الباب الثالث

في الكناية وتعريفها وأنواعها

الكناية١ لغة: ما يتكلم به الإنسان، ويريد به غيره، وهي مصدر كنيت، أو كنوت بكذا، إذا تركت التصريح به.

واصطلاحًا: لفظ أريد به غير معناه الذي وُضع له، مع جواز إرادة المعنى الأصلي لعدم وجود قرينة مانعة من إرادته، نحو: «زيد طويل النجاد» تريد بهذا التركيب أنه شجاع عظيم، فعدلت عن التصريح بهذه الصفة إلى الإشارة إليها بشيء تترتب عليه وتلزمه؛ لأنه يلزم من طول حمالة السيف طول صاحبه، ويلزم من طول الجسم الشجاعة عادة، فإذًا المراد طول قامته، وإن لم يكن له نجاد، ومع ذلك يصح أن يراد المعنى الحقيقي. ومن هنا يُعلم أن الفرق بين الكناية والمجاز صحة إرادة المعنى الأصلي في الكناية دون المجاز، فإنه ينافي ذلك.

نعم، قد تمتنع إرادة المعنى الأصلي في الكناية؛ لخصوص الموضوع كقوله تعالى: وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ وكقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كناية عن تمام القدرة، وقوة التمكن والاستيلاء.

وتنقسم الكناية بحسب المعنى الذي تُشير إليه إلى ثلاثة أقسام:
  • (١)

    كناية عن صفة، كما تقول: «هو ربيب أبي الهول» تكني عن شدة كتمانه لسره، وتعرف كناية الصفة بذكر الموصوف — ملفوظًا أو ملحوظًا — من سياق الكلام.

  • (٢)

    كناية عن موصوف، كما تقول: «أبناء النيل» تكني عن المصريين و«مدينة النور» تكني عن باريس، وتُعرف بذكر الصفة مباشرة أو ملازمة. ومنها قولهم: «تستغني مصر عن مصب النيل ولا تستغني عن منبعه» كنَّوا بمنبع النيل عن أرض السودان.

    ومنها قولهم: «هو حارس على ماله» كنوا به عن البخيل الذي يجمع ماله، ولا ينتفع به.

    ومنها قولهم: «هو فتًى رياضي» يكنون عن القوة؛ وهلم جرًّا.

  • (٣)

    كناية عن نسبه، وسيأتي الكلام عليها فيما بعد.

  • فالقسم الأول: وهو الكناية التي يطلب بها «صفة» هي ما كان المكنى عنه فيها صفة ملازمة لموصوف مذكور في الكلام.
    وهي نوعان:
    • (أ) كناية قريبة: وهي ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوب بغير واسطة بين المعنى المنتقل عنه والمعنى المنتقل إليه، نحو قول الخنساء في رثاء أخيها صخر:
      رفيع العماد طويل النجا
      د ساد عشيرته أمردا٢
    • (ب) وكناية بعيدة: وهي ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوب بواسطة أو بوسائط، نحو: «فلان كثير الرماد» كناية عن المضياف. والوسائط: هي الانتقال من كثرة الرماد إلى كثرة الإحراق، ومنها إلى كثرة الطبخ والخبز، ومنها إلى كثرة الضيوف، ومنها إلى المطلوب وهو المِضياف الكريم.
  • القسم الثاني: الكناية التي يكون المكني عنه موصوفًا بحيث يكون إما معنًى واحدًا «كموطن الأسرار» كناية عن القلب، وكما في قول الشاعر:
    فلما شربناها ودب دبيبها
    إلى موطن الأسرار قلت لها قفي

    وإما مجموع معانٍ، كقولك: «جاءني حيٌّ مستوي القامة، عريض الأظفار» (كناية عن الإنسان) لاختصاص مجموع هذه الأوصاف الثلاثة به. ونحو:

    الضاربين٣ بكلِّ أبيض مخذم
    والطاعنين مجامع الأضغان٤

    ويشترط في هذه الكناية أن تكون الصفة أو الصفات مختصة بالموصوف، ولا تتعداه؛ ليحصل الانتقال منها إليه.

