومعنًى، أو معنًى فقط، نحو: «حضر الأمير حفظه الله» ونحو: «تكلمْ إني مُصْغٍ إليك» وكقول الشاعر:
      وقال رائدهم أُرْسُوا نُزاوِلُها
      فحَتْفُ كلِّ امرئٍ يَجْرِي بمقدار١٣
    • (ب) أو: بألا تكون بين الجملتين مناسبة في المعنى ولا ارتباط، بل كل منهما مستقل بنفسه، كقولك: «عليٌّ كاتب – الحمام طائر»؛ فإنه لا مناسبة بين كتابة علي وطيران الحمام.

      وكقوله:

      إنما المرء بأصغريه
      كل امرئ رهن بما لديه

      فالمانع من العطف في هذا الموضع «أمر ذاتي» لا يمكن دفعه أصلًا وهو التباين بين الجملتين؛ ولهذا وجب الفصل، وترك العطف؛ لأن العطف يكون للربط، ولا ربط بين جملتين في شدة التباعد وكمال الانقطاع.

  • الموضع الثالث: «شبه كمال الاتصال» وهو كون الجملة الثانية قوية الارتباط بالأولى؛ لوقوعها جوابًا عن سؤال يُفهم من الجملة الأولى، فتُفصل عنها كما يُفصل الجواب عن السؤال، كقوله سبحانه: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ١٤ ونحو قول الشاعر:
    زعم العوازل أنني في غمرة
    صدقوا، ولكنَّ غمرتي لا تنجلي
    كأنه سئل: أصدقوا في زعمهم أم كذبوا؟ فأجاب: صدقوا،١٥ ونحو:
    السيف أصدق أنباء من الكتب
    في حده الحد بين الحد واللعب

    فكأنه استفهم وقال: لِمَ كان السيف أصدق؟ فأجاب بقوله: في حدِّه … إلخ.

    فالمانع من العطف في هذ الموضع وجود الرابطة القوية بين الجملتين، فأشبهت حالة اتحاد الجملتين؛ ولهذا «وجب أيضًا الفصل».

  • الموضع الرابع: «شبه كمال الانقطاع» وهو أن تُسبق جملة بجملتين يصح عطفها على الأولى لوجود المناسبة، ولكن في عطفها على الثانية فساد في المعنى، فيُترك العطف بالمرة؛ دفعًا لتوهم أنه معطوف على الثانية، نحو:
    وتظن سلمى أنني أبغي بها
    بدلًا أراها في الضلال تهيم

    فجملة «أراها» يصح عطفها على جملة «تظن»، لكن يمنع من هذا توهم العطف على جملة «أبغي بها» فتكون الجملة الثالثة من مظنونات سلمى، مع أنه غير المقصود؛ ولهذا امتنع العطف بتاتًا «ووجب أيضًا الفصل».

    والمانع من العطف في هذا الموضع «أمر خارجي احتمالي» يمكن دفعه بمعونة قرينة، ومن هذا ومما سبق يُفهم الفرق بين كل من «كمال الانقطاع» و«شبه كمال الانقطاع».

  • الموضع الخامس: «التوسط بين الكمالين مع قيام المانع» وهو كون الجملتين متناسبتين، وبينهما رابطة قوية، لكن يمنع من العطف مانع، وهو عدم التشريك في الحكم، كقوله تعالى: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ.

    فجملة «يستهزئ بهم» لا يصح عطفها على جملة «إنَّا معكم» لاقتضائه أنه من مقول المنافقين، والحال أنه من مقوله تعالى «دعاء عليهم» ولا على جملة «قالوا»؛ لئلا يتوهم مشاركته له في التقييد بالظرف، وأنَّ استهزاء الله بهم مقيد بحال خلوهم إلى شياطينهم، والواقع أن استهزاء الله بالمنافقين غير مقيد بحال من الأحوال؛ ولهذا «وجب أيضًا الفصل».

