الباب التاسع

في الإيجاز والإطناب والمساواة

كل ما يجول في الصدر من المعاني، ويخطر ببالك معنًى منها — لا يعدو التعبير١ عنه طريقًا من طرق ثلاث:
  • أولًا: إذا جاء التعبير على قدر المعنى، بحيث يكون اللفظ مساويًا لأصل ذلك المعنى، فهذا هو «المساواة»، وهي الأصل الذي يكون أكثر الكلام على صورته، والدستور الذي يُقاس عليه.
  • ثانيًا: إذا زاد التعبير على قدر المعنى لفائدة، فذاك هو «الإطناب»، فإن لم تكن الزيادة لفائدة فهي حشو أو تطويل.
  • ثالثًا: إذا نقص التعبير على قدر المعنى الكثير، فذلك هو «الإيجاز».٢
فكل ما يخطر ببال المتكلم من المعاني فله في التعبير عنه بإحدى هذه الطرق الثلاث.

فتارة «يُوجز» وتارة «يُسهب» وتارة يأتي بالعبارة «بين بين».

ولا يعد الكلام في صورة من هذه الصور بليغًا، إلا إذا كان مطابقًا لمقتضى حال المخاطب، ويدعو إليه موطن الخطاب.

فإذا كان المقام للإطناب مثلًا، وعدلت عنه إلى الإيجاز أو المساواة، لم يكن كلامك بليغًا، وفي هذا الباب ثلاثة مباحث.

(١) المبحث الأول: في الإيجاز وأقسامه

الإيجاز: هو وضع المعاني الكثيرة في ألفاظ أقل٣ منها، وافية بالغرض المقصود، مع الإبانة والإفصاح، كقوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، فهذه الآية القصيرة جمعت مكارم الأخلاق بأسرها.

وكقوله تعالى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وكقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات.»

فإذا لم تفِ العبارة بالغرض سُمي «إخلالًا وحذفًا رديئًا» كقول اليشكري:

والعيش خير في ظلا
ل النَّوْك ممن عاش كدَّا

مراده: أن العيش الناعم الرَّغد في حال الحمق والجهل خير من العيش الشاق في حال العقل، لكن كلامه لا يعد صحيحًا مقبولًا.

وينقسم الإيجاز إلى قسمين: إيجاز قصر٤ وإيجاز حذف.

ﻓ «إيجاز القصر» (ويُسمى إيجاز البلاغة) يكون بتضمين المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة من غير حذف، كقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ.

فإن معناه كثير، ولفظه يسير؛ إذ المراد أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتَلَ قُتِلَ امتنع عن القتل، وفي ذلك حياته وحياة غيره؛ لأن القتل أنفى للقتل،٥ وبذلك تطول الأعمار، وتكثر الذرية، ويقبل كل واحد على ما يعود عليه بالنفع، ويتم النظام، ويكثر العمران.

فالقصاص: هو سبب ابتعاد الناس عن القتل، فهو الحافظ للحياة.

وهذا القسم مطمح نظر البلغاء، وبه تتفاوت أقدارهم، حتى إن بعضهم سُئل عن «البلاغة» فقال: هي «إيجاز القصر».

وقال أكثم بن صيفي خطيب العرب: «البلاغة الإيجاز.»

و«إيجار الحذف» يكون بحذف شيء من العبارة لا يخِلُّ بالفهم، عند وجود ما يدل على المحذوف من قرينة لفظية أو معنوية.

وذلك المحذوف إما أن يكون:
  • (١)
    حرفًا، كقوله تعالى: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أصله: ولم أكن.٦
  • (٢)
    أو اسمًا مضافًا، نحو: وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ أي: في سبيل الله.
  • (٣)
    أو اسمًا مضافًا إليه، نحو: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ أي: بعشر ليالٍ.
  • (٤)
    أو اسمًا موصوفًا، كقوله تعالى: وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا؛ أي: عملًا صالحًا.
  • (٥)
    أو اسمًا صفة، نحو: فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ؛ أي: مضافًا إلى رجسهم.
  • (٦)
    أو شرطًا، نحو: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ؛ أي: فإن تتبعوني.
  • (٧)
    أو جواب شرط، نحو: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ؛ أي: لرأيت أمرًا فظيعًا.
  • (٨)
    أو مسندًا، نحو: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ؛ أي: خلقهن الله.
  • (٩)

    أو مسندًا إليه، كما في قول حاتم:

    أماويُّ ما يغني الثراء عن الفتى
    إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر

    أي: إذا حشرجت النفس يومًا.