  • القسم الثالث: الكناية التي يراد بها نسبة أمر لآخر — إثباتًا أو نفيًا — فيكون المكني عنه نسبة، أُسندت إلى ما له اتصال به، نحو قول الشاعر:
    إن السماحة والمروءة والندى
    في قبة ضُربت على ابن الحشرج

    فإن جعل هذه الأشياء الثلاثة في مكانه المختص به يستلزم إثباتها له.

    والكناية المطلوب بها نسبة:
    • (أ) إما أن يكون ذو النسبة مذكورًا فيها، كقول الشاعر:
      اليمن يتبع ظله
      والمجد يمشي في ركابه
    • (ب) وإما أن يكون ذو النسبة غير مذكور فيها، كقولك: «خير الناس من ينفع الناس» كناية عن نفي الخبرية عمن لا ينفعهم.
وتنقسم الكناية أيضًا باعتبار الوسائط «اللوازم» والسياق إلى أربعة أقسام: تعريض، وتلويح، ورمز، وإيماء.
  • (١)

    فالتعريض لغة: خلاف التصريح.

    واصطلاحًا: هو أن يطلق الكلام، ويُشار به إلى معنًى آخر يفهم من السياق، نحو: قولك للمؤذي: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» تعريضًا بنفي صفة الإسلام عن المؤذي. وكقول الشاعر:

    إذا الجود لم يرزق خلاصًا من الأذى
    فلا الحمد مكسوبًا ولا المال باقيا
  • (٢)

    والتلويح لغة: أن تشير إلى غيرك من بعد.

    واصطلاحًا: هو الذي كثرت وسائطه بلا تعريض، نحو:

    وما يك فيَّ من عيب فإني
    جبان الكلب مهزول الفصيل

    كنى عن كرم الممدوح بكونه جبان الكلب، مهزول الفصيل، فإنَّ الفكر ينتقل إلى جملة وسائط.

  • (٣)

    والرمز لغة: أن تشير إلى قريب منك خفية بنحو شفة أو حاجب.

    واصطلاحًا: هو الذي قلَّت وسائطه، مع خفاء في اللزوم بلا تعريض، نحو: «فلان عريض القفا، أو عريض الوسادة» كناية عن بلادته وبلاهته، ونحو: «هو مكتنز اللحم» كناية عن شجاعته، و«متناسب الأعضاء» كناية عن ذكائه، ونحو: «غليظ الكبد» كناية عن القسوة؛ وهلم جرًّا.

    والإيماء أو الإشارة: هو الذي قلَّت وسائطه، مع وضوح اللزوم بلا تعريض، كقول الشاعر:

    أَوَما رأيت المجد ألقى رحله
    في آل طلحة ثمَّ لم يتحول

    كناية عن كونهم أمجادًا أجوادًا بغاية الوضوح.

    ومن لطيف ذلك قول بعضهم:

    سألت الندى والجود ما لي أراكما
    تبدَّلْتُما ذلًّا بعِزٍّ مُؤبَّدِ
    وما بال ركن المجد أمسى مهدَّما
    فقالا: أُصبنا بابن يحيى محمدِ
    فقلت: فهلَّا مِتُّما عند موته
    فقد كنتما عبدَيْه في كل مَشْهدِ
    فقالا: أقمنا كي نعزَّى بفقده
    مسافة يوم ثم نتلوه في غَدِ

والكناية من ألطف أساليب البلاغة وأدقها، وهي أبلغ من الحقيقة والتصريح؛ لأن الانتقال فيها يكون من الملزوم إلى اللازم، فهو كالدعوى ببينة، فكأنك تقول في: «زيد كثير الرماد» زيد كريم؛ لأنه كثير الرماد، وكثرته تستلزم كذا … إلخ.

كيف لا وأنها تمكن الإنسان من التعبير عن أمور كثيرة، يتحاشى الإفصاح بذكرها، إما احترامًا للمخاطب أو للإبهام على السامعين، أو للنيل من خصمه، دون أن يدع له سبيلًا عليه، أو لتنزيه الأذن عما تنبو عن سماعه، ونحو ذلك من الأغراض واللطائف البلاغية.