تنبيهان

  • الأول: لما كانت الحال تجيء جملة، وقد تقترن بالواو وقد لا تقترن؛ فأشبهت الوصل والفصل؛ ولهذا يجب وصل الجملة الحالية بما قبلها بالواو إذا خلت من ضمير صاحبها، نحو: جاء فؤاد والشمس طالعة.١٦
    ويجب فصلها في ثلاثة مواضع:
    • (١) إذا كان فعلها ماضيًا تاليًا «إلا» أو وقع ذلك الماضي قبل «أو» التي للتسوية، نحو: «ما تكلم فؤاد إلا قال خيرًا»، وكقول الشاعر:
      كن للخليل نصيرًا جار أو عدلًا
      ولا تشحَّ عليه جاد أو بخلا
    • (٢) إذا كان فعلها مضارعًا مثبتًا أو منفيًّا «بما أو لا» نحو: وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ونحو: وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ ونحو:
      عَهِدْتُكَ ما تصبو وفيك شبيبة
      فما لك بعد الشيب صبا متيَّما
    • (٣) إذا كانت جملة اسمية واقعة بعد حرف عطف، أو كانت اسمية مؤكدة لمضمون ما قبلها، كقوله تعالى: فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ وكقوله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ.١٧
  • الثاني: عُلم مما تقدم أن من مواضع الوصل اتفاق الجملتين في الخبرية والإنشائية، ولا بد مع اتفاقهما من «جهة» بها يتجاذبان، وأمر «جامع» به يتآخذان، وذلك «الجامع»: إما عقلي،١٨ أو وهمي،١٩ أو خيالي.٢٠

تمرين آخر

عيِّن أسباب الوصل والفصل في الأمثال الآتية:

قال الله تعالى:
  • (١)
    مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ.
  • (٢)
    وقال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ.
  • (٣)
    وقال: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
  • (٤)
    وقال جل شأنه: يُسَبِّحُ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
  • (٥)

    وقال أبو العتاهية:

    وإذا ابتُلِيتَ ببذل وجهك سائلًا
    فابذله للمتكرِّم المِفضال
    ما اعتاض باذلٌ وجهَه بسؤاله
    عوضًا ولو نال الغنى بسؤالِ
  • (٦)

    وقال:

    من عرف الناسَ في تصرفهم
    لم يتَّبع من صاحبٍ زَللا
    إن أنت كافأت من أساء فقد
    صرت إلى مثل سوء ما فعلا
  • (٧)

    قال أبو تمام:

    أولى البرية حقًّا أن تراعيه
    عند السرور الذي آساك في الحزن
    إن الكرام إذا ما أَيْسَروا ذَكروا
    من كان يألفهم في المنزل الخشن
  • (٨)

    وقال المتنبي:

    ذلَّ من يَغبط الذليل بعيش
    رُبَّ عيش أخف منه الحِمام
    من يهُن يسهل الهوان عليه
    ما لجرح بميت إيلام
  • (٩)

    وقال:

    أفاضل الناس أغراض لذا الزمن
    يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
  • (١٠)

    وقال أيضًا:

    إذا نحن شبهناك بالبدر طالعًا
    بخسناك حقًّا أنت أبهى وأجمل
  • (١١)

    وقال بشار:

    الشيب كره وكره أن يفارقني
    اعجب لشيء على البغضاء مودود
  • (١٢)

    وقال أبو نواس:

    عليك باليأس من الناس
    إن غِنى نفسك في اليأس

وقال المعري:

إن الشبيبة نار إن أردت بها
أمرًا فبادر إن الدهر مُطْفِيها

وقال الطغرائي:

جامل عدوك ما استطعت فإنه
بالرِّفق يُطمع في صلاح الفاسد
واحذر حسودك ما استطعت فإنه
إن نمت عنه فليس عنك براقد

أسئلة على الوصل والفصل يطلب أجوبتها

ما هو الوصل؟ ما هو الفصل؟ كم موضعًا للوصل؟ كم موضعًا للفصل؟ ما هو الجامع العقلي؟ ما هو الجامع الوهمي؟ ما هو الجامع الخيالي؟ متى يجب وصل الجملة الحالية بما قبلها؟ في كم موضع يجب فصل الجملة الحالية؟

تطبيق عام على الوصل والفصل

جرَّبت دهري وأهليه فما تركتْ
لي التجارِب في ودِّ امرئ غرضا

فصلت الثانية؛ لشبه كمال الاتصال، فإنها جواب سؤال.

يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ.

فصلت الثانية؛ لشبه كمال الاتصال، فإنها جواب سؤال ناشئ مما قبلها.

فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا عطف الجملة الثانية على الأولى؛ لاتفاقهما في الإنشاء، مع المناسبة التامة بين المفردات، فإن المسند إليه فيهما متحد، والمسند وقيدهما متقابلان.

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ عطف الجملة الثانية على الأولى؛ لاتفاقهما خبرًا — لفظًا ومعنًى — مع المناسبة التامة بين مفرداتهما، فإن المسندين المقدرين فيهما متحدان، والمسندان إليهما متقابلان، وقيدهما الأول متحد، والثاني متقابل.

«اشكرِ الله على السراء يُنْجِك من الضراء» لم تعطف الثانية على الأولى؛ لكمال الانقطاع، فإن الأولى إنشائية لفظًا ومعنًى، والثانية عكسها.