  • (١٠)
    أو متعلقًا، نحو: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ؛ أي: عما يفعلون.
  • (١١)
    أو جملة، نحو: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ؛ أي: فاختلفوا فبعث.
  • (١٢)
    أو جملًا، كقوله تعالى: فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ٧ أي: فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، فأرسلوه فأتاه، وقال له: يوسف أيها الصديق.

واعلم أن دواعي الإيجاز كثيرة: منها الاختصار، وتسهيل الحفظ، وتقريب الفهم، وضيق المقام، وإخفاء الأمر على غير السامع، والضجر والسآمة، وتحصيل المعنى الكثير باللفظ اليسير … إلخ.

ويستحسن «الإيجاز» في الاستعطاف، وشكوى الحال، والاعتذارات والتعزية، والعتاب، والوعد، والوعيد، والتوبيخ، ورسائل طلب الخراج، وجباية الأموال، ورسائل الملوك في أوقات الحرب إلى الولاة، والأوامر والنواهي الملكية، والشكر على النعم.

ومرجعك في إدراك أسرار البلاغة إلى الذوق الأدبي، والإحساس الروحي.

(٢) المبحث الثاني: في الإطناب وأقسامه

الإطناب: زيادة اللفظ على المعنى لفائدة، أو هو تأدية المعنى بعبارة زائدة عن متعارف أوساط البلغاء لفائدة تقويته وتوكيده، نحو: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا؛ أي: كبرتُ.

فإذا لم تكن في الزيادة فائدة يُسمى «تطويلًا» إن كانت الزيادة في الكلام غير متعينة.

ويُسمى «حشوًا» إن كانت الزيادة في الكلام متعينة لا يفسد بها المعنى.

فالتطويل كقول عدي العبادي في جذيمة الأبرش:

وقدَّدت الأديم لراهشَيْهِ
وأَلْفَى قولَها كذبًا ومَيْنا٨

فالمَيْن والكذب بمعنًى واحد، ولم يتعين الزائد منهما؛ لأنَّ العطف بالواو لا يفيد ترتيبًا ولا تعقيبًا ولا معية، فلا يتغير المعنى بإسقاط أيهما شئت.

والحشو كقول زهير بن أبي سلمى:

وأعلم علم اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عمي٩

وكل من الحشو والتطويل معيب في البيان، وكلاهما بمعزل عن مراتب البلاغة.

واعلم أن دواعي الإطناب كثيرة: منها تثبيت المعنى، وتوضيح المراد والتوكيد، ودفع الإيهام، وإثارة الحمية؛ وغير ذلك.

وأنواع الإطناب كثيرة:١٠
  • (١)
    منها: ذكر الخاص بعد العام، كقوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وفائدته التنبيه على مزية وفضل في الخاص، حتى كأنه لفضله ورفعته جزء آخر مغاير لما قبله؛ ولهذا خص الصلاة الوسطى «وهي العصر» بالذكر لزيادة فضلها.
  • (٢)
    ومنها: ذكر العام بعد الخاص، كقوله تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.١١

    وفائدته شمول بقية الأفراد، والاهتمام بالخاص لذكره ثانيًا في عنوان عام، بعد ذكره أولًا في عنوان خاص.

