الباب الأول

في التشبيه

تمهيد

للتشبيه روعة وجمال، وموقع حسن في البلاغة؛ وذلك لإخراجه الخفي إلى الجلي، وإدنائه البعيد من القريب، يزيد المعاني رفعة ووضوحًا، ويكسبها جمالًا وفضلًا، ويكسوها شرفًا ونُبلًا؛ فهو فن واسع النطاق، فسيح الخطو، ممتد الحواشي، متشعَّب الأطراف، متوعِّر المسلك، غامض المدرك، دقيق المجرى، غزير الجدوى.

ومن أساليب البيان أنك إذا أردت إثبات صفة لموصوف مع التوضيح، أو وجه من المبالغة — عمدت إلى شيء آخر، تكون هذه الصفة واضحة فيه، وعقدت بين الاثنين مماثلة، تجعلها وسيلة لتوضيح الصفة، أو المبالغة في إثباتها؛ لهذا كان التشبيه أوَّل طريقة تدل عليه الطبيعة لبيان المعنى.

تعريف التشبيه وبيان أركانه الأربعة

التشبيه لغة: التمثيل، يقال: هذا شِبه هذا ومثيله.

والتشبيه اصطلاحًا: عقد مماثلة بين أمرين أو أكثر، قُصِد اشتراكهما في صفة أو أكثر، بأداة؛ لغرض يقصده المتكلم.

وأركان التشبيه أربعة:
  • (١)

    المشبه: هو الأمر الذي يُراد إلحاقه بغيره.

  • (٢)

    المشبه به: هو الأمر الذي يلحق به المشبه.

    (هذان الركنان يُسميان طرفي التشبيه.)

  • (٣)

    وجه الشبه: هو الوصف المشترك بين الطرفين، ويكون في المشبه به أقوى منه في المشبه، وقد يُذكر وجه الشبه في الكلام، وقد يُحذف كما سيأتي توضيحه.

  • (٤)

    أداة التشبيه: هي اللفظ الذي يدل على التشبيه، ويربط المشبه بالمشبه به، وقد تُذكر الأداة في التشبيه وقد تُحذف، نحو: كان عمر في رعيته كالميزان في العدل، وكان فيهم كالوالد في الرحمة والعطف.

تمرين على التشبيه وبيان أركانه الأربعة

أنت كالوردة لمسًا وشذًا
جادها الغيث على غصن نضر
إنما الناس كالسوائم في الرز
ق سواء جهولهم والعليمُ
أنت مثل الغصن لينًا
وشبيه البدر حُسنا
لك شعر مثل حظي
في سواد قد تثنى
أنت عندي كليلة القدر في القد
ر لكن لا تستجيب دعائي
العشق كالموت يأتي لا مرد له
ما فيه للعاشق المسكين تدبير
وكن كالشمس تظهر كل يوم
ولا تك في التغيب كالهلال
بعض الرجال كقبر الميت تمنحه
أعز شيء ولا يعطيك تعويضًا
وخيل تحاكي البرق لونًا وسرعة
وكالصخر إذ تهوي وكالماء في الجري
أعوام إقباله كاليوم في قصرٍ
ويوم إعراضه في الطول كالحجج
أورد قلبي الردى
غصن عذار بدا
أسود كالكفر في
أبيض مثل الهدى
لا جزى الله دمع عيني خيرًا
وجزى الله كل خير لساني
ثم دمعي فليس يكتم شيئًا
ووجدت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طي
فاستدلوا عليه بالعنوان
للورد عندي محل
لأنه لا يُمَل
كل الرياحين جند
وهو الأمير الأجل
إن غاب عزوا وباهوا
حتى إذا عاد ذلوا

(١) المبحث الأول: في تقسيم طرق التشبيه إلى حسي وعقلي

طرفا التشبيه «المشبه والمشبه به».
  • (١)
    إما حسيان١ «أي مدركان بإحدى الحواس الخمس الظاهرة» نحو: «أنت كالشمس في الضياء» وكما في تشبيه «الخد بالورد».

    وإما عقليان؛ أي: مدركان بالعقل، نحو «العلم كالحياة»، ونحو: «الضلال عن الحق كالعمى» ونحو: «الجهل كالموت».

  • (٢)

    وإما المشبه حسي والمشبه به عقلي، نحو: طبيب السوء كالموت.

  • (٣)

    وإما المشبه عقلي والمشبه به حسي، نحو: العلم كالنور.

    واعلم أن العقلي هو ما عدا الحسي، فيشمل المحقق ذهنًا: كالرأي، والخلق، والحظ، والأمل، والعلم، والذكاء، والشجاعة.

    ويشمل أيضًا الوهمي، وهو ما لا وجود له، ولا لأجزائه كلها، أو بعضها في الخارج، ولو وجد لكان مدركًا بإحدى الحواس.

    ويشمل الوجداني، وهو ما يُدرك بالقوى الباطنة: كالفم، والفرح، والشبع، والجوع، والعطش، والرِّي.

(٢) المبحث الثاني: في تقسيم طرفي التشبيه باعتبار الإفراد والتركيب

طرفا التشبيه «المشبه والمشبه به».
  • (١)

    إما مفردان «مطلقان»، نحو: «ضوءه كالشمس» و«خده كالورد».

    أو «مقيدان»،٢ نحو: الساعي بغير طائل كالرَّاقم على الماء.

    أو «مختلفان»، نحو: «ثغره كاللؤلؤ المنظوم» ونحو: «العين الزرقاء كالسنان»، والمشبه هو المقيد.

    وإما مركبان تركيبًا لم يمكن إفراد أجزائهما، بحيث يكون المركب هيئة حاصلة من شيئين، أو من أشياء، تلاصقت حتى اعتبرها المتكلم شيئًا واحدًا، وإذا انتُزع الوجه من بعضها دون بعض اختل قصد المتكلم من التشبيه، كقوله:٣
    كأن سهيلًا والنجوم وراءه
    صفوف صلاة قام فيها إمامها
  • (٢)

    إذ لو قيل: «كأن سهيلًا إمام» و«كأن النجوم صفوف صلاة» — لذهبت فائدة التشبيه.

    أو مركبان تركيبًا إذا أُفردت أجزاؤه زال المقصود من هيئة «المشبه به» كما ترى في قول الشاعر الآتي: حيث شبه النجوم اللامعة في كبد السماء بِدُرٍّ منتثر على بساط أزرق:

    وكأنَّ أجرام النجوم لوامعًا
    دررٌ نُثرن على بِساط أزرق

    إذ لو قيل: «كأن النجوم درر» و«كأن السماء بساط أزرق» — كان التشبيه مقبولًا، لكنه قد زال منه المقصود بهيئة المشبه به.

  • (٣)
    وإما مفرد بمركب، كقول الخنساء:٤
    أغر أ بلجُ تأتم الهداة به
    كأنه عَلَم في رأسه نار
  • (٤)
    وإما مركب بمفرد، نحو: الماء المالح كالسم.٥

    واعلم أنه متى رُكب أحد الطرفين لا يكاد يكون الآخر مفردًا مطلقًا، بل يكون مركبًا، أو مفردًا مقيدًا، ومتى كان هناك تقييد أو تركيب كان الوجه مركبًا ضرورة انتزاعه من المركب، أو من القيد والمقيد.

(٣) المبحث الثالث: في تقسيم طرفي التشبيه باعتبار تعددهما٦

ينقسم طرفا التشبيه «المشبه والمشبه به» باعتبار تعددهما أو تعدد أحدهما إلى أربعة أقسام: ملفوف، ومفروق، وتسوية، وجمع.

  • (١)

    فالتشبيه الملفوف: هو جمع كل طرف منهما مع مثله، كجمع المشبه مع المشبه، والمشبه به مع المشبه به، بحيث يُؤتى بالمشبهات معًا على طريق العطف، أو غيره، ثم يُؤتى بالمشبهات بها كذلك، كقوله:

    ليل وبدر وغصن
    شعر ووجه وقد
    خمر ودر وورد
    ريق وثغر وخد

    وكقوله:

    تبسم وقطوب في ندًى ووغًى
    كالغيث والبرق تحت العارض البرد

    وكقوله:

    وضوء الشهب فوق الليل بادٍ
    كأطراف الأسنة في الدروع٧
  • (٢)
    والتشبيه المفروق: هو جمع كل مشبه مع ما شُبه به، كقوله:٨
    النشر مسك والوجوه دنا
    نير وأطراف الأكف عَنَم
  • (٣)

    و«تشبيه التسوية» هو أن يتعدد المشبه دون المشبه به كقوله:

    صدغ الحبيب وحالي
    كلاهما كالليالي
    وثغره في صفاء
    وأدمعي كاللآلي

    سُمي بذلك للتسوية فيه بين المشبهات.

  • (٤)

    وتشبيه الجمع: هو أن يتعدد المشبه به دون المشبه، كقوله:

    كأنما يبسم عن لؤلؤ
    منضد أو برد أو أقاح٩

    سُمي بتشبيه الجمع؛ للجمع فيه بين ثلاث مشبهات بها كقوله:

    مرت بنا رأد الضحى
    تحكي الغزالة والغزالا

    وكقوله:

    ذات حسن لو استزدت من الحسـ
    ـن إليه لما أصابت مزيدا
    فهي الشمس بهجة والقضيب اللد
    ن قدًّا والريم طرفًا وجيدا

تمرين

اذكر أحوال طرفي التشبيه فيما يأتي:

علم لا ينفع كدواء لا ينجع. الصديق المنافق والابن الجاهل كلاهما كجمر الغضا. الحق سيف على أهل الباطل. الحمية من الأنام كالحمية من الطعام.

قال محمد بن لنكك البصري:

قضى الأمراء وانقرضوا وبادوا
وخلفني الزمان على علوج
وقالوا قد لزمت البيت جدًّا
فقلت لفقد فائدة الخروج
فمن ألقى إذا أبصرت فيهم
ودار البين في أعلى السروج
زمان عز فيه الجود حتى
كأن الجود في أعلى البروج
يا شبيه البدر حسنًا
وضياء ومنالا
وشبيه الغصن لينًا
وقوامًا واعتدالا
أنت مثل الورد لونًا
ونسيمًا وملالا
زارنا حتى إذا ما
سرنا بالقرب زالا
يا صاحبيَّ تقَصَّيَا نظرَيْكما
تَريا وجوه الأرض كيف تصور
تريا نهارًا مشمسًا قد شابه
زهر الرُّبَى فكأنما هو مقمر١٠
فكم معنًى بديع تحت لفظ
هناك تزاوج كل ازدواج
كراحٍ في زجاج أو كروح
سرت في جسم معتدل المزاج
الخد وردٌ والعذار رياض
والطرف ليل والبياض نهار
العمر والإنسان والدنيا همو
كالظل في الإقبال والإدبار
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه١١
خود كأن بنانها
في خضرة النقش المزرَّد١٢
سمك من البلور في
شبك تكون من زبرجد
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا١٣
لدى وكرها العناب والحشف البالي
من يصنع الخير مع من ليس يعرفه
كواقد الشمع في بيت لعميان١٤

(٣-١) ملخص القول في تقسيم طرفي التشبيه

  • أولًا: ينقسم التشبيه باعتبار طرفية إلى حسيين وعقليين ومختلفين. فالحسيان يشتركان:
    • (١) في صفة مبصرة، كتشبيه المرأة بالنهار في الإشراق، والشعر بالليل في الظلمة والسواد، كما في قول الشاعر:
      فرعاء تسحب من قيام شعرها
      وتغيب فيه وهو ليل أسحم
      فكأنها فيه نهار مشرق
      وكأنه ليل عليها مظلم١٥
    • (٢) أو في صفة مسموعة، نحو: «غرد تغريد الطيور»، ونحو: «سجع سجع القمري»، ونحو: «أنَّ أنين الثكلى»، ونحو: «أسمع دويًّا كدوي النحل»، وكتشبيه إنقاض الرحل بصوت الفراريج في قول الشاعر:
      كأن أصوات من إيغالهن بنا
      أواخر الميس إنقاض الفراريج١٦

      وكتشبيه الأصوات الحسنة في قراءة القرآن الكريم بالمزامير.