«اصبر على كيد الحسود، لا تضجر من مكائده» لم تعطف الثانية على الأولى؛ لكمال الاتصال، فإنها مؤكدة لها.

«أنت حميد الخصال، تصنع المعروف، وتغيث الملهوف» فصلت الثانية من الأولى؛ لكمال الاتصال فإنها بيان لها، ووصلت الثالثة للتوسط بين الكمالين، مع وجود مانع من الوصل.

تمرين

بيِّن سر الفصل والوصل فيما يلي:

(١) أخط مع الدهر إذا ما خطا
واجر مع الدهر كما يجري
(٢) حكم المنية في البرية جاري
ما هذه الدنيا بدار قرار
(٣) لا تدعه إن كنت تنصف نائبًا
هو في الحقيقة نائم لا نائب
(٤) قال لي كيف أنت؟ قلتُ: عليل
سهر دائم وحزن طويل
(٥) قالت بليت فما نراك كعهدنا
ليت العهود تجددت بعد البلى

(٦) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً.

وإنما المرء بأصغريه
كل امرئ رهن بما لديه
لا تطلبن بآلة لك حاجة
قلم البليغ بغير حظ مغزل
(٧) يرى البخيل سبيل المال واحدة
إن الكريم يرى في ماله سبلا
(٨) نفسي له نفسي الفداء لنفسه
لكن بعض المالكين عفيف

(٩) مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ.

(١٠) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ.

(١١) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى.

(١٢) قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ.

(١٣) يهوَى الثناء مبرَّز ومقصر
حب الثناء طبيعة الإنسان

(١٤) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ.

(١٥) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا.

(١٦) ألا من يشتري سهرًا بنوم؟
سعيد من يبيت قرير عين
(١٧) فآبوا بالرماح مكسرات
وأُبنا بالسيوف قد انحنينا
(١٨) فما الحداثة عن حلم بمانعة
قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
(١٩) يقولون إني أحمل الضيم عندهم
أعوذ بربي أن يُضام نظيري

(٢٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.

(٢١) فيا موتُ زُرْ إن الحياة ذميمة
ويا نفسُ جِدِّي إن دهرك هازلُ

(٢٢) يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ.

(٢٣) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ.

(٢٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ.

(٢٥) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ.

(١) وصل بين الجملتين لاتفاقهما إنشاء، مع وجود المناسبة وعدم المانع.

(٢) فصل الشطر الثاني عن الأول؛ لأنه توكيد معنوي له؛ إذ يفهم من جريان حكم الموت على الخلق أن الدنيا ليست دار بقاء، فأكد ذلك بالشطر الثاني، فبينهما كمال الاتصال.

(٣) فصل الشطر الثاني عن الأول لاختلافهما خبرًا وإنشاءً؛ إذ الثاني خبر، والأول إنشاء، فبينهما كمال الانقطاع.

(٤) فصل بين قال وقلت؛ لأن الثاني جواب سؤال؛ إذ جرت العادة أنه إذ قيل للرجل: كيف أنت؟ أن يجيب: «أنا عليل» وكذا بين جملتي سهر دائم وحزن طويل، فكأنه قيل: فما سبب علتك؟ فأجاب: سهر دائم … إلخ، ففي كل منهما شبه كمال الاتصال.

(٥) بين الشطر الثاني والأول كمال الانقطاع؛ لأن أولهما خبر والثاني إنشاء.

(٦) بين جملتي ترى وتحسب كمال الاتصال؛ لأن الثانية بدل اشتمال من الأولى.

(٧) بين الشطر الثاني والأول شبه كمال الاتصال؛ لأن الثانية جواب عن سؤال مقدر من الأولى، كأنه قيل: فما حال الكريم في ماله؟ فقال: إن الكريم … إلخ.

(٨) بين «نفسي له» و«نفسي الفداء» كمال الاتصال؛ لأن الثانية توكيد لفظي للأولى.

(٩) «إن هذا إلا ملك» توكيد معنوي لقوله: «ما هذا بشرًا»؛ إذ مجرى العادة والعرف أنه إذا قيل في معرض المدح: ما هذا بشرًا، وما هذا بآدمي — أن يكون الغرض أنه ملك، فيكنى به عن ذلك، فبينهما كمال الاتصال.

(١٠) بين «يدبر» و«يفصل» كمال الاتصال؛ لأن الثانية بدل بعض من كل.

(١١) بين قوله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى وقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى كمال الاتصال؛ لأن الثانية توكيد معنوي؛ لأن تقرير كونه وحيًا نفي لأنْ يكون عن هوًى.