  • (٣)
    ومنها: الإيضاح بعد الإيهام؛ لتقرير المعنى في ذهن السامع بذكره مرتين، مرة على سبيل الإيهام والإجمال، ومرة على سبيل التفصيل والإيضاح، فيزيده ذلك نبلًا وشرفًا، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وكقوله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ.
    فقوله: أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ تفسير وتوضيح ﻟ «ذلك الأمر» المبهم، وفائدته توجيه الذهن إلى معرفته، وتفخيم شأن المبين، وتمكينه في النفس، فأبهمَ في كلمة «الأمر» ثم وضحه بعد ذلك؛ تهويلًا لأمر العذاب.
  • (٤)

    ومنها: التوشيع، وهو أن يؤتى في آخر الكلام بمثنًّى مفسر بمفردين؛ ليرى المعنى في صورتين، تخرج فيهما من الخفاء المستوحش إلى الظهور المأنوس، نحو: «العلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان».

  • (٥)
    ومنها: التكرير، وهو ذكر الشيء مرتين أو أكثر لأغراض:
    • الأول: التأكيد وتقرير المعنى في النفس، كقوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ،١٢ وكقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.
    • الثاني: طول الفصل؛ لئلا يجيء مبتورًا ليس له طلاوة، كقوله تعالى: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ فكرر «رأيت» لطول الفصل. ومن هذا قول الشاعر:
      وإن امرأ دامت مواثيق عهده
      على مثل هذا إنه لكريم١٣
    • الثالث: قصد الاستيعاب، نحو: قرأت الكتاب بابًا بابًا، وفهمته كلمة كلمة.
    • الرابع: زيادة الترغيب في العفو، كقوله تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
    • الخامس: الترغيب في قبول النصح باستمالة المخاطب لقبول الخطاب، كقوله: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ.

      تكرير «يا قوم» تعطيف لقلوبهم؛ حتى لا يشكُّوا في إخلاصه لهم في نصحه.

    • السادس: التنويه بشأن المخاطب، نحو: إن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إبراهيم.
    • السابع: الترديد، وهو تكرار اللفظ متعلقًا بغير ما تعلق به أولًا، نحو:

      السخيُّ قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة.

      البخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة.

    • الثامن: التلذذ بذكره، نحو قول مروان بن أبي حفصة:
      سقى الله نجدًا والسلام على نجد
      ويا حبذا نجد على القرب والبعد
    • التاسع: الإرشاد إلى الطريقة المثلى، كقوله تعالى: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى.
  • (٦)
    ومنها: الاعتراض لغرض يقصده المتكلم، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين في المعنى — بجملة معترضة أو أكثر لا محل لها من الإعراب.١٤
    وذلك لأغراض يرمي إليها البليغ غير دفع الإيهام:
    • (أ)

      كالدعاء، نحو: إني «حفظك الله» مريض.

      وكقول عوف بن محلم الشيباني:

      إن الثمانين وبُلغتها
      قد أحوجت سمعي إلى ترجمان١٥
    • (ب)

      والتنبيه على فضيلة العلم، كقول الآخر:

      واعلم فعلم المرء ينفعه
      أن سوف يأتي كل ما قُدِّرا
    • (جـ)
      والتنزيه، كقوله: وَيَجْعَلُونَ لِلهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ.
    • (د)
      وزيادة التأكيد، كقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ.
    • (هـ)

      والاستعطاف، كقول الشاعر:

      وخفوق قلب لو رأيت لهيبه
      يا جنتي لرأيت فيه جهنما
      (و) والتهويل، نحو: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ.
  • (٧)

    ومنها: الإيغال، وهو ختم الكلام بما يفيد نكتة، يتم المعنى بدونها، كالمبالغة في قول الخنساء:

    وإن صخرًا لتأتم الهداة به
    كأنه علم في رأسه نار
    فقولها: «كأنه علم» وافٍ بالمقصود، لكنها أعقبته بقولها «في رأسه نار» لزيادة المبالغة، ونحو: قوله تعالى: وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
  • (٨)
    ومنها: التذييل، وهو تعقيب جملة بجملة أخرى مستقلة، تشتمل على معناها؛ تأكيدًا لمنطوق الأولى، أو لمفهومها،١٦ نحو قوله تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا.
    ونحو قوله تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ.

    والتذييل «قسمان»: قسم يستقل بمعناه؛ لجريانه مجرى المثل، وقسم لا يستقل بمعناه؛ لعدم جريانه مجرى المثل.

