الباب الأول

في المحسنات المعنوية

(١) التورية

التَّورية١ لغة: مصدر ورَّيت الخبر تورية إذا سترته، وأظهرت غيره.

واصطلاحًا: هي أن يذكر المتكلم لفظًا مفردًا له معنيان، أحدهما قريب غير مقصود ودلالة اللفظ عليه ظاهرة، والآخر بعيد مقصود، ودلالة اللفظ عليه خَفِيَّة، فيتوهَّم السَّامع أنه يريد المعنى القريب، وهو إنَّما يريد المعنى البعيد بقرينة تشير إليه ولا تُظهره، وتستره عن غير المتيقظ الفطِن، كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ أراد بقوله: «جرحتم» معناه البعيد، وهو ارتكاب الذنوب، ولأجل هذا سُمِّيت التَّورية «إيهامًا وتخييلًا».

وكقول سراج الدين الورَّاق:

أصون أديم وجهي عن أناس
لقاء الموت عندهم الأديب
ورب الشِّعر عندهم بغيض
ولو وافى به لهم «حبيب»

وكقوله:

أبيات شعرك كالقصور
ولا قصور بها يعوق
ومن العجائب لفظها
حرٌّ ومعناها «رقيق»

وكقوله:

برغم شبيبٍ فارق السيفُ كفَّه
وكانا على العِلات يصطحبان
كأنَّ رقاب الناس قالت لسيفه
رفيقك قَيْسِيٌّ وأنت يَمَاني٢

(٢) الاستخدام

الاستخدام: هو ذكر لفظ مشترك بين معنيين، يُراد به أحدهما، ثم يُعاد عليه ضمير أو إشارة بمعناه الآخر، أو يُعاد عليه ضميران يُراد بثانيهما غير ما يُراد بأولهما.
  • فالأول: كقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أريد أولًا بالشهر «الهلال» ثم أُعيد عليه الضمير أخيرًا بمعنى أيام رمضان.

    وكقوله معاوية بن مالك:

    إذا نزل السماء بأرض قوم
    رعيناه وإن كانوا غضابا
    أراد بالسماء «المطر»، وبضميره في «رعيناه» «النَّبات»٣ وكلاهما معنًى مجازي للسماء.
  • والثاني: كقول البحتري:
    فسقى الغضا والسَّاكنيه وإن هُمو
    شبُّوه بين جوانحي وضلوعي

    الغضا: شجر بالبادية، وضمير ساكنيه أولًا راجع إلى الغضا باعتبار «المكان»، وضمير شبوه عائد ثانيًا إلى الغضا «بمعنى النار الحاصلة من شجر الغضا» وكلاهما مجاز للغضا.

(٣) الاستطراد

الاستطراد: هو أن يخرج المتكلم من الغرض الذي هو فيه إلى غرض آخر لمناسبة بينهما، ثم يرجع فينتقل إلى إتمام الكلام الأول، كقول السموءل:

وإنا لقوم لا نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر وسلولُ
يقرب حب الموت آجالنا لنا
وتكرهه آجالهم فتطول

فسياق القصيدة للفخر بقومه، وانتقل منه إلى هجو قبيلتي «عامر وسلول»، ثم عاد إلى مقامه الأول وهو الفخر بقومه، وكقوله:

لنا نفوس لنيل المجد عاشقة
فإن تسلت أسلناها على الأسل
لا ينزل المجد إلا في منازلنا
كالنوم ليس له مأوى سوى المقل

(٤) الافتنان

الافتنان: هو الجمع بين فنَّين مختلفين: «كالغزل، والحماسة» و«المدح، والهجاء» و«التعزية والتهنئة» كقول عبد الله بن همام السلولي — جامعًا بين التعزية والتهنئة — حين دخل على يزيد، وقد مات أبوه معاوية، وخلفه هو في الملك: «آجرك الله على الرَّزية، وبارك لك في العطية، وأعانك على الرعية؛ فقد رُزئتَ عظيمًا، وأُعطيت جسيمًا، فاشكر الله على ما أُعطيت، واصبر على ما رُزيت، فقد فَقدت الخليفة، وأُعطيت الخلافة، ففارقت خليلًا ووُهِبْتَ جليلًا.

اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة
واشكر حباء الذي بالملك أصفاك
لا رُزء أصبح في الأقوام نعلمُه
كما رُزئت ولا عُقبى كعقباك»

وكقول عنترة يُخاطب عبلة:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم

(٥) الطباق٤

الطباق: هو الجمع بين لفظين متقابلين في المعنى، وهما قد يكونان اسمين، نحو قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، وكقوله تعالى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ.

أو فعلين، نحو قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا، وكقوله تعالى: ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا.

أو حرفين، نحو قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.

أو مختلفين، نحو قوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.٥

ونحو قوله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ.

فيكون تقابل المعنيين وتخالفهما مما يزيد الكلام حسنًا وطرافة.

(٦) المقابلة

المقابلة: هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو معانٍ متوافقة، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، كقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وكقوله تعالى: يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ.

وقال عليه الصلاة والسلام للأنصار: «إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلُّون عند الطمع.» وقال خالد بن صفوان يصف رجلًا: ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية.

وكقوله:

فتًى كان فيه ما يسر صديقه
ولكن فيه ما يسوء الأعاديا

وكقوله:

وباسط خير فيكم بيمينه
وقابض شر عنكم بشماله

وكقوله:

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل

وكقوله:

يا أُمَّة كان قُبح الجور بسخطها
دهرًا فأصبح حُسن العدل يرضيها

(٧) مراعاة النظير٦

مراعاة النظير: هي الجمع بين أمرين أو أمور متناسبة، لا على جهة التضاد، وذلك إما بين اثنين، نحو قوله تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

وإما بين أكثر، نحو قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ.

ويلحق بمراعاة النظير ما بُني على المناسبة في «المعنى» بين طرفي الكلام، يعني: أن يُختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى، نحو قوله تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.

فإن «اللطيف» يناسب عدم إدراك الأبصار له، و«الخبير» يناسب إدراكه سبحانه وتعالى للأبصار.

وما بُني على المناسبة في «اللفظ» باعتبار معنًى له غير المعنى المقصود في العبارة، نحو قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ، فإن المراد «بالنجم» هنا النبات، فلا يناسب «الشمس» و«القمر» ولكن لفظه يناسبهما باعتبار دلالته على الكواكب، وهذا يقال له: «إيهام التناسب» كقوله:

كأن الثريا عُلقت في جبينها
وفي نحرها الشعرى وفي خدِّها القمر
والطل في سلك الغضون كلؤلؤ
رطب يصافحه النسيم فيسقط
والطير يقرأ والغدير صحيفة
والريح تكتب والغمام ينقط

(٨) الإرصاد

الإرصاد: هو أن يذكر قبل الفاصلة «من الفقرة، أو القافية من البيت» ما يدل عليها إذا عرف الروِي، نحو قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ.

ونحو قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ٧

وكقول الشاعر:

أحلت دمي من غير جُرم وحرَّمت
بلا سبب عند اللقاء كلامي
فليس الذي حللته بمحللٍ
وليس الذي حرَّمته بمحرم

ونحو:

إذا لم تستطع شيئًا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع

وقد يُستغنى عن معرفة الرويِّ، نحو قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.

(٩) الإدماج

الإدماج: هو أن يُضمَّن كلام قد سيق لمعنًى، معنًى آخر لم يصرح به كقول المتنبي:

أقلِّب فيه أجفاني كأني
أعد بها على الدهر الذنوبا

ساق الشاعر هذا الكلام «أصالة» لبيان طول الليل و«أدمج» الشكوى من الدهر في وصف الليل بالطول.

(١٠) المذهب الكلامي

المذهب الكلامي: هو أن يورد المتكلم على صحة دعواه حُجَّة قاطعة مسلمة عند المخاطب، بأن تكون المقدمات بعد تسليمها مستلزمة للمطلوب، كقوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا واللازم وهو الفساد باطل، فكذا الملزوم وهو تعدد الآلهة باطل، وليس أدل على ذلك من الحقيقة والواقع.

وكقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ، ونحو قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ؛ أي: وكل ما هو أهون عليه فهو أدخل تحت الإمكان، فالإعادة ممكنة.

وسمِّي هذا النوع «بالمذهب الكلامي»؛ لأنه جاء على طريقة «علم الكلام والتوحيد» وهو عبارة عن إثبات «أصول الدين» بالبراهين العقلية القاطعة.

(١١) حسن التعليل

حُسن التعليل:٨ هو أن ينكر الأديب — صراحة أو ضمنًا — علة الشيء المعروفة، ويأتي بعلة أخرى أدبية طريفة، لها اعتبار لطيف، ومشتملة على دقة النظر، بحيث تُناسب الغرض الذي يرمي إليه.

يعني أن الأديب يدعي لوصف علة مناسبة غير حقيقية، ولكن فيها حسن وطرافة، فيزداد بها المعنى المراد الذي يرمي إليه جمالًا وشرفًا، كقول المعري في الرثاء:

وما كلفة البدر المنير قديمة
ولكنها في وجهه أثر اللطم

يقصد أن الحزن على «المرثي» شمل كثيرًا من مظاهر الكون؛ فهو لذلك يدَّعي أن كلفة البدر (وهي ما يظهر على وجهه من كدرة) ليست ناشئة عن سبب طبيعي، وإنما هي حادثة من «أثر اللطم على فراق المرثي». ومثله قول الشاعر الآخر:

أما ذكاء فلم تصفَرَّ إذا جنحت
إلا لفرقة ذاك المنظر الحسن

يقصد أن الشمس لم تصفر عند الجنوح إلى المغيب للسبب المعروف، ولكنها «اصفرت مخافة أن تفارق وجه الممدوح». ومثله قول الشاعر الآخر:

ما قصر الغيث عن مصر وتربتها
طبعًا ولكن تعداكم من الخجل
ولا جرى النيل إلا وهو معترف
بسبقكم فلذا يجري على مهل

يُنكر هذا الشاعر الأسباب الطبيعية لقلة المطر بمصر، ويلتمس لذلك سببًا آخر، وهو «أن المطر يخجل أن ينزل بأرض يعمها فضل الممدوح وجوده»؛ لأنه لا يستطيع مباراته في الجود والعطاء، ولا بد في العلة أن تكون ادعائية، ثم إن الوصف أعم من أن يكون ثابتًا فيقصد بيان علته، أو غير ثابت فيراد إثباته.

  • فالأول: (أ) وصف ثابت غير ظاهر العلة، كقوله:
    بين السيوف وعينيها مشاركة
    من أجلها قيل للأجفان أجفان

    وقوله:

    لم يحك نائلك السحاب وإنما
    حُمَّتْ به فصبيبها الرُّحْضَاء٩

    وقوله:

    زعم البنفسج أنه كعذاره
    حُسْنًا، فسلوا من قفاه لسانه

    فخروج ورقة البنفسج إلى الخلف لا علة له، لكنه ادعى أن علته الافتراء على المحبوب.

    (ب) أو وصف ثابت، ظاهر العلة، غير التي تذكر، كقول المتنبي:

    ما به قتلُ أعاديه ولكن
    يتقي إخلاف ما ترجو الذِّئاب

    فإن قتل الأعادي عادة للملوك؛ لأجل أن يسلموا من أذاهم وضرهم، ولكن «المتنبي» اخترع لذلك سببًا غريبًا، فتخيل أن الباعث له على قتل أعاديه لم يكن إلا ما اشتهر وعُرف به، حتى لدى الحيوان الأعجم من «الكرم الغريزي، ومحبته إجابة طالب الإحسان» ومن ثم فتك بهم؛ لأنه علم أنه إذا غدا للحرب رجت الذئاب أن يتسع عليها رزقها، وتنال من لحوم أعدائه القتلى، وما أراد أن يخيب لها مطلبًا.

  • والثاني: وصف غير ثابت، وهو:

    (أ) إما ممكن، كقول مسلم بن الوليد:

    يا واشيًا حسنت فينا إساءته
    نجَّى حذارك إنساني من الغرق

    فاستحسان إساءة الواشي ممكن، ولكنه لما خالف الناس فيه عقبه بذكر سببه، وهو أن حذاره من الواشي منعه من البكاء، فسلم إنسان عينه من الغرق في الدموع.

    (ب) وإما غير ممكن، كقول الخطيب القزويني:

    لو لم تكن نية الجوزاء خدمته
    لما رأيت عليها عقد منتطق
    فقد ادعى الشاعر أن الجوزاء تريد خدمة الممدوح، وهذه صفة غير ممكنة، ولكنه عللها بعلة طريفة ادعاها أيضًا ادعاءً أدبيًّا مقبولًا؛ إذ تصور أن «النجوم التي تحيط بالجوزاء إنما هي نطاق شدته حولها على نحو ما يفعل الخدم؛ ليقوموا بخدمة الممدوح».١٠

(١٢) التجريد

التجريد لغة: إزالة الشيء عن غيره.

واصطلاحًا: أن ينتزع المتكلم من أمر ذي صفة أمرًا آخر مثله في تلك الصفة؛ مبالغة في كمالها في المنتزع منه، حتى إنه قد صار منها بحيث يمكن أن ينتزع منه موصوف آخر بها. وأقسام التجريد كثيرة:
  • (أ)

    منها: ما يكون بواسطة مِن «التجريدية» كقولك: «لي من فلان صديق حميم»؛ أي: بلغ فلان من الصداقة حدًّا صح معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها.

    ونحو:

    ترى منهمو الأسد الغضاب إذا سطوا
    وتنظر منهم في اللقاء بدورًا
  • (ب)

    ومنها: ما يكون بواسطة الباء «التجريدية» الداخلة على المنتزع منه، نحو قولهم: «لئن سألت فلانًا لتسألن به البحر» بالغ في اتصافه بالسماحة، حتى انتزع منه بحرًا فيها.

  • (جـ)
    ومنها: ما لا يكون بواسطة، نحو: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.
  • (د)

    ومنها: ما يكون بطريق الكناية، كقول الأعشي:

    يا خير من ركب المطي ولا
    يشرب كأسًا بكف من بخلا١١

(١٣) المشاكلة

المشاكلة: هي أن يذكر الشيء بلفظ غيره؛ لوقوعه في صحبته كقوله تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ المراد: ولا أعلم ما عندك، وعبر بالنفس «للمشاكلة».

ونحو قوله تعالى: نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ؛ أي أهملهم، ذكر الإعمال هنا بلفظ النسيان لوقوعه في صحبته.

ومن ذلك ما حكي عن أبي الرقمع أن أصحابًا له أرسلوا يدعونه إلى الصبوح في يوم بارد، ويقولون له: ماذا تريد أن نصنع لك طعامًا؟ وكان فقيرًا ليس له كسوة تقيه البرد، فكتب إليهم يقول:

أصحابنا قصدوا الصبوح بسحرة
وأتى رسولهم إليَّ خصيصا
قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه
قلت اطبخوا لي جبة وقميصا١٢

وكقوله:

مَنْ مُبلغ أفناء يعرب كلها
أني بنيت الجار قبل المنزل

وكقوله:

ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا

(١٤) المزاوجة

المزاوجة: هي أن يُزاوج المتكلم بين معنيين في الشرط والجزاء، بأن يرتب على كل منهما معنًى رُتب على الآخر، كقوله:

إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى
أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر

زاوج بين النهي والإصاخة في الشرط والجزاء بترتيب اللجاج عليهما.

وكقوله:

إذا احتربت يومًا ففاضت دماؤها
تذكرت القربى ففاضت دموعها
زاوج١٣ بين الاحتراب — أي التحارب — وبين تذكر القربى في الشرط والجزاء، بترتيب الفيض عليهما.