(١٢) بين «قالوا» و«قال» شبه كمال الاتصال؛ لأن الثانية جواب عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال لهم حينئذ؟ أجيب بأنه قال: سلام. وهكذا الحال في حكاية القصص في كل ما جاء في القرآن الكريم، والحديث النبوي، وكلام العرب.

(١٣) فُصل بين الشطر الثاني والأول؛ لأن بينهما كمال الاتصال؛ إذ الشطر الثاني مؤكِّد للأول.

(١٤) فصل جملة «يخادعون» عما قبلها؛ لأن بينهما كمال الاتصال؛ لأن هذه المخادعة ليست شيئًا غير قولهم: «آمنا» دون أن يكونوا مؤمنين، فهي إذًا توكيد معنوي للأولى.

(١٥) فُصلت جملتا «كأن لم يسمعها» و«كأن في أذنيه وقرًا» عما قبلهما؛ لأنهما كالتوكيد له؛ إذ المقصد من التشبيهين واحد، وهو أن ينفي الفائدة في تلاوة ما تُلي عليه من الآيات، فهما من كمال الاتصال.

(١٦) فُصل الشطر الثاني عن الأول لاختلافهما خبرًا وإنشاء، فبينهما كمال الانقطاع.

(١٧) بين جملتي «آبوا» و«أبنا» توسط بين الكمالين؛ لاتفاقهما في الخبرية في وجود المناسبة.

(١٨) بين الشطر الثاني والأول شبه كمال الاتصال؛ إذ الثاني جواب سؤال مقدر.

(١٩) هذا البيت من حيث عدم عطف «أعوذ» على ما قبله، على حد قوله: تظن سلمى … إلخ.

(٢٠) لم تُعطف على ما قبلها مع أن بينهما مناسبة في المعنى بالتضاد؛ لأنها مبينة لحال الكفار، وما قبلها مبيِّن لحال المؤمنين، وأن بيان حال المؤمنين غير مقصود لذاته، بل ذكر استتباعًا لبيان حال الكفار، وليس بين بيان حال المؤمنين وحال الكفار مناسبة تقتضي الوصل.

(٢١) لم يعطف قوله: «إن الحياة» على ما قبله؛ لأنه جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: لماذا تطلب زيارة الموت؟ فأجاب: إن الحياة ذميمة.

(٢٢) لم يعطف قوله: «يذبحون» على «يسومون»؛ لكونه بيانًا له.

(٢٣) فجملة «تحسبها جامدة» بدل اشتمال.

(٢٤) فجملة «يفصل الآيات» بدل بعض.

(٢٥) فجملة «يَلْقَ أثامًا» بدل كل، وقد أنكر بدل الكل علماء البيان خلافًا للنحاة.