تمرين

بيِّن أنواع الكنايات الآتية، وعيِّن لازم معنى كل منها:
  • (١)

    قال البحتري يصف قتله ذئبًا:

    فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها
    بحيث يكون اللب والرعب والحقد
  • (٢)

    وقال آخر في رثاء من مات بعلة في صدره:

    ودبت له في موطن الحلم علة
    لها كالصلال الرقش شر دبيب
  • (٣)

    ووصف أعرابي امرأة، فقال: «ترخي ذيلها على عرقوبَيْ نعامة.»

    ونحو:

    ضربت سرادقها المهابة فوقه
    فإذا بدا بادت به الأعداء

    ونحو:

    إن الذي ملأ اللغات محاسنًا
    جعل الجمال وسره في الضاد

    ونحو:

    بنى المجد بيتًا فاستقر عماده
    علينا فأعيا الناس أن يتحولا
    إن ثوبك الذي المجد فيه
    لضياء يزري بكل ضياء

(١) ضمير أتبعتها يعود على الطعنة. وأضللت: أخفيت. والنصل: حديدة السيف. واللب والرعب: الفزع والخوف.

واعلم أن الكناية: إما حسنة: وهي ما جمعت بين الفائدة ولطف الإشارة، كما في الأمثلة السابقة. وإما قبيحة: وهي ما خلت عن الفائدة المرادة، وهي معيبة لدى أرباب البيان، كقول المتنبي:

إني على شغفي بما في خمرها
لأعف عما في سراويلاتها

كناية عن النزاهة والعفة، إلا أنها قبيحة؛ لسوء تأليفها، وقبح تركيبها.

(٢) الصلالي: جمع صل بالكسر، ضرب من الحيات صغير أسود، لا نجاة من لدغته. والرقش: جمع رقشاء، وهي التي فيها نقط سوداء في بياض، والحية الرقشاء من أشد الحيات إيذاء.

تمرين آخر

بيِّن أنواع الكنايات الآتية، وبيِّن منها ما يصح فيه إرادة المعنى المفهوم من صريح اللفظ، وما لا يصح:

(١) وصف أعرابي رجلًا بسوء العشرة فقال: كان إذا رآني قرب من حاجب حاجبًا.

(٢) وقال أبو نواس في المديح:

فما جازه جود ولا حل دونه
ولكن يسير الجود حيث يسير
(٣) وتكني العرب عمن يجاهر غيره بالعداوة بقولهم: «لبس له جلد النمر، وجلد الأرقم،٥ وقلب له ظهر المجن.»٦
(٤) فلان عريض الوساد٧ أغمُّ القفا.٨
(٥) تجول خلاخيل النساء ولا أرى
لرملة خلخالًا يجول ولا قُلْبَا٩

(٦) وتقول العرب في المديح: الكرم في أثناء حلته، ويقولون: «فلان نفخ شدقيه»؛ أي: تكبر، و«ورم أنفه» إذا غضب.

(٧) قالت أعرابية لبعض الولاة: أشكو إليك قلة الجرذان.١٠
(٨) بيض المطابخ لا تشكو إماؤهم
طبخ القدور ولا غسل المناديل
(٩) مطبخ داود في نظافته
أشبه شيء بعرش بلقيس١١
ثياب طبَّاخه إذا اتسخت
أنقى بياضًا من القراطيس
(١٠) فتًى مختصر المأكو
ل والمشروب والعطر
نقي الكأس والقصـ
ـة والمنديل والقدر
(١١) اليمن يتبع ظله
والمجد يمشي في ركابه
(١٢) أصبح في قيدك السماحة والمجد
وفضل الصلاح والحسب
(١٣) فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما١٢

المجد بين ثوبيك، والكرم ملء برديك.