    • فالأول: الجاري مجرى الأمثال؛ لاستقلال معناه، واستغنائه عما قبله، كقول طَرَفة:
      كل خليل قد كنت خاللته
      لا ترك الله له واضحَهْ
      كلكم أروغ من ثعلب
      ما أشبه الليلة بالبارحَةْ
    • والثاني: غير الجاري مجرى الأمثال؛ لعدم استغنائه عما قبله، ولعدم استقلاله بإفادة المعنى، كقول النابغة:
      لم يُبْقِ جودُك لي شيئًا أؤمِّله
      تركتني أصحب الدنيا بلا أمل

      فالشطر الثاني مؤكد للأول، وليس مستقلًّا عنه، فلم يجرِ مجرى المثل.

  • (٩)

    ومنها: الاحتراس، ويقال له: التكميل، وهو أن يُؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفع ذلك الوهم.

    فالاحتراس يوجد حيثما يأتي المتكلم بمعنًى يمكن أن يدخل عليه فيه لوم، فيفطن لذلك، ويأتي بما يخلصه، سواء أوقع الاحتراس في وسط الكلام، كقول طرفة بن العبد:

    فسقى ديارَك غير مفسدها
    صوبُ الربيع وديمةٌ تهمي١٧

    فقوله: «غير مفسدها» للاحتراس.

    أو وقع الاحتراس في آخره، نحو: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ؛ أي: مع حب الطعام، واشتهائهم له، وذلك أبلغ في الكرم، فلفظ «علي حُبِّه» فضلة للاحتراس ولزيادة التحسين في المعنى.

    وكقول أعرابية لرجل: «أذل الله كل عدو لك إلا نفسك.»

  • (١٠)

    ومنها: التتميم، وهو زيادة فضلة، كمفعول أو حال أو تمييز أو جار ومجرور، توجد في المعنى حُسنًا بحيث لو حذفت صار الكلام مبتذلًا، كقول ابن المعتز يصف فرسًا:

    صببنا عليها «ظالمين» سياطنا
    فطارت بها أيدٍ سراعٌ وأرجلُ

    إذ لو حذف «ظالمين» لكان الكلام مبتذلًا، لا رقة فيه ولا طلاوة، وتوهم أنها بليدة تستحق الضرب.

    ويستحسن الإطناب في الصلح بين العشائر، والمدح، والثناء، والذم، والهجاء، والوعظ، والإرشاد، والخطابة في أمر من الأمور العامة، والتهنئة، ومنشورات الحكومة إلى الأمة، وكتب الولاة إلى الملوك لإخبارهم بما يحدث لديهم من مهام الأمور.

وهناك أنواع أخرى من الإطناب، كما تقول في الشيء المستبعد: «رأيته بعيني وسمعته بأذني وذقته بفمي» تقول ذلك لتأكيد المعنى وتقريره.

وكقوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ السقف لا يخر طبعًا إلا من فوق، ولكنه دل بقولهم: «من فوقهم» على الإحاطة والشمول.

واعلم أن الإطناب أرجح عند بعضهم من الإيجاز، وحجته في ذلك أن المنطق إنما هو البيان، والبيان لا يكون إلا بالإشباع، والإشباع لا يقع إلا بالإقناع، وأفضل الكلام أبينه، وأبينه أشده إحاطة بالمعاني، ولا يُحاط بالمعاني إحاطة تامة إلا بالاستقصاء والإطناب.

والمختار أن الحاجة إلى كل من الإطناب والإيجاز ماسة، وكل موضع لا يسد أحدهما مكان الآخر فيه، وللذوق السليم القول الفصل في موطن كل منهما.

(٣) المبحث الثالث: في المساواة

المساواة: هي تأدية المعنى المراد بعبارة مساوية له،١٨ بأن تكون الألفاظ على قدر المعاني، لا يزيد بعضها على بعض.

ولسنا بحاجة إلى الكلام على المساواة؛ فإنها هي الأصل المقيس عليه، والدستور الذي يُعتمد عليه.