(١٥) الطي والنشر

الطي والنشر: أن يذكر متعدد، ثم يذكر ما لكل من أفراده شائعًا من غير تعيين؛ اعتمادًا على تصرف السامع في تمييز ما لكل واحد منها، ورده إلى ما هو له، وهو نوعان:
  • (أ)
    إما أن يكون النشر فيه على ترتيب الطي، نحو قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، فقد جمع بين الليل والنهار، ثم ذكر: «السكون لليل، وابتغاء الرزق للنهار» على الترتيب.

    وكقوله:

    عيون وأصداغ وفرع وقامة
    وخال ووجنات وفرق ومرشف
    سيوف وريحان وليل وبانة
    ومسك وياقوت وصبح وقرقف

    وكقوله:

    فعل المدام ولونها ومذاقها
    في مقلتيه ووجنتيه وريقه
  • (ب)
    وإما أن يكون النشر على خلاف ترتيب الطي، نحو: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ذكر ابتغاء الفضل للثاني، وعلم الحساب للأول، على خلاف الترتيب.

    وكقوله:

    ولحظه ومحياه وقامته
    بدر الدُّجا وقضيب البان والرَّاح

    فبدر الدجا راجع إلى «المحيا» الذي هو الوجه، و«قضيب البان» راجع إلى «القامة»، والراح راجع إلى «اللحظ»؛ ويسمى اللف والنشر أيضًا.

(١٦) الجمع

الجمعُ: هو أن يجمع المتكلم بين متعدد، تحت حكم واحد، وذلك:
  • (أ)
    إما في اثنين، نحو قوله تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ونحو قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ.
  • (ب)
    وإما في أكثر، نحو قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ.

    وكقوله:

    إن الشباب والفراغ والجدهْ
    مفسدة للمرء أي مفسدهْ

    وكقوله:

    آراؤه وعطاياه ونعمته
    وعفوه رحمة للناس كلهم

    وكقوله:

    آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم
    في الحادثات إذا دجون نجوم

(١٧) التفريق

التفريق: أن يفرق بين أمرين من نوع واحد في اختلاف حكمهما، نحو قوله تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ.

وكقول الشاعر:

ما نوال الغمام وقت ربيع
كنوال الأمير يوم سخاء
فنوال الأمير بدرة عين
ونوال الغمام قطرة ماء

وكقوله:

من قاس جدواك يومًا
بالسحب أخطأ مدحك
السحب تُعطي وتبكي
وأنت تُعطي وتضحك

وكقوله:

من قاس جدواك بالغمام فما
أنصف في الحكم بين شكلين
أنت إذا جدت ضاحك أبدا
وهو إذا جاد دامع العين

وكقوله:

ورد الخدود أرق من
ورد الرياض وأنعمُ
هذاك تنشقه الأنو
ف وذا يُقبله الفمُ

(١٨) التقسيم

التقسيم: هو أن يُذكر متعدد، ثم يضاف إلى كل من أفراده ما له على جهة التعيين، نحو: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ.

وقد يطلق التقسيم على أمرين آخرين:
  • أولهما: أن تستوفى أقسام الشيء، نحو قوله تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى.
  • وثانيهما: أن تُذكر أحوال الشيء، مضافًا إلى كل منها ما يليق به، كقوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ.

    وكقوله:

    سأطلب حقي بالقنا ومشايخ
    كأنهمو من طول ما التثموا مرد
    ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دُعوا
    كثير إذا شدُّوا قليل إذا عُدُّوا

    وكقوله:

    ولا يقيم على ضيم يُراد به
    إلا الأذلان عيرُ الحيِّ والوتدُ
    هذا على الخسف مربوط برمته
    وذا يشج فلا يرثي له أحدُ

(١٩) الجمع مع التفريق

الجمعُ مع التفريق: أن يجمع المتكلم بين شيئين في حكم واحد، ثم يفرقُ بين جهتي إدخالهما، كقوله تعالى: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.

وكقوله:

فوجهك كالنار في ضوئها
وقلبي كالنار في حرها

(٢٠) الجمع مع التقسيم

الجمع مع التقسيم: أن يجمع المتكلم بين شيئين أو أكثر تحت حكم واحد، ثم يُقسم ما جمع، أو يقسم أولًا، ثم يجمع.
  • فالأول: نحو: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.

    وكقول المتنبي:

    حتى أقام على أرباض خرشنة١٤
    تشقى به الروم والصلبان والبيع
    للرق ما نسلوا والقتل ما ولدوا
    والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا

    ونحو:

    سأطلب حقي بالقنا ومشايخ١٥
    كأنهم من طول ما الثموا مردُ

    ونحو:

    ثقال إذا لاقوا، خفاف إذا دعوا
    كثير إذا شدوا قليل إذ عُدوا
  • والثاني: كقول سيدنا حسان:
    قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم
    أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
    سجية تلك فيهم غير محدثة
    إن الخلائق فاعلم شرها البدع

(٢١) المبالغة

المبالغة: هي أن يدعي المتكلم لوصف بلوغه في الشدة أو الضعف حدًّا مستبعدًا، أو مستحيلًا. وتنحصر في ثلاثة أنواع:
  • (١)
    تبليغ: إن كان ذلك الادعاء للوصف من الشدة أو الضعف ممكنًا عقلًا وعادة، نحو قوله تعالى: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا.

    وكقوله في وصف فرس:

    إذا ما سابقتها الريح فرت
    وألقت في يد الريح الترابا
  • (٢)

    وإغراق: إن كان الادعاء للوصف من الشدة أو الضعف ممكنًا عقلًا، لا عادة، كقوله:

    ونكرم جارنا ما دام فينا
    ونتبعه الكرامة حيث مالا
  • (٣)
    وغلو:١٦ إن كان الادعاء للوصف من الشدة أو الضعف مستحيلًا عقلًا وعادة، كقوله:
    تكاد قَسِيُّه من غير رامٍ
    تمكن في قلوبهم النبالا

(٢٢) المغايرة

المغايرة: هي مدح الشيء بعد ذمه أو عكسه، كقول الحريري في مدح الدينار: «أكرم به أصفر راقت صفرته» بعد ذمه في قوله: «تبًّا له من خادع ممارق».

(٢٣) تأكيد المدح بما يشبه الذم

تأكيد المدح بما يشبه الذم نوعان:
  • الأول: أن يُستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها فيها، كقوله:
    ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
    بهن فلول من قراع الكتائب١٧
  • الثاني: أن يُثبت لشيء صفة مدح، ثم يؤتى بعدها بأداة استثناء١٨ تليها صفة مدح أخرى «والنوع الأول أبلغ» كقوله:
    ولا عيب فيه غير أني قصدته
    فأنستني الأيام أهلًا وموطنا

    وكقوله:

    فتًى كملت أوصافه غير أنه
    جواد فما يُبقي من المال باقيا

    وقد تقوم «لكن» مقام أداة الاستثناء في هذا النوع.

(٢٤) تأكيد الذم بما يشبه المدح

تأكيد الذم بما يشبه المدح١٩ ضربان أيضًا:
  • الأول: أن يُستثنى من صفة مدح منفية عن الشيء، صفة ذم بتقدير دخولها فيها، كقوله:
    خلا من الفضل غير أني
    أراه في الحمق لا يُجارَى

    ونحو: لا فضل للقوم إلا أنهم لا يعرفون للجار حقه.

    ونحو: الجاهل عدو نفسه إلا أنه صديق السفهاء.

    ونحو: فلان ليس أهلًا للمعروف، إلا أنه يسيء إلى من يُحسن إليه.