(١) بلاغة الكناية

الكناية مظهر من مظاهر البلاغة، وغاية لا يصل إليها إلا من لطف طبعه، وصفت قريحته، و«السر في بلاغتها» أنها في صور كثيرة تعطيك الحقيقة مصحوبة بدليلها، والقضية وفي طيها بُرهائها، كقول البحتري في المديح:

يغضون فضل اللحظ من حيث ما بدا
لهم عن مهيب في الصدور محبب

فإنه كنى عن إكبار الناس للممدوح، وهيبتهم إياه — بغض الأبصار الذي هو في الحقيقة برهان على الهيبة والإجلال، وتظهر هذه الخاصة جلية في الكنايات عن الصفة والنسبة.

ومن أسباب بلاغة الكنايات أنها تضع لك المعاني في صورة المحسوسات، ولا شك أن هذه خاصة الفنون، فإن المصور إذا رسم لك صورة للأمل أو لليأس بهرَك، وجعلك ترى ما كنت تعجز عن التعبير عنه واضحًا ملموسًا.

فمثل: «كثير الرماد» في الكناية عن الكرم، و«رسول الشر» في الكناية عن المزاح.

وقول البحتري:

أَوَما رأيت المجد ألقى رحله
في آل طلحة ثم لم يتحوَّل

وذلك في الكناية عن نسبة الشرف إلى آل طلحة.

كل أولئك يبرز لك المعاني في صورة تشاهدها، وترتاح نفسك إليها.

ومن خواص الكناية أنها تمكنك من أن تشفي غلتك من خصمك من غير أن تجعل له إليك سبيلًا، ودون أن تخدش وجه الأدب، وهذا النوع يُسمى بالتعريض.

ومثاله قول المتنبي في قصيدة يمدح بها كافورًا، ويعرِّض بسيف الدولة:

رحلتُ فكم باكٍ بأجفان شادن
عليَّ وكم باكٍ بأجفان ضيغم١٣
وما ربة القُرط المليح مكانه
بأجزع من رب الحسام المصمم١٤
فلو كان ما بي من حبيب مقنع
عذرت ولكن من حبيب معمَّم
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى
هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي
إذا ساء فعلُ المرء ساءت ظنونه
وصَدَّقَ ما يعتاده من توهم

فإنه كنى عن سيف الدولة أولًا بالحبيب المعمم، ثم وصفه بالغدر الذي يدعي أنه من شيمة النساء، ثم لامه على مبادهته بالعدوان، ثم رماه بالجبن؛ لأنه يرمي ويتقي الرمي بالاستتار خلف غيره. على أن المتنبي لا يُجازيه على الشر بمثله؛ لأنه لا يزال يحمل له بين جوانحه هوًى قديمًا، يكسر كفه وقوسه وأسهمه إذا حاول النضال.

ثم وصفه بأنه سيئ الظن بأصدقائه؛ لأنه سيئ الفعل، كثير الأوهام والظنون، حتى ليظن أن الناس جميعًا مثله في سوء الفعل، وضعف الوفاء، فانظر كيف نال المتنبي من سيف الدولة هذا النيل كله، من غير أن يذكر من اسمه حرفًا.

هذا؛ ومن أوضح مميزات الكناية التعبير عن القبيح بما تسيغ الآذان سماعه، وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا في القرآن الكريم وكلام العرب؛ فقد كانوا لا يعبرون عما لا يحسن ذكره إلا بالكناية، وكانوا لشدة نخوتهم يكنون عن المرأة ﺑ «البيضة، والشاة».

ومن بدائع الكنايات قول بعض العرب:

ألا يا نخلة من ذات عرق
عليك ورحمة الله السلام١٥

فإننه كنى بالنخلة عن المرأة التي يحبها. (عن البلاغة الواضحة بتصرف)

(١-١) أثر علم البيان في تأدية المعاني

ظهر لك من دراسة علم البيان أن معنًى واحدًا يستطاع أداؤه بأساليب عدة، وطرائق مختلفة، وأنه قد يُوضع في صورة رائعة من صور التشبيه أو الاستعارة، أو المجاز المرسل، أو المجاز العقلي، أو الكناية؛ فقد يصف الشاعر إنسانًا بالكرم، فيقول:

يريد الملوك مدى جعفر
ولا يصنعون كما يصنع
وليس بأوسعهم في الغنى
ولكنَّ معروفه أوسع

وهذا كلام بليغ جدًّا، مع أنه لم يقصد فيه إلى تشبيه أو مجاز، وقد وصف الشاعر فيه ممدوحه بالكرم، وأن الملوك يريدون أن يبلغوا منزلته، ولكنهم لا يشترون الحمد بالمال كما يفعل، مع أنه ليس بأغنى منهم، ولا بأكثر مالًا.

