الفصل الثالث

علوم الفضاء واستكشافه

في العقود التالية لعام ١٩٤٥، تغيَّرت معرفة الأرض والنظام الشمسي والكون بواسطة الإنجازات المُتسارعة لرحلات الفضاء تغيُّرًا جذريًّا، الأمر الذي أثَّر تأثيرًا ملحوظًا على فَهْم أصلِنا ومكاننا في الكون. فما بدأ كفحصٍ مبدئي لطبقات الغلاف الجوي العُليا والفضاء القريب، بغرض مساعدة العمليات العسكرية في الحرب الباردة في الأساس، أدَّى بسرعةٍ إلى الاندفاع نحو استكشاف القمر والكواكب نتيجةً لسباق الفضاء، وأيضًا إلى إنشاء تليسكوبات فضائية قادرة على المراقبة بأطوالٍ موجية محجوبة بفعل قوة حماية غلافنا الجوي.

استفادت علوم الفضاء أيَّما استفادة من ثورة مَركبات الفضاء الروبوتية غير المُنتظَرة. فبالنسبة إلى دُعاة رحلات الفضاء الأوائل، كان البشر جوهريِّين للإبحار بمَركبات الفضاء، وتوجيه المعدَّات، وأخْذ الملاحظات. وعلى أية حال، كان يُفترَض أنَّ إرسال البشر إلى الفضاء هدف أساسي في حدِّ ذاته. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، جعل تصغير الإلكترونيات والمعدَّات القادرة على تحمُّل الاهتزاز والصدمات ودرجات الحرارة المُتطرفة وظروف الفراغ الخاصة بالإطلاق ورحلات الفضاء، مَركباتِ الفضاءِ الموجَّهةَ عن بُعد؛ ليست مُجدِيةً فحسب، ولكنها أيضًا أرخصُ بكثيرٍ من رحلات الفضاء المأهولة، التي كانت تتطلَّب تقنياتٍ متطورةً للغاية لحماية حياة رُوَّاد الفضاء والحفاظ عليها. مع ذلك، في بعض الأحيان كان رُوَّاد الفضاء ينفذون فعليًّا مهامَّ علميةً في الفضاء، سواءٌ لتلبية متطلَّباتٍ سياسية، مثل سباق القمر، أو لأنَّ دراسة تكيُّف جسم الإنسان مع رحلات الفضاء كان هو موضوعَ العِلم في حدِّ ذاته.1

بينما كانت الحرب الباردة هي الدافعَ الرئيسي لعلوم الفضاء واستكشافه قبل ١٩٨٩، ظلَّت هذه الأنشطة في عنفوانها بعد ذلك، باستثناء ما حدَث في روسيا بعد حلِّ الاتحاد السوفييتي. أصبحت علوم الفضاء في الولايات المتحدة مشروعًا قائمًا بذاته؛ إذ أُنشِئت مؤسَّسات وصناعات وإمكانيات رآها السياسيُّون ذاتَ قيمةٍ مُعتبَرة بالنسبة إلى مكانة الولايات المتحدة وإمكانياتها الدفاعية واقتصادها القومي. وبالمِثل شرَعَت حكومات أوروبا الغربية وآسيا في توسيع برامج علوم الفضاء الخاصة بها في الستينيَّات من القرن العشرين، لنفس الدوافع تقريبًا، الأمر الذي مكَّنها في النهاية من مَلْء الفراغ الذي خلَّفه التراجُع الهائل للإمكانيات الروسية.

التوغُّل في الفضاء

في حين وضع روبرت جودارد وفريق بيناموندا خططًا لإطلاق معدَّاتٍ في الطبقات العُليا من الغلاف الجوي، عُهِد إلى معامل الحكومة والجامعة الأمريكية بمهمَّة بدءِ التجارِب في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرةً. وكانت الموارد في البداية ضعيفةً نظرًا إلى أن الدولة كانت تُحاول إلغاء حشْد مواردها. وبدأت سلسلةٌ من التجارِب الإضافية في وايت ساندس، ونيومكسيكو، غالبًا باستخدام صواريخ «في-٢» التي استُولِيَ عليها وأعدَّها أفراد الجيش وجنرال إلكتريك، بمساعدة فريق فون براون الألماني. لم يكن ثمَّة تمويل يكفي لإنشاء نظُم استعادة مظلَّات، كما خطَّط الألمان؛ لذلك اجتمع العلماء من معمل أبحاث البحرية الأمريكية، ومختبر الفيزياء التطبيقية التابع لجامعة جونز هوبكنز (الذي يُعرَف اختصارًا ﺑ APL)، وغيرهم، معًا لصُنع معدَّات تستطيع تحمُّل صدمة السقوط في الصحراء أو تُرسل بعض البيانات اللاسلكية عن موقعها. وكانت حالات الفشَل كثيرةً للغاية لدرجة أنَّ معظم العلماء الذين كانوا يهتمُّون في الأساس بإجابة أسئلةٍ حول طبقات الغلاف الجوي العُليا أو الفضاء أو الشمس أحجموا عن العمل، مُفسِحين الطريق للتجريبيِّين في مجال العلوم والهندسة الذين فُتِنُوا بإنشاء جهازٍ يعمل على صاروخ.2

يَسَّرَت القوات المسلحة الأمريكية، ثم بعدَها بفترةٍ وجيزة نظيرتها في الاتحاد السوفييتي، وبريطانيا، وكندا، وغيرها من الدول؛ تجارِبَ الصواريخ لأنهم أرادوا فَهم البيئة التي تعمل بها الطائرات العالية السرعة والصواريخ الموجَّهة، ولأنَّ ذلك سيُلقي الضوء على كيفية تفاعُل الأيونوسفير — طبقات الغلاف الجوي العُليا المُحمَّلة بالجزيئات المشحونة — مع النشاط الشمسي. يعكس الأيونوسفير موجات الراديو، التي أصبحت مهمَّةً للتواصُل والدفاع. ركَّز سباق التسلُّح أثناء الحرب الباردة على الاهتمام بالمناطق القطبية، لا سيما وأنَّ علم الجغرافيا قرَّر أنَّ الحرب النووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ستُشَنُّ جزئيًّا على القطب الشمالي. وحتى قبل أن يَنفَد مخزون الأمريكان من صواريخ «في-٢» في بداية الخمسينيَّات من القرن العشرين، شرَع معمل أبحاث البحرية ومُختبر الفيزياء التطبيقية وغيرهما من المؤسَّسات في العمل على تطوير صواريخ تجارب أرخص مثل «فايكينج» و«إيروبي». مع احتدام الحرب الباردة، امتدَّت تجربة الصواريخ إلى السفن في البحر والمناطق القطبية، وخصوصًا أثناء السنة الجيوفيزيائية الدولية في ١٩٥٧ / ١٩٥٨، ممَّا أدَّى بدَوره إلى أقمار صناعية تستطيع وضْع معدَّات علمية في الفضاء لفتراتٍ طويلة، وليس فقط لدقائق معدودة.

من بين علماء صواريخ «في-٢» الأوائل الفيزيائي جيمس فان آلان، الذي كان يعمل وقتَها في مُختبر الفيزياء التطبيقية، ولاحقًا في جامعة آيوا. تَشي سيرتُه المهنية بعد الحرب بأصول علوم الفضاء ونشوئها. واصل اهتمامَه برفع المعدَّات لرصد «الأشعة الكونية» — أنوية ذرية عالية السرعة منشؤها الفضاء وقد اكتُشِفت لأول مرة في ١٩١١ — من «في-٢»، إلى صواريخ التجارب الصغيرة التي موَّلها الجيش، إلى الأقمار الصناعية الأولى «إكسبلورر» و«فانجارد». وساعد في إنشاء صاروخ التجارب «إيروبي»، الذي طُوِّر عن صاروخ التجارب «دابليو إيه سي كوربورال» الذي أنشأه مُختبَر الدفع النفَّاث وأُطلِق لأول مرةٍ في أواخر ١٩٤٥. وفي حفل عشاءٍ أُقيمَ في منزل فان آلان في سيلفر سبرينج بماريلاند عام ١٩٥٠، أُطلِقَت شرارة إنشاء مشروع السنة الجيوفيزيائية الدولية الذي يتزامَن مع أعلى نشاطٍ شمسي يَحدُث كلَّ أحد عشرَ عامًا. وقد اكتشف فان آلن من خلال تجارب الأشعة الكونية الخاصة به على متن القمر الصناعي «إكسبلورر ١» و«إكسبلورر ٣» في ١٩٥٨ بروتونات وإلكترونات من الشمس محبوسة بسبب الحقل المغناطيسي للأرض. وكوَّنت هذه منطقتَين كثيفتَي الإشعاع أُطلِق عليهما بعدئذٍ «حزاما فان آلان». واستمرَّ في العمل ليُصبح باحثًا أساسيًّا في تجارب الجسيمات والحقول على متن العديد من مركبات الفضاء المُرسَلة إلى مدار الأرض، والفضاء بين الكواكب، والكواكب.3

لم يكن فان آلان فذًّا، على الرغم من أنَّ مهنته كانت مهمَّة على نحوٍ خاص. بدأ الفيزيائيون والكيميائيون والمهندسون، بتمويلٍ من القوات المسلَّحة لبلدان عديدة قبل ١٩٥٨، في بناء بنية تحتية مؤسَّسية سواءٌ قومية أو دولية، لإجراء التجارِب العلمية في الفضاء أو عنه. في السنوات الأولى لسباق الفضاء، كان الأيونوسفير والشفَق القطبي (أضواء شمالية وجنوبية)، والبيئة القريبة من الأرض هي الموضوعات الأهم للدراسة، بهدف فَهم تفاعُل الجزيئات الشمسية والإشعاع مع الطبقات العُليا لغلافنا الجوي وغلافنا المغناطيسي (المنطقة من الفضاء التي يؤثِّر فيها الحقل المغناطيسي للأرض). وموَّلت وكالة ناسا وأكاديمية العلوم السوفييتية مؤسَّساتٍ جديدةً وتجارِبَ جديدة، وكانت أيضًا نقطة البدء في برنامج ناسا للتعاون الدولي مع بريطانيا وكندا وأوروبا الغربية والهند وغيرها من الدول. ومن هذه الجهود برَز علم الفيزياء الفضائي، الذي سُمِّيَ مؤخَّرًا الفيزياء الشمسية، والذي يدرس التأثير المُسيطر للشمس على البيئة بين الكواكب والفضاء القريب من الأرض.