  • الثاني: أن يثبت لشيء صفة ذم، ثم يؤتى بعدها بأداة استثناء٢٠ تليها صفة ذم أخرى، نحو: «فلان حسود إلا أنه نمام». وكقوله:
    هو الكلب إلا أن فيه ملالة
    وسوء مراعاة وما ذاك في الكلب

    وكقوله:

    لئيم الطباع سوى أنه
    جبان يهوي عليه الهوان

(٢٥) التوجيه

التوجيه: هو أن يؤتى بكلام يحتمل معنيين متضادين على السواء «كهجاء ومديح» و«دعاء للمخاطب أم دعاء عليه» ليبلغ القائل غرضه بما لا يُمسك عليه، كقول بشار في خياطٍ أعور «اسمه عمرو»:

خاط لي عمرو قباء
ليت عينيه سواء

فإنَّ دعاءه لا يُعلم هل له أم عليه؟

وقوله:

كلما لاح وجهه بمكان
كثرت زحمة العيون إلى رؤيته

ويُحكى أن محمدَ بن حزم هنأ «الحسن بن سهل» باتصال بنته «بوران» التي تنسب إليها الأطبخة البورانية «بالخليفة المأمون العباسي» مع من هنأه، فأثابهم، وحرمه، فكتب إليه: إن أنت تماديت على حرماني قلتُ فيك «بيتًا لا يُعرف أهو مدح أم ذم». فاستحضره وسأله؟ فأقرَّ، فقال الحسن: لا أُعطيك أو تفعل. فقال:

بارك الله للحسن
ولبورن في الختَنْ
يا إمام الهدى ظفر
ت ولكن ببنت مَنْ؟!

فلم يدر: ﺑ «بنت مَنْ؟» أفي العظمة وعلوِّ الشأن ورفعة المنزلة أم في الدناءة والخِسَّة؟ فاستحسن الحسن منه ذلك.

والخلاصة أن التوجيه نوعان:
  • الأول: أن يكون الكلام بحيث يصلح لأن يراد به معنيان متضادان على السواء.
  • والثاني: أن يكون الكلام بحيث يشتمل على مجموعة، أو مجموعات من مصطلحات العلوم، أو الفنون، أو الأسماء المتلائمة.

(٢٥-١) الفرق بين التورية والتوجيه

  • (أ)

    التورية: تكون في لفظ واحد.

    وأمَّا التوجيه: فيكون في تركيب، أو جملة أسماء متلائمة.

  • (ب)

    التورية: يقصد المتكلم بها معنًى واحدًا، هو البعيد.

    والنوع الأول من التوجيه لا يترجح فيه أحد المعنيين على الآخر.

  • (جـ)

    لفظ التورية: له معنيان بأصل الوضع.

وألفاظ النوع الثاني من التوجيه ليس لها إلا معنًى واحد بأصل الوضع، ويكون هو المقصود من الكلام.

(٢٦) نفي الشيء بإيجابه

نفي الشيء بإيجابه: هو أن ينفي متعلق أمر عن أمر، فيوهم إثباته له، والمراد نفيه عنه أيضًا، نحو قوله تعالى: لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ٢١ فإن نفي إلهاء التجارة منهم إثباتها لهم، والمراد نفيها أيضًا.

(٢٧) القول بالموجب

القول بالموجب نوعان:
  • الأول: أن يقع في كلام الغير إثبات صفة لشيء وترتيب حكم عليها، فينقلُ السامع تلك الصفة إلى غير ذلك الشيء من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم له أو انتقائه عنه، كقوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ٢٢ فالمنافقون أرادوا بالأعز أنفسهم، وبالأذل المؤمنين، ورتبوا على ذلك الإخراج من المدينة، فنقلت صفة العزة للمؤمنين، وأبقيت صفة الأذلية للمنافقين، من غير تعرض لثبوت حكم الإخراج للمتصفين بصفة العزة ولا لنفيه عنهم.
  • والثاني: حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده بذكر متعلق له كقوله:
    وقالوا قد صفت منا قلوب
    لقد صدقوا ولكن عن ودادي

    أراد بصفو قلوبهم «الخلوص» فحمله على الخلو بذكر متعلقه، وهو قوله: «عن ودادي».

(٢٨) ائتلاف اللفظ مع المعنى

ائتلاف اللفظ مع المعنى: هو أن تكون الألفاظ موافقة للمعاني، فتختار الألفاظ الجزلة والعبارات الشديدة للفخر والحماسة، وتختار الكلمات الرقيقة والعبارات اللينة للغزل والمدح، كقوله:

إذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة
ذرا منبر صلَّى علينا وسلَّما

وكقوله:

ولست بنظار إلى جانب الغنى
إذا كانت العلياء في جانب الفقر

وكقوله:

لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيف ألم

(٢٩) التفريع

التفريع: هو أن يثبت حكم لمتعلق أمر بعد إثباته لمتعلق له آخر، كقول الشاعر:

فاضت يداه بالنضار كما
فاضت ظباه في الوغى بدمي

وكقوله:

أحلامكم لسقام الجهل صافية
كما دماؤكم تشفي من الكلب

(٣٠) الاستتباع

الاستتباع:٢٣ هو الوصف بشيء على وجه يستتبع الوصف بشيء آخر، مدحًا أو ذمًّا، يعني أن الاستتباع هو المدح على وجه يستتبع المدح بأمر آخر، كقوله:
ألا أيها المال الذي قد أباده
تسل فهذا فعله بالكتائب

وكقوله:

سمح البديهة ليس يمسك لفظه
فكأن ألفاظه من ماله

وكقوله:

الحرب نزهته والبأس همته
والسيف عزمته والله ناصره

وقيل: إنه يكون أيضًا في الذم، كقول بعضهم في «قاضٍ» لم يقبل شهادته برؤية هلال الفطر:

أترى القاضي أعمى
أم تراه يتعامى
سرق العيد كأن الـ
ـعيد أموال اليتامى

(٣١) السلب والإيجاب

السلب والإيجاب: هو أن يقصد المتكلم تخصيص شيء بصفة فينفيها عن جميع الناس، ثم يثبتها له مدحًا أو ذمًّا، فالمدح كقول الخنساء:

وما بلغت كفُّ امرئ متناولا
من المجد إلا والذي نلت أطول
ولا بلغ المهدون للناس مدحة
وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل

والذم كقول بعضهم:

خُلقوا وما خُلقوا لمكرُمة
فكأنهم خُلقوا وما خُلقوا
رُزقوا وما رُزقوا سماحَ يد
فكأنهم رُزقوا وما رُزقوا

(٣٢) الإبداع

الإبداع: هو أن يكون الكلام مشتملًا على عدة أنواع من البديع، كقول الشاعر:

فضحت الحيا والبحر جودًا فقد بكى
الحيا من حياء منك والتطم البحر٢٤

(٣٣) الأسلوب الحكيم

الأسلوب الحكيم: هو تلقي المخاطب بغير ما يترقبه:
  • (١)

    إما بترك سؤاله والإجابة عن سؤال لم يسأله.

  • (٢)

    وإما بحمل كلام المتكلم على غير ما كان يقصد ويريد؛ تنبيهًا على أنه كان ينبغي له أن يسأل هذا السؤال، أو يقصد هذا المعنى.

  • فمثال الأول: ما فعل القبعثري بالحجَّاج؛٢٥ إذ قال له الحجاج متوعدًا: «لأحملنك على الأدهم.» يريد الحجاجُ: القيد الحديد الأسود، فقال القبعثري: «مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب.» يعني الفرس الأسود والفرس الأبيض، فقال له الحجاج: أردت «الحديد»؟ فقال القبعثري: لأن يكون حديدًا خير من أن يكون بليدًا. ومراده تخطئة الحجاج بأن الأليق به الوعد «لا الوعيد».٢٦
  • ومثال الثاني: قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ سألوا النبي — عليه الصلاة والسلام — عن حقيقة ما ينفقون مالهم، فأجيبوا ببيان طرق إنفاق المال؛ تنبيهًا على أن هذا هو الأولى والأجدر بالسؤال عنه.
    وقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.٢٧

    وقال ابن حجاج البغدادي:

    قلتُ: ثقلتُ؛ إذ أتيت مرارًا
    قال: ثقلت كاهلي بالأيادي
    قلتُ: طولتُ! قال: أوليت طوْلا
    قلت: أبرمت! قال: حبل ودادي٢٨

    فصاحب ابن حجاج يقول له: قد ثقلت عليك بكثرة زياراتي، فيصرفه عن رأيه في أدب وظرف، وينقل كله من معنًى إلى معنًى آخر.