وقد يعتمد الشاعر عند الوصف بالكريم إلى أسلوب آخر، فيقول:

كالبحر يقذف للقريب جواهرًا
جودًا ويبعث للبعيد سحائبا

فيشبه الممدوح بالبحر، ويدفع بخيالك إلى أن يضاهي بين الممدوح والبحر الذي يقذف الدرر للقريب، ويرسل السحائب للبعيد.

أو يقول:

هو البحر من أي النواحي أتيته
فلجته المعروف والجود ساحله

فيدعي أنه البحر نفسه، وينكر التشبيه نكرانًا يدل على المبالغة، وادعاء المماثلة الكاملة.

أو يقول:

علا فما يستقر المال في يده
وكيف تمسك ماء قنة الجبل؟

فيرسل إليك التشبيه من طريق خفي؛ ليرتفع الكلام إلى مرتبة أعلى في البلاغة، وليجعل لك من «التشبيه الضمني» دليلًا على دعواه، فإنه ادعى أنه لعلو منزلته ينحدر المال من يديه، وأقام على ذلك برهانًا.

فقال: «وكيف تمسك ماء قنة الجبل؟»

أو يقول:

جرى النهر حتى خلته منك أنعُمًا
تُساق بلا ضنٍّ وتُعطَى بلا منٍّ١٦

فيقلب التشبيه؛ زيادة في المبالغة، وافتتانًا في أساليب الإجادة، ويشبه ماء النهر بنعم الممدوح بعد أن كان المألوف أن تُشبه النعم بالنهر الفياض.

أو يقول:

كأنه حين يعطي المال مبتسمًا
صوب الغمامة تهمي وهي تأتلق١٧

فيعمد إلى التشبيه المركب، ويعطيك صورة رائعة، تمثل لك حالة الممدح وهو يجود، وابتسامة السرور تعلو شفتيه.

أو يقول:

جادت يد الفتح والأنداء باخلة
وذاب نائله والغيث قد جمدا

فيضاهي بين جود الممدوح والمطر، ويدعي أنَّ كرم ممدوحه لا ينقطع إذا انقطعت الأنواء، أو جمد القطر.

أو يقول:

قد قلت للغيم الركام ولَجَّ في
إبراقه وألحَّ في إرعاده١٨
لا تعرضن لجعفر متشبهًا
بندى يديه فلست من أنداده

فيصرح لك في جلاء، وفي غير خشية — بتفضيل جود صاحبه على جود الغيم، ولا يكتفي بهذا، بل تراه ينهى السحاب في صورة تهديد أن يحاول التشبه بممدوحه؛ لأنه ليس من أمثاله ونظرائه.

أو يقول:

وأقبل يمشي في البساط فما درى
إلى البحر يسعى أم إلى البدر يرتقي

يصف حال رسول الروم داخلًا على سيف الدولة، فينزع في وصف الممدوح بالكرم، إلى الاستعارة التصريحية، والاستعارة كما علمت مبنية على تناسي التشبيه، والمبالغة فيها أعظم، وأثرها في النفوس أبلغ.

أو يقول:

دعوت نداه دعوة فأجابني
وعلَّمني إحسانه كيف آمله

فيشبِّه ندى ممدوحه وإحسانه «بإنسان» ثم يحذف المشبه به، ويرمز إليه بشيء من لوازمه، وهذا ضرب آخر من ضروب المبالغة التي تُساق الاستعارة لأجلها.