السباق إلى القمر والكواكب

كما ذكرتُ في الفصل الثاني، كان أول قمرَين من أقمار «سبوتنيك» الصناعية ثمرةً لسباق القمر ونجَم عنهما تفوُّق السوفييت ثلاثَ مراتٍ على الأمريكان في ١٩٥٩: الحَوم بالقُرب من القمر، والهبوط عليه، ثم تصوير الجانب البعيد منه. وفيما يتعلَّق بالعِلم والاستكشاف، كانت الثالثة هي الأهم، حيث إنَّ الصور التليفزيونية المنخفِضة الدقَّة التي أنتجها «لونا ٣» لم تُظهِر تقريبًا أيَّ سهول لافا مُظلمة ومستوية مثل تلك التي تُكوِّن مُعظم الجانب المواجِه للأرض. فشلت برامج «بيونير» الأمريكية المنافسة كبعثاتٍ للقمر، ولكن ثلاث مَركبات فضاء مُبكِّرة أرسلَت بياناتٍ فيزيائية فضائية على مسافاتٍ قياسية تصِل إلى عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من الأميال.

انخرطت القوَّتان العُظمَيان على الفور في سباق مكانةٍ للوصول إلى أقرب الكواكب، الزهرة والمريخ. وهنا انعكس نمَط النجاح؛ فكلُّ مَركبات الفضاء السوفييتية، التي بلَغ عددُها تسع عشرة مركبة، التي أُطلِقت قبل ١٩٦٦ سقطت ضحيةً لأعطالٍ أو مشاكلَ في المُعززات الصاروخية أثناء رحلاتها التي تستغرِق شهورًا للوصول إلى أهدافها. أما مُختبر الدفع النفَّاث التابع لوكالة ناسا، الذي حمَل على عاتقه دور المركز الرئيسي الأمريكي لرحلات القمر والكواكب، فقد نجح في محاولتَين من أربع محاولات؛ إذ حلَّق بالقُرب من الزهرة في ديسمبر ١٩٦٢، والمريخ في يوليو ١٩٦٥. وأكَّدت تجرِبة «مارينر ٢» الوحيدة أنَّ سطح كوكب الزهرة المُغلَّف بالسُّحب كان ساخنًا لدرجةٍ تُذيب الرصاص، ومن ثم فهو غير مأهول. وأعربَت الصُّوَر الإحدى والعشرون التي التقطَها «مارينر ٤» عن أنَّ كوكب المريخ كان أقلَّ غرابة، ولكنه لا يزال يبدو مليئًا بفُوَّهات البراكين، مِثله في ذلك مِثل القمر، ومن الصَّعب العَيش فيه. كانت كِلتا البعثتَين ضربتَين قاسيتَين مُبكرتَين للأمل في اكتشاف حياة خارج نطاق كوكب الأرض، على الأقل بأشكالٍ أبسط. لقد كان أكثر ما يُثير المواطنين العاديين في دعم استكشاف الكواكب، بصرْف النظر عن مكانة دولتهم في سباق القوى العُظمى، هو إمكانية وجود حياةٍ على أحدِها.4
في ظلِّ تسارُع سباق القمر المأهول، استُثمِرَت كلتا القوتَين في بعثاتٍ لتحديد خصائص سطح القمر واختيار مواقع الهبوط المُمكنة. وأصبحت الأولوية لاستكشاف إمكانية الهبوط، على حساب العِلم، خصوصًا في الولايات المتحدة، حيث أحبطت سياسة ناسا الكثير من العلماء. وأجرت البعثات المُبكِّرة لمَركبة الفضاء «رينجر» التابعة لمُختبر الدفع النفَّاث المزيد من التجارِب، بما فيها كُرة مُغلَّفة بخشب البالسا «للهبوط القاسي» لمِقياس زلازل على سطح القمر. ولكنَّ فشَلَ خمسِ بعثاتٍ متتالية أدَّى إلى تحقيق الكونجرس مع مختبر الدفع النفَّاث وإلى اتخاذ قرارٍ بالتركيز على نقْل صورٍ للسطح في طريق التصادم. ثم فشلت مركبة الفضاء المُبسَّطة مرةً أخرى. وأخيرًا، في يوليو ١٩٦٤، حَظِيَت الولايات المتَّحدة بأول نجاحٍ لها في مهمَّة قمرية على متن «رينجر ٧»، وتلَتْ ذلك مهمَّتان أُخرَيان على متن مَركبتَي «رينجر» أيضًا في بداية ١٩٦٥. كذلك أسقطت ناسا مُعظم تجاربها من مركبة الهبوط القمري «سيرفيور»، التي نجحت أخيرًا، بعد تأخيرٍ طويل، في ملامسة القمر لأول مرةٍ في يونيو ١٩٦٦. ولكن تفوَّقت عليها مركبة الفضاء السوفييتية «لونا ٩»، التي نجحت في الهبوط في فبراير. وأوضحت كلتا البعثتَين أنَّ سهول اللافا على الأقل قادرة على تحمُّل ثِقَل مركبة فضاء ضخمة، ودحَضَتا نظرية أن يكون السطح مدفونًا تحت قدمٍ واحدٍ من المسحوق الناعم.5

في العام نفسه، كانت المَركبة السوفييتية «لونا ١٠» أول مركبةٍ تدور في مدار حول القمر، وسرعان ما تبِعَتْها مركبة «لونار أوربيتر» التابعة لوكالة ناسا، التي بدأت برنامج رسْم خرائط ناجحًا جدًّا مجهَّزًا بكاميرا مأخوذة من برنامج قمر صناعي تَجسُّسي سري. بعد أن صَوَّرت أول ثلاث مركبات في سلسلة «لونار أوربيتر» مواقع هبوط المركبة «أبولُّو» بدقَّة عالية، وُضِعت المَركبتان «لونار أوربيتر٤» و«لونار أوربيتر ٥» في مداراتٍ قطبية أعلى، الأمر الذي جعلهما قادِرتَيْن على إنجاز خريطةٍ مصوَّرة شاملة ذات قيمةٍ كبيرة في فَهم تاريخ القمر. خلاصة القول إنه على الرغم من أنَّ الاتحاد السوفييتي قد حاز قصَب السبق مرات، فإنَّ الولايات المتحدة جمعَتْ بياناتٍ أكثر بكثيرٍ ذات قيمةٍ عالية سواءٌ للاستكشاف المأهول أو للعِلم.

كان أكثر ما يُثير المواطنين العاديين في دعم استكشاف الكواكب، بصرْف النظر عن مكانة دولتهم في سباق القوى العظمى، هو إمكانية وجود حياة على أحدِها.