    • (٣) أو في صفة مذوقة، كتشبيه الفواكه الحلوة بالعسل، وكتشبيه الريق بالخمر في قول الشاعر:
      كأن المُدام وصوب الغمام
      وريح الخزامى وذوب العسل
      يعل به برد أنيابها
      إذا النجم وسط السماء اعتدل١٧
    • (٤) أو في صفة ملموسة، كتشبيه الجسم بالحرير في قول ذي الرُّمَّة:
      لها بشر مثل الحرير ومنطق
      رخيم الحواشي لا هراء ولا نذر١٨
      وعينان قال الله كونا فكانتا
      فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
    • (٥) أو في صفة مشمومة، كشبيه الريحان بالمسك، والنكهة بالعنبر.

      والعقليان: هما اللذان لم يدركا «هما ولا مادتهما» بإحدى الحواس؛ وذلك كتشبيه السفر بالعذاب، والضلال عن الحق بالعمى، والاهتداء إلى الخير بالإبصار.

      والمختلفان: إما أن يكون المشبه عقليًّا والمشبه به حسيًّا، كتشبيه الغضب بالنار من التلظي والاشتعال، وكتشبيه الرأي بالليل في قول الشاعر:

      الرأي كالليل مسود جوانبه
      والليل لا ينجلي إلا بإصباح

      وإما أن يكون المشبه حسيًّا والمشبه به عقليًّا كتشبيه الكلام بالخلق الحسن عقليًّا، وكتشبيه العطر بخلق الكريم في قول الصاحب بن عباد:

      أهديت عطرًا مثل طيب ثنائه
      فكأنما أهدى له أخلاقه١٩
  • ثانيًا: ينقسم التشبيه باعتبار طرفيه إلى: مفردين مطلقين، أو مقيدين، أو مختلفين، وإلى مركبين أو مختلفين.
    فالمفردان المطلقان كتشبيه السماء بالدهان في الحمرة في قوله تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ.٢٠

    وكتشبيه الكشح بالجديل، والساق بالأنبوب في قول امرئ القيس:

    وكشح لطيف كالجديل مخصر
    وساق كأنبوب السقي المذلل٢١

    والمقيدان بوصف، أو إضافة، أو حال، أو ظرف، أو نحو ذلك، كقولهم فيمن لا يحصل من سعيه على فائدة: هو «كالراقم على الماء»، فالمشبه هو الساعي على هذه الصفة، والمشبه به هو الراقم بهذا القيد، ووجه الشبه التسوية بين الفعل والترك في الفائدة. وكقوله:

    والشمس من بين الأرائك قد حكت
    سيفًا صقيلًا في يد رعشاء٢٢

    والمختلفان والمشبه به هو المقيد، كما في قول ذي الرُّمَّة:

    قف العيس في أطلال مية فاسأل
    رسومًا كأخلاق الرداء المسلسل٢٣

    أو المشبه هو المقيد، كما في قول الشاعر:

    كأن فجاج الأرض وهي عريضة
    على الخائف المطلوب كفة حابل٢٤

    والمركبان كقول الشاعر:

    البدر منتقب بغيم أبيض
    هو فيه تفجر وتبلج
    كتنفس الحسناء في المرآة إذ
    كملت محاسنها ولم تتزوج
    والمختلفان والمشبه مفرد، كقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ. وكقول الشاعرة:
    أغر أبلج تأتم الهداة به
    كأنه علم في رأسه نار

    أو المشبه به مفرد، كقول أبي الطيب المتنبي:

    تشرق أعراضهم وأوجههم
    كأنها في نفوسهم شيم

    شبه إشراق الأعراض والوجوه بإشراق الشيم (الأخلاق الطيبة)، فإشراق الوجوه ببياضها، وإشراق الأعراض بشرفها وطيبها.

  • ثالثًا: التشبيه ينقسم باعتبار طرفيه إلى:
    • (١) ملفوف، وهو ما أتى فيه بالمشبهات أولًا على طريق العطف، أو غيره، ثم بالمشبهات بها كذلك، كقول الشاعر:
      ليل وبدر وغصن
      شعر ووجه وقد
      خمر ودر وورد
      ريق وثغر وخد

      شبه الليل بالشعر، والبدر بالوجه، والغصن بالقد — في البيت الأول. والخمر بالريق، والدر بالثغر، والورد بالخد — في البيت الثاني. وقد ذكر المشبهات أولًا، والمشبهات بها ثانيًا، كما ترى في نظم الشاعر.

    • (٢) وإلى مفروق، وهو ما أتى فيه بمشبه ومشبه به، ثم بآخر وآخر كقول أبي نواس:
      تبكي فتذري الدر من نرجس
      وتمسح الورد بعناب

      شبه الدمع بالدر؛ لصفائه، والعين بالنرجس؛ لما فيه من اجتماع السواد بالبياض، والوجه بالورد.

  • رابعًا: ينقسم التشبيه أيضًا باعتبار طرفيه إلى:
    • (١) تشبيه التسوية: وهو ما تعدد فيه المشبه، كقول الشاعر:
      صدغ الحبيب وحالي
      كلاهما كالليالي
      وثغره في صفاء
      وأدمعي كاللآلي٢٥

      شبه في الأول صدغ الحبيب وحاله هو بالليالي في السواد، وفي الثاني شبه ثغر الحبيب ودموعه باللآلي في القدر والإشراق.

    • (٢) تشبيه الجمع: وهو ما تعدد فيه المشبه به، كقول البحتري:
      بات نديمًا لي حتى الصباح
      أغيد مجدول مكان الوشاح
      كأنما يبسم عن لؤلؤ
      منضد أو برد أو أقاح٢٦

      شبه ثغره بثلاثة أشياء: باللؤلؤ، والبرد، والأقاح، وقد تقدم الكلام على هذه الأقسام.

(٤) المبحث الرابع: في تقسيم التشبيه باعتبار وجه الشَّبه

وجه الشبه: هو الوصف الخاص٢٧ الذي يُقصد اشتراك الطرفين فيه، كالكرم في نحو: «خليل كحاتم»، ونحو: «له سيرة كالمسك» و«أخلاقه كالعنبر».
واشتراك الطرفين قد يكون ادعائيًّا بتنزيل التضاد منزلة التناسب، وإبراز الخسيس في صورة الشريف تهكمًا أو تمليحًا، ويظهر ذلك من المقام، وينقسم التشبيه باعتبار وجه الشبه إلى:
  • (١)

    تشبيه تمثيل: وهو ما كان وجه الشبه فيه وصفًا منتزعًا من متعدد، حسيًّا كان أو غير حسي، كقوله:

    وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
    يوافي تمام الشهر ثم يغيب

    فوجه الشبه سرعة الفناء، انتزعه الشاعر من أحوال القمر المتعددة؛ إذ يبدو هلالًا، فيصير بدرًا، ثم ينقص، حتى يدركه المحاق، ويُسمى تشبيه التمثيل.

  • (٢)

    وتشبيه غير تمثيل: وهو ما لم يكن وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدد، نحو: «وجهه كالبدر» ومثل قول الشاعر:

    لا تطلبنَّ بآلة لك رتبة
    قلم البليغ بغير حظ مغزل

    فوجه الشبه قلة الفائدة، وليس منتزعًا من متعدد.

  • (٣)

    ومفصل: وهو ما ذكر فيه وجه الشبه، أو ملزومه، نحو: «طبع فريد كالنسيم رقة» و«يده كالبحر جودًا» و«كلامه كالدر حسنًا» و«ألفاظه كالعسل حلاوة»، ومثل قول ابن الرومي:

    شيبه البدر حسنًا وضياءً ومنالا
    وشبيه الغصن لينًا وقوامًا واعتدالا
  • (٤)

    ومجمل: وهو ما يذكر فيه وجه الشبه، ولا ما يستلزمه، نحو: «النحو في الكلام كالملح في الطعام» فوجه الشبه هو الإصلاح في كل. ومثل قوله:

    إنما الدنيا كبيت
    نسجه من عنكبوت

    واعلم أن وجه الشبه المجمل إما أن يكون خفيًّا وإما أن يكون ظاهرًا، ومنه ما وصف فيه أحد الطرفين أو كلاهما بوصف يُشعر بوجه الشبه، ومنه ما ليس كذلك.

  • (٥)

    وقريب مبتذل: وهو ما كان ظاهر الوجه ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به، من غير احتياج إلى شدة نظر وتأمل؛ لظهور وجهه بادئ الرأي.

    وذلك لكون وجهه لا تفصيل فيه، كتشبيه الخد بالورد في الحمرة، أو لكون وجهه قليل التفصيل، كتشبيه الوجه بالبدر في الإشراق أو الاستدارة، أو العيون بالنرجس.

    وقد يتصرف في القريب بما يخرجه عن ابتذاله إلى الغرابة، كقول الشاعر:

    لم تلقَ هذا الوجه شمسُ نهارنا
    إلا بوجه ليس فيه حياء

    فإن تشبيه الوجه الحسن بالشمس مبتذل، ولكن حديث الحياء أخرجه إلى الغرابة.

    وقد يخرج وجه الشبه من الابتذال إلى الغرابة؛ وذلك بالجمع بين عدة تشبيهات كقول الشاعر:

    كأنما يبسم عن لؤلؤ
    منضد أو برد أو أقاح

    أو باستعمال شرط، كقوله:

    عزماته مثل النجوم ثواقبًا
    لو لم يكن للثاقبات أفول
  • (٦)

    وبعيد غريب: وهو ما احتاج في الانتقال من المشبه إلى المشبه به إلى فكر وتدقيق نظر؛ لخفاء وجهه بادئ الرأي، كقوله:

    والشمس كالمرآة في كف الأشل

    «فإن الوجه فيه» هو الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق، والحركة السريعة المتصلة مع تموج الإشراق، حتى ترى الشعاع كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة، ثم يبدو له فيرجع إلى الانقباض.