    وقول الشاعر:

    ولما نعى الناعي سألناه خشية
    وللعين خوف البين تسكاب أمطار
    أجاب: قضى، قلنا: قضى حاجة العلا
    فقال: مضى، قلنا: بكلِّ فخار

    ويُحكى أنه لما توجه «خالد بن الوليد» لفتح الحيرة، أتى إليه من قبل أهلها رجل ذو تجربة، فقال له «خالد»: فيمَ أنت؟ قال: في ثيابي. فقال: علامَ أنت؟ فأجاب: على الأرض. فقال: كم سِنك؟ قال: اثنتان وثلاثون. فقال: أسألك عن شيء وتجيبني بغيره؟ فقال: إنما أجبتك عما سألت.

(٣٤) تشابه الأطراف

تشابه الأطراف قسمان: معنوي ولفظي.

  • فالمعنوي: هو أن يختم المتكلم كلامه بما يناسب ابتداءه في المعنى، كقوله:
    ألذ من السحر الحلال حديثه
    وأعذب من ماء الغمامة ريقه

    فالريق يناسب اللذة في أول البيت.

  • واللفظي: نوعان:
    • الأول: أن ينظر الناظم أو الناثر إلى لفظة وقعت في آخر المصراع الأول أو الجملة، فيبدأ بها المصراع الثاني أو الجملة التالية، كقوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ.

      وكقول أبي تمام:

      هوًى كان خلسًا إن من أبرد الهوى
      هوى جلتُ في أفيائه وهو خامل
    • الثاني: أن يعيد الناظم لفظة القافية من كل بيت في أول البيت الذي يليه، كقوله:
      رمتني وستر الله بيني وبينها
      عشية آرام الكناس رميم
      رميم التي قالت لجيران بيتها
      ضمنت لكم ألا يزال يهيم

      وقوله:

      إذا نزل الحجاج أرضًا مريضة
      تتبع أقصى دائها فشفاها
      شفاها من الداء العضال الذي بها
      غلام إذا هزَّ القناة سقاها
      سقاها فروَّاها بشرب سجالها
      دماء رجال حيث مال حشاها

(٣٥) العكس

العكس هو أن تقدم في الكلام جزءًا، ثم تعكس بأن تقدم ما أخرتَ، وتؤخِّر ما قدمت. ويأتي على أنواع:
  • (أ)

    أن يقع العكس بين أحد طرفي جملة، وما أضيف إليه ذلك الطرف، نحو: «كلام الملوك ملوك الكلام».

    وكقول المتنبي:

    إذا أمطرت منهم ومنك سحابة
    فوابلهم طلُّ وطلك وابل
  • (ب)
    أن يقع العكس بين متعلقي فعلين في جملتين، كقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ.
  • (جـ)
    أن يقع العكس بين لفظين في طرفي الجملتين، كقوله تعالى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ.
  • (د)

    أن يقع العكس بين طرفي الجملتين، نحو قول الشاعر:

    طويت بإحراز الفنون ونيلها
    رداء شباب والجنون فنون
    فحين تعاطيت الفنون وحظها
    تبين لي أن الفنون جنون
  • (هـ)

    أن يكون العكس بترديد مصراع البيت معكوسًا، نحو قول الشاعر:

    إن للوجد في فؤادي تراكم
    ليت عيني قبل الممات تراكم
    في هواكم يا سادتي مت وجدًا
    مت وجدًا يا سادتي في هواكم

(٣٦) تجاهل العارف

تجاهل العارف: هو سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة تجاهلًا؛ لنكتة «كالتوبيخ»، في قوله:

أيا شجر الخابور ما لك مورقًا
كأنك لم تجزع على ابن طريف؟!

أو المبالغة في المدح، كقول البحتري:

ألمع برق سرَى أم ضوء مصباح؟
أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي

أو المبالغة في الذم، كقول زهير:

وما أدري وسوف إخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء

أو التعجب، نحو: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ.

إلى غير ذلك من الأغراض البديعية التي لا تُحصَى.

تمرين

بيِّن الأنواع البديعية فيما يلي:

(١) قال بعضهم في وصف إبل:

صلب العصا بالضرب قد أدماها
تودُّ أن الله قد أفناها

(٢) وقيل في وصف إبل هزيلة:

كالقسيِّ المعطفات بل الأسـ
ـهم مبرية بل الأوتار
(٣) وللغزالة شيء من تلفته
ونورها من ضيا خديه مكتسب
(٤) أفنى جيوش العدا غزوًا فلست ترى
سوى قتيل ومأسور ومنهزم
(٥) ولا عيب فيهم غير أن ذوي الندى
خِساس إذا قيسوا بهم ولئامُ
(٦) على رأس عبد تاج عز يزينه
وفي رجل حر قيدُ ذل يشينه
(٧) إذا لم تفض عينيَّ العقيق فلا رأت
منازله بالقرب تبهى وتبهر

(١) الضرب لفظ مشترك بين الضرب بالعصا — وهو المعنى القريب الذي لم يُقصد — والسير في الأرض وهو المعنى البعيد المقصود، والمراد بالتورية.

(٢) فيه مراعاة النظير؛ إذ وصف البحتري الإبل بالتحول، فشبهها بأشياء متناسبة، وهي: القسي، والأسهم المبرية، والأوتار.

(٣) فيه استخدام؛ إذ أراد بالغزالة الحيوان المعروف، وبضمير «نورها» الغزالة بمعنى الشمس.

(٤) فيه تقسيم؛ إذ هو قد استوفى جميع أقسام جيش العدو بحصرها في الأقسام الثلاثة.

(٥) فيه تأكيد المدح بما يشبه الذم؛ فإنه استثنى من صفة ذم منفية صفة مدح.

(٦) فيه مقابلة بين ستة وستة؛ فقد قابل بين على وفي، رأس ورجل، حر وعبد، تاج وقيد، عز وذل، يزين ويشين.

(٧) فيه استخدام؛ إذ العقيق هنا الدم الشبيه بالعقيق في الحمرة، والضمير في «منازله» يعود إليه باعتباره الوادي المعروف بظاهر المدينة ببلاد الحجاز.

تمرين آخر

(١) فلا الجود يفني المال والجد مقبل
ولا البخل يبقي المال والجدُّ مدبر

(٢) رحم الله من تصدَّق من فضل أو آسى من كفاف، أو آثر من قوت.

(٣) رأى العقيق فأجرى ذاك ناظره
متيم لجَّ في الأشواق خاطره
(٤) آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم
في الحادثات إذا دجون نجوم
(٥) ما زلزلت مصر من كيد ألمَّ بها
لكنها رقصت من عدلكم طربا
(٦) أراعي النجم في سيري إليكم
ويرعاه من البيدا جوادي
جاءني ابني يومًا وكنت أراه
لي ريحانة ومصدر أنس
قال: ما الروح؟ قلت: إنك روحي
قال: ما النفس؟ قلت: إنك نفسي

(١) فيه مقابلة بين: الجود والبخل، يفنى ويبقى، مقبل ومدبر.

(٢) فيه تقسيم باستيفاء أقسام الشيء؛ لأن طبقات الناس هذه الثلاثة ليس غير.

(٣) فيه استخدام؛ فالعقيق أولًا معناه المكان المعلوم في بلاد الحجاز، والضمير يعود إليه بمعنى الحجر المعروف، وقد شبه دموعه به.

(٤) فيه الجمع؛ فقد جمع بين ثلاثة أشياء في حكم واحد.

(٥) فيه حسن التعليل؛ فقد جعل علة زلزال مصر طربًا من عدل الممدوح لا لمكروه نزل بها، وهي لا شك غير العلة التي يتعارفها الناس فيما بينهم.