هوامش

(١) إذا توالت الجملتان: لا يخلو الحال من أن يكون للأولى محل من الإعراب أو لا، وإن كان لها محل من الإعراب فلا بد من أن يُقصد تشريك الثانية لها في حكم الإعراب أو لا، فإن قُصد التشريك عُطفت الثانية عليها نحو: «الله يحيي ويميت» وإلا فُصلت عنها نحو: قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ لم يُعطف قوله: اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ على ما قبله؛ لئلا يشاركه في حكم المفعولية للقول، وهو ليس مما قالوه كما سيأتي.
وإن لم يكن لها محل من الإعراب فإن كان لها حكم لم يُقصد إعطاؤه للثانية وجب الفصل؛ دفعًا للتشريك بينهما، نحو: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ * اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى لم يُعطف قوله: «الله يعلم» على ما قبله؛ لئلا يشاركه في حكم القصر، فيكون تعالى مقصورًا على هذا العلم، وإن لم يكن لها ذلك الحكم نحو: «زيد خطيب وعمرو متشرع» أو قصد إعطاء حكمها للثانية، نحو: «إنما زيد كاتب وعمرو شاعر» — وجب الوصل كما رأيت، ما لم تكن إحدى الجملتين مطلقًا منقطعة عن الأخرى انقطاعًا كاملًا، بحيث لا يصلح ارتباطهما، أو متصلة بها اتصالًا كاملًا بحيث لا تصح المغايرة بينهما، فيجب الفصل لتعذر ارتباط المنقطعتين بالعطف وعدم افتقار المتصلتين إلى ارتباط به، ويُحمل شبه كل واحد من الكمالين عليه فيُعطى حكمه.
واعلم أنه لا يُقبَل في العطف إلا عطف المتناسبات مفردة أو جملًا بالواو أو غيرها، فالشرط وجود جهة جامعة بين المتعاطفات، فنحو: «الشمس والقمر والسماء والأرض» محدثة «مقبول»، ونحو: «الشمس والأرنب والحمار» محدثة «غير مقبول»، لكن إصلاحهم اختصاص الوصل والفصل «بالجملة وبالواو» فلا يحسن الوصل إلا بين الجمل المتناسبة، لا المتحدة ولا المتباينة، وإلا فصل.
واعلم أنه إن وُجدت الواو بدون معطوف عليه قُدر مناسب للمقام، نحو: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا فنقدر «أكفروا وكلما عاهدوا» لأن الهمزة تستدعي فعلًا.
(٢) الوصل يقع وجوبًا بين جملتين متناسبتين، لا متحدتين، ولا مختلفتين، كما سيأتي تفصيل ذلك.
(٣) المعول عليه اتحادهما في المعنى؛ لأن العبرة به، ولا قيمة لاختلاف الصورة اللفظية.
(٤) في هذا الكلام جملتان خبريتان وُصلت الثانية بالأولى؛ لأن بين الجملتين تناسبًا في الفكر، فإذا جرى في الذهن حال أحد الفريقين تصور حال الفريق الآخر.
(٥) والداعي لذكر الجملة الثانية إنشائية، ولم تذكر كالأولى خبرية؛ لأجل التحاشي عن مساواة شهادتهم بشهادته عز وجل، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
(٦) اعلم أن صور الجملتين ثمانية؛ لأنهما:
«إما خبريتان» لفظًا ومعنًى، أو معنًى لا لفظًا، أو الأول جملة خبرية معنًى لا لفظًا، أو بالعكس.
«وإما إنشائيتان» لفظًا ومعنًى، ومعنًى لا لفظًا، أو الأولى جملة خبرية صورة والثانية إنشائية، أو بالعكس؛ كما مثلنا.
(٧) أما إذا لم يحصل إيهام خلاف المقصود فيجب الفصل، نحو: «سافر فلان سلمه الله».
(٨) فجملة «شفاه الله» خبرية لفظًا إنشائية معنًى، والعبرة بالمعنى. واعلم أن الجملة الأولى المدلول عليها بكلمة «لا» جملة خبرية؛ إذ التقدير «لا برء حاصل له»؛ وهكذا يُقدَّر المحذوف بحسب كل مثال يليق به.
(٩) كما حُكي: أن «أبا بكر» مر برجل في يده ثوب، فقال له: أتبيع هذا؟ فقال الرجل «لا، يرحمك الله.» فقال أبو بكر «لا تقل هكذا، بل قل: لا، ويرحمك الله.» وهكذا إذا سئلت عن مريض: هل أَبَلَّ؟ فقل: «لا، وشفاه الله» حتى لا يتوهم السامع أنك تدعو عليه، وأنت تريد الدعاء له، فالجملة الأولى المدلول عليها بكلمة «لا» خبرية، والثانية إنشائية في المعنى؛ لأنها لطلب الرحمة والشفاء، وكان الواجب الفصل بينهما، لولا ما يُسببه الفصل من الوهم.