    وحكم وجه المشبه أن يكون في المشبه به أقوى منه في المشبه، وإلا فلا فائدة في التشبيه.

تمرين

بيِّن أركان التشبيه وأقسام كل منها فيما يلي:

(١) ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار
(٢) والدهر يقرعني طورًا وأقرعه
كأنه جبل يهوي إلى جبل٢٨
(٣) فإن أغْشَ قومًا بعده أو أزورهم
فكالوحش يدنيها من الأنس المحل٢٩
(٤) الشمس من مشرقها قد بدت
مشرقة ليس لها حاجب٣٠
كأنها بوتقة أُحميت
يجول فيها ذهب ذائب

(٥) قالت أعرابية تصف بنيها: «هم كالحلقة المفرغة لا يُدْرى أين طرفاها.»

(٦) عزماتهم قضب وفيض أكفهم
سحب وبيض وجوههم أقمار٣١

(٧) قال علي كرم الله وجهه: «مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه.»

(٨) قال صاحب كليلة ودمنة: «الدنيا كالماء الملح، كلما ازددت منه شربًا ازددت عطشًا.»

(٩) فانهض بنار إلى فحم كأنهما
في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا
(١٠) فتراه في ظلم الوغى فتخاله
قمرًا يكر على الرجال بكوكب٣٢
(١١) كأن الثريا في أواخر ليلها
تفتُّح نَوْر أو لجام مفضض
(١٢) كأن الدموع على خدها
بقية طل على جلنار٣٣
(١٣) صحو وغيم وضياء وظلم
مثل سرور شابه عارض غم

(٥) المبحث الخامس: في تشبيه التمثيل

تشبيه التمثيل: أبلغ من غيره؛ لما في وجهه من التفصيل الذي يحتاج إلى إمعان فكر، وتدقيق نظر، وهو أعظم أثرًا في المعاني: يرفع قدرها، ويضاعف قواها في تحريك النفوس لها، فإن كان مدحًا كان أوقع، أو ذمًّا كان أوجع، أو برهانًا كان أسطع؛ ومن ثم يحتاج إلى كد الذهن في فهمه؛ لاستخراج الصورة المنتزعة من أمور متعددة، حسية كانت أو غير حسية؛ لتكون «وجه الشبه» كقول الشاعر:

ولاحت الشمس تحكي عند مطلعها
مرآة تِبْر بدت في كفِّ مرتعش

فمثل الشمس حين تطلع حمراء لامعة مضطربة بمرآة من ذهب تضطرب في كف ترتعش.

وتشبيه التمثيل نوعان:
  • الأول: ما كان ظاهر الأداة، نحو: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، فالمشبه هم الذين حملوا التوراة ولم يعقلوا ما بها، والمشبه به «الحمار» الذي يحمل الكتب النافعة، دون استفادته منها، والأداة الكاف، ووجه الشبه «الهيئة الحاصلة من التعب في حمل النافع دون فائدة».
  • الثاني: ما كان خفي الأداة، كقولك للذي يتردد في الشيء بين أن يفعله وألا يفعله «أراك تقدِّم رجلًا وتؤخِّر أخرى»؛ إذ الأصل: أراك في ترددك مثل من يقدم رجلًا مرة، ثم يؤخرها مرة أخرى.

    فالأداة محذوفة، ووجه الشبه هيئة الإقدام والإحجام المصحوبين بالشك.

(٥-١) مواقع تشبيه التمثيل

لتشبيه التمثيل موقعان:
  • (١)
    أن يكون في مفتتح الكلام، فيكون قياسًا موضحًا، وبرهانًا مصاحبًا، وهو كثير جدًّا في القرآن، نحو: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ.
  • (٢)

    ما يجيء بعد تمام المعاني؛ لإيضاحها وتقريرها، فيشبه البرهان الذي تثبت به الدعوى، نحو:

    وما المال والأهلون إلا ودائع
    ولا بد يومًا أن تُرد الودائع

    ونحو:

    لا ينزل المجد إلا في منازلنا
    كالنوم ليس له مأوى سوى المقل

(٥-٢) تأثير تشبيه التمثيل في النفس

إذا وقع التمثيل في صدر القول بعث المعنى إلى النفس بوضوح وجلاء مؤيد بالبرهان؛ ليقنع السامع، وإذا أتى بعد استيفاء المعاني كان:
  • (١)

    إما دليلًا على إمكانها، كقول المتنبي:

    وما أنا منهم بالعيش فيهم
    ولكن معدن الذهب الرغام٣٤
  • (٢)

    وإما تأييدًا للمعنى الثابت، نحو:

    ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
    إن السفينة لا تجري على اليبس

    وعلة هذا أن النفس تأنس إذا أخرجتها من خفي إلى جلي، ومما تجهله إلى ما هي به أعلم؛ ولذا تجد النفس من الأريحية ما لا تقدُر قدره، إذا سمعت قول أبي تمام:

    وطول مقام المرء في الحي مخلق
    لديباجتيه فاغترب تتجدَّد٣٥
    فإني رأيت الشمس زيدت محبة
    إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

وبعدُ: فالتمثيل يُكسب القول قوة، فإن كان في المدح كان أهز للْعِطْف، وأنبل في النفس، وإن كان في الذم كان وقعه أشد، وإن كان وعظًا كان أشفى للصدر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وإن كان افتخارًا كان شأوه أبعد، كقول من وصف كأسًا علاها الحباب:

وكأنها وكأنَّ حامل كأسها
إذ قام يجلوها على الندماء
شمس الضحى رقصت فنقط وجهها
بدر الدُّجى بكواكب الجوزاء

(٦) المبحث السادس: في أدوات التشبيه٣٦

أدوات التشبيه: هي ألفاظ تدل على المماثلة: كالكاف، وكأن، ومثل، وشبه، وغيرها مما يؤدي معنى التشبيه: كيحكي، ويضاهي، ويضارع، ويماثل، ويساوي، ويشابه، وكذا أسماء فاعلها.

فأدوات التشبيه بعضها اسم، وبعضها فعل، وبعضها حرف.

وهي إما ملفوظة ملحوظة، نحو: «جمال كالبدر» و«أخلاقه في الرقة النسيم»، ونحو: «اندفع الجيش اندفاع السيل»؛ أي: كاندفاعه.

الأصل في «الكاف، ومثل، وشبه» من الأسماء المضافة لما بعدها أن يليها المشبه به لفظًا٣٧ أو تقديرًا.

والأصل في «كأن، وشابه، وماثل، وما يرادفها» أن يليها المشبه، مثل قوله:

كأن الثريا راحة تشبر الدجى
لتنظر طال الليل أم قد تعرضا

وكأن تفيد التشبيه إذا كان خبرها جامدًا، نحو: كأن البحر مرآة صافية.

وقد تفيد الشك إذا كان خبرها مشتقًّا، نحو: «كأنك فاهم».

ومثل قوله:

كأنك من كل النفوس مركب
فأنت إلى كل النفوس حبيب

وقد يغني عن أداة التشبيه «فعل» يدل على حال التشبيه، ولا يعتبر أداة.

فإن كان «الفعل لليقين» أفاد قرب المشابهة؛ لما في فعل اليقين من الدلالة على تيقين الاتحاد وتحققه، وهذا يفيد التشبيه مبالغة، نحو: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا.

ونحو: رأيت الدنيا سرابًا غَرَّارًا.

وإن كان «الفعل للشك» أفاد بعدها؛ لما في فعل الرجحان من الإشعار بعدم التحقق، وهذ يُفيد التشبيه ضعفًا، نحو: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا. وكقوله:

قوم إذا لبسوا الدروع حسبتها
سُحُبًا مزردة على أقمار

ونحو قوله تعالى: وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ.

ونحو قوله تعالى: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ.

وكقول الشاعر:

والوجه مثل الصبح مُبْيَضٌّ
والفرع مثل الليل مُسْوَدُّ
ضدان لما استجمعا حَسُنَا
والضد يُظهر حُسْنَه الضِّدُّ

(٧) المبحث السابع: في تقسيم التشبيه باعتبار أداته

ينقسم التشبيه باعتبار أداته إلى:
  • (أ)
    التشبيه المرسل:٣٨ وهو ما ذُكرت فيه الأداة، كقول الشاعر:
    إنما الدنيا كبيت
    نسجه من عنكبوت
  • (ب)

    التشبيه المؤكد: وهو ما حُذفت منه أداته، نحو: «يسجع سجع القمري»، وكقول الشاعر:

    وأنت نجم في رفعة وضياء
    تجتليك العيون شرقًا وغربا

    ومن المؤكد ما ضيف فيه المشبه به إلى المشبه، كقول الشاعر:

    والريح تعبث بالغصون وقد جرى
    ذهب الأصيل على٣٩ لجين الماء

    أي: أصيل كالذهب على ماء كاللجين.

    والمؤكد أوجز، وأبلغ، وأشد وقعًا في النفس.

    أما إنه أوجز فلحذف أداته، وأما إنه أبلغ فلإيهامه أن المشبه عين المشبه به.

(٧-١) التشبيه بالبليغ

(ﺟ) التشبيه بالبليغ: ما بلغ درجة القبول لحسنه أو الطيب الحسن، فكلما كان وجه الشبه قليل الظهور، يحتاج في إدراكه إلى إعمال الفكر، كان ذلك أفعل في النفس، وأدعى إلى تأثرها واهتزازها؛ لما هو مركوز في الطبع من أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له والاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه؛ كان نيله أحلى وموقعه في النفس أجل وألطف، وكانت به أضمن وأشغف. وما أشبه هذا الضرب من المعاني بالجوهر في الصدف، لا يبرز إلا أن تشقه عنه، وبالحبيب المتحجب لا يريك وجهه حتى تستأذن.

وسبب هذه التسمية أنَّ ذِكر «الطرفين» فقط يُوهم اتحادهما، وعدم تفاضلهما، فيعلو المشبه إلى مستوى المشبه به، وهذه هي المبالغة في قوة التشبيه.

والتشبيع البليغ: هو ما حُذفت فيه أداة التشبيه، ووجه الشبه،٤٠ نحو:
فاقضوا مآربكم عجالًا إنما
أعماركم سفر من الأسفار

ونحو:

عزماتهم قضب وفيض أكفهم
سحب وبيض وجوههم أقمار

(٨) المبحث الثامن: في فوائد التشبيه

الغرض من التشبيه والفائدة منه هي الإيضاح والبيان «في التشبيه غير المقلوب» ويرجع ذلك الغرض إلى المشبه، وهو إما:
  • (١)

    بيان حاله؛ وذلك حينما يكون المشبه مبهمًا غير معروف الصفة التي يراد إثباتها له قبل التشبيه، فيفيده التشبيه الوصف، ويوضحه المشبه به، نحو: «شجر النارنج كشجر البرتقال». ومثل قول الشاعر:

    إذا قامت لحاجتها تثنت
    كأن عظامها من خيزران
    شبه عظامها بالخيزران بيانًا لما فيها من اللين.٤١
  • (٢)

    أو بيان إمكان حاله، وذلك حين يسند إليه أمر مستغرب لا تزول غرابته إلا بذكر شبيه له، معروف واضح مسلم به؛ ليثبت في ذهن السامع ويقرر، مثل قوله:

    ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت
    وقع السهام ونزعهن أليم

    شبه نظرها بوقع السهام، وشبه إعراضها بنزعها؛ بيانًا لإمكان إيلامها بها جميعًا.