أو يقول:

ومن قصد البحر استقل السواقيا

فيرسل العبارة كأنها مثل، ويصوِّر لك أنَّ من قصد ممدوحه استغنى عمَّن هو دونه، كما أنَّ قاصد البحر لا يأبه للجداول، فيعطيك استعارة تمثيلية لها روعة، وفيها جمال، وهي فوق ذلك تحمل برهانًا على صدق دعواه، وتؤيِّد الحال الذي يدَّعيها.

أو يقول:

ما زلت تتبع ما تُولي يدًا بيد
حتى ظننت حياتي من أياديكا

فيعدل عن التشبيه والاستعارة إلى «المجاز المرسل» ويطلق كلمة «يد» ويريد بها النعمة؛ لأن اليد آلة النعم وسببها.

أو يقول:

أعاد يومك أيامي لنضرتها
واقتصَّ جودك من فقري وإعساري

فيسند الفعل إلى اليوم وإلى الجود على طريقة المجاز العقلي.

أو يقول:

ما جازَه جود ولا حلَّ دونه
ولكن يسير الجود حيث يسير

فيأتي بكناية عن نسبة الكرم إليه، بادِّعاء أن الجود يسير معه دائمًا؛ لأنه بدل أن يحكم بأنه كريم ادعى أن الكرم يسير معه أينما سار.

ولهذه الكناية من البلاغة، والتأثير في النفس، وحسن تصوير المعنى — فوق ما يجده السامع في غيرها من بعض ضروب الكلام.

فأنت ترى أنه من المستطاع التعبير عن وصف إنسان بالكرم بأربعة عشر أسلوبًا، كلٌّ له جماله، وحسنه، وبراعته، ولو نشاء لأتينا بأساليب كثيرة أخرى في هذا المعنى؛ فإن للشعراء ورجال الأدب افتتانًا وتوليدًا للأساليب والمعاني لا يكاد ينتهي إلى حد، ولو أردنا لأوردنا لك ما يقال من الأساليب المختلفة المناحي في صفات أخرى: كالشجاعة، والإباء، والحزم وغيرها، ولكنَّا لم نقصد إلى الإطالة، ونعتقد أنك عند قراءتك الشعر العربي والآثار الأدبية ستجد بنفسك هذا ظاهرًا، وستدهش للمدى البعيد الذي وصل إليه العقل الإنساني في التصوير البلاغي، والإبداع في صوغ الأساليب. (عن البلاغة الواضحة بتصرف)