في حين تمَّ إقناع الجماهير الأمريكية ببرنامج «أبولُّو» باعتباره برنامجًا علميًّا من ناحية، ووسيلةً لكسْب سباق المكانة من ناحيةٍ أخرى، كان من الضروري تهدئة المُجتمَع العلمي لأنَّ من الواضح أنَّ العِلم لم يكن هو الهدفَ المُبتَغى الأول. في ١٩٥٨، شكَّلت الأكاديمية الوطنية للعلوم مجلس علوم الفضاء، مُبتكرةً أثناء ذلك اسمَ هذا العِلم الجديد. بعد ثلاث سنوات، كان على العالِم الأمريكي الرائد لويد بيركنر أن يجتهد لإقناع أعضاء هذا المجلس بدعم قرار الرئيس كينيدي بإنفاق مليارات على برنامج «أبولُّو»، على أمل أن يجري تمويل برامج العلوم الروبوتية أيضًا. وفي ظلِّ قيادة المهندسين للبرنامج المأهول واحتلال الطيَّارين لجميع المقاعد حتى آخِر عملية هبوط على سطح القمر، عندما اعتلى الجيولوجي هاريسون شميت متن المركبة «أبولُّو ١٧»، لم يكن واضحًا على الإطلاق أنَّ العِلم سينال اهتمامًا كبيرًا.6
لكنَّ الحقيقة المفاجئة هي أنَّ برنامج «أبولُّو» كان ذا إسهامٍ واضح كبير في علوم النظام الشمسي والقمر، نظرًا إلى أنَّ كل عملية هبوط ناجحة كانت تُوزِّع على سطح القمر مقاييسَ زلازلَ وغيرها من المعدَّات وتجلُب معها عيِّناتٍ شديدةَ التنوع من الصخور والتربة — بلغ وزنها أكثر من ٨٠٠ رِطْل بنهاية البرنامج. وكانت آخِر ثلاث بعثات تحمل على متنها طوَّافات قمرية، مما زاد من نطاق حركة رواد الفضاء، وأتاح لهم الهبوط في مواقع أكثر تحدِّيًا وإثارة. التقط جميع الطيَّارين في المَركبات المدارية الأم صورًا، ولكن آخِر ثلاث رحلاتٍ كان على متنها حُجرة علمية مخصَّصة لعمَل خرائط مَدارية، وتحتوي على أجهزة رادار ومعدَّات لاكتشاف توزيع العناصر على سطح القمر. وعندما تمَّت معالجة جميع العيِّنات والبيانات، أتاحت تحديد التواريخ الدقيقة لتكوُّن القمر وملامحه الأساسية. وأوضحتْ أنه كان يُوجَد في بداية النظام الشمسي موجات من تصادُمات الكويكبات، مُلقيةً الضوء على تكوُّن ونشوء النظام الأرضي–القمري وغيرها من الأجسام الكوكبية.7

في حين تمَّ إقناع الجماهير الأمريكية ببرنامج «أبولُّو» باعتباره برنامجًا علميًّا من ناحية، ووسيلةً لكسْب سباق المكانة من ناحيةٍ أخرى، كان من الضروري تهدئة المجتمع العِلمي لأنَّ من الواضح أنَّ العِلم لم يكن هو الهدفَ المُبتَغى الأول.

أثمَرَ التشديد على التقاط الصور من على متن مركبات الفضاء الأمريكية وتحليل العيِّنات التي أعادتها مركبات «أبولُّو» عن إعادة تشكيل علوم الكواكب في الولايات المتَّحِدة عن طريق توسيع دور الجيولوجيِّين توسيعًا هائلًا. دعم تمويل ناسا ازدهار علوم الفضاء بوجهٍ عام، ممَّا أدَّى إلى توسُّع عدَّة مؤسَّسات جامعية؛ ومنها: قِسم جيولوجيا الأجرام السماوية التابع لوكالة الماسِح الجيولوجي الأمريكي في فلاجستاف بأريزونا؛ ومرصد سميثونيان للفيزياء الفلكية في كامبريدج بماساتشوستس؛ ومُختبر الدفع النفَّاث في باسادينا بكاليفورنيا؛ ومركز جودارد لرحلات الفضاء وهو أحد مراكز البحث العلمي التابعة لناسا ويقَع في ماريلاند، ويُركِّز على الأقمار الصناعية العلمية التي تدور في مدارٍ حول الأرض.

في الاتحاد السوفييتي، أدَّى حدوث تغييرَين مؤسَّسِيَّين مُهمَّين في ١٩٦٥ إلى دعم مجتمع علوم الفضاء وبرنامج القمر والكواكب الروبوتي. أسَّست أكاديمية العلوم السوفييتية معهد أبحاث الفضاء، بتمويلٍ من الوزارة التي كانت تُسيطر على مكاتب ومصانع تصميم الصواريخ. وكان يستنِد إلى عمل معهد فيرنادسكي، الذي كان يُركِّز بشكلٍ جوهري على فيزياء الأرض والجيولوجيا. في ذلك العام نفسِه، نقل سيرجي كوروليف البرنامج الروبوتي إلى مكتب تصميمات لافوتشكن، الذي كان يرأسه جورجي باباكين؛ لأنَّ مؤسَّسته كانت مُنشغِلة للغاية برحلات الفضاء المأهولة ومشروعات الصواريخ الباليستية. كان فريق باباكين قادرًا على التركيز على الموثوقية، على الرغم من أنهم كانوا يُعانون من مشاكلَ في مركبات الإطلاق التي تُوفِّرها شركاتٌ أخرى.8
أعقب الإنجازاتِ التي حققَتْها مركباتُ «لونا» السوفييتية في ١٩٦٦ سلسلةٌ من النجاحات في كوكب الزهرة. اخترقت «فينيرا ٤» بنجاح غلافه الجوي في ١٩٦٧. وأصبحت «فينيرا ٧» في ١٩٧٠ أول مركبة فضاء تهبِط على سطح كوكبٍ آخَر وتنقل بياناتٍ منه، بعد أن تمَّت تقوِيَتها بحيث تتحمَّل الضغوط الطاحنة للضغط الجوي ودرجات الحرارة الشديدة الارتفاع لسطح كوكب الزهرة. فيما بعد أعادت مركبة الفضاء صورًا، على الرغم من عدَم استمرار أي مَركبات هبوطٍ أكثر من ساعةٍ أو اثنتَين بسبب الحرارة الشديدة المُحيطة بها من الخارج. وحالف لافوتشكن النجاحَ في السبعينيَّات من القرن العشرين في البعثات القمرية؛ إذ رجع بثلاث عيناتٍ صغيرة من تُربة القمر وتجوَّل بطوافَّتَين على سطحه. من ناحية أخرى، وجد السوفييت كوكب المريخ مُحبِطًا؛ إذ فشلت بعثاتٌ عديدة للصعود إليه، وفي حين كانت «مَارس ٣» أول مركبة فضاء تهبِط على سطحه، في ١٩٧١، فقد توقَّفت عن العمل تمامًا بعد هبوطها بعشرين ثانية. ونظرًا لأنَّ الولايات المتحدة كانت قد نجحت في الوصول إلى المرِّيخ بمركبة فضاء أكثر تعقيدًا، قرَّرت قيادة برنامج الفضاء السوفييتي أن تُركِّز على المنطقة الوحيدة التي حالَفَها النجاح فيها، وهي كوكب الزهرة.9
fig5
شكل ٣-١: كارل ساجان يقِف مع نموذجٍ لمركبات الهبوط «فايكينج» التي قامت عام ١٩٧٦ بأول عملية هبوطٍ ناجحة على سطح المريخ، وأظهرت أنه لا تُوجَد أشكال حياة يمكن اكتشافها بسهولةٍ هناك. كان ساجان أحد علماء البعثة الرئيسيين، ولكنه كان أيضًا أهم مُروِّج لرحلات الفضاء وعِلم الفلك والحياة خارج كوكب الأرض بعد عام ١٩٧٠ (المصدر: ناسا/مختبر الدفع النفَّاث).
من الجانب الأمريكي، عزَّز سباق الفضاء ما سُمِّي وقتها «العصر الذهبي لاستكشاف الكواكب» الذي استمرَّ من السبعينيَّات وحتى الثمانينيَّات من القرن العشرين، كانعكاسٍ للاستثمارات التي بُذلَت في الستينيَّات، حتى بعد خفض ميزانيَّات ناسا. أسفر القمر الصناعي «مارينر ٩» التابع لمُختبر الدفع النفَّاث، الذي أصبح في عام ١٩٧١ أول قمر صناعي يتَّخِذ مدارًا حول المريخ ويرسُم خريطةً عامَّة له، عن منظرٍ غاية في الإثارة والأهمية علميًّا، إذ ظهرت براكينُ عملاقة ووِدْيان وأدلَّة على ماضٍ سحيق حَفرت فيه الفيضانات الغزيرة قنواتٍ عديدة. حقَّق برنامج «فايكينج» نجاحًا فنيًّا باهرًا في صيف ١٩٧٦ بمركبتَين مداريتَين تحمِلان مركبتَيْ هبوط صُمِّمت جميعها في مركز لانجلي التابع لوكالة ناسا؛ إذ أدَّت المركبات الأربع مهامَّها بنجاح. ركَّزت مركبتَا الهبوط على اكتشاف حياة، ولكن رغم بعض الجدَل المُثار، اتَّفق المُجتمع العلمي بأسرِه على عدَم اكتشاف أي حياةٍ على سطح المريخ. وما يدعو إلى السخرية أنَّ هذه النتيجة كانت كفيلةً بأن تَئِد اهتمام العامة والعلماء على حدٍّ سواء باستكشاف المريخ لجيلٍ كامل.10

إبَّان تلك الفترة، وصلَت مركبة الفضاء «مارينر ١٠» إلى عطارد في ١٩٧٤ من خلال رحلةٍ قامت بها للتحليق بالقُرب من كوكب الزهرة — فكانت أول مركبة فضاء تُحلِّق في مسارات «الجاذبية المساعدة». ونجحت «بيونير ١٠» و«بيونير ١١» في الوصول إلى المُشتَري، بينما نجحت «بيونير ١١» في الوصول إلى زُحَل بمساعدة «المُشتَري». وكان الإنجازُ الأعظم هو ذلك الإنجازَ الذي حقَّقه برنامج «فويدجر». وصلَت مركبتا فضاء أُطلِقَتا في ١٩٧٧ إلى هذَين الكوكبَين بين عامَي ١٩٧٩ و١٩٨١؛ من ثم حلَّقت «فويدجر ٢» بالقُرب من أورانوس في ١٩٨٦ ونبتون في ١٩٨٩. كانت كِلتاهما، مِثل مركبتا «بيونير»، تسيران بسرعةٍ كبيرة في مساراتٍ للخروج من النظام الشمسي. وفي ٢٠١٢، اكتشفت «فويدجر ١» نهايةَ نطاق تأثير الرياح الشمسية وقاسَت الجُسيمات والحقول المغناطيسية بين النجوم. كلُّ هذه المهام كانت إنجازاتٌ مذهلة للولايات المتحدة، التي وصلت إلى كلِّ الكواكب الكبرى، فيما عدا بلوتو (الذي اعتُبِر فيما بعد كوكبًا قزَمًا) بحلول نهاية الحرب الباردة. وخلَّفت كل هذه الرحلات ثروةً ضخمة من المعلومات حول الكواكب والأقمار الجليدية الخاصَّة بالكواكب الغازية العملاقة، الأمر الذي وسَّع نطاق معرفة أصل النظام الشمسي ونشوئه.