  • (٣)

    أو بيان مقدار حال المشبه في القوة والضعف؛ وذلك إذا كان المشبه معلومًا معروف الصفة التي يُراد إثباتها له معرفة إجمالية قبل التشبيه، بحيث يُراد من ذلك التشبيه بيان مقدار نصيب المشبه من هذه الصفة؛ وذلك بأن يعمد المتكلم لأن يبين للسامع ما يعنيه من هذا المقدار، مثل قوله:

    كأنَّ مشيتها من بيت جارتها
    مر السحابة لا ريث ولا عجل

    وكتشبيه الماء بالثلج في شدة البرودة، ومثل قوله:

    فيها اثنتان وأربعون حلوبة
    سودًا كخافية الغراب الأسحم

    شبه النياق السود بخافية الغراب؛ بيانًا لمقدار سوادها، فالسواد صفة مشتركة بين الطرفين.

  • (٤)
    أو تقرير حال المشبه، وتمكينه في ذهن السامع، بإبرازها فيما هي فيه أظهر،٤٢ كما إذا كان ما أُسند إلى المشبه يحتاج إلى التثبيت والإيضاح، فتأتي بمشبه حسي قريب التصور، يزيد معنى المشبه إيضاحًا؛ لما في المشبه به من قوة الظهور والتمام، نحو: «هل دولة الحسن إلا كدولة الزهر؟» و«هل عمر الصبا إلا أصيل أو سحر؟» ومثل قوله:
    إن القلوب إذا تنافر وُدُّها
    مثل الزجاجة كسرُها لا يُجْبَر٤٣

    شبه تنافر القلوب بكسر الزجاجة؛ تثبيتًا لتعذر عودة القلوب إلى ما كانت عليه من الأنس والمودة.

  • (٥)

    أو بيان إمكان وجود المشبه، بحيث يبدو غريبًا يستبعد حدوثه والمشبه به يزيل غرابته، ويبين أنه ممكن الحصول، مثل قوله:

    فإن تَفُقِ الأنامَ وأنتَ منهم
    فإن المِسك بعضُ دَمِ الغزالِ٤٤
  • (٦)

    أو مدحه وتحسين حاله؛ ترغيبًا فيه، أو تعظيمًا له، بتصويره بصورة تهيج في النفس قوى الاستحسان، بأن يعمد المتكلم إلى ذكر مشبه به مُعجب، قد استقر في النفس حسنه وحبه، فيصوِّر المشبه بصورته، كقوله:

    وزاد بك الحسن البديع نضارة
    كأنك في وجه الملاحة خال

    ونحو:

    كأنك شمس والملوك كواكب
    إذا طلعْتَ لم يَبْدُ منهن كوكب

    وقوله:

    سبقتْ إليك من الحدائق وردةٌ
    وأتتك قبل أوانها تطفيلا
    طمعت بلثمك إذ رأتك فجمعت
    فمها إليك كطالب تقبيلا

    وقوله:

    له خال على صفحات خد
    كنقطة عنبر في صحن مرمر
    وألحاظ كأسياف تنادي
    على عاصي الهوى الله أكبر
  • (٧)

    أو تشويه المشبه وتقبيحه؛ تنفيرًا منه أو تحقيرًا له، بأن تصوِّره بصورة تمجُّها النفس، ويشمئز منها الطبع، كقوله:

    وإذا أشار محدِّثًا فكأنه
    قرد يقهقه أو عجوز تلطم

    وقوله:

    وترى أناملها دبت على مزمارها
    كخنافس دبت على أوتار
  • (٨)

    أو استطرافه — أي عدُّه طريفًا حديثًا — بحيث يجيء المشبه به طريفًا، غير مألوف للذهن؛ إما لإبرازه في صورة الممتنع عادة، كما في تشبيه «فحم فيه جمر متقد ببحر من المسك موجه الذهب» وقوله:

    وكأن مُحْمَرَّ الشقيق
    إذا تصوَّب أو تصعَّد
    أعلام ياقوت نشر
    ن على رماح من زبرجد

    وإما لِنُدور حضور المشبه به في الذهن عند حضور المشبه، كقوله:

    انظرْ إليه كزورق من فِضة
    قد أثقلتْه حمولةٌ من عنبر٤٥

(٨-١) تشبيه على غير طرقه الأصلية

التشبيه الضمني

هو تشبيه لا يُوضع فيه المشبه والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة، بل يلمح المشبه والمشبه به، ويفهمان من المعنى، ويكون المشبه به دائمًا برهانًا على إمكان ما أُسند إلى المشبه، كقول المتنبي:

مَن يَهُن يَسْهُلِ الهوانُ عليه
ما لجرحٍ بميِّت إيلامُ

أي: إن الذي اعتاد الهوان يسهل عليه تحمله، ولا يتألم له، وليس هذا الادعاء باطلًا؛ لأن الميت إذا جُرح لا يتألم، وفي ذلك تلميح بالتشبيه في غير صراحة، وليس على صورة من صور التشبيه المعروفة، بل إنه «تشابه» يقتضي التساوي، وأما «التشبيه» فيقتضي التفاوت.

والقبيح المردود: هو ما لم يفِ بالغرض المطلوب منه؛ لعدم وجود وجه بين المشبه والمشبه به، أو مع وجوده لكنه بعيد.

التشبيه المقلوب

قد يُعكس التشبيه، فيُجعل المشبه مشبهًا به وبالعكس،٤٦ فتعود فائدته إلى المشبه به؛ لادِّعاء أن المشبه أتم وأظهر من المشبه به في وجه الشبه.
ويُسمى ذلك «بالتشبيه المقلوب»٤٧ أو المعكوس، نحو: «كأن ضوء النهار جبينه»، ونحو: «كأن نشر الروض حسن سيرته»، ونحو: «كأن الماء في الصفاء طباعه»، وكقول محمد بن وهيب الحميري:٤٨
وبدا الصباح كأن غرَّته
وجه الخليفة حين يمتدح

شبه غرَّة الصبَّاح بوجه الخليفة؛ إيهامًا أنه أتم منها في وجه الشبه. وكقول البحتري في وصف بِرْكة المتوكل:

كأنها حين لجت في تدفقها
يد الخليفة لما سال واديها٤٩

وهذا التشبيه مظهر من مظاهر الافتتان والإبداع، كقوله تعالى حكاية عن الكفار: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا في مقام أن الربا مثل البيع، عكسوا ذلك لإيهام أن الربا عندهم أحل من البيع؛ لأن الغرض الربح، وهو أثبت وجودًا في الربا منه في البيع، فيكون أحق بالحل عندهم.

(٩) المبحث التاسع: في تقسيم التشبيه باعتبار الغرض إلى مقبول وإلى مردود

ينقسم التشبيه باعتبار الغرض إلى حسن مقبول، وإلى قبيح مردود.

فالحسن المقبول: هو ما وفَى بالأغراض السابقة: كأن يكون المشبه به أعرف من المشبه في وجه الشبه، إذا كان الغرض بيان حال المشبه، أو بيان المقدار، أو أن يكون أتم شيء في وجه الشبه إذا قُصد إلحاق الناقص بالكامل، أو أن يكون في بيان الإمكان مسلم الحكم، ومعروفًا عند المخاطب، إذا كان الغرض بيان إمكان الوجود، وهذا هو الأكثر في التشبيهات؛ إذ هي جارية على الرشاقة، سارية على الدقة والمبالغة. ثم إذا تساوى الطرفان في وجه التشبيه عند بيان المقدار كان التشبيه كاملًا في القبول، وإلا فكلما كان المشبه به أقرب في المقدار إلى المشبه كان الشبه أقرب إلى الكمال والقبول.

تنبيهات

  • الأول: بعض أساليب التشبيه أقوى من بعض في المبالغة، ووضوح الدلالة ولها مراتب ثلاثة:
    • (أ) أعلاها وأبلغها: ما حُذف فيها الوجه والأداة، نحو: «على أسد»؛ وذلك أنك ادعيت الاتحاد بينهما بحذف الأداة، وادعيت التشابه بينهما في كل شيء بحذف الوجه؛ ولذا سُمي هذا تشبيهًا بليغًا.
    • (ب) المتوسطة: ما تُحذف فيها الأداة وحدها، كما تقول: «علي أسد شجاعة» أو يُحذف فيها وجه الشبه، فتقول: «علي كالأسد». وبيان ذلك أنك بذكرك الوجه حصرت التشابه، فلم تدع للخيال مجالًا في الظن بأن التشابه في كثير من الصفات، كما أنك بذكر الأداة نصصت على وجود التفاوت بين المشبه والمشبه به، ولم تترك بابًا للمبالغة.
    • (جـ) أقلها: ما ذُكر فيها الوجه والأداة، وحينئذ فقدت المزيتين السابقتين.
  • الثاني: قد يكون الغرض من التشبيه حسنًا جميلًا؛ وذلك هو النمط الذي تسمو إليه نفوس البلغاء، وقد أتوا فيه بكل حسن بديع، كقول ابن نُباتة في وصف فرس أغرَّ مُحَجَّل:
    وكأنما لَطَمَ الصباح جبينه
    فاقتص منه فخاض في أحشائه

    وقد لا يوفق المتكلم إلى وجه الشبه، أو يصل إليه مع بعد، وما أخلق مثل هذا النوع بالاستكراه وأحقه بالذم! لما فيه من القبح والشناعة، بحيث ينفر منه الطبع السليم.

  • الثالث: عُلم مما سبق أن أقسام التشبيه من حيث الوجه والأداة كالآتي:
    • (١) التشبيه المرسل: هو ما ذُكرت فيه الأداة.
    • (٢) التشبيه المؤكد: هو ما حُذفت منه الأداة.
    • (٣) التشبيه المجمل: هو ما حُذف منه وجه الشبيه.
    • (٤) التشبيه المفصَّل: هو ما ذُكر فيه وجه الشبه.
    • (٥) التشبيه البليغ: هو ما حُذفت منه الأداة، ووجه الشبه،٥٠ وهو أرقى أنواع التشبيه بلاغة، وقد تقدم الكلام عليه مستوفًى.
    • (٦) التشبيه الضمني: هو تشبيه لا يُوضع فيه المشبه والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة، بل يلمح المشبه والمشبه به، ويُفهمان من المعنى، نحو:
      علا فما يستقر المال في يده
      وكيف تمسك ماء قنة الجبل

      فالمشبه الممدوح، وهو ضمير «علا»، والمشبه به «قنة الحبل»، ووجه الشبه عدم الاستقرار، والأداة محذوفة أيضًا.