هوامش

(١) توضيح المقام أنه إذا أُطلق اللفظ، وكان المراد منه غير معناه، فلا يخلو:
إما أن يكون معناه الأصلي مقصودًا أيضًا؛ ليكون وسيلة إلى المراد.
وإما ألا يكون مقصودًا، فالأول الكناية، والثاني المجاز.
فالكناية: هي أن يريد المتكلم إثبات معنًى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له، ولكن يجيء إلى معنًى هو مرادفه، فيومئ به إلى المعنى الأول، ويجعله دليلًا عليه.
أو الكناية: هي اللفظ الدال على ما له صلة بمعناه الوضعي؛ لقرينة لا تمنع من إرادة الحقيقة «كفلان نقي الثوب»؛ أي: مبرأ من العيب، وكلفظ «طويل النجاد» المراد به طول القامة، فإنه يجوز أن يراد منه طول النجاد؛ أي علاقة السيف أيضًا، فهي تخالف المجاز من جهة إمكان إرادة المعنى الحقيقي مع إرادة لازمة، بخلاف المجاز فإنه لا يجوز فيه إرادة المعنى الحقيقي لوجود القرينة المانعة من إرادته.
ومثل ذلك قولهم: «كثير الرماد» يعنون به أنه كثير القرى والكرم.
وقول الحضرمي:
قد كان تعجب بعضهن براعتي
حتى رأين تنحنحي وسعالي
كنى عن كبر السن بتوابعه، وهي التنحنح والسعال.
وقولهم: «المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه».
وقوله:
إن السماحة والمروءة والندى
في قبة ضربت على ابن الحشرج
وقوله:
وما بك فيَّ من عيب فإني
جبان الكلب مهزول الفصيل
فإن «جبان الكلب» كناية، وكذا «مهزول الفصيل»، والمراد منها ثبوت الكرم، وكل واحدة على حدتها تؤدي هذا المعنى.
وقد جاء عن العرب كنايات كثيرة؛ كقوله:
بيض المطابخ لا تشكو إماؤهمو
طبخ القدور ولا غسل المناديل
ويروى أن خلافًا وقع بين بعض الخلفاء ونديم له في مسألة، فاتفقا على تحكيم بعض أهل العلم، فأُحضر، فوجد الخليفة مخطئًا، فقال: القائلون بقول أمير المؤمنين أكثر (يريد الجهال)، وإذا كان الرجل أحمق قيل: نعته لا ينصرف.
ونظر البديع الهمذاني إلى رجل طويل بارد فقال: قد أقبل ليل الشتاء. ودخل رجل على مريض يعوده وقد اقشعر من البرد فقال: ما تجد «فديتك؟» قال: أجدك (يعني البرد). وإذا كان الرجل ملولًا قيل: هو من بقية قوم موسى. وإذا كان ملحدًا قيل: قد عبر (يريدون جسر الإيمان). وإن كان يسيء الأدب في المؤاكلة قيل: «تسافر يده على الخوان ويرعى أرض الجيران.» ويقال عمن يُكثر الأسفار: «فلان لا يضع العصا عن عاتقه.»
وجاء في القرآن الكريم: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فإنه كنى الغيبة بأكل الإنسان لحم الإنسان، وهذا شديد المناسبة؛ لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس، وتمزيق أعراضهم، وتمزيق العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابه.
ومن أمثال العرب قولهم: «ليست لفلان جلد النمر وجلد الأرقم» كناية عن العداوة. وكذلك قولهم: «قلبت له ظَهْر الْمِجَنِّ» كناية عن تغيير المودة. ويقول القوم: «فلان بريء الساحة» إذا برءوه من تهمة، و«رحب الذراع» إذا كان كثير المعروف، و«طويل الباع في الأمر» إذا كان مقتدرًا فيه، و«قوي الظهر» إذا كثر ناصروه.
ومن ذلك أن «المنصور» كان في بستان له أيام محاربته «إبراهيم بن عبد الله بن الحسن» فنظر إلى شجرة خلاف فقال للربيع: ما هذه الشجرة؟ فقال: طاعة يا أمير المؤمنين. فتفاءل المنصور به، وعجب من ذكائه. ومثل ذلك أن رجلًا مر في صحن دار «الرشيد» ومعه حزمة خيزران، فقال الرشيد للفضل بن الربيع: ما ذاك؟ فقال: «عروق الرماح» يا أمير المؤمنين. وكره أن يقول «الخيزران» لموافقته اسم «والدة الرشيد». ومن كلامهم: «فلان طويل الذيل» يريدون أنه غني حسن الحال.
وعليه قول الحريري:
إن الغريب الطويل الذيل ممتهن
فكيف حال غريب ما له قوت
وكذلك قولهم: «فلان طاهر الثوب»؛ أي: منزه عن السيئات، و«فلان دنس الثوب»؛ أي: متلوث بها.