علم الفلك الفضائي

إنَّ فكرة وضْع تليسكوب في الفضاء فكرةٌ قديمة، حيث أصبح واضحًا في القرن التاسع عشر أنَّ الغلاف الجوي المُضطرِب للأرض يَحدُّ من الرؤية. وقد تخيَّل العديد من روَّاد الفضاء الأوائل مثل هذا التليسكوب دائمًا كمرصدٍ يُديره الإنسان في الفضاء. ونظرًا إلى حالة التكنولوجيا قبل عام ١٩٥٠، لم يكن بوسعهم تصوُّر تليسكوبٍ يعمل عن بُعد، كما أنهم لم يتوقَّعوا التأثيرات الثورية على المجال التي ستتأتى من فتح الطَّيف الكهرومغناطيسي بأكمله، من أشعَّة جاما العالية الطاقة إلى تردُّدات الراديو الطويل المَوجة.

بدأ علم الفلك الفضائي، على غرار فيزياء الفضاء، بالرحلات التي أُرسِلَت فيها صواريخ «في-٢» بعد الحرب. والتقطت إحدى تجارب معمل أبحاث البحرية الأمريكية في أكتوبر ١٩٤٦ الصور الأولى لطيف الأشعة فوق البنفسجية للشمس بأطوالٍ موجية يحجبها الغلاف الجوي. في خمسينيَّات القرن العشرين، وبصواريخِ تجارِبَ أصغرَ وأرخص وحمولاتٍ قابلة للاسترجاع، قام العلماء باستكشافاتٍ مبدئية للشمس والسماء بالأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية. لكن الأدوات كانت صغيرة، وكانت دقَّة الصورة ضعيفة، ودقَّة الإشارة مُنخفضة، لذلك لم يكن بإمكانهم سوى جمع بيانات مسح أوَّلية حَول ما ينبعِث بتلك الأطوال الموجية.11

كما هو الحال في قطاعاتٍ أخرى، كان سباق الفضاء سببًا جوهريًّا في التحوُّل؛ لأنه حرَّر فجأة أموال الدولة لبناء مركبة فضاء فلكية لم يكن ليتمَّ تمويلها لولا ذلك. كانت الولايات المتحدة في الصدارة، بينما استثمر السوفييت أموالًا أقل، ربما بسبب نقْص الموارد أو الأولوية السياسية. وبحلول السبعينيَّات من القرن العشرين، أصبحت مؤسَّسات علوم الفضاء الأوروبية واليابانية عُنصرَين فاعلَين مُهمَّين أيضًا.

بعد وقتٍ قصيرٍ من تشكيلها، وضعت ناسا خططًا لسلسلةٍ من مراصد الفضاء: الجيوفيزيائية والشمسية والفلكية. تضمَّنت المَركبة الفضائية الشمسية قسمًا يتَّجِه باستمرارٍ نحو الشمس، مما يوفر بيانات أكثر دقَّةً حول غلافها الخارجي الحار جدًّا والعواصف والانفجارات التي حدثت على سطحها الظاهري أو فوقه. كانت المراصد الفلكية المدارية (OAO) هي الأكبر والأصعب. وقد كافحت الجامعات والشركات من أجل الوفاء بالمتطلَّبات المُلحَّة للمعدَّات في نطاقات أطوالٍ موجية وأنظمة تحكُّم جديدة يمكنها توجيه التليسكوب بدقَّةٍ إلى موقعٍ سمائي واحد لفتراتٍ أطول. ولم يكن من الممكن تحقيق أيٍّ من المهمَّتَين بدون الاستثمار الضخم للحرْب الباردة في التقنيات العسكرية الموازية.12
فشل المرصد الفلكي المداري الأول بشكلٍ كارثي بعد فترةٍ وجيزة من الوصول إلى المدار في عام ١٩٦٦. وحمل المرصد الفلكي المداري الثاني في عام ١٩٦٨ تجربتَين تليسكوبيَّتَين، واحدة من جامعة ميشيجان والأخرى من مرصد سميثسونيان للفيزياء الفلكية في نفس المَوقع مع جامعة هارفرد في كامبريدج، ماساتشوستس، منذ عام ١٩٥٥. أخذ عالِم الفلك من جامعة هارفرد فريد ويبل برنامج سميثسونيان البائد تقريبًا ووسَّعه إلى أكبر مؤسَّسة فلكيةٍ في العالم في أقلَّ من عقدَين من خلال الاضطلاع بكل المشروعات التي لها صِلة بالفضاء والتي يُمكنه الحصول عليها. وعلى النقيض من ذلك، كان مديرو المراصد الأرضية الأمريكية الكبيرة لا يزالون يسيطرون على المجال الفلكي ويُولون اهتمامًا ضئيلًا بعِلم الفلك الفضائي أو بالدعم والرعاية الحكومية، وهو ما لم يكن متاحًا لهم تاريخيًّا.13

لم يقبَل علماء الفلك إلا مُتأخرًا ظهور عِلم الفلك الراديوي بعد الحرب العالمية الثانية، الذي عزَّزه توفُّر الخبرة وتكنولوجيا الرادار. والآن أصبح هناك توسُّع في نطاق الطول المَوجي بأكمله، وهو الأمر الذي نشأ من الصعود فوق الغلاف الجوي للأرض. وبحلول السبعينيَّات من القرن الماضي، جعلت مزايا فَهم الظواهر الفلكية — لا سيما فيما يتعلَّق بالأطوال الموجية للأشعة فوق البنفسجية عالية الطاقة والأشعة السينية وأشعة جاما التي تُنتجها العمليات العنيفة في الكون — تَحوُّل المجال الفلكي أمرًا حتميًّا وصحيًّا.