      وهذا النوع يُؤتى به؛ ليفيد أن الحكم الذي أُسند إلى المشبه ممكن.٥١

أسئلة تطلب أجوبتها

ما هو علم البيان لغة واصطلاحًا؟ ما هو التشبيه؟ ما أركان التشبيه؟ طرفا التشبيه حسيان أم عقليان؟ ما المراد بالحسي؟ ما هو التشبيه الخيالي؟ ما المراد بالعقلي؟ ما هو التشبيه الوهمي؟ ما هو وجه الشبه؟ ما هي أدوات التشبيه؟ هل الأصل في أدوات التشبيه أن يليها المشبه أو المشبه به؟ متى تفيد كأن التشبيه؟ ما هو التشبيه البليغ؟ ما هو التشبيه الضمني؟ ما هو التشبيه المرسل؟ كم قسمًا للتشبيه باعتبار طرفيه؟ كم قسمًا للتشبيه باعتبار تعدد طرفيه؟ ما هو التشبيه الملفوف؟ ما هو التشبيه المفروق؟ ما هو تشبيه التسوية؟ ما هو تشبيه الجمع؟ كم قسمًا للتشبيه باعتبار وجه الشبه؟ ما هو تشبيه التمثيل؟ ما هو تشبيه غير التمثيل؟ ما هو التشبيه المفصل؟ ما هو التشبيه المجمل؟ كما قسمًا للتشبيه باعتبار الغرض منه؟

تطبيق عام على أنواع التشبيه

«اشتريت ثوبًا أحمر كالورد» في هذه الجملة تشبيه مرسل مفصل، المشبه ثوبًا، والمشبه به هو الورد، وهما حسيان مفردان، والأداة الكاف، ووجه الشبه الحمرة في كلٍّ، والغرض منه بيان حال المشبه.

ما الدهر إلا الربيع المستنير إذا
أتى الربيع أتاك النور والنور
فالأرض ياقوتة والجو لؤلؤة
والنبت فيروزج والماء بلور

«الأرض ياقوتة» تشبيه بليغ مجمل، المشبه الأرض، والمشبه به ياقوتة، وهما حسيان مفردان، ووجه الشبه محذوف وهو الخضرة في كل، والأداة محذوفة، والغرض منه تحسينه.

والجو لؤلؤة، والنبت فيروزج، والماء بلور؛ كذلك.

وفي البيت كله تشبيه مفروق؛ لأنه أتى بمشبه ومشبه به، وآخر وآخر.

العمر والإنسان والدنيا همو
كالظل في الإقبال والإدبار

فيه تشبيه تسوية مرسل مفصل، المشبه العمر والإنسان والدنيا، والمشبه به الظل، والمشبه بعضه حسي، وبعضه عقلي، والمشبه به حسي، والكاف الأداة، ووجه الشبه الإقبال والإدبار، والغرض تقرير حاله في نفس السامع.

كم نعمة مرت بنا وكأنها
فرس يهرول أو نسيم ساري

في البيت تشبيه جمع مرسل مجمل، المشبه نعمة، والمشبه به فرس يهرول، أو نسيم ساري، وهما حسيان، وكأن الأداة، ووجه الشبه السرعة في كل، والغرض منه بيان مقدار حاله.

ليل وبدر وغصن
شعر وجه وقد

فيه تشبيه بليغ مجمل ملفوف، المشبه شعر وهو حسي، والمشبه به ليل، وهو عقلي، والأداة محذوفة، ووجه الشبه السواد في كل، والغرض منه بيان مقدار حاله.

وفي الثاني: المشبه وجه، والمشبه به بدر، وهما حسيان، ووجه الشبه الشبه الحسن في كل، والأداة محذوفة، والغرض تحسينه.

وفي الثالث: المشبه قَد، والمشبه به غصن، وهما حسيان، ووجه الشبه الاعتدال في كل، والأداة محذوفة، والغرض بيان مقداره، هذا هذا، وإن شئت فقل: هذا «تشبيه مقلوب» بجعل المشبه به مشبهًا، والمشبه مشبهًا به؛ لغرض المبالغة، بأن الليل مشبهًا، والشعر مشبهًا به.

وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى
كعنقود ملاحية حين نورا

فيه تشبيه تمثيل مرسل مجمل، المشبه هيئة الثريا الحاصلة من اجتماع أجرام مشرقة مستديرة منيرة، والمشبه هيئة عنقود العنب المنور، والجامع الهيئة الحاصلة من اجتماع أجرام منيرة مستديرة في كلٍّ، والأداة الكاف، والغرض منه بيان حاله.

تمرين

بيِّن أنواع التشبيه فيما يأتي:

(١) الورد في أعلى الغصون كأنه
ملك تَحُفُّ به سراة جنوده
(٢) إذ ارتجل الخطاب بدا خليج
بفيه يمده بحر الكلام
كلام بل مدام بل نظام
من الياقوت بل حبُّ الغمام
(٣) يا صاحبيَّ تيقظا من رقدة
تُزري على عقل اللبيب الأكيس
هذى المجرة والنجوم كأنها
نهر تدفق في حديقة نرجس
(٤) وكأن الصبح لمَّا
لاح من تحت الثُّريَّا
ملك أقبل في التا
ج يفدَّى ويحيَّا
(٥) إنما النفس كالزجاجة والعلم
سراج وحكمة الله زيت
فإذا أشرقت فإنك حي
وإذا أظلمت فإنك ميت
(٦) وغير تقي يأمر الناس بالتقى
طبيب يداوي الناس وهو مريض
(٧) إذا امتحن الدنيا لبيب تكشَّفت
له عن عدو في ثياب صديق
(٨) جمرة الخلد أحرقت عنبر الخا
ل فمن ذلك العذار دخان
(٩) كالبدر من حيث التفتَّ رأيته
يهدي إلى عينيك نورًا كافيا
(١٠) وأشرق عن بشر هو النور في الضحا
وصافي بأخلاق هي الطَّل في الصبح

تمرين آخر

لبيان أنواع التشبيه البليغ، والضمني، والتمثيل، والمقلوب، والمؤكد، والمفصَّل، والمجمل.

(١) خلط الشجاعة بالحياء فأصبحا
كالحسن شيب لمغرم بدلال
(٢) شقائق يحملن الندى فكأنه
دموع التصابي في خدود الخرائد
(٣) عذُبَ الفراق لنا قُبيل وداعنا
ثم اجترعناه كسم ناقع
فكأنما أثر الجموع بخدِّها
طل تناثر فوق ورد يانع٥٢
(٤) وترى الغصون تميل في أوراقها
مثل الوصائف في صنوف حرير
(٥) وحديقة ينساب فيها جدول
طرفي برونق حسنه مدهوش
يبدو خيال غصونها في مائه
فكأنما هو معصم منقوش
(٦) انظر إلى حسن تكوين السماء وقد
لاحت كواكبها والليل ديجور
كأنها خيمة ليست على عمد
زرقاء قد رُصعت فيها الدنانير
(٧) وقد سفر الدجى عن ضوء فجر
منير مثلما سفر النقاب
فخلت الصبح في إثر الثريا
بشيرًا جاء في يده كتاب
(٨) ولقد ذكرتك والنجوم كأنها
درر على أرض من الفيروزج
يلمعن من خلل السحاب كأنها
شرر تطاير من دخان العرفج
(٩) ونارنجة بين الرياض نظرتها
على غصن رطب كقامة أغيد
إذا ميَّلتها الريح مالت كأكرة
بدت ذهبًا من صولجان زمرد
(١٠) وحديقة غناء ينتظم النَّدى
بفروعها كالدُّرِّ في الأسلاك
والبدر يشرق من خلال غصونها
مثل المليح يطل من شُبَّاك
(١١) لو كنت تشهد يا هذا عَشِيَّتنا
والمزن يُسْكب أحيانًا وينحدر
والأرض مصفرة بالمزن كاسية
أبصرت تبرًا عليه الدر ينتثر
(١٢) وللأقاحي قصور كلها ذهب
من حولها شُرفات كلها درر
(١٣) كأنما النار في تلهبها
والفحم من فوقها يغطيها
زنجية شبكت أناملها
من فوق نارنجة لتخفيها
(١٤) والورد في شط الخليج كأنه
رمد ألمَّ بمقلة زرقاء
(١٥) هذي المجرة والنجوم كأنها
نهر تدفق في حديقة نرجس
(١٦) أنظر إلى حُسن هلال بدا
يهتك من أنواره الجندسا٥٣
كمنجل قد صيغ من عسجد
يحصد من زهر الدجى نرجسا
(١٧) والبدر يُسْتَرُ بالغيوم وينجلي
كتنفس الحسناء في مرآتها
(١٨) كأنما الأغصان لما انثنت
أمام بدر التِّمِّ في غيهبه
بنت مليك خلف شُبَّاكها
تفرجت منه على موكبه
(١٩) كأن شعاع الشمس في كل غدوة
على ورق الأشجار أول طالع
دنانير في كف الأشلِّ يضمُّها
لقبض فتهوي من فروج الأصابع
(٢٠) لئن بسط الزمان يَدَيْ لئيم
فصبرًا للذي فعل الزمان
فقد تعلو على الرأس الذُّنابَى
كما يعلو على النار الدخان
(٢١) دهر علا قدر الوضيع به
وغدا الشريف يحطه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه
سفلًا وتطفو فوقه جيفه
(٢٢) لو أورقت من دم الأبطال سُمْرُ قنًا
لأوقت عنده سُمْرُ القنا الذُّبل
إذا توجه في أولى كتائبه
لم تفرق العين بين السهل والجبل
فالجيش ينفض حوليه أسنته
نفض العقاب جناحيه من البلل
(٢٣) لو كنت شاهدنا عشية أنسها
والمزن يبكينا بعيني مذنب
والشمس قد مدت أديم شعاعها
في الأرض تجنح غير أن لم تذهب
خلت الرذاذ برادة من فضة
قد غربلت من فوق نطع مذهب٥٤
(٢٤) لله دولاب يفيض بسلسل
في روضة قد أينعت أفنانا
قد طارحته بها الحمائم شجوها
فيجيبها ويرجِّع الألحانا
فكأنه دنف٥٥ يدور بمعهد٥٦
يبكي ويسأل فيه عمَّن بانا٥٧
ضاقت مجاري طرفه عن دمعه
فتفتحت أضلاعه أجفانا
(٢٥) أخرس ينيبك بإطراقه
عن كل ما شئت من الأمر
يذري على قرطاسه دمعه
يبدي لنا السر وما يدري
كعاشق أخفى هواه وقد
نمت عليه عبرة تجري
(٢٦) الشمس من مشرقها قد بدت
مشرقة ليس لها حاجب
كأنها بودقة أُحميت
يجول فيها ذهب ذائب

(٢٧) قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ.