قال امرؤ القيس:
ثياب بني عوف طهارى نقية
وأوجبهم عند المشاهد غرات
ويقولون: «فلان غمر الرداء» إذا كان كثير المعروف عظيم العطايا. قال كثير:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكًا
غلقت لضحكته رقاب المال
ومن الكنايات اللطيفة مما ذكرها الأدباء في الشيب والكبر، فقالوا: «عَرَضَتْ لفلان فترة» و«عرض له ما يمحو ذنوبه» و«أقمر ليله» و«نور غصن شبابه» و«فضض الزمان أبنوسه» و«جاءه النذير» و«قرع ناجذ الحلم» و«ارتاض بلجام الدهر» و«أدرك زمان الحنكة» و«رفض غرة الصبا» و«لبى دواعي الحجى».
ومن كناياتهم عن الموت: «استأثر الله به» و«أسعده بجواره» و«نقله إلى دار رضوانه ومحل غفرانه» و«اختار له النُّقْلة من دار البَوَار إلى دار الأبرار».
ومن الكنايات أيضًا أن يقام وصف الشيء مقام اسمه، كما ورد في القرآن الكريم: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ يعني السفينة، فوضع صفتها موضع تسميتها. كما ورد إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ يعني الخيل.
وقال بعض المتقدمين:
سألت قتيبة عن أبيها صحبه
في الروح هل ركب الأغر الأشقرا
يعني: هل قتل؛ لأن الأغر الأشقر وصف الدم، فأقامه مقام اسمه.
(٢) قصدت الخنساء وصف صخر بطول القامة والشجاعة، فعدلت عن التصريح بما أرادت إلى الإشارة إليه بطول النجاد؛ لأنه يلزم من طول حمالة السيف طول قامة صاحبه، أو طول القامة يلزم الشجاعة غالبًا. كما أرادت وصفه بالعزة والسيادة فلم تصرح بقصدها، وصرحت بما يستدعي ما أرادت فقالت: «رفيع العماد» فرفعة العماد تستلزم أنه عظيم المكانة في قومه، عالي الشأن بين عشيرته؛ لجريان العادة بذلك. وعمدت إلى وصفه بالجود والكرم فقالت: «كثير الرماد» تُشير إلى كثرة الإيقاد للإطعام، وهذا يلزم الكرم.
(٣) الضاربين: منصوب بأمدح المحذوف. والأبيض: السيف. والمخذم: بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الذال المعجمتين. والأضغان: جمع ضغن، وهو ما انطوى عليه الصدر من الحقد. كنى الشاعر بمجامع الأضغان عن القلوب، وهي لا كناية صفة، ولا كناية نسبة، بل هي كناية موصوف.
(٤) أي يكون المكني عنه فيها ذاتًا ملازمة للمعنى المفهوم من الكلام.
(٥) الأرقم: الحية فيها سواد وبياض.
(٦) المجن: الترس، وقلب له ظهر المجن مثل يُضرب لمن كان لصاحبه على مودة ورعاية، ثم حال عن العهد وتغيرت أحواله.
(٧) عريض الوساد؛ أي: طويل العنق إلى درجة الإفراط، وهذا مما يستدل به على البلاهة وقلة العقل.
(٨) الغمم: غزارة الشعر، حتى تضيق منه الجبهة أو القفا، وكان يزعم العرب أن ذلك دليل على الغباوة.
(٩) رملة: اسم امرأة، والقُلب — بالضم: السِّوار.
(١٠) الجرذان: جمع جرذ، وهو ضرب من الفأر.
(١١) بلقيس — بكسر الباء: ملكة سبأ. وسبأ: عاصمة قديمة لبلاد اليمن.
(١٢) الأعقاب: جمع عقب، وهو مؤخَّر القدم. والكلوم: الجراح. يقول: نحن لا نولي فنجرح في ظهورنا فتقطر دماء كلومنا على أعقابنا، ولكنا نستقبل السيوف بوجوهنا، فإن جرحنا قطرت الدماء على أقدامنا.
(١٣) الشادن: ولد الغزال. والضيغم: الأسد. أراد بالباكي بأجفان الشادن المرأة الحسناء، وبالباكي بأجفان الضيغم الرجل الشجاع، يقول: كم من نساء ورجال بكوا على فراقي وجزعوا لارتحالي!
(١٤) القرط: ما يعلق في شحمة الأذن. والحسام: السيف القاطع. والمصمم: الذي يصيب المفاصل ويقطعها. يقول: لم تكن المرأة الحسناء بأجزع على فراقي من الرجل الشجاع.
(١٥) ذات عرق: موضع بالبادية، وهو مكان إحرام أهل العراق.
(١٦) الضن: البخل، والمن: الامتتان بتعداد الصنائع.
(١٧) تهمي: تسيل، وتأتلق: تلمع.
(١٨) الغيم: الركام المتراكم. ولجَّ وألحَّ كلاهما بمعنى استمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