(١٠) فجملة «يقول» في محل رفع خبر المبتدأ، وكذلك جملة «ويفعل» معطوفة على جملة يقول، وتشاركها بأنها في محل رفع خبر ثانٍ للمبتدأ، فاشتراك الجملتين في الحكم الإعرابي يُوجب الوصل، وحكم هذه الجملة حكم المفرد المقتضي مشاركة الثاني للأول في إعرابه، والأحسن أن تتفق الجملتان في الاسمية والفعلية، والفعليتان في الماضوية والمضارعية؛ أي أن تُعطف الاسمية على مثلها، وكل من الماضوية والمضارعية على مثلها، وكذا الاسميتان في نوع المسند من حيث «الإفراد – والجملة – والظرفية»، ولا يحسن العدول عن ذلك إلا لأغراض:
  • (أ) كحكاية الحال الماضية، واستحضار الصور الغريبة في الذهن، نحو: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ.
  • (ب) وكإفادة التجدد في إحداهما، والثبوت في الأخرى، نحو: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ فقد لوحظ في الأولى إحداث تعاطي الحق، وفي الثانية الاستمرار على اللعب والثبات على حالة الصبا. ونحو: الصديق يكاتبني وأنا مقيم على وده؛ وذلك لأن الدلالة على التجدد تكون بالجملة الفعلية، وعلى الثبات في الجملة الاسمية، ومثل هذا يحصل عند إرادة المضي في إحداهما والمضارعية في الأخرى.
(١١) الفصل: ترك الربط بين الجملتين؛ إما لأنهما متحدتان صورة ومعنًى أو بمنزلة المتحدتين، وإما لأنه لا صلة بينهما في الصورة أو في المعنى.
(١٢) هذا في بدل البعض، وأما في بدل الكل فنحو قوله تعالى: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ فجملة: قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا قالوا: كالبدل المطابق، وأما بدل الاشتمال فنحو قوله:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
وإلا فكن في السر والجهر مسلما
فجملة: «لا تقيمن» بمنزلة البدل من جملة «ارحل» بدل اشتمال؛ لأن بينهما مناسبة بغير الكلية والجزئية.
(١٣) أي: أوقفوا السفينة كي نباشر الحرب، ولا تخافوا من الموت، فإن لكل أجل كتابًا؛ أي: فالمانع من العطف في هذا الموضع أمر ذاتي لا يمكن دفعه أصلًا، وهو كون أحدهما جملة خبرية، والأخرى إنشائية، ولا جامع بينهما.
(١٤) الجملة الثانية شديدة الارتباط بالجملة الأولى؛ لأنها جواب عن سؤال نشأ من الأولى «لِمَ لا تبرئ نفسك؟» فقال: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوء، فهذه الرابطة القوية بين الجملتين مانعة من العطف، فأشبهت حالة اتحاد الجملتين؛ وبذلك ظهر الفرق بين كمال الاتصال.
(١٥) وبيان ذلك بعبارة أخرى أنه إذا اجتمعت جملتان فذلك على خمسة أحوال:
  • أولًا: أن تكون الثانية بمعنى الأولى، أو جزء منها، فيجب ترك العطف؛ لأن الشيء لا يُعطف على نفسه، وكذا الجزء لا يعطف على كله.
    فيقال حينئذ: إن بين الجملتين كمال الاتصال، ومواضعه:
    • (أ) أن تكون الثانية توكيدًا للأولى، مثل قوله تعالى: مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ.
    • (ب) أن تكون الثانية بدلًا من الأولى، مثل: «أطعت الله – أديت الصلاة».
    • (جـ) أن تكون الثانية بيانًا للأولى، مثل: «بثني شكواه» قال: إني لا أجد قوت يومي.
  • ثانيًا: أن تكون الثانية مباينة للأولى تمام المباينة، فيجب ترك العطف؛ لأن العطف يكون للربط، ولا ربط بين المتباينين، فيقال: بين الجملتين كمال الانقطاع، ومواضع ذلك:
    • (أ) أن تختلفا خبرًا وإنشاء، مثل: مات فلان رحمه الله.