كقوله تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ.

وكقوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ.

وكقوله تعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ.

وكقوله : «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.»

فإن اللفظ فيه على قدر المعنى، لا ينقص عنه، ولا يزيد عليه.

وكقول طرفة بن العبد:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
ويأتيك بالأخبار من لم تزوِّد

هذه أمثلة للمساواة، لا يستغني الكلام فيها عن لفظ منه، ولو حُذف منه شيء لأخلَّ بمعناه.

أسئلة على الإيجاز والإطناب والمساواة تُطلب أجوبتها

ما هي المساواة؟ ما هو الإيجاز؟ ما هو الإطناب؟ كم قسمًا للإيجاز؟ ما هو إيجاز القصر؟ ما هو إيجاز الحذف؟ بأي شيء يكون إيجاز الحذف؟ كم قسمًا للإطناب؟ ما هو ذكر الخاص بعد العام؟ ما هو ذكر العام بعد الخاص؟ ما هو الإيضاح بعد الإبهام؟ ما هو التكرار؟ ما هو الاعتراض؟ ما هو الإيغال؟ ما هو التوشيع؟ ما هو التذييل؟ ما هو التكميل؟ ما هو الاحتراس؟ ما هو التتميم؟ ما هو الفرق بين التطويل والحشو؟ ما هي دواعي الإيجاز؟ ما هي دواعي الإطناب؟ كم قسمًا للتذييل؟ أيكون الإطناب بغير هذه الأنواع؟

تطبيق عام على الإيجاز والإطناب والمساواة

«درست الصرف» فيه مساواة؛ لأن اللفظ على قدر المعنى.

وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا فيه إطناب بالتتميم؛ فإن «على حبه» فضلة لزيادة التحسين في المعنى.

وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فيه مساواة.

«المرء بأدبه» فيه إيجاز قصر؛ لتضمن العبارة القصيرة معاني كثيرة.

تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ فيه إيجاز حذف وهو «لا».

فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فيه إيجاز حذف جملة.

أي: فضرب فانفلق.

«ألا كل شيء ما خلا الله باطل» فيه إطناب بالاحتراس.

إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

فيه الإطناب بالتذييل، والجملة الثانية جارية مجرى المثل.

«جوزي المذنب بذنبه، وهل يجازى إلا المذنب؟!» فيه إطناب بالتذييل، وليس جاريًا مجرى المثل.

فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ فيه إطناب بالاحتراس.

«البخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة» فيه إطناب بالترديد.

وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى فيه إيجاز حذف مضاف؛ أي: ذا البر.

واهتم للسفر القريب فإنه
أنأى من السفر البعيد وأشنع

فيه إطناب بالإيغال؛ فإن «أشنع» مزيدة للترتيب في الاهتمام.

خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فيه إيجاز حذف؛ أي: خلطوا عملًا صالحًا بسيئ.

وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ فيه إيجاز بحذف الياء، وسبب حذفها أن الليل لما كان غير سارٍ وإنما يسري من فيه نقص منه حرف؛ إشارة إلى ذلك؛ جريًا على عادة العرب في مثل ذلك.

لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ فيه إيجاز بحذف جملة؛ أي: فعل ذلك.

تمرين

بيِّن الإيجاز، والإطناب، والمساواة، وأقسام كل منها فيما يأتي:

(١) قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

(٢) وقال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.

(٣) وقال تعالى: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا.

(٤) أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني

(٥) فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ.

(٦) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ.

(٧) فقلت يمين الله أبرح قاعدًا
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
(٨) شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة
ويستحل دم الحجاج في الحرم

(٩) وقال تعالى: تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.

(١٠) وقال تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا.

وقال الشاعر:

(١١) لله لذة عيش بالحبيب مضت
ولم تدم لي وغير الله لم يدم

(١٢) وقال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ.

وقال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.

(١٣) وقل تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ.