نظرًا إلى أنَّ المشروعات الفضائية والمشاريع الأرضية قد أصبحت أكبر حجمًا وأكثر تكلفة، فقد أجبرت أيضًا المجال الفلكي على تغيير سلوكه السياسي لضمان الحصول على تمويل الحكومة الأمريكية. وعمِل المدافعون عن فكرة وجود تليسكوب فضائي كبير على تعبئة التحالُف بين روَّاد الفضاء من خلال الدفاع عن دقَّتِه العالية للغاية وقُدرته على الوصول إلى أعماق الكون بمجرَّد إزالة التأثيرات الضبابية للغلاف الجوي. هدَّدت الخلافات في المجتمع العِلمي حول قيمة هذا المشروع التي تصِل إلى مليار دولار بوأدِ المشروع في أوائل السبعينيَّات من القرن العشرين. بل إنَّ الكونجرس قام ذات مرة بإلغاء كل التمويل المُخصَّص لهذا المشروع. ووصلت للفلكيين رسالة مفادُها أنَّ عليهم أن يتَّحِدوا وأن يتحالَفوا مع مراكز وكالة ناسا، ومصانع الفضاء الجوي، والسياسيين الذين قد تستفيد مناطقهم، إذا أرادوا الحصول على تمويلٍ لهذا المشروع. لقد تعلَّم علماء الكواكب نفس الدرس قبل ذلك بقليل. كان كلٌّ من برنامجَي «فايكينج» و«فويدجر» نسخًا أقلَّ طموحًا من مشاريع وكالة ناسا التي ألغاها الكونجرس أو إدارة نيكسون بسبب الميزانيَّات الكبيرة جنبًا إلى جنبٍ مع المعارك الداخلية الدائرة في المجتمع العِلمي.14
تمَّت الموافقة على التليسكوب الفضائي في عام ١٩٧٧ مع مرآة رئيسية أصغر إلى حدٍّ ما وأطلق عليه اسم «تليسكوب الفضاء»، بمشاركة وكالة الفضاء الأوروبية لتوزيع التكلفة. وليس من قبيل المُصادفة، أنَّ حجم ٩٤ بوصة (٢٫٤ متر) كان متاحًا من مقاولي الأقمار الصناعية الخاصة بالتجسُّس الذين يعملون في مكتب الاستطلاع الوطني — واختارت وكالة ناسا المقاولَين نفسهما، لوكهيد وبيركين إيلمر، لبناء التليسكوب. ويمكن أيضًا استيعاب هذا الحجم بسهولةٍ أكبر في غرفة الحمولة الخاصة بمكُّوك الفضاء الذي كانت ناسا بصدَد تطويره في ذلك الوقت. كانت الوكالة ملتزمةً بمحاولة جعل المكوك هو نظام الإطلاق الوحيد في البلاد، ولكنها كانت تطمَح أيضًا إلى تحويل روَّاد الفضاء إلى فنيِّين يُمكنهم إصلاح الأقمار الصناعية وتحديثها في مدار الأرض المُنخفض. وقد كانت تلك الاستراتيجية باهظة الثمن، لكنها في النهاية أنقذت تليسكوب هابل الفضائي (HST)، كما أُطلِق عليه لاحقًا، ومنحتْه حياةً أطول وذات مردودٍ علمي أكبر.
كما اتَّخذ عِلم الفلك الشمسي مسارًا شكَّله برنامج الفضاء المأهول؛ إذ ألغت وكالة ناسا مركبةً فضائية شمسية أكثر تقدمًا في منتصف الستينيَّات لصالح مرصد «أبولُّو تليسكوب ماونت» الشمسي، الذي سيصبح جزءًا من محطة سكايلاب الفضائية التي تمَّ إطلاقها في عام ١٩٧٣. لقد تأخَّر إنشاؤه لسنواتٍ وتكلَّف مبالغ أعلى بكثيرٍ من النسخة الآلية، لكن رُوَّاد الفضاء في أطقم المحطة الثلاثة جمَعوا صورًا عالية الدقَّة رائدة للشمس عبر أطوالٍ موجية متنوِّعة. لقد وضع هذا المرصد مخططًا للعلوم الشمسية لبقية السبعينيَّات من خلال تقديم رُؤًى جديدة حول كيفية عمل المناطق الخارجية من الغلاف الجوي للشمس. كانت المركبة الفضائية الكبيرة التالية هي «سولار ماكسيمم ميشن» (SMM)، التي جرى إطلاقها في عام ١٩٧٩ لتُواكِب أحدث ذُروةٍ في النشاط الشمسي، وهو هدَف غاب عن الدورة السابقة بسبب جميع التأخيرات التي مُنِيَت بها محطة «سكايلاب». تمَّ تصميم «سولار ماكسيمم ميشن» (SMM) بشكلٍ نمَطي بحيث يمكن لروَّاد الفضاء إصلاحها. وجاء ذلك مفيدًا عندما حدَث فيها عُطل بعد أقلَّ من عام. في عام ١٩٨٤، قام رُوَّاد فضاء المكوك بإصلاحها، واكتسبوا خبرةً من شأنها أن تكون ذاتَ قيمةٍ بالنسبة إلى هابل، ولكن في هذه الحالة كان من الأرخص إطلاقُ المزيد من المَركبات الفضائية مقارنةً بإنفاق مئات الملايين من الدولارات المطلوبة لإطلاق مكُّوكٍ لإصلاح قمَر صناعي واحد.15
fig6
شكل ٣-٢: أُطلِقَ تليسكوب هابل الفضائي من مكوك الفضاء «ديسكفري» في ٢٥ أبريل ١٩٩٠. وتبيَّن أن تليسكوب هابل الفضائي لديه عيوب خطيرة، ولكن إصلاحات روَّاد الفضاء وتحديثاتهم سرعان ما حوَّلتْه إلى أكثر المركبات الفضائية العلمية إنتاجيةً وأهمية على الإطلاق في مدار الأرض. وقد قدَّم إسهاماتٍ جوهريةً في فَهم أصل الكون ونشأته (المصدر: وكالة ناسا).
شهِدت الثمانينيَّات أيضًا توسُّعًا كبيرًا في علم الفلك في نطاق الأشعة تحت الحمراء، تحت الأطوال الموجية التي تراها العَين المجرَّدة، التي تنبعِث عادةً من الأجسام الأكثر برودةً في النظام الشمسي والكون، مثل النجوم الحمراء، وسُحب الغبار، والكويكبات، والمُذنَّبات. وقد شجَّعت الحرب الباردة تطوير كاشفات الأشعة تحت الحمراء للصواريخ والأقمار الصناعية، بما في ذلك نُسَخ من جهاز اقتران الشحنات (CCD) على رقاقةٍ من السيليكون حلَّت فيما بعد محلَّ الفيلم في الكاميرات للاستخدام المَدني. لكنَّ الأمر استغرق بعض الوقت حتى يتمَّ رفع السرية عن تلك الكواشف لاستخدامها في علوم الفضاء، ولذلك لم يؤتِ علم الفلك بالأشعة تحت الحمراء ثِماره إلا في وقتٍ مُتأخِّر عن العمل العالي الطاقة. وفي عام ١٩٨٣، أطلقت وكالة ناسا القمر الصناعي الفلكي بالأشعة تحت الحمراء، بإسهاماتٍ كبيرة من هولندا وبريطانيا. وقد وفَّر هذا القمر أول مسحٍ في السماء بالكامل للأجسام المَرئية في ذلك النطاق، واكتشف العديد من الكويكبات والمُذنَّبات، والنجوم ذات الأقراص المُعتمة حولَها، والمجرَّات البعيدة التي تَحوَّل ضوءها إلى الأشعة تحت الحمراء من خلال تمدُّد الكون. أدَّى نجاح هذا القمر الصناعي إلى سعي وكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية الحثيثِ إلى بناء تليسكوبات الأشعة تحت الحمراء الجديدة التي سيتمُّ إطلاقها في التسعينيَّات من القرن العشرين وما بعدَها.16

بحلول الثمانينيَّات، ساعدت إسهامات التليسكوبات الفضائية، مدفوعةً بسباق الفضاء خلال الحرب الباردة وبدعمٍ من تطوير التكنولوجيا العسكرية، في تحويل عِلم الفلك والفيزياء الفلكية تحوُّلًا جذريًّا. كما كان للاستثمارات الضخمة في المراصد البصرية والراديوية الأرضية أهميةٌ مُماثِلة، وقد استفادت تلك التليسكوبات أيضًا من نفقات الحرب الباردة وتطوير التكنولوجيا. نتيجة لهذا الهجوم الأرضي والفضائي المُشترك، تحسَّن فَهمُنا لأصول ونشأة الشمس والنظام الشمسي والكون بشكلٍ ملحوظ، ممَّا أنتج مجموعةً جديدة كاملة من الأسئلة ليتمَّ التحقيق فيها.

بحلول الثمانينيَّات، ساعدت إسهامات التليسكوبات الفضائية، مدفوعةً بسباق الفضاء خلال الحرب الباردة وبدعمٍ من تطوير التكنولوجيا العسكرية، في تحويل عِلم الفلك والفيزياء الفلكية تحوُّلًا جذريًّا.

علوم الحياة والأرض

سيطر على علوم الحياة في الفضاء منذ البداية غرَضان لا علاقة بينهما؛ تأثير رحلات الفضاء على الكائنات الحية، والبحث عن حياة خارج كوكب الأرض. اهتمَّ برنامج الفضاء المأهول بالغرَض الأول، وكان هذا الغرَض هو الدافعَ الرئيسي في إرسال الحيوانات في رحلات الفضاء المُبكرة ليخضعوا للبحث. ومع تزايد فترات البعثات الفضائية من ساعاتٍ إلى أسابيع في الستينيَّات والسبعينيَّات من القرن العشرين، انتقل الانتباه من الأسئلة الأساسية حول ما إذا كان روَّاد الفضاء يُمكنهم تحمُّل رحلات الفضاء إلى التركيز على تأثير انعدام الجاذبية على جسم الإنسان. ومنذ وقتٍ مُبكر وتحديدًا منذ بعثات مَركبة الفضاء «جميني» في عام ١٩٦٥، أصبح من الواضِح أنَّ انعدام الوزن لفتراتٍ طويلة يتسبَّب في فقدان الجسم للكالسيوم من الهيكل العظمي، ضِمن مخاوف أخرى.

أصبح البحث طويل الأمد حول تأثيرات انعدام الجاذبية، وتأثير التمارين الرياضية وطُرق أخرى لتحسينهما، مجالَ اهتمامٍ رئيسيًّا في برامج المحطة الفضائية للقوَّتَين العُظمَيَين منذ السبعينيَّات فصاعدًا. بعد مهام محطة «سكايلاب» الفضائية الثلاث التي تصِل إلى أربعةٍ وثمانين يومًا، اقتصرت الولايات المتَّحدة على إرسال رحلاتٍ مكوكية لا تَزيد عن ثمانية عشر يومًا، على الرغم من أنه يمكن وضْع وحدة «المُختبر الفضائي» المُنشأة في أوروبا في غرفة الحمولة، ممَّا يسمح بسلسلةٍ متطوِّرة للغاية من المهام البيولوجية التجريبية التي لم تُركِّز فقط على البشَر. وعلى النقيض من ذلك، أطلق السوفييت مهامَّ مَحطتَي الفضاء «ساليوت» و«مير» المأهولتَين التي استمرَّت لعدة أشهُرٍ بحلول منتصف الثمانينيَّات، وفي التسعينيَّات من القرن العشرين، وطار روَّاد الفضاء في بعثاتٍ للفضاء استمرَّت لمدةٍ تصِل إلى عام — وهي بعثاتٌ لا مثيلَ لها حتى احتلال محطة الفضاء الدولية بعد عام ٢٠٠٠. وكانت النتيجة مجموعةً كبيرة من البيانات الطبية حول التكيُّف البشري مع انعدام الجاذبية.