      إلا إذا أوهم ترك العطف خلاف المقصود فيجب العطف، نحو: «لا وشفاك الله».

    • (ب) أن تتحدا خبرًا وإنشاءً، ولكن لا يوجد بينهما رابط، مثل: «القمر طالع – أكلت كثيرًا».
  • ثالثًا: أن تكون الجملتان متناسبتين وبينهما رابطة، ويسمى ذلك التوسط بين الكمالين، وذلك على نوعين:
    • (أ) ألا يمنع من العطف مانع فيعطف، مثل: «اجتهدوا وتأدبوا».
    • (ب) أن يمنع من العطف مانع وهو عدم قصد التشريك في الحكم؛ ليمتنع العطف مثل قوله تعالى: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ.
  • رابعًا: أن تكون الثانية قوية الرابطة بالأولى؛ لأنها جواب عن سؤال يُفهم من الأولى، فهذه الرابطة القوية تمنع العطف؛ لأنها أشبهت حالة اتحاد الجملتين، ويُسمى ذلك «شبه كمال الاتصال» مثل: «رأيته مبتسمًا – أظنه نجح».
  • خامسًا: أن تكون الأخيرة مناسبة للأولى، ولا مانع من عطفها عليها، ولكن يعرض حائل بينهما، وهو جملة أخرى ثالثة متوسطة، فلو عطفت الثالثة على الأولى المناسبة لها لتوهم أنها معطوفة على المتوسطة، فامتنع العطف بتاتًا، وأصبحت الجملتان كأنهما منقطعتان بهذا الحائل، ويُسمى ذلك «شبه كمال الانقطاع» نحو قول الشاعر:
    وتظن سلمى أنني أبغي بها
    بدلًا أراها في الضلال تهيم

    واعلم أن التركيب الذي تجاذبت فيه أسباب الوصل وتعاضدت دواعيه قد يُفصل إما لمانع من تشريك الجملة الثانية مع الأولى، ويُسمى قطعًا كما سبق، وإما لجعله جواب سؤال مقدر لإغناء السامع عنه «أو لكراهة سماعه له لو سأل، أو لكراهة انقطاع كلامه بكلام السائل، أو للاختصار ويُسمى الفصل لذلك استئنافًا، كقوله:

    في المهد ينطق عن سعادة جده
    أثر النجابة ساطع البرهان

    على تقدير أنه جواب: كيف ينطق وهو رضيع لم يبلغ أوان النطق»!