(١٤) حليم إذا ما الحلم زين لأهله
مع الحلم في عين العدو مهيب
(١٥) أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرَّهم وأتيناه على هرم
(١٦) وألفيته بحرًا كثيرًا فضوله
جوادًا متى يذكر له الخير يزدد
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فذرني أبادرها بما ملكت يدي
ما أحسن الأيام إلا أنها
يا صاحبي إذا مضت لم ترجع
ولست بمستبقٍ أخًا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
تأمل من خلال السجف وانظر
بعينك ما شربت ومن سقاني
تجد شمس الضحى تدنو بشمس
إليَّ من الرحيق الخسرواني

(١) في هذه الآية الإطناب بتكثير الجمل، وهذا خلاف الأنواع السابقة؛ وذلك لأنه لما كان الخطاب مع العموم وفيهم الذكي والغبي صرح بخلق أمهات الممكنات الظاهرة؛ ليكون دليلًا على القدرة الباهرة، وذلك بدل أن يقال: «إن في وقوع كل ممكن تساوي طرفاه لآيات للعقلاء».

(٢) فيه إيجاز القصر؛ لأنه قد جمع مكارم الأخلاق.

(٣) أي: سفينة سالمة.

(٤) أي: أنا ابن رجل جلا المشكلات.

(٥) الشرط محذوف؛ أي: إن أرادوا وليًّا فالله هو الولي.

(٦) أي: فاقتدر اصبر.

(٧) أي: لا أبرح.

(٨) «في الحرم» إيغال للزيادة في المبالغة.

(٩) فيه التذييل.

(١٠) احترس بقوله: «وهو مؤمن» عن توهم الإطلاق.

(١١) فيه تذييل جار مجرى الأمثال.

(١٢) في قوله: «من غير سوء» احتراس عن توهم بياض البرص ونحوه.

(١٣) فيه الاعتراض بقوله: «لو تعلمن».

(١٤) في البيت إيجاز احتراس بلفظ «مهيب».

(١٥) في البيت إيجاز؛ أي: وأتيناه على هرم «فساءنا».

(١٦) في البيت إطناب؛ فإن قوله: «متى يذكر له الخير يزدد» تكميل.