سيطر على علوم الحياة في الفضاء منذ البداية غرَضان لا علاقة بينهما؛ تأثير رحلات الفضاء على الكائنات الحية، والبحث عن حياةٍ خارج كوكب الأرض.

كان البحث عن حياةٍ خارج كوكب الأرض موضوعًا له القدر نفسُه من الأهمية، ولكن وكالة ناسا ووكالات الفضاء الأخرى لم تُخصِّص له، في معظم الأحوال، سوى نفقاتٍ ضئيلة. والسبب البسيط هو أنه لا يوجَد شيء للدراسة، حيث لم تُكتشَف حياة في وقتٍ مبكر من سباق الفضاء. في الولايات المتحدة، كان الاسم الرسمي الأول لهذا النشاط هو علم البيولوجيا الخارجية، لكن العديد من علماء البيولوجيا كانوا يتهكَّمون على هذا المجال قائلين إنَّ أي شخص يدخل فيه سوف يصبح عالِمَ بيولوجيا سابقًا. لم يكن هذا مُنصفًا للتجارِب التي أُجرِيَت منذ أوائل الخمسينيات من القرن العشرين حول الكيفية التي قد تُفضِّل بها كيمياء الأرض المبكرة تكوين الحياة، ولكن في الواقع كان جزءٌ كبيرٌ من هذا المجال يعتمد على التخمين. جرى تخصيص أول نفقات كبرى لوكالة ناسا للحُزَم البيولوجية على مركبات «فايكينج» التي جرى إطلاقها في عام ١٩٧٥. وقد أسفرت هذه التجارِب المُصغَّرة الرائعة عن نتائج سلبية أو غامضة بشكلٍ مُحبِط يبدو أنها من المُحتمل أن تكون قد أُنتِجت بواسطة كيمياء السطح غير البيولوجية على كوكب المريخ. والآن بعد أن أدركْنا ما حدث، يجدُر بنا أن نقول إن البحث عن حياةٍ في كائن وحيد الخلية شبيهة بالحياة على الأرض في تربة جافَّة مغمورة بأشعة الشمس فوق البنفسجية والإشعاع الكوني، هو في أفضل الأحوال أمرٌ شديد التفاؤل، ولكنه مؤشِّر واضح على ما وصل إليه هذا المجال في السبعينيات. ثم جاء منعطَفٌ جديد في التسعينيات، حيث فتحت اكتشافات «أليف الظروف القاسية» — أشكال غريبة من حياة الأرض تعيش في بيئات تبدو غيرَ قابلة للسكن مثل المياه الشديدة السخونة والحمضية حول الفتحات البركانية تحت سطح البحر — المجال أمام إمكانات جديدة. مُستشعرةً الحاجةَ إلى تغيير اسم هذا المجال، بدأت وكالة ناسا في تسميته «البيولوجيا الفلكية».17
تطوَّرت علوم الأرض في المقام الأول من الاهتمامات العملية، مثل التنبُّؤ بالطقس وإدارة استخدام الأرض والبحر بشكلٍ أفضل. وتبِعَت سلسلة «نيمبوس» للأبحاث الجوية والمحيطية التي أطلقتها وكالة ناسا أول أقمار صناعية للطقس في الستينيَّات من القرن العشرين، وبدأت سلسلة «لاندسات» عام ١٩٧١ وأظهرت قيمة التصوير المُتعدِّد الأطياف لسطوح الأرض. وتبع ذلك المركباتُ الفضائية السوفييتية والأوروبية واليابانية. وعندما أثبتت المركبات الفضائية الآلية أنها قادرة على جمع البيانات العِلمية، فإنها عزَّزت ازدهار «عِلم أنظمة الأرض» في الثمانينيَّات، كذلك أسهم استكشاف الكواكب أيضًا. واستفادت أجهزة الاستشعار عن بُعد من تطوير التكنولوجيا في ذلك البرنامج، وساعدت بيانات الغلاف الجوي لكوكب الزُّهرة والمريخ في تحفيز ازدهار علم الكواكب المقارَن، مُلقيةً الضوء على تطور الأرض والعمليات العالمية.18

من الناحية السياسية، فإن القلق المُتزايد بشأن تأثير الملوِّثات على طبقة الأوزون، التي تحمي الأرض من أشعة الشمس فوق البنفسجية، وتأثيرات غازات الدفيئة على المناخ العالمي، أدى إلى زيادة الميزانيات. بدأت وكالة ناسا في صياغة «مهمة إلى كوكب الأرض» في عام ١٩٨٧، في البداية مع منصَّات ضخمة، ربما تكون مأهولة. ولكن بدأت تزدهر في التسعينيات وما بعدها مشاريعُ الأقمار الصناعية الأصغر والأكثر مُراعاة للميزانية، مدعومةً بمركباتٍ فضائية من دول أخرى. ومثل مجالات علوم الفضاء الكبرى الأخرى، أدى نمو البرامج والمؤسسات المتشابكة المتعددة في علوم الأرض إلى تعزيز مجتمعٍ عالمي نابض بالحياة، من خلال كلٍّ من برامج التعاون الدولي الرسمية والتبادلات غير الرسمية العابرة للحدود بين العلماء والمعاهد والشركات والوكالات.

عِلم الكواكب وعِلم الفلك في أواخر الحرب الباردة وما بعدها

على الرغم من أن رحلات «فويدجر» بالقُرب من الكواكب الخارجية أظهرت أن الاستكشاف كان مزدهرًا، فإنَّ الثمانينيَّات كانت في الواقع أوقاتًا مضطربة بالنسبة إلى برنامج ناسا الكوكبي. أعقبت الميزانيات الضعيفة في أواخر السبعينيات محاولة إدارة ريجان عام ١٩٨١ لإلغاء البرنامج بأكمله، وإبعاد مُختبر الدفع النفَّاث، وإعطاء المال لمكوك الفضاء. ساعد أعضاء الكونجرس الذين يُمثِّلون المراكز أو المقاولين المهدَّدين في درءِ تلك السيناريوهات. على أيةِ حال، أدَّت السياسة الوطنية التي تفرِض وضع جميع الحمولات على متن المكوك إلى التسبُّب في إحداث تأخيراتٍ كبيرة وزيادات في الميزانية للبعثات القليلة قَيد التطوير. وبعد تحطُّم «تشالنجر» في عام ١٩٨٦، تأخَّرت جميع عمليات الإطلاق ثلاث سنوات، ومن ثمَّ لم تُرسِل ناسا أي مركبة فضائية كوكبية جديدة نحو السماء بين عامَي ١٩٧٨ و١٩٨٩. وفي ضربة لِهَيبة الولايات المتحدة، لم تستطع الوكالة تحمُّل تكلفة اعتراض المُذنَّب هالي أثناء عودته البارزة ١٩٨٥-١٩٨٦، بينما حلَّق السوفييت بالقُرب منه بالاستعانة بنسخةٍ من مركبة «فينوس» الضخمة، كما أطلقت وكالة الفضاء الأوروبية أول مِسبارٍ لها بين الكواكب، «جوتو»، والتُقِطَت أول صورٍ مقرَّبة لنواة مذنَّب جليدية.19
تأخَّر تليسكوب هابل الفضائي، الذي كان مُتأخرًا بالفعل ومتجاوزًا للميزانية المقررة له بسبب تعقيده، أربع سنوات أخرى بسبب كارثة انفجار «تشالنجر». كان ذلك نعمةً مقنَّعة؛ لأنه كان يمكن أن يفشل تمامًا إذا لم تتم ترقية الأنظمة الرئيسية في فترة الانتظار تلك. عندما أُطلِق هابل في المدار عام ١٩٩٠، أصبح مثارًا للإحراج الوطني؛ فقد تبيَّن أنَّ المرآة الرئيسية قد جرى ضبطها على الشكل الخطأ، مما يجعل الصور ضبابيةً قليلًا. وكانت وكالة ناسا قد ألغت طريقة اختبار بصري ثانيةً في أوائل الثمانينيات لتوفير المال. كان تليسكوب هابل لا يزال أداةً علمية قابلة للاستخدام، لكنه أضرَّ بمصداقية وكالة ناسا، على الأقل حتى قام روَّاد الفضاء في المكوك بمهمة إصلاحٍ رائعة في نهاية ١٩٩٣.20

من ناحية أُخرى، كان علم الفلك أيضًا هو المُستفيدَ حين زادت الإدارات الجمهورية ميزانيةَ ناسا في أواخر الثمانينيات. نجحت الوكالة في جمع هابل وثلاث مهامَّ أخرى في برنامج وأسمَتْه برنامج «المراصد الكبرى». وهذه المراصد هي مرصد كومبتون لأشعة جاما (جرى إطلاقه عام ١٩٩١)، ومرصد تشاندرا للأشعة السينية (جرى إطلاقه عام ١٩٩٩)، وتليسكوب سبيتزر الفضائي (الذي عُرِف سابقًا باسم مِرفق التليسكوب الفضائي بالأشعة تحت الحمراء) (جرى إطلاقه عام ٢٠٠٣). كما ازدهرت مهامُّ أصغرُ من عدة دولٍ في الثمانينيات والتسعينيات. فعلى الجانب السوفييتي، أطلق السوفييت تليسكوبَين مُتوسِّطَيِ الحجم عالِيَيِ الطاقة في المدار خلال الثمانينيَّات، كما أرسلوا معدَّات تعمل بواسطة روَّاد فضاء ملحَقة بمحطة «مير» الفضائية.