(١٦) بيان ذلك أن الحال: إما مؤكدة، فلا واو للاتحاد بين الجملتين؛ لأنها مقررة لمضمونها، نحو: «سعد أبوك كريم».
وإما منتقلة لحصول معنى حال النسبة «أي نسبة العامل إلى صاحب الحال» يلزم فيها أمران: الحصول والمقاربة، فالحال المفردة صفة في المعنى، فلا تحتاج لواو للاتحاد.
وأما الحال الجملة فالمضارع المثبت لا يؤتى له بواو للارتباط معنًى لوجود الحصول والمقارنة معًا، فلا حاجة للربط بها، نحو: وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ونحو: «قدم الأمير تتسابق الفرسان أمامه»، ولا يجوز: «وجاءوا أباهم عشاء ويبكون» ولا «قدم الأمير وتتسابق» وهذه إحدى المسائل السبع المذكورة في النحو التي تمتنع فيها الواو.
الثانية: الحال الواقعة بعد عاطف، نحو: فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ.
الثالثة: المؤكدة لمضمون الجملة، نحو: «هو الحق لا شك فيه، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ.
الرابعة: الماضي التالي «ما تكلم زيد إلا قال خيرًا».
وقيل: يجوز اقترانه بالواو كما ورد في قوله:
نعم امرؤ هرم لم تَعْرُ نائبةٌ
إلا وكان لَمُرتاعٌ بها وِزْرا
الخامسة: الماضي المتلو بأو، نحو: «لأضربنه ذهب أو مكث» ومنه قول الشاعر:
كن للخليل نصيرًا جارَ أَوْ عَدَلًا
ولا تشحَّ عليه جادَ أو بَخِلا
السادسة: المضارع المنفي بلا، نحو: وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِالله، مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ، وقوله:
لو أن قومًا لارتفاع قبيلة
دخلوا السماء دخلتها لا أحجب
السابعة: المضارع المنفي بما، كقوله:
عهدتك ما تصبو وفيك شبيبة
فما لك بعد الشيب صبًّا مُتَيَّما
وأبعد الجمل في الصلاح للحالية الجملة الاسمية لدلالتها على الثبوت، لا على الحصول والمقارنة، فيجب فيها الواو، نحو: فَلَا تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
وقد يُكتفى فيها بالضمير ندورًا، نحو: «كلَّمتُه فوه إلى في» أي مشافهة، ثم الماضي مثبتًا لعدم المقارنة فيحسن معها الواو؛ لأن الماضي يدل على الحصول المتقدم، لا الحصول حال النسبة.
وتجب «قد» تحقيقًا أو تقديرًا؛ لتقربه من الحال؛ أي: لتجعل «قد» الفعل الماضي الدال على حصول متقدم — لا حصول حال النسبة — قريبًا من حال النسبة، لا من حال التكلم؛ إذ اللازم في الحال مقارنتها لزمان النسبة لا لزمان التكلم، وإنما اكتُفي بهذا التقريب في صحة الحال وإن كان اللازم الاقتران؛ إما لأنه ينزل قرب الحال إلى زمان النسبة منزلة المقارنة مجازًا، وإما لأنه يعتبر قربها في الفعل هيئة للفعل.
فإذا قلت: «جاءني زيد وقد ركب» فكأنك نزلت قرب ركوبه من مجيئه منزلة مقارنته له، أو جعلت كون مجيئه بحيث يقرب ركوبه هيئة لمجيئه، وحالًا له.
قالوا: وتمتنع «قد» مع الماضي الممتنع ربطه بالواو، وهو التالي إلا والمتلو بأو، لكن في «شرح الرضي» أنهما قد يجمعان بعد إلا، نحو: «ما لقيته إلا وقد أكرمني» ويلي الماضي المثبت، الماضي المنفي؛ لأنه هيئة للفعل بالتأول؛ لأن قولك: «جاء زيد ليس راكبًا» في قوة: «جاء زيد ماشيًا» فيتحقق الحصول أو يستمر غالبًا، فيقارن كذلك، فيحسن ترك الواو؛ نظرًا إلى تحقق الحصول والمقارنة، ويجوز ذكرها أيضًا؛ نظرًا إلى كونه ما كان هيئة للفعل إلا بعد تأويل، ونظرًا إلى كون استمراره أغلبيًّا لا دائميًّا.
والأحسن في الظرف إذا وقع حالًا ترك الواو؛ نظرًا للتقدير بمفرد، تقول: «نظرت الهلال بين السحاب»، ومثله الجار والمجرور، نحو: «فخرج على قومه في زينته» ونحو: «أبصرت البدر في السماء» وإن جوزوا الواو بتقدير فعل ماض.
وما يُخشَى فيه التباسُ الحالِ بالصفة أُتِيَ فيه بالواو وجوبًا؛ ليتميز الحال، فيقال: «جاء رجل ويسعى»؛ إذ لو قيل: «يسعى» لالتبس الحال بالصفة في مثله.
(١٧) لما كان قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ فيه مظنة مجازفة بسبب إيراد المسند إليه اسم إشارة والمسند معرفًا بأل — أكده بقوله: لَا رَيْبَ فِيهِ تأكيدًا معنويًّا.
ولما كانت الدعوى المذكورة مع ادعاء عدم المجازفة مظنة استبعاد، أكده بقوله: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ تأكيدًا لفظيًّا حتى كأنه نفس الهداية.
(١٨) فالجامع العقلي: أمر بسببه يقتضي العقل اجتماع الجملتين في القوة المفكرة كالاتحاد في المسند أو المسند إليه أو في قيد من قيودهما، نحو: «زيد يصلي ويصوم» و«يصلي زيد وعمرو» … و«زيد الكاتب شاعر» و«عمرو الكاتب منجم» … و«زيد ماهر» و«عمرو طبيب ماهر» وكالتماثل والاشتراك فيهما، أو في قيد من قيودهما أيضًا، بحيث يكون التماثل له نوع اختصاص بهما أو بالقيد لا مطلق تماثل.
فنحو: «زيد شاعر وعمرو كاتب» لا يحسن إلا إذا كان بينهما مناسبة لها نوع اختصاص بهما، كصداقة أو أخوة أو شركة أو نحو ذلك، وكالتضايف بينهما؛ بحيث لا يتعقل أحدهما إلا بالقياس إلى الآخر، كالأبوة مع البنوة، وللعلة مع المعلول، والعُلْو والسُّفْل، والأقل والأكثر؛ إلى غير ذلك.
(١٩) والجامع الوهمي: أمر بسببه يقتضي الوهم اجتماع الجملتين في المفكرة كشبه التماثل الذي بين نحو لوني البياض والصفرة؛ فإن الوهم يبرزهما في معرض المثلين من جهة أنه يسبق إليه أنهما نوع واحد، زائد في أحدهما عارض في الآخر، بخلاف العقل فإنه يدرك أنهما نوعان متباينان داخلان تحت جنس واحد هو اللون.
وكالتضاد بالذات وهو التقابل بين أمرين موجودين بينهما غاية الخلاف، يتعاقبان على محل واحد، وكالسواد والبياض، أو التضاد بالعرض كالأسود والأبيض؛ لأنهما ليسا ضدين لذاتهما لعدم تعاقبهما على محل واحد، بل بواسطة ما يشتملان عليه من سواد وبياض، وكشبه التضاد كالسماء والأرض، فإن بينهما غاية الخلاف ارتفاعًا وانخفاضًا، لكن لا يتعاقبان على محل واحد كالتضاد بالذات، ولا على ما يشمله كالتضاد بالعرض.
(٢٠) والجامع الخيالي: أمر بسببه يقتضي الخيال اجتماع الجملتين في المفكرة، بأن يكون بينهما تقارن في الخيال سابق على العطف لتلازمهما في صناعة خاصة أو عرف عام؛ كالقَدُّوم والمِنشار والمِنقاب في خيال النجار، والقلم والدواة والقِرطاس في خيال الكاتب، وكالسيف والرمح والدرع في خيال المحارب … وهلم جرًّا.
وللقرآن الكريم اليد البيضاء في هذا الباب، كقوله تعالى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فالمناسبة بين الإبل والسماء وبينها وبين الجبال والأرض — غير موجودة بحسب الظاهر، ولكنه «أسلوب حكيم» في غاية البلاغة؛ لأنه لما كان الخطاب مع العرب، وليس في تخيلاتهم إلا الإبل، لأنها رأس المنافع عندهم، والأرض لرعيها والسماء لسقيها، وهي التي توصلهم إلى الجبال التي هي حصنهم عندما تفاجئهم حادثة — أورد الكلام على طبق ما في تخيلاتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