(٢٨) إذا ما تردَّى لأمة الحرب أرعدت
حشا الأرض واستدعى الرماح الشوارع
وأسفر تحت النقع حتى كأنه
صباح مشى في ظلمة الليل ساطع
(٢٩) وكأن أجرام السماء لوامعًا
درر نُثِرْن على بِساط أزرق

(٣٠) قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ.

(٣١) وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا.

(٣٢) وقال تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ.

(٣٣) حمر السيوف كأنما ضربت لهم
أيدي القيون صفائحًا من عسجد
في فتية طلبوا غبارك إنه
رهج ترفع عن طريق السؤدد
كالرمح فيه بضع عشرة فقرة
منقادة خلف السِّنان الأصيد
(٣٤) خبريني ماذا كرهت من الشيـ
ـبِ فلا علم لي بذنب المشيب
أضياء النهار أم وضح اللؤ
لؤ أم كونه كثغر الحبيب
واذكري لي فضل الشباب وما يجْـ
ـمع من منظر يروق وطيب
غدره بالخليل أم حبه للْـ
ـغيِّ أم أنه كدهر الأديب
(٣٥) والبدر أول ما بدا متلثِّما
يبدي الضياء لنا بخد مسفر
فكأنما هو خوذة من فضة
قد رُكبت في هامة من عنبر
(٣٦) خلتها في المعصفرات القواني
وردة في شقائق النعمان
(٣٧) شبهت بدر سمائنا لمَّا دنت
منه الثريا في قميص سندس
ملكًا مهيبًا قاعدًا في روضة
حيَّاه بعض الزائرين بنرجس
(٣٨) وإني على إشفاق عيني من البكا
لتجمح مني نظرة ثم أطرق
كما حلئت عن ماء بئر طريدة
تمد إليها جيدها وهي تفرق
(٣٩) أنا كالورد فيه راحة قوم
ثم فيه لآخرين زكام
(٤٠) يا حبذا يومنا ونحن على
رءوسنا نعقد الأكاليلا
في جنة ذُلِّلت لقاطفها
قطوفها الدانيات تذليلا
كأن أترجَّها تميل بها
أغصانها حاملًا ومحمولا
سلاسل من زبرجد حملت
من ذهب أصفر قناديلا
(٤١) كم والد يحرم أولاده
وخيره يحظى به الأبعد
كالعين لا تنظر ما حولها
ولحظها يُدرك ما يَبعُدُ
(٤٢) ريم يتيه بحسن صورته
عبث الفتور بلحظ مقلته
فكأنَّ عقرب صُدغه وقفت
لما دنت من نار وجنته
(٤٣) وشادن أهيف حيَّا بنرجسة
كأنها إذ بدت في غاية العجب
كف من الفضة البيضاء ساعدها
زبرجد حمِّلت كأسًا من الذهب
(٤٤) نثر الجو على الأرض برَد
أي در لنحور لو جمد
لؤلؤ أصدافه السحب التي
أنجز البارق منها ما وعد
(٤٥) أبصرت طاقة نرجس
في كف من أهواه غضَّهْ
فكأنها برج الزبر
جد أنبتت ذهبًا وفضَّهْ
(٤٦) كأن الأفق محفوف بنار
وتحت النار آساد تزير
(٤٧) وما الناس إلا كالديار وأهلها
بها يوم حلُّوها وغدوًا بلاقع

(٩-١) بلاغة التشبيه٥٨ وبعض ما أُثِرَ منه عن العرب والمحدثين

تنشأ بلاغة التشبيه من أنه ينتقل بك من الشيء نفسه إلى شيء طريف يُشبهه، أو صورة بارعه تُمثله، وكلما كان هذا الانتقال بعيدًا، قليل الخطور بالبال، أو ممتزجًا بقليل أو كثير من الخيال — كان التشبيه أروع للنفس، وأدعى إلى إعجابها واهتزازها.

فإذا قلت: فلان يشبه فلانًا في الطول، أو أن الأرض تشبه الكرة في الشكل، لم يكن في هذه التشبيهات أثر للبلاغة؛ لظهور المشابهة، وعدم احتياج العثور عليها إلى براعة، وجهد أدبي، ولخلوِّها من الخيال.

وهذا الضرب من التشبيه يُقْصَد به البيان والإيضاح، وتقريب الشيء إلى الأفهام، وأكثر ما يُستعمل في العلوم والفنون.

ولكنك تأخذك روعة التشبيه حينما تسمع قول المعري يصف نجمًا:

يُسرع اللمح في احمرار كما
تسرع في اللمح مقلة الغضبان

فإن تشبيه لمحات النجم وتألقه مع احمرار ضوئه بسرعة لمحة الغضبان من التشبيهات النادرة، التي لا تنقاد إلا لأديب، ومن ذلك قول الشاعر:

وكأن النجوم بين دجاها
سُننٌ لاح بينهن ابتداع

فإن جمال هذا التشبيه جاء من شعورك ببراعة الشاعر، وحِذقه في عقد المشابهة بين حالتين ما كان يخطر بالبال تشابههما، وهما حالة النجوم في رقعة الليل بحال السنن الدينية الصحيحة، متفرقة بين البدع الباطلة.

ولهذا التشبيه روعة أخرى، جاءت من أن الشاعر تخيل أن السنن مضيئة لمَّاعة، وأن البدع مظلمة قاتمة.

ومن أبدع التشبيهات قول المتنبي:

بليت بِلَى الأطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه

يدعو الشاعر على نفسه بالبلى والفناء إذا هو لم يقف بالأطلال؛ ليذكر عهد من كانوا بها، ثم أراد أن يصوِّر لك هيئة وقوفه، فقال: «كما يقف شحيح فقد خاتمه في التراب» من كان يوفق إلى تصوير حال الذَّاهل المتحير المحزون المطرق برأسه، المنتقل من مكان إلى مكان في اضطراب ودهشة — بحال شحيح فقد في التراب خاتمًا ثمينًا.

هذه بلاغة التشبيه من حيث مبلغ طرافته، وبُعد مرماه، ومقدار ما فيه من خيال.

أما بلاغته من حيث الصورة الكلامية التي يُوضع فيها، فمتفاوته أيضًا.

فأقل التشبيهات مرتبة في البلاغة ما ذُكرت أركانه جميعها؛ لأنَّ بلاغة التشبيه مبنية على ادعاء أنَّ المشبه عين المشبه به، ووجود الأداة، ووجه الشبه معًا — يحولان دون هذا الادعاء، فإذا حذفت الأداة وحدها، أو وجه الشبه وحده، ارتفعت درجة التشبيه في البلاغة قليلًا؛ لأن حذف أحد هذين يقوي ادعاء اتحاد المشبه والمشبه به بعض التقوية، أما أبلغ أنواع التشبيه «فالتشبيه البليغ»؛ لأنه مبني على ادعاء أن المشبه والمشبه به شيء واحد.

هذا؛ وقد جرى العرب والمحدثون على تشبيه الجواد بالبحر والمطر، والشجاع بالأسد، والوجه الحسن بالشمس والقمر، والشهم الماضي في الأمور بالأحلام، والوجه الصبيح بالدينار، والشعر الفاحم بالليل، والماء بالسيف، والعالي المنزلة بالنجم، والحليم الرزين بالجبل، والأماني الكاذبة بالعنقاء، والماء الصافي باللُّجَيْنِ، والليل بموج البحر، والجيش بالبحر الزَّاخر، والخيل بالريح والبرق، والنجوم بالدرر والأزهار، والأسنان بالبرد واللؤلؤ، والسفن بالجبال، والجداول بالحيَّات الملتوية، والشيب بالنهار، ولمع السيوف وغرَّة الفرس بالهلال. ويشبِّهون الجبان بالنَّعامة والذبابة، واللئيم بالثعلب، والطائش بالفَراش، والذليل بالوتد، والقاسي بالحديد والصخر، والبليد بالحمار، والبخيل بالأرض المجدبة.

وقد اشتهر رجال من العرب بخلال محمودة، فصاروا فيها أعلامًا، فجرى التشبيه بهم، فيشبه الوفي بالسموءل،٥٩ والكريم بحاتم، والعادل بعمر،٦٠ والحليم بالأحنف،٦١ والفصيح بسحبان، والخطيب بقس،٦٢ والشجاع بعمرو بن معد يكرب، والحليم بلقمان،٦٣ والذكي بإياس. واشتهر آخرون بصفات ذميمة، فجرى التشبيه بهم أيضًا، فيشبه العَيِيُّ بباقل،٦٤ والأحمق بهبَنَّقَة،٦٥ والنادم بالكُسَعي،٦٦ والبخيل بمادر،٦٧ والهجَّاء بالحُطَيْئة،٦٨ والقاسي بالحجاج الثقفي: أحد جبابرة العرب المتوفى سنة ٩٧ھ.