لسوء الحظ، انخفضت قدرة علوم الفضاء الروسية بشدة إثر الأزمة الاقتصادية وانهيار الاتحاد السوفييتي. لم تعُد هناك بعثات فلكية تُغادر الأرض حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وانهار برنامج الكواكب، نظرًا إلى تقويض قُدرة مكتب تصميمات لافوتشكن بسبب نقص التمويل. في عام ١٩٨٨، أطلق السوفييت مركبتَي «فوبوس» الفضائيتَين لتصوير المريخ والاقتراب من القمر المريخي الذي يحمل الاسم نفسه. فشلت إحدى المركبتَين في العبور، بينما تحطَّمت الأخرى في المدار قبل وقتٍ قصير من وصولها إلى القمر الصغير. وأُجرِيَت محاولةٌ أخرى لإتمام مهمة «فوبوس» في عام ١٩٩٦، بالتعاون بين وكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية، ومحاولة أخرى في عام ٢٠١١، بمشاركة صينية، ولكنَّ كِلتَيهما فُقِدتا أثناء الإطلاق بسبب ضَعف مُراقبة الجودة في صناعة الفضاء الروسية. بعد ذلك ركَّز قادة الدولة بدلًا من ذلك على إبقاء برنامج رحلات الفضاء المأهولة نابضًا بالحياة، مدعومًا بالمال الأمريكي بعد أن دمج البَلدان برامجَ محطات الفضاء الخاصة بهما في ١٩٩٣-١٩٩٤.21

إذا كانت نهاية الحرب الباردة مُدمِّرةً بالنسبة إلى علوم الفضاء السوفييتية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فقد كانت آثارها على الولايات المتحدة أكثر وضوحًا. مع انتهاء سباق الفضاء، انخفضت ميزانية وكالة ناسا تدريجيًّا خلال التسعينيات، وتفاقَم الانخفاض نتيجةً للإحراج الذي مُنِيَت به بسبب عُطل تليسكوب هابل، وأيضًا نتيجة لسُمعتها بأنها قد أصبحت بطيئةً وبيروقراطية. إلا أنَّ علوم الفضاء الأمريكية واصلَت تقدُّمها وازدهارها، مما يُشير إلى أنها قد خلقَت زخمها المؤسَّسي والسياسي الخاص بها. تعتمد مراكز الفضاء والجامعات والمؤسَّسات غير الربحية وشركات المقاولات والوكالات على استمرار التمويل الحكومي، وقد كان السياسيون سُعداءَ بوجود وظائف عالية التقنية ذات أجورٍ عالية في مقاطعاتهم. كما حافظت الاستثمارات في علوم الفضاء على استدامة الريادة التكنولوجية الوطنية، التي دلَّت عليها التداعياتُ في مجال الدفاع وأيضًا البعثات الناجحة، ومن ثمَّ حقَّقت للولايات المتحدة هيبةً ومكانة على المستوى الدولي.

ومع ذلك، فإنَّ الجمع بين عدم الرضا السياسي ببيروقراطية ناسا وضغوط الميزانية أجبر الوكالة على إصلاح برامج علوم الفضاء الخاصة بها في التسعينيات. في عام ١٩٩٢، أحلَّت إدارة بوش الأولى دانيال جولدين — مدير تنفيذي هندسي من شركة مقاولات دفاعية كبيرة — محل مدير ناسا ريتشارد ترولي الذي كان رائدَ فضاءٍ سابقًا. وقد استمرَّ جولدين خلال فترتَي رئاسة بيل كلينتون بسبب تغييره الهائل للوكالة. سرعان ما وُصِفَ برنامج جولدين بأنه «أفضل وأسرع وأرخص»؛ لأنه كان يهدف إلى تخفيض الهيكل الهرمي للوكالة وتقليل الأعمال الورقية وتقليل مجالس المُراجعة وزيادة المخاطرة، بناءً على الخبرات المكتسَبة من مبادرة الرئيس ريجان القصيرة الأمد المَعنيَّة بالدفاع الصاروخي في الفضاء والتي أُطلِقَت في الثمانينيَّات.22

كذلك تأثر برنامج الكواكب الخاص بناسا تأثرًا ملحوظًا. وكانت مبادرات الإصلاح قد بدأت من قَبل تولِّي جولدين زمام الأمور، بسبب التجارِب غير السعيدة التي مُنِيَت بها ناسا في الثمانينيات. وقد استُهلِك جزء كبير من ميزانية علوم الكواكب لسنواتٍ عديدة في مشروعَين لإنشاء مركبتَي فضاء كبيرتَين، وفي مهمة رادار ماجلان للكشف عن سطح كوكب الزهرة الذي تُغلِّفه سحابة من الغازات، وأيضًا في جاليليو المركبة المدارية ومسبار الغلاف الجوي التي أُرسِلَت لدراسة كوكب المشتري. وأضافت السياسة المكُّوكية الخاصة بوكالة ناسا وحادث انفجار «تشالنجر» مزيدًا من النفقات والتأخير، على الرغم من نجاح كلٍّ من المركبتَين الفضائيتَين بعد أن عانتا من أعطالٍ خطيرة في الرحلة. وفي الوقت نفسِه، أُجرِيَت محاولةٌ لإنشاء مركبة فضائية منخفِضة التكلفة، ولكن هذه المحاولة تجاوزت الميزانية المحددة وأنتجت مركبة فضائية واحدة فقط: «مارس أوبزيرفر»، التي انفجرَت قبل وصولها إلى الكوكب مباشرةً في عام ١٩٩٣.

كانت المحاولة الثانية لخفض التكاليف أكثر نجاحًا. أتاح برنامج «ديسكفري»، الذي صدَّق عليه الكونجرس في العام نفسِه، لاستكشاف الكواكب، بعثاتٍ أقلَّ تكلفة وأكثرَ ابتكارًا، اختِيرت بعد التنافس بين فرق العلوم والهندسة. أصبح مُختبَر الفيزياء التطبيقية التابع لجامعة جونز هوبكنز المنافس الرئيسي لمُختبر الدفع النفَّاث وبنى أول مركبة «ديسكفري» جرى إطلاقها والتي أطلق عليها «مُلتقى الكويكبات القريبة من الأرض». وقد حلَّقَت بالقُرب من كويكبٍ صغير، ودخلَت في مداره وأخيرًا هبطت على الكويكب «إيروس» في الفترة ٢٠٠٠-٢٠٠١. وقد حقَّقت مركبة «مارس باثفايندر»، نظرًا إلى تمتُّعها بمسارٍ أقصر بكثير، هبوطًا مُبتكرًا مُريحًا في ١٩٩٧، وفور هبوطها على سطح المريخ خرجَت منها طوَّافة صغيرة بدأت في التجوُّل على سطح الكوكب. وكانت أول مركبةٍ ناجحة تصِل إلى الكوكب الأحمر في عقدَين.23
ومع ذلك، فشلت البعثتان التاليتان اللتان أرسلهما مُختبر الدفع النفَّاث إلى كوكب المريخ بشكلٍ مُحرِج في عام ١٩٩٩، مما يدلُّ على أن القيام بأشياء محفوفة بالمخاطر بتكلفةٍ زهيدة له حدوده. عانى برنامج جولدين «الأفضل والأسرع والأرخص» من انتكاسةٍ سياسية جعلته يُحجِم عن المخاطرة، وأنهت فترة ولايته في وكالة ناسا بسرعةٍ أكبر. لم تكن هاتان المهمَّتان المريخيَّتان جزءًا من برنامج «ديسكفري»، ولكن هذا البرنامج دخل في أزمةٍ أيضًا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وذلك بفضل الافتراضات الشديدة التفاؤل بشأن التكلفة والجدول الزمني المطلوب للقيام بأشياء أكثر طموحًا، مثل صدم مُذنَّب، أو وضع مركبةٍ في المدار حول كوكب عطارد. ومع ذلك، أنتج برنامج «ديسكفري» سلسلةً من الرحلات الفضائية، لا سيما للمذنَّبات والكويكبات، وأثبت قيمة المنافسة. وسَّعت ناسا نطاق الفكرة بحيث يشمل البعثات المتوسِّطة الحجم، وفي أواخر عام ٢٠٠١ أعطت مؤسَّسة البحث الجنوبية الغربية ومُختبر الفيزياء التطبيقية مهمة التحليق بالقُرب من كوكب بلوتو، الذي وصل إليه مسبار «نيو هورايزونز» في عام ٢٠١٤. وفي الوقت نفسه، حصل برنامج «مارس» التابع لناسا على زخمٍ كبير بعد فشل عام ١٩٩٩، مع سلسلةٍ من المَركبات المدارية وثلاث طوَّافات متجوِّلة تستكشف سطح المريخ، اثنتان منها وهما: «أوبورتيونيتي» و«كيوريوسيتي» لا تزالان تعملان حتى كتابة هذه السطور.24
على الرغم من الاستثمار الهائل والنجاح الذي لا مَثيل له الذي حقَّقته أمريكا في استكشاف الكواكب في فترة ما بعد الحرب الباردة، فيجدُر بنا أن نذكُر أن أوروبا ثم آسيا قد ظهرتا كلاعبَين جادَّين في هذا المجال، لا سيما بعد عام ٢٠٠٠. حملت المَركبة المدارية «كاسيني ساتورن» التابعة لناسا، التي تمَّ إطلاقها في عام ١٩٩٧، مسبارًا أوروبيًّا هبط على قمر زُحَل «تيتان» في عام ٢٠٠٥. ونجحَت مركبات وكالة الفضاء الأوروبية المدارية التي هبطت على سطح القمر والمريخ والزُّهرة في مهامِّها بين عامَي ٢٠٠٣ و٢٠٠٦، كما تعاونت الوكالة مع روسيا لوضْع مركبةٍ فضائية جديدة حول المريخ في ٢٠١٦. ووصلت المركبة الفضائية التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية «روزيتا» — أو رشيد — إلى أحد المُذنَّبات في عام ٢٠١٤، وأسقطت مركبة هبوط صغيرة على سطحه. أما اليابان، التي بدأت بمهمة جُسيمات وحقول صغيرة للتحليق بالقُرب من مذنَّب هالي في عام ١٩٨٦، فنجحت في بعثاتها في القمر، والزهرة، وفي أحد الكويكبات وأحد المذنَّبات في التسعينيات من القرن العشرين وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وبدأ برنامج استكشاف القمر الخاص بالصين ﺑ «تشانج ١» في عام ٢٠٠٧، وفي عام ٢٠١٥ هبطت «تشانج ٣» على سطح القمر وانطلقت منها حوَّامة صغيرة. كذلك نجحت الهند في الوصول إلى مدار القمر في ٢٠٠٨ والمريخ في ٢٠١٢.25