(٦) فيه استخدام؛ إذ النجم الأول الكوكب، وأعاد عليه الضمير بمعنى النبات الذي لا ساق له.

تطبيق عام على البديع المعنوي

يا سيدًا حاز لطفًا
له البرايا عبيد
أنت الحسين ولكن
جفاك فينا يزيد

في هذا الكلام تورية، مهيأة بلفظ قبلها، فإن ذكر «الحسين» لازم لكون «يزيد» اسمًا بعد احتمال الفعل المضارع المورى عنه.

حُماة في بهجتها جَنة
وهي من الغم لنا جُنة
لا تيأسوا من رحمة الله فقد
رأيتم العاصي في الجنة

في هذا الكلام تورية مرشحة، فإن ذكر الرحمة ترشيح للفظ العاصي المورى به الذي هو من العصيان، والمورى عنه النهر المعروف الذي عبر حماة.

فإن ضيعت فيه جميع مالي
فكم من لحية حلقت بموسى

فيه التورية المرشحة، بذكر اللحية والحلق، وهما يناسبان المورى به وهو «موسى الحديد» والمورى عنه الاسم المذكور.

يا عذولي في مغنٍّ مطرب
حرك الأوتار لما سفرا
لم تهز العطف منها طربا
عندما تسمع منه وترا

فيه تورية في لفظ «وترًا»؛ فإن معناه البعيد المراد هو الرؤية، والقريب أحد الأوتار، ولفظ «تسمع» هيأ قوله: «وترًا» للتورية.

سألته عن قومه فانثنى
يعجب من إفراط دمعي السخي
وأبصر المسك وبدر الدجى
فقال ذا خالي وهذا أخي

فيه تورية في لفظ «خالي» فمعناه البعيد المراد النقطة السوداء في الخد، والقريب أخ الأم، ولفظة «أخي» هي التي هيأت خالي للتورية، وهي بعيدة.

وساقية تدور على الندامى
وتنهرهم لسرعة شرب خمر
سنشكر يوم لهو قد تقضى
بساقية تقابلنا بنهر

«الساقية» امرأة تسقي الراح، وهذا المعنى القريب، أو ساقية الماء وهو المعنى البعيد، وكل منهما مذكور للتورية في صاحبه، ومهيئ لها فيه.

هوامش

(١) التورية أن يطلق لفظ له معنيان: أحدهما قريب غير مراد، والآخر بعيد هو المراد، ويدل عليه بقرينة يغلب أن تكون خفية لا يُدركها إلا الفطن.
وتنقسم التورية إلى أربعة أقسام: مجردة، ومرشحة، ومبينة، ومهيأة.
  • (أ)
    فالمجردة: هي التي لم تقترن بما يلائم المعنيين، كقول الخليل لما سأله الجبار عن زوجته فقال: «هذه أختي» أراد أخوة الدين، وكقوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ.
  • (ب)
    المرشحة: هي التي اقترنت بما يلائم المعنى القريب، وسميت بذلك؛ لتقويتها به؛ لأن القريب غير مراد، فكأنه ضعيف، فإذا ذُكر لازِمُه تَقَوَّى به، نحو: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ فإنه يحتمل «الجارحة» وهو القريب، وقد ذكر من لوازمه البنيان على وجه الترشيح، ويحتمل «القدرة» وهو البعيد المقصود. وهي قسمان باعتبار ذكر اللازم قبلها أو بعدها.
  • (جـ)

    والمبينة: هي ما ذكر فيها لازم المعنى البعيد، سميت بذلك؛ لتبيين المورَّى عنه بذكر لازمه؛ إذ كان قبل ذلك خفيًّا، فلما ذكر لازمه تبين، نحو:

    يا من رآني بالهموم مطوقًا
    وظللت من فقدي غصونًا في شجون
    أتلومني في عظم نوحي والبكا
    شأن المطوق أن ينوح على غصون

    وهي أيضًا قسمان باعتبار ذكر اللازم قبل أو بعد.

  • (د)

    والمهيأة: هي التي لا تقطع التورية فيها إلا بلفظ قبلها أو بعدها، فهي قسمان أيضًا.

    • فالأول: وهو ما تتهيأ بلفظ قبل، نحو قوله:
      وأظهرت فينا من سماتك سنة
      فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب

      فالفرض والندب معناهما القريب: الحكمان الشرعيان.

      والبعيد: الفرض معناه العطاء، والندب معناه الرجل السريع في قضاء الحوائج، ولولا ذكر السنة لما تهيأت التورية، ولا فهم الحكمان.

    • والثاني: وهو ما تهيأت بلفظ بعد، كقول الإمام علي — رضي الله تعالى عنه — في الأشعث بن قيس: إنه كان يحرك الشمال باليمين. فالشمال معناها القريب: ضد اليمين، والبعيد: جمع شَمْلة، ولو ذكر اليمين بعده لما فهم السامع معنى اليد الذي به التورية.
ومن المجردة قوله:
حملناهمو طرًّا على الدهم بعدما
خلعنا عليهم بالطعان ملابسا
فإن الدهم له معنيان: قريب، وهو الخيل الدهم، وهو ليس مرادًا، وبعيد، وهو القيود الحديد السود، وهو المراد.
ومن المرشحة قوله تعالى: وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ فإن المراد من اليد الذلة، وقد اقترنت بالإعطاء الذي يناسب المعنى القريب، وهو العضو.
(٢) يريد أن كف شبيب وسيفه متنافران لا يجتمعان؛ لأن شبيبًا كان قيسيًّا والسيف يُقال له: «يماني» فورى به عن الرجل المنسوب إلى اليمن، ومعلوم ما بين قيس واليمن من التنافر، فظاهر قوله: «يماني» أنه رجل منسوب إلى اليمن، ومراده البعيد: الدلالة على السيف؛ لأن كلمة يماني من أسمائه.
(٣) ملخص الاستخدام: هو أن يُؤتى بلفظ له معنيان، فيراد به أحدهما، ثم يراد بضميره المعنى الآخر، كقول الشاعر:
وللغزالة شيء من تلفته
ونورها من ضيا خديه مكتسب
أراد الشاعر بالغزالة الحيوان المعروف، وبضمير «نورها» الغزالة بمعنى الشمس.
وكقوله:
رأى العقيق فأجرى ذاك ناظره
متيم لج في الأشواق خاطره
وكقوله:
إذا لم أبرقع بالحيا وجه عفتي
فلا أشبهته راحتي بالتكرم
ولا كنت ممن يكسر الجفن بالوغى
إذا أنا لم أغضضه عن رأي مخرم
وقال الآخر في الدعاء: «أقر الله عين الأمير وكفاه شرها، وأجرى له عذبها، وأكثر لديه تبرها.»
وكقول الشاعر:
رحلتم بالغداة فبت شوقًا
أسائل عنكم في كل ناد
أراعي النجم في سيري إليكم
ويرعاه من البيدا جوادي
(٤) ويسمى بالمطابقة، وبالتضاد، وبالتطبيق، وبالتكافؤ، وبالتطابق. وهو أن يجمع المتكلم في كلامه بين لفظين، يتنافى وجود معناهما معًا في شيء واحد، في وقت واحد، بحيث يجمع المتكلم في الكلام بين معنيين متقابلين، سواء أكان ذلك التقابل: تقاضل الضدين، أو النقيضين، أو الإيجاب والسلب، أو التضايف.
(٥) والطباق ضربان:
  • أحدهما طباق الإيجاب: وهو ما لم يختلف فيه الضدان إيجابًا وسلبًا، نحو: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ.