هوامش

(١) اعلم أن من الحسي ما لا تدركه الحواس الخمس التي هي «البصر والسمع والشم والذوق واللمس»، ولكن تُدرك مادته فقط، ويُسمى هذا التشبيه «بالخيالي» الذي ركبته المخيلة من أمور موجودة، كل واحد منها يُدرك بالحس، كقوله:
كأن الحباب المستدير برأسها
كواكب در في سماء عقيق
فإن كواكب در، وسماء عقيق — لا يُدركها الحس؛ لأنها غير موجودة، ولكن يُدرك مادتها التي هي الدر والعقيق على انفراد، والمراد بالحباب ما يعلو الماء من الفقاقيع، والضمير للخمر، ومنه أيضًا قول الآخر:
وكان محمر الشقـ
ـيق إذا تصوَّب أو تصعَّد
أعلام ياقوت نُشر
ن على رماح من زبرجد
فإن الأعلام والياقوت والزبرجد والرماح موجودة، لكن المشبه الذي مادته هذه ليس موجودًا ولا محسوسًا، والمراد بالعقلي ما لا يُدرك هو ولا مادته بإحدى الحواس الظاهرة، بل إدراكه عقلًا، فيدخل فيه الوهمي وهو ما لا يدرك هو ما لا مادته بإحدى الحواس، ولكن لو وجد في الخارج لكان مدركًا بها، ويُسمى هذا التشبيه «بالوهمي» الذي لا وجود له ولا لأجزائه كلها أو بعضها في الخارج، ولو وجد لكان مدركًا بإحدى الحواس كقوله تعالى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ وكقوله:
أيقتلني والمشرَفِيُّ مُضاجِعي
ومسنونة زُرْق كأنيابِ أغوال
فإن أنياب الأغوال لم توجد هي ولا مادتها، وإنما اخترعها الوهم، لكن لو وُجدت لأُدركت بالحواس، والمشرفي السيف، والمسنونة السهام، والأغوال يزعمون أنها وحوش هائلة المنظر ولا أصل لها، والوجدانيات كالجوع والعطش ونحوهما ملحقة بالعقلي، ثم التضاد بين الطرفين قد ينزل منزلة التناسب، ويجعل وجه الشبه على وجه الطرافة أو الاستهزاء، كما في تشبيه شخص أَلْكَن «بقُسِّ بن ساعدة» أو رجل بخيل «بحاتم». والفرق بين الطرافة والاستهزاء يُعرف بالقرائن، فإن كان الغرض مجرد الطرافة فطرافة، وإلا فاستهزاء.
(٢) وتقييده بالإضافة، أو الوصف، أو المفعول، أو الحال، أو الظروف، أو بغير ذلك.
ويُشترط في القيد أن يكون له تأثير وجه الشبه؛ ولهذا جُعل قوله تعالى: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ من باب تشبيه المفرد بالمفرد بلا قيد، ونحو: «التعلم في الصغر كالنقش في الحجر».
(٣) ومنه قول الآخر:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فإنه شبه هيئة الغبار، وفيه السيوف مضطربة بهيئة الليل، وفيه الكواكب تتساقط في جهات مختلفة، وكقول الشاعر:
كأن الدموع على خدها
بقية طل على جلنار
فالمشبه مركب من الدموع والخد، والمشبه به مركب من الطل والجلنار.
(٤) وكقوله:
وحدائق لبس الشقيق نباتها
كالأرجوان منقطًا بالعنبر
(٥) وكقوله:
لا تعجبوا من خاله في خده
كل الشقيق بنقطة سوداء
فالمشبه مركب من «الخال والخد»، والمشبه به مفرد وهو «الشقيق».
(٦) متى تعدد الطرفان معًا نتج تشبيهان أو أكثر، لا تشبيه واحد.
(٧) أي: فقد جمع ضوء الشهب والليل المشبهين مع أطراف الأسنة والدروع المشبه بهما.
(٨) ومنه قوله:
إنما النفس كالزجاجة والعلـ
ـم سراج وحكمة الله زيت
فإذا أشرقت فإنك حي
وإذا أظلمت فإنك ميت
(٩) أي كأن المحبوب يبتسم عن أسنان كاللؤلؤ المنظوم، أو كالبرد، أو كالأقاح، فشبه الشاعر ثغر المحبوب بثلاثة أشياء: اللؤلؤ (وهو الجوهر المعلوم)، والبَرَد (وهو حب الغمام)، والأقاح (جمع أقحوان بضم الهمزة وفتحها، وهو زهر نبت طيب الرائحة حوله ورق أبيض، ووسطه أصفر).
(١٠) يريد أن النبات لكثرته وتكاثفه مع شدة خضرته قارب لونه السواد، وانتقص من ضوء الشمس، حتى كأنه ليل مقمر، فشبه النهار المشمس الذي قد خالطه زهر الربا بالليل المقمر، والأول مركب، والثاني مفرد مقيد.
(١١) شُبهت هيئة السيوف الحاصلة من علوها ونزولها بسرعة في وسط الغبار بهيئة كواكب تتساقط في ليل مظلم.
(١٢) أي: إن أصابعها المعبر عنها بالبنان قد نُقش عليها بالوشم ما هو كالشبك الزبرجدي؛ أي: المحيط ببياض أصابعها التي هي كالبلور، فالمفردات كل واحد منها يُدرك بالحس، والمركب غير موجود.
(١٣) يريد الشاعر وصف العقاب بكثرة اصطياده الطيور، فشبه الطري من قلوب الطير بالعناب، واليابس منها بالحشف البالي، والعناب شجر له حب كحب الزيتون، وأحسنه الأحمر الحلو.
(١٤) ففيه التشبيه الملفوف حيث جمع في الشطر الأول صنيع الخير ومعرفته، وهما متلازمان، ثم أتى في الشطر الثاني بالمشبه بها، أعني: وقود الشمع والنظر إلى نوره.
(١٥) امرأة فرعاء: كثيرة الشعر. وأسحم: أسود، من سحم كتعب.
(١٦) الميس: الرحل. والإنقاض: قيل صوت الفراريج الضئيل، وقيل صوت الحيوان. والنقض: صوت الموتان كالرحل. والفراريج: جمع فروج وهو فرخ الدجاجة. وتقدير البيت: كأن أصوات أواخر الميس من إيغالهن بنا إنقاض الفراريج.
(١٧) المُدام: الخمر. والصوب: من صاب المطر يصوب إذا انصب بكثرة ونزل. والخزامى: نبت طيب الرائحة. والعَلل: الشرب الثاني، يقال: عَلَل بعد نَهَل.
(١٨) رخيم الحواشي: مختصر الأطراف. والهراء (بضم الهاء) المنطق الكثير، وقيل: المنطق الفاسد الذي لا نظام له.
(١٩) الثناء يشبه بالعطر، ولكنه اعتبر المعقول كأنه محسوس، وجعله كالأصل لذلك المحسوس؛ مبالغة، وتخيله شيئًا له رائحة، وشبه العطر به.
(٢٠) الدهان: الجلد الأحمر.
(٢١) الكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع «الأضلاع وآخرها» وهو من لدن السرة إلى المتن. الجديل: الزمام المجدول من أدم، وقيل: حبل من أدم أو شعر في عنق البعير. ومخصر: دقيق. السقي: البردي، واحده سقية. المذلل: الذي ذلل بالماء حتى طاوع كل من مد إليه يده. قال الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب في شرحه لديوان امرئ القيس: شبه كشح المرأة بالزمام في اللين والتثني واللطافة، وشبه ساقها ببردي قد نبت تحت نخل، والنخل تظلله من الشمس، والوجه بالبياض.
(٢٢) الأراك: شجر من الحمض يستاك بقضبانه، واحدته أراكة، وجمعها أرائك.
(٢٣) العيس: كرام الإبل، وقيل: الإبل البيض، يخالط بياضها شقرة أو ظلمة خفية. والأطلال: جمع طلل وهو الشاخص من آثار الديار. والرسم ما كان لاصقًا بالأرض من آثار الديار. وأخلاق: جمع خَلَق (بفتح اللام) وهو الثوب البالي. والمسلسل: الرقيق، من تسلسل الثوب لُبس حتى رَقَّ.
(٢٤) الفجاج: جمع فج، الطريق الواسع الواضح بين جبلين، والكفة: ما يُصاد به «الشبكة»، والحابل: الصياد.
(٢٥) الصدغ: بضم الصاد ما بين العين والأذن. والشعر المتدلي على هذا الموضع هو المراد هنا. والثغر يطلق على الفم، والأسنان في منابتها، والمراد الثاني.
(٢٦) الأغيد: الناعم البدن. والمجدول: المطوي غير المسترخي، والمراد لازمه وهو ضامر البطن والخاصرتين. والوشاح: شبه قلادة ينسج من جلد عريض يُرصع بالجواهر، تشده المرأة في وسطها أو على المنكب الأيسر معقودًا تحت الإبط الأيمن للزينة. والمنضد: المنظم. والبرد: حب الغمام. والأقاح بفتح الهمزة وضمها نبات له زهر أبيض، في وسطه كتلة صغيرة صفراء وأوراق، زهرة مفلجة صغيرة، واحدته أقحوانة (بضم القاف).
(٢٧) إما «حقيقة» كالبأس في قولك: «زيد كالأسد»، وإما «تخيلًا» كما في قوله:
يا من له شعر كحظي أسود
جسمي نحيل من فراقك أصفر
فإن وجه الشبه فيه بين الشعر والحظ هو السواد، وهما يشتركان فيه، لكنه يوجد في المشبه تحقيقًا، ولا يوجد في المشبه به إلا على سبيل التخييل؛ لأنه ليس من ذوات الألوان. ثم اعلم أن وجه الشبه: إما داخل في حقيقة الطرفين، وذلك كما في تشبيه ثوب بآخر، في جنسهما أو نوعهما أو فصلهما، كقولك: «هذا القميص مثل ذلك» في كونهما كتانًا أو قطنًا، وإما خارج عن حقيقتهما وهو ما كان صفة لهما «حقيقة» وهي قد تكون حسية كالحمرة في تشبيه الخد بالورد، وقد تكون عقلية كالشجاعة في تشبيه الرجل بالأسد، أو «إضافية» وهي ما ليست هيئة متقررة في الذات، بل هي معنًى متعلقًا بها، كالجلاء في تشبيه البينة بالصبح. ثم إن وجه التشبيه قد يكون واحدًا، وقد يكون بمنزلة الواحد «لكونه مركبًا من متعدد» وقد يكون متعددًا، وكل من ذلك قد يكون حسيًّا وقد يكون عقليًّا.
«أما الواحد» فالحسي منه كالحمرة في تشبيه الخد بالورد، والعقلي كالنفع في تشبيه العلم بالحياة.
و«أما المركب» فالحسي منه قد يكون مفرد الطرفين، كما في قوله:
وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى
كعنقود ملأ حببه حين نورا
فإن وجه الشبه فيه هو الهيئة الحاصلة من التئام الحبب البيض الصغيرة المستديرة المرصوص بعضها فوق بعض على الشكل المعلوم، وكلا الطرفين مفرد، وهما الثريا والعنقود، وقد يكون مركب الطرفين كما في قوله:
والبدر في كبد السماء كدرهم
ملقًى على ديباجة زرقاء
فإن وجه الشبه فيه هو الهيئة الحاصلة من طلوع صورة بيضاء مشرقة مستديرة في رقعة زرقاء مبسوطة، وكلا الطرفين مركب، أولهما من البدر والسماء، والثاني من الدرهم والديباجة، وقد يكون مختلف الطرفين كقوله:
وحدائق لبس الشقيق نباتها
كالأرجوان منقطًا بالعنبر
فإن وجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من انبساط رقعة حمراء قد نقطت بالسواد منثورًا عليها، والمشبه مفرد وهو الشقيق، والمشبه به مركب من الأرجوان والعنبر. وكقوله:
لا تعجبوا من خاله في خده
كل الشقيق بنقطة سوداء