هوامش

(١) أي: إذا أردت أن تتحدث إلى الناس في معنًى من المعاني فأنت تعبر عنه تعبيرًا صحيحًا مقبولًا في إحدى صور ثلاث، وهي: المساواة، والإيجاز، والإطناب.
(٢) قال الإمام علي: ما رأيت بليغًا قطُّ إلا وله في القول إيجاز، وفي المعاني إطالة. وقالت بنت الحُطيئة لأبيها: ما بال قصارك أكثر من طوالك؟! قال: لأنها بالآذان أولج، وبالأفواه أعلق. وقيل لشاعر: لِمَ لا تُطيل شِعرك؟ فقال: حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
(٣) بأن يكون اللفظ أقل من المعهود عادة مع وفائه بالمراد، فإن لم يفِ كان الإيجاز إخلالًا وحذفًا رديئًا، فلا يُعد الكلام صحيحًا مقبولًا، كقول عروة بن الورد:
عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم
ومقتلهم عند الوغى كان أعذرا
يريد: إذ يقتلون نفوسهم في السلم، لكن صوغ كلامه لا يدل عليه، ومثل قول بعضهم نثرًا: «فإن المعروف إذا زجا كان أفضل منه إذا وفر وأبطأ.» ولأجل تمام ما يريد كان عليه أن يقول: إذا قل وزجا، ولا يعد مثل هذا الكلام صحيحًا مقبولًا.
واعلم أن متعارف أوساط البلغاء هم الذين لم يرتقوا إلى درجة البلغاء، ولم ينحطُّوا إلى درجة البسطاء، فالمساواة: هي الدستور الذي يُقاس عليه كل من الإيجاز والإطناب.
(٤) وإيجاز القصر: هو ما تزيد فيه المعاني على الألفاظ، ولا يُقدَّر فيه محذوف ويُسمى: «إيجاز البلاغة»؛ لأن الأقدار تتفاوت فيه، وللقرآن الكريم فيه المنزلة التي لا تُسامى، والغاية التي لا تُدرَك.
فمن ذلك قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، فهذه الآية قد جمعت مكارم الأخلاق، وانطوى تحتها كل دقيق وجليل؛ إذ في العفو والصفح عمن أساء، وفي الأمر بالمعروف — صلة الأرحام، ومنع اللسان عن الكذب، وغض الطرف عن كل المحارم.
وقوله عز اسمه: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ استوعبت تلك الآية الكريمة أنواع المتاجر، وصنوف المرافق التي لا يبلغها العد، وقوله: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ هاتان كلمتان أحاطتا بجميع الأشياء على غاية الاستقصاء، وقوله عليه الصلاة والسلام: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وعوِّدوا كل جسم ما اعتاد.» فقد تضمن ذلك من المعاني الطيبة شيئًا كثيرًا.
وقول الإمام علي كرم الله وجهه: «من استقبل وجوه الآراء عرف وجوه الخطأ.»
وقول بعض الأعراب: اللهم هَبْ لي حقك وأَرْضِ عني خلقك. فسمعه الإمام علي كرم الله وجهه فقال: هذا هو البلاغة.
ومنه قول السموءل:
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل
فقد اشتمل على حميد الصفات من: سماحة، وشجاعة، وتواضع، وحلم، وصبر، واحتمال مكاره في سبيل طلب الحمد؛ إذ كل هذه مما تضيم النفس لما يحصل في تحملها من المشقة والعناء.
والسبب فيما له من الحسن والروعة دلالة قليل الألفاظ على كثير المعاني إلى ما فيه من الدلالة على التمكن في الفصاحة والبراعة.
ولذا قال محمد الأمين: «عليكم بالإيجاز؛ فإن له إفهامًا، وللإطالة استبهامًا.» وقال آخر: «القليل الكافي خير من كثير غير شافٍ.»
(٥) لقد أُثر ونُقل عن العرب قولهم: «القتل أنفى للقتل.» وأين هذا المثل من بلاغة هذه الآية الشريفة التي بلغت حد الإعجاز، وتمتاز بوجوه: منها أنها كلمتان، وما نقل عنهم أربع، ومنها أنه لا تكرار فيها وفيما قالوه تكرار، ومنها أنه ليس كل قتل يكون نافيًا للقتل، وإنما يكون كذلك إذا كان على جهة القصاص، ومنها حسن التأليف وشدة التلاؤم المدركان بالحس في الآية الكريمة التي أعجزتهم أن يأتوا بمثلها، لا فيما قالوه في مثلهم البسيط الذي لا يزيد عن متعارف الأوساط.
(٦) وكحذف لا في قول عاصم المنقري:
رأيت الخمر جامدة وفيها
خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها حياتي
ولا أسقي بها أبدًا نديما
يريد: لا أشربها.
ويقع إيجاز الحذف كثيرًا في أساليب البلغاء بشرط أن يوجد ما يدل على المحذوف، وإلا كان الحذف رديئًا، والكلام غير مقبول.
(٧) فأرسلون: حكاية عن أحد الفتيين الذي أرسله العزيز إلى يوسف ليستعبره ما رآه. واعلم أنه لا بد من دليل يدل على المحذوف وهو:
إما العقل وحده، نحو: وَجَاءَ رَبُّكَ، وإما العقل مع غيره، نحو: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ؛ أي: تناولها. وإما العادة، نحو: فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ؛ أي: في مراودته. وإما الشروع فيه، نحو: «بسم الله الرحمن الرحيم أؤلف» مثلًا. وإما مقارنة الكلام للفعل، كما تقول لمن تزوج: «بالرفاء والبنين»؛ أي: أعرست متلبسًا بالألفة والبنين.
«تنبيه»: حذف الجمل أكثر ما يرد في كلام الله عز وجل؛ إذ هو الغاية في الفصاحة، والنهاية في مراتب البلاغة. واعلم أن كلًّا من الحشو والتطويل يخل ببلاغة الكلام، بل لا يُعد الكلام معها إلا ساقطًا عن مراتب البلاغة كلها.
(٨) وقددت: أي قطعت، والضمير فيه يعود على الزباء، وهي امرأة ورثت الملك عن أبيها. والأديم: الجِلد. ولراهشَيْه؛ أي: إلى أن وصل القطع للراهشين، وهما عرقان في باطن الذراع، يتدفق الدم منهما عند القطع. والضمير في «ألفى» يعود على المقطوع راهشاه، وهو جذيمة الأبرش. والمراد الإخبار بأن جذيمة غدرت به الزباء وقطعت راهشيه، وسال منه الدم حتى مات، وأنه وجد ما وعدته من تزوجه بها كذبًا ومَيْنًا، وهما بمعنًى واحد، وإحدى الكلمتين زائدة فلا يتغير المعنى بإسقاط أيهما شئت. وكقول الشاعر:
ألا حبذا هند وأرض بها هند
وهند أتى من دونها النأي والبعد
فالنأي والبعد بمعنًى واحد، ولا يتعين أحدهما للزيادة.
(٩) الشاهد في قوله: «قبله» لأنه معلوم من قوله أمس. وكقول الآخر:
ذكرت أخي فعاودني
صداع الرأس والوصب
فإن الصداع لا يكون إلا في الرأس، فذكر الرأس لا فائدة فيه.
(١٠) ومنها الحروف الزائدة، وتكثير الجمل، نحو: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ.
(١١) من دعاء سيدنا نوح لنفسه ولوالديه وللمؤمنين.
(١٢) أي: سوف تعلمون ما أنتم عليه من الخطأ إذا شاهدتم هول المحشر، فقد أكد الإنذار بتكريره؛ ليكون أبلغ تأثيرًا، وأشد تخويفًا.
(١٣) الشاهد في تكرير «إن» التي في أول البيت، وتكريرها في آخره، وفي الآية الكريمة كرر «رأيت» لطول الفصل.
(١٤) لم يشترط بعضهم وقوعه بين جزئي جملة ولا بين كلامين، بل جوز وقوعه بين الكلام مطلقًا، سواء وليه ارتباط بما قبله أولًا، كقوله تعالى: وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فجملة: «وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» معترضة، وليست معطوفة على ما قبلها حتى يلزم عطف الإنشاء على الخبر.
(١٥) بلغتها بفتح التاء؛ أي: «بلغك الله إياها» وتَرْجمان كزعفران، ويجوز ضم التاء مع الجيم. واعلم أن الدعاء من الشاعر موجه إلى المخاطب بطول عمره، وأن يعيش مثله ثمانين سنة. واعلم أنه قد يقع الاعتراض في الاعتراض كقوله تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ.
(١٦) التأكيد ضربان: تأكيد المنطوق كما في هذه الآية، وتأكيد المفهوم كقوله:
ولست بمستبقٍ أخًا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
فقد دل بمفهومه على نفي الكمال من الرجال، فأكده بقوله: «أي الرجال المهذب».
(١٧) لما كان المطر مما يسبب الخراب دفع هذا الوهم بقوله: «غير مفسدها».
(١٨) المساواة هي ما ساوى لفظه معناه، بحيث لا يزيد أحدهما على الآخر. وهي نوعان:
  • الأول: مساواة مع الاختصار، وهي أن يتحرى البليغ في تأدية المعنى أوجز ما يكون من الألفاظ القليلة الأحرف الكثيرة المعاني، كقوله تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ وكقوله تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
  • والثاني: مساواة بدون اختصار «ويسمى متعارف الأوساط» وهو تأدية المقصود من غير طلب للاختصار، كقوله تعالى: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ.
والوجهان في المركز الأسمى من البلاغة، غير أن الأول أدخل فيها وأدل عليها.
والمساواة فن من القول عزيز المثال، تشرأب إليه أعناق البلغاء، لكن لا يرتقي إلى ذراه إلا الأفذاذ؛ لصعوبة المرتقى، وجلال المقصد. والمساواة يعتبرها بعضهم وسطًا بين الإيجاز والإطناب، وبعضهم يدمجها، ولا يعدها قسمًا ثالثًا للإيجاز والإطناب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