    وكقوله:

    حلو الشمائل وهو مر باسل
    يحمي الذمار صبيحة الإرهاق
  • وثانيهما طباق السلب: وهو ما اختلف فيه الضدان إيجابًا وسلبًا، بحيث يجمع بين فعلين من مصدر واحد، أحدهما مثبت مرة، والآخر منفي تارة أخرى في كلام واحد، نحو: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ، ونحو: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وقُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
    أو أحدهما أمر والآخر نهي، نحو: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، ونحو: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ.
وملخص الطباق الذي هو الجمع بين معنيين متقابلين في كلام واحد، وهو نوعان:
  • طباق سلب: وهو أن يجمع بين فعلين، من مصدر واحد، أحدهما مثبت والآخر منفي، أو أحدهما أمر والآخر نهي.
  • طباق الإيجاب: وهو ما كان تقابل المعنيين فيه بالتضاد.
ويلحق بالطباق ما بُني على المضادة تأويلًا في المعنى، نحو: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ فإن التعذيب لا يُقابل المغفرة صريحًا، لكن على تأويل كونه صادرًا عن المؤاخذة التي هي ضد المغفرة، أو تخييلًا في اللفظ باعتبار أصل معناه، نحو: مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ؛ أي يقوده فلا يقابل الضلالة بهذا الاعتبار، ولكن لفظه يقابلها في أصل معناه، وهذا يقال له: «إيهام التضاد».
(٦) وتُسمى بالتناسب، والتوافق، والائتلاف.
(٧) فالسامع إذا وقف على قوله تعالى: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بعد الإحاطة بما تقدم علم أنه وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وكذا البصير بمعاني الشعر وتأليفه إذا سمع المصرع الأول «أحلت دمي … إلخ»، علم أن العجز «وحرمت … إلخ» ليس إلا ما قاله الشاعر.
(٨) من الأشياء ما له صفة ثابتة، ذات علة معروفة، أو غير معروفة: كزلزلة الأرض، وسقوط المطر من السحب، ومقاتلة الأعداء، وبزوغ القمر وأفوله، ونحو ذلك، فيلتمس الأدباء لها عللًا أخرى، فيها طرافة وحسن، يزداد بها المعنى الذي يريدون تقريرًا وجمالًا وشرفًا، فحسن التعليل هو استنباط علة مناسبة للشيء غير حقيقة، بحيث تكون على وجه لطيف بليغ، يحصل بها زيادة في المقصود.
(٩) أي أن السحائب لا تقصد محاكاة جودك بمطرها؛ لأن عطاءك المتتابع أكثر من مائها وأغزر، ولكنها حمت حسدًا لك، فالماء الذي ينصب منها هو عرق تلك الحمى، فالرحضاء عرق الحمى.
وكقوله:
لم يطلع البدر إلا من تشوقه
إليك حتى يوافى وجهك النضرا
ولا تغيب إلا عند خجلته
لما رآك فولى عنك واستترا
وكقوله:
سألت الأرض لِمَ كانت مصلى
ولِمَ جُعلت لنا طهرًا وطيبا
فقالت غير ناطقة لأني
حويت لكل إنسان حبيبا
وكقوله:
عيون تبر كأنها سرقت
سواد أحداقها من الغسق
فإن دجا ليلها بظلمته
تضمها خيفة من السرق
وكقوله:
ما زلزلت مصر من كيد يراد
بها وإنما رقصت من عدله طربا
وكقوله:
لا تنكروا خفقان قلـ
ـبي والحبيب لدي حاضر
ما القلب إلا داره
دقت له فيها البشائر
وكقوله:
أرى بدر السماء يلوح حينًا
ويبدو ثم يلتحف السحابا
وذاك لأنه لما تبدى
وأبصر وجهك استحيا وغابا
وكقوله:
لم تؤذن الدنيا به في صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وكقوله:
ولم تكن ساخطًا لم أكن
أذم الزمان وأشكو الخطوبا
وكقوله:
قد طيب الأفواه ثناءه
من أجل ذا تجد الثغور عذابا
(١٠) ومثله قول ابن المعتز:
قالوا اشتكت عينه فقلت لهم
من كثرة القتل نالها الوصب
حمرتها من دماء من قتلت
والدم في السيف شاهد عجب
وكقوله:
فلئن بقيت لأرحلن بغزوة
تحوي الغنائم أو يموت كريم
وكقوله:
عداتي لهم فضل عليَّ ومنة
فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
همو بحثوا عن زلتي فاجتنبتها
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
وكقوله:
لو لم يكن أقحوانًا ثغر مبسمها
ما كان يزداد طيبًا ساعة السحر
(١١) أي يشرب الكأس بكف الجواد، انتزع منه جوادًا يشرب هو بكفه عن طريق الكناية؛ لأن الشرب بكف غير البخيل يستلزم الشرب بكف الكريم، وهو لا يشرب إلا بكف نفسه، فإذًا هو ذلك الكريم.
ومن التجريد خطاب المرء نفسه، كقول المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
أي: الغنى، فقد انتزع من نفسه شخصًا آخر وخاطبه، وهذا كثير في كلام الشعراء، وإنما سمي هذا النوع تجريدًا؛ لأن العرب تعتقد أن في الإنسان معنًى كامنًا فيه كأنه حقيقته، فتخرج ذلك إلى ألفاظها مجردًا عن الإنسان، كأنه غيره. وفائدة هذا النوع «مع التوسع» أن يثبت الإنسان لنفسه ما لا يليق التصريح بثبوته له.
(١٢) أي: خيطوا لي جبة وقميصًا، فذكر الخياطة بلفظ الطبخ؛ لوقوعه في صحبة طبخ الطعام.
(١٣) المزاوجة يقال: زاوج؛ أي خالط، وأشبه بعضه بعضًا في السجع أو الوزن.
(١٤) الأرباض: جمع ربض، وهو ما حول المدينة، وخرشنة: بلد بالروم.
(١٥) القنا: الرماح، والمشايخ: أصحابه؛ أي: يطلب حقه بنفسه ومستعينًا بأصحابه المجربين المحنكين، ولذلك جعلهم مشايخ.
(١٦) أما الغلو فمنه مقبول، ومنه مردود، فالمقبول ثلاثة أنواع: أحدهما ما اقترن به ما يقربه للصحة «كفعل مقاربة» نحو قوله تعالى: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ.
(١٧) أو أداة فرض، نحو قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ.
ومنه ما تضمن حسن تخييل، كقول المتنبي:
عقدت سنابكها عليها عثيرًا
لو تبتغي عنقًا عليه لأمكنا
(السنابك: جمع سنبك وهو طرف مقدم الحافر. والعثير: الغبار. والعنق: ضرب من السير سريع، فسيح الخطو. يقول: إن حوافر هذه الخيل عقدت فوقها غبارًا كثيفًا، حتى لو أرادت السير عليه لكان يحملها كالأرض؛ لشدة كثافته.)
وقول المعري:
يذيب الرعب منه كل عضب
فلولا الغمد يمسكه لسالا
ومنه ما أخرج مخرج الهزل والخلاعة، كقول النظام:
توهمه طرفي فآلم طرفه
فصار مكان الوهم في خده أثر
ومر بفكري خاطرًا فجرحته
ولم أر خلقًا قط يجرحه الفكر
وقول الآخر:
لك أنف يا بن حرب
أنفت منه الأنوف
أنت في القدس تصلي
وهو في البيت يطوف
(١٨) أي: إن كان تكسر حد سيوفهم من مقارعة الجيوش عيبًا فلا عيب فيهم غيره، ومن المعلوم أنه ليس بعيبٍ. وكقول الآخر:
ولا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم
يسلوا عن الأهل والأوطان والحشم
وقوله:
ولا عيب فيه غير أن خدوده
بهن احمرار من عيون المتيم
وقوله:
ليس به عيب سوى أنه
لا تقع العين على شبهه
وقوله:
ولا عيب في معروفهم غير أنه
يبين عجز الشاكرين عن الشكر
وقوله:
ولا عيب فيكم غير أن ضيو
فكم تعاب بنسيان الأحبة والوطن
(١٩) وهنا نوع آخر يُسمى «الهجاء في معرض المدح»، وهو أن يؤتى بكلام ظاهره مدح وباطنه ذم، كقوله:
أبو جعفر رجل عالم
بما يصلح المعدة الفاسده
تخوف تخمة أضيافه
فعودهم أكلة واحده
(٢٠) ومثل أداة الاستثناء في ذلك أداة الاستدراك في قول الشاعر:
وجوه كأظهار الرياض نضارة
ولكنها يوم الهياج صخور
وكقوله:
هو البدر إلا أنه البحر زاخرًا
سوى أنه الضرغام لكنه الوبل
أدرك أهل البيان «التدبيج» في الطباق، وأفرده أهل البديع، وهو الأولى؛ لجواز أن لا يقع «التقابل» بين الألوان، فيفوت «الطباق».
(٢١) مقتطع من الآية التي مرت في مبحث ترك المسند، حيث يقول: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ فإن قوله: لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة يوهم أن لهم تجارة، غير أنهم لا يلتهون بها، ولكن المراد أنهم ليس لهم تجارة حتى يلتهوا بها؛ لأن رجال الجنة لا يتعاطون التجارة.
(٢٢) تلخيص العبارة: أن الكافرين حكموا لأنفسهم بالعزة، وللمؤمنين بالذلة، وقالوا: إن رجعنا إلى المدينة نخرجهم منها، فحكم بالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يقل: إنهم يخرجون أولئك منها، ولا أنهم لا يخرجونهم.
(٢٣) ويُسمى الرجوع، وهو العود على الكلام السابق بالنقض لنكتة، كقول زهير:
قف بالديار التي لم يعفها القِدَم
بلى وغيرها الأرواح وللدِّيَم
وكقوله:
وما ضاع شعري عندكم حين
قلته بلى وأبيكم ضاع فهو يضوع
(٢٤) فإن فيه حسن التعليل في قوله: «بكى الحيا من حياء منك»، وفيه التقسيم في قوله: «فضحت الحيا والبحر» حيث أرجع ما لكلٍّ إليه على التعيين بقوله: «بكى الحيا» و«التطم البحر»، وفيه المبالغة في جعله بكاء الحيا والتطام البحر حياء من الممدوح، وفيه الجمع في قوله: «فضحت الحيا والبحر»، وفيه رد العجز على الصدر في ذكر البحر والبحر، وفيه الجناس التام: بين «الحيا والحياء». وللقرآن الكريم اليد البيضاء في هذا النوع؛ فقد وجد اثنان وعشرون نوعًا في قوله تعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ مع كون الآية سبع عشرة لفظة، ولا بد لي من ذكرها؛ تبركًا بها، وإلجامًا لبعض المعاصرين الذين يتفوهون بما لا يليق ذكره، بالنسبة لكلام رب العالمين. (١) ففيها «المناسبة التامة» بين ابلعي واقلعي. (٢) الاستعارة فيهما. (٣) الطباق بين الأرض والسماء. (٤) المجاز في قوله: «يا سماء» فإن الحقيقة يا مطر. (٥) الإشارة في: «وغيض الماء» فإنه عبر به عن معانٍ كثيرة، فإن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء، وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء. (٦) الإرداف في قوله: «واستوت على الجودي» فإنه عبر عن استقرارها في المكان بلفظ قريب من لفظ المعنى. (٧) التمثيل في قوله: «وقُضي الأمر» فإنه عبر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بلفظ بعيد عن الموضوع. (٨) التعليل؛ فإن غيض الماء علة الاستواء. (٩) التقسيم؛ فإنه استوفى أقسام الماء حال نقصه. (١٠) الاحتراس في قوله: «وقيل بعدًا للقوم الظالمين»؛ إذ الدعاء يُشعر بأنهم مستحقوا الهلاك؛ احتراسًا من ضعيف يتوهم أن الغرق لعمومه ربما يشمل غير المستحق. (١١) الانسجام؛ فإن الآية منسجمة كالماء الجاري في سلاسته. (١٢) حسن التنسيق؛ فإنه تعالى قص القصة، وعطف بعضها على بعض بحسن الترتيب. (١٣) ائتلاف اللفظ مع المعنى؛ لأن كل لفظة لا يصلح لمعناها غيرها. (١٤) الإيجاز؛ فإنه سبحانه وتعالى أمر فيها، ونهى، وأخبر، ونادى، ونعت، وسمى، وأهلك، وأبقى، وأسعد وأشقى، وقص من الأنباء ما لو شُرح لجفت الأقلام. (١٥) التسهيم؛ إذ أول الآية يدل على آخرها. (١٦) التهذيب؛ لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن؛ لأن كل لفظة سهلة مخارج الحروف، عليها رونق الفصاحة، سليمة من التنافر، بعيدة من عقادة التراكيب. (١٧) حسن البيان؛ لأن السامع لا يشكل عليه في فهم معانيها بشيء. (١٨) الاعتراض وهو قوله: «وغيض الماء واستوت على الجودي». (١٩) الكناية؛ فإنه لم يصرح بمن أغاض الماء، ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة، ولا بمن قال: «وقيل بعدًا»، كما لم يصرح بقائل: «يا أرض ابلعي ماء و يا سماء أقلعي» في صدر الآية؛ سلوكًا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية. (٢٠) التعريض؛ فإنه تعالى عرض بسالكي مسالكهم في تكذيب الرسل ظلمًا، وأن الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا بظلمهم. (٢١) التمكين؛ لأن الفاصلة قارة متمكنة في موضعها. (٢٢) الإبداع الذي نحن بصدد الاستشهاد له. وفيها غير ذلك، وقد أفردت هذه الآية الشريفة بتآليف عديدة؛ لما اشتملت عليه من البلاغة، حتى عدَّ بعضهم فيها مائة وخمسين نوعًا، وقد أجمع المعاندون على أن طوق البشر عاجز عن الإتيان بمثلها.
(٢٥) هو الحجاج بن يوسف الثقفي، كان عاملًا على العراق وخراسان لعبد الملك بن مروان، ثم الوليد من بعده، وكان شديد البطش، قاسيًا، حتى ضُرب المثل بجوره وظلمه، توفي سنة ٩٥ھ.
(٢٦) سبب ذلك أن الحجاج بلغه أن القبعثري لما ذُكر الحجاج بينه وبين أصحابه في بستان قال: اللهم سوِّد وجهه، واقطع عنقه، واسقني من دمه. فوُشي به إلى الحجاج، فلما مثل بين يديه، وسأله عن ذلك، قال: إنما أردت «العنب». فقال له الحجاج ما ذُكر.
ومثل ذلك قول الشاعر:
ولقد أتيت لصاحبي وسألته
في قرض دينار لأمر كانا
فأجابني والله داري ما حوت
عينًا فقلت له ولا إنسانا
وسئل تاجر: كم رأس مالك؟ فقال: إني أمين، وثقة الناس بي عظيمة.
وقال الشاعر:
طلبت منه درهمًا
يومًا فأظهر العجب
وقال ذا من فضة
يُصنع لا من الذهب
وسئل أحد العمال: ماذا ادخرت من المال؟ فقال: لا شيء يُعادل الصحة.
(٢٧) بيان ذلك أن أصحاب رسول الله سألوه عن الأهلة لِمَ تبدو صغيرة، ثم تزداد حتى يتكامل نورها، ثم تتضاءل حتى لا تُرى؟ «وهذه مسألة دقيقة من علم الفلك» تحتاج إلى فلسفة عالية وثقافة عامة، فصرفهم عنها ببيان أن الأهلة وسائل للتوقيت في المعاملات والعبادات؛ إشارة إلى أن الأولى بهم أن يسألوا عن هذا.
(٢٨) فقد وقع لفظ «ثقلت» في كلام المتكلم بمعنى «حملتك المئونة» فحمله المخاطب على الإكثار من المنن والأيادي، و«أبرمت» وقع في كلامه بمعنى «أمللت» فحمله المخاطب على إبرام حبل الوداد وإحكامه، وليس في «طولت» الأولى التي هي من طول الإقامة، وتطولت من التطول (وهو التفضل) شاهد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