فإن وجه الشبه فيه هو الهيئة الحاصلة من طلوع نقطة سوداء مستديرة في وسط رقعة حمراء مبسوطة، والمشبه مركب من الخال والخد، والمشبه به مفرد وهو الشقيق، والعقلي من المركب كما في قوله:
المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار
فإن وجه الشبه فيه هو الهيئة الحاصلة من الالتجاء من الضار إلى ما هو أضر منه؛ طمعًا في الانتفاع به، ووجه الشبه مركب من هذه المتعددات في الجميع. والرمضاء: الأرض التي أسخنتها حرارة الشمس الشديدة. والمراد «بعمرو» هنا هو جساس بن مرة البكري، يقال: إنه لما رمى كليب بن ربيعة التغلبي وقف على رأسه فقال له: «يا عمرو» أغثني بشربة ماء، فأتم قتله.
وأما المتعدد فالحسي منه كما في قوله:
مهفهف وجنتاه
كالخمر لونًا وطعما
والعقلي كالنفع والضرر في قوله:
طلق شديد البأس راحته
كالبحر فيه النفع والضرر
فإن وجه الشبه فيهما متعدد، وهو اللون والطعم في الأول، والنفع والضرر في الثاني، وقد يجيء المتعدد مختلفًا كما في قوله:
هذا أبو الهيجاء
كالسيف في الرونق والمضاء
فإن وجه الشبه فيه هو الرونق وهو حسي، والمضاء وهو عقلي. وأبو الهيجاء: لقب عبد الله بن حمدان العدوي، والهيجاء من أسماء الحرب.
واعلم أن الحسي لا يكون طرفاه إلا حسيين، وأما العقلي فلا يلزمه كونهما عقليين؛ لأن الحسي يُدرك بالفعل، خلافًا للعقلي فإنه لا يُدرك بالحس.
(٢٨) يقرع: يضرب.
(٢٩) الأنس — محركة: من تأنس به، جمعه أناس، ولغة في الإنس بالكسر. والمحل: الجدب.
(٣٠) الحاجب: المانع. والبوتقة: الوعاء الذي يذيب فيه الصائغ الذهب.
(٣١) قضب: جمع قضيب، وهو السيف القطاع.
(٣٢) الكوكب هنا السيف.
(٣٣) الطل: المطر الضعيف. والجلنار: زهر الرمان، واحدته جلنارة (فارسي معرب).
(٣٤) لما ادعى أنه ليس منهم مع إقامته بينهم، وكان ذلك يكاد يكون مستحيلًا في مجرى العادة — ضرب لذلك المثل بالذهب؛ فإن مقامه في التراب، وهو أشرف منه.
(٣٥) الديباجتان: الخدان. والسرمد: الدائم.
(٣٦) «التشبيه» يفيد التفاوت، وأما «التشابه» فيفيد التساوي بلفظ «تشابه وتماثل أو تشاكل وتساوي وتضارع». وكذا بقولك: كلاهما سواء، لا بما كان له فاعل ومفعول به، مثل «شابه وساوى» فإن في هذا إلحاق الناقص بالزائد.
(٣٧) وقد يليها غير المشبه به إذا كان التشبيه مركبًا؛ أي: هيئة منتزعة من متعدد، وذكر بعد الكاف بعض ما ننتزع منه تلك الهيئة كقوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ فإن المراد تشبيه حال الدنيا في حسن نضارتها وبهجة روائها في المبدأ، وذهاب حسنها وتلاشي رونقها شيئًا فشيئًا في الغاية — بحال النبات الذي يحسن من الماء، فتزهو خضرته، ثم ييبس شيئًا فشيئًا، ثم يتحطم فتطيره الرياح، فيصير كأن لم يكن شيئًا مذكورًا، بجامع الهيئة الحاصلة في كل من حسن وإعجاب ومنفعة، يعقبها التلف والعدم.
(٣٨) وسمي مرسلًا؛ لإرساله عن التأكيد.
(٣٩) الأصيل: الوقت بين العصر إلى المغرب. واللجين: الفضة.
(٤٠) ومن التشبيه البليغ أن يكون المشبه به مصدرًا مبينًا للنوع، نحو: «أقدم الجندي إقدام الأسد — وراغ المدين روغان الثعلب»، ومنه أيضًا إضافة المشبه به للمشبه، نحو: «لبس فلان ثوب العافية»، ومنه أيضًا أن يكون المشبه به حالًا نحو: «حمل القائد على أعدائه أسدًا».
(٤١) والتشبيه لهذا الغرض يكثر في العلوم والفنون لمجرد البيان والإيضاح، فلا يكون فيه حينئذ أثر للبلاغة؛ لخلوه من الخيال وعدم احتياجه إلى التفكير، ولكنه لا يخلو من ميزة الاختصار في البيان، وتقريب الحقيقة إلى الأذهان، كقولهم: الأرض كالكرة.
(٤٢) ويكثر في تشبيه الأمور المعنوية بأخرى تدرك بالحس، نحو: التعلم في الصغر كالنقش في الحجر.
(٤٣) تنافر القلوب وتوادها من الأمور المعنوية، ولكن الشاعر نظر إلى ما في المشبه به من قوة الظهور والتمام، فانتقل بالسامع من تنافر القلوب الذي لا ينتهي إذا وقع إلى كسر الزجاجة الذي لا يُجبَر إذا حصل؛ فصور لك الأمر المعنوي بصورة حسية.
(٤٤) أي أنه لا استغراب في فوقانك للأنام مع أنك واحد منهم؛ لأن لك نظيرًا وهو «المسك» فإنه بعض دم الغزال وقد فاق على سائر الدماء، ففيه تشبيه حال الممدوح بحال المسك تشبيهًا ضمنيًّا، والتشبيه الضمني هو تشبيه لا يُوضع فيه المشبه والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة، بل يُلمَحان في التركيب لإفادة أن الحكم الذي أُسند إلى المشبه ممكن، نحو: المؤمن مرآة المؤمن.
(٤٥) الحمولة ما يُحمل فيه ويوضع، والمقصد من التشبيه وجود شيء أسود داخل أبيض. واعلم أن التشبيه الذي يعود فيه الغرض إلى المشبه يكون وجه شبهه أتم وأعرف في المشبه به منه في المشبه، كما في السكاكي، وعليه جرى أبو العلاء المعري في قوله: «ظلمناك في تشبيه صدغيك بالمسك»، وقاعدة التشبيه نقصان ما يحكى، وشراح التلخيص اشترطوا الأعرفية ولم يشترطوا الأتمية، وفي المطول والأطول ما يلفت النظر؛ فارجع إليهما.
(٤٦) التشبيه المقلوب ويُسمى المنعكس: هو ما رجع فيه وجه الشبه إلى المشبه به، وذلك حين يُراد تشبيه الزائد بالناقص، ويلحق الأصل بالفرع للمبالغة، وهذا النوع جارٍ على خلاف العادة في التشبيه، ووارد على سبيل الندور.
وإنما يحسن في عكس المعنى المتعارف، كقول البحتري:
في طلعة البدر شيء من محاسنها
وللقضيب نصيب من تثنيها
والمتعارف تشبيه الوجوه الحسنة بالبدور، والقامات بالقضيب في الاستقامة والتثني، لكنه عكس ذلك؛ مبالغة. هذا إذا أُريد إلحاق كامل بناقص في وجه الشبه، فإن تساويا حسن العدول عن «التشبيه» إلى الحكم «بالتشابه»؛ تباعدًا واحترازًا من ترجيح أحد المتساويين على الآخر، كقول أبي إسحاق الصابي:
تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي
فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب
فوالله ما أدري أبالخمر أسلبت
جفوني أم من عبرتي كنت أشرب
وكقول الصاحب بن عباد:
رق الزجاج وراقت الخمر
فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر
(٤٧) يقرب من هذا النوع ما ذكره الحلبي في كتاب حسن التوسل وسماه «تشبيه التفضيل» وهو أن يشبه شيء بشيء لفظًا أو تقديرًا، ثم يعدل عن التشبيه لادعاء أنه المشبه به، كقوله:
حسبت جمالها بدرًا منيرًا
وأين البدر من ذاك الجمال
(٤٨) فالحميري أراد أن يوهم أن وجه الخليفة أتم من غرة الصباح إشراقًا ونورًا.
(٤٩) فالبحتري أراد أن يوهم أن يد الخليفة أقوى تدفقًا بالعطاء من البركة بالماء.
(٥٠) المراد بالبليغ هنا: ما بلغ درجة القبول لحسنه، أو المراد به اللطيف الحسن.
(٥١) كقوله:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى
فالسيل حرب للمكان العالي
أي: لا تنكري خلو الرجل الكريم من الغنى فإن ذلك ليس عجبًا؛ لأن قمم الجبال — وهي أعلى الأماكن — لا يستقر فيها ماء السيل «فها هنا يلمح الذكي تشبيهًا»، ولكنه لم يضع ذلك صريحًا، بل أتى بجملة مستقلة وضمَّنها هذا المعنى في صورة برهان، فيكون هذا التشبيه على غير طرقه الأصلية؛ بحيث يورد التشبيه ضمنًا من غير أن يصرح به، ويجعل في صورة برهان على الحكم الذي أسند إليه المشبه، كما سبق شرحه. وقد يراد إيهام أن المشبه والمشبه به متساويان في وجه الشبه، فيترك التشبيه؛ ادعاء بالتساوي دون الترجيح.
(٥٢) الطل: الندى.
(٥٣) الحندس: الظلام.
(٥٤) النطع: بساط من جلد.
(٥٥) الدنف: من برح به العشق.
(٥٦) المعهد: المنزل الذي إذا نأى عنه القوم رجعوا إليه.
(٥٧) بان: فارق.
(٥٨) التشبيه مع ما فيه من ميزة الإيجاز في اللفظ يفيد المبالغة في الوصف، ويخرج الخفي إلى الجلي، والمعقول إلى المحسوس، ويجعل التافه نفيسًا، والنفيس تافهًا، ويدني البعيد من القريب، ويزيد المعنى وضوحًا، ويكسبه تأكيدًا، فيكون أوقع في النفس وأثبت، وله روعة الجمال والجلال.
(٥٩) هو السموءل بن عادياء اليهودي، يُضرب به المثل في الوفاء، وهو من شعراء الجاهلية، توفي سنة ٦٢ق.ھ.
(٦٠) هو أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، وأحد السابقين إلى الإسلام الأولين، اشتهر بعدله وتواضعه وزهده، وقد نصر الله به الإسلام وأعزه، وتوفي سنة ٢٣ھ.
(٦١) هو الأحنف بن قيس من سادات التابعين، كان شهمًا حليمًا، عزيزًا في قومه، إذا غضب غضب له مائة ألف سيف لا يسألون لماذا غضب، توفي سنة ٦٧ھ.
(٦٢) هو قس بن ساعدة الأيادي، خطيب العرب قاطبة، ويُضرب به المثل في البلاغة والحكمة.
(٦٣) حكيم مشهور آتاه الله الحكمة؛ أي: الإصابة بالقول والعمل.
(٦٤) رجل اشتهر بالعي، اشترى غزالًا مرة بأحد عشر درهمًا، فسئل عن ثمنه فمد أصابع كفيه يريد عشرة، وأخرج لسانه ليكملها أحد عشر، ففر الغزال، فضُرب به المثل في العي.
(٦٥) هو لقب أبي الودعات يزيد بن ثروان القيسي، يُضرب به المثل في الحمق.
(٦٦) هو غامد بن الحارث، خرج مرة للصيد فأصاب خمسة حمر بخمسة أسهم، وكان يظن كل مرة أنه مخطئ، فغضب وكسر قوسه، ولما أصبح رأى الحمر مصروعة والأسهم مخضبة بالدم، فندم على كسر قوسه، وعض على إبهامه فقطعها.
(٦٧) لقب رجل من بني هلال، اسمه مخارق، وكان مشهورًا بالبخل واللؤم.
(٦٨) شاعر مخضرم، كان هجاء مرًّا، ولم يكد يسلم من لسانه أحد، هجا أمه وأباه، ونفسه، وله ديوان شعر، وتُوفي سنة ٤٠ھ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