على الرغم من الاستثمار الهائل والنجاح الذي لا مَثيل له الذي حقَّقته أمريكا في استكشاف الكواكب في فترة ما بعد الحرب الباردة، فيجدُر بنا أن نذكُر أن أوروبا ثم آسيا قد ظهرتا كلاعبَين جادَّين في هذا المجال، لا سيما بعد عام ٢٠٠٠.

انكشف النقاب عن قصةٍ مُماثلة في علم الفلَك الفضائي بعد الحرب الباردة؛ فقد موَّلت الولايات المتحدة، التي كانت تتمتَّع بميزانية مَدنية مُخصَّصة لعلوم الفضاء أكبر من الميزانيات التي خصَّصتها أي دولة أخرى للفضاء، مجموعة من البعثات المهمَّة إلى الفضاء، في حين بدأ الأوروبيُّون واليابانيون في اللَّحاق بالرَّكْب. حوَّلت عمليات إصلاح وصيانة وتحديث تليسكوب هابل التابع لوكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية بواسطة روَّاد الفضاء هذا التليسكوب هابل من مثار سخريةٍ على شاشات التليفزيون إلى مَركبة فضاء شهيرة لجمع البيانات الأساسية حول الكون. الجدير بالذِّكر بشكلٍ خاص هو التوصُّل، بمساعدة المراصد الأرضية، إلى قياسٍ دقيق إلى حدٍّ ما لمدى سرعة تمدُّد الكون، مما أدى إلى تحديد الوقت الذي انقضى منذ الانفجار الكبير: ١٣٫٧ مليار سنة. أنتجت المراصد الكبرى الأخرى كميةً هائلة من البيانات عن الثقوب السوداء والنجوم المُتفجِّرة وسُحب الغبار والتطوُّر المبكِّر جدًّا للمجرَّات. وأضافت أجهزة التليسكوب الصغيرة والمتوسطة التابعة لوكالة ناسا إسهاماتٍ مُتخصِّصة، مثل تعيين مواطن الشذوذ في إشعاع خلفية الكون الباهت الذي خلَّفه الانفجار الكبير، وتُشير هذه المواطن إلى بذورِ أقدمِ تطوُّرٍ للمجرَّات والنجوم. بعد تحقيق إنجازٍ تكنولوجي هائل في المعدَّات الأرضية التي أثبتت لأول مرة أنَّ الكواكب تدور بالفعل حول نجومٍ أخرى. عثر تليسكوب «كيبلر» التابع لناسا على آلاف الكواكب الأخرى ولا يزال يفعل ذلك حتى اليوم.

أسهمَت وكالة الفضاء الأوروبية في جميع المجالات أيضًا، حيث أطلقت بعثاتِ فضاء رائدةً مثل «هيباركوس» و«بلانك» لقياس مواضع وحركات الملايين من النجوم في مجرَّتِنا بدقة، مما أسفر عن قياساتٍ دقيقة للمسافات وفَهمٍ أفضلَ للمنطقة المُحيطة بالشمس. ابتداءً من عام ١٩٧٩، بدأت اليابان في الدَّوَران حول الأقمار الصناعية الفلكية أيضًا، لا سيما المُتخصِّصة في عِلم الفلك بالأشعة تحت الحمراء والأشعة السينية. وقامت الصين والهند الأقل تطوُّرًا اقتصاديًّا بإنجازاتٍ أقل، حيث أعطت كلٌّ منهما الأولوية للتطبيقات المَدنية أو العسكرية العملية، وللبعثات التي تُحقِّق لهم مكانةً دولية، مثل الرحلات إلى القمر والكواكب.

وأخيرًا، دعمت الاستثمارات الضخمة التي خصَّصتها وكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية واليابان شبكةً مُتنامية من الأقمار الصناعية لمراقبة الشمس وانفجاراتها باستمرار. تمَوضعَتْ بعض هذه الأقمار الصناعية في مدارٍ يبعُد مليون ميلٍ عن الأرض، عند نقطة توازُن خاصة بين الجاذبية الأرضية والشمسية، مما يسمح بمُراقبةٍ دائمة على مدار الساعة للانفجارات الشمسية وانبعاثات الجُسيمات المشحونة التي من شأنها أن تؤثِّر على الغلاف المغناطيسي للأرض. تتسبَّب أحداث «الطقس الفضائي» هذه في حدوث أضواء الشفَق القُطبي الرائعة (الأضواء التي تتكوَّن في سماء القطبَين الشمالي والجنوبي)، ولكنها تُهدِّد أيضًا البنية التحتية المُتنامِية للأقمار الصناعية في مدار الأرض، ومن خلال التيَّارات التي تُسبِّبها العواصف المغناطيسية، تُهدِّد كذلك البِنية التحتية الأرضية مثل شبكات الطاقة الكهربائية. وهكذا تزايَد الاندماج بين عِلم الفلك الشمسي الفضائي والفيزياء الفضائية، اللذَين يشتركان في أصلٍ مُشترَك في رحلات «في-٢» بعد الحرب العالمية الثانية، في مجالٍ مُتعدِّد التخصُّصات وصفَتْه ناسا ﺑ «الفيزياء الشمسية». يتم دمج البيانات من تجارِب الجُسيمات والحقول التي تُجريها المركبات الفضائية التي تدور حول الأرض والمركبات بين الكواكب والخاصَّة بدول متعددة مع عمليات المراقَبة الشمسية الأرضية والفضائية، مما يخلُق لأول مرةٍ الخطوط العريضة لرؤيةٍ شاملة لتأثير الشمس على النظام الشمسي بأكملِه.

الخلاصة

ما الذي تعلَّمَتْه البشرية مما يقُرب من خمسةٍ وسبعين عامًا من علوم الفضاء واستكشافه؟ كما يتَّضِح من المِثال الأخير، تعلَّمَتْ قدرًا هائلًا. لقد أدَّى علم الفضاء، بدعمٍ من ثورة مَركبات الفضاء الآلية غير المتوقَّعة، ولكن في بعض الأحيان أيضًا من خلال الاستكشاف البشري المباشر، وبالاقتران مع المراصد والمُختبَرات الأرضية المُتزايِدة التطوُّر، إلى الوصول إلى فَهمٍ مُتزايد لتطوُّر كوكبنا، ونظامنا الشمسي ومجرَّتنا وكوننا بأكمله. ولقد بدأنا أيضًا في جمع البيانات حول إمكانيات ومخاطر إرسال البشر إلى أعماق الفضاء، ووضعْنا الأساس لاكتشاف الحياة خارج كوكب الأرض، ربما في المستقبل القريب. ولن يُحقِّق إنجاز رحلات الفضاء المفاجئ ما هو أعمق من ذلك. لكن تكنولوجيا الفضاء قد خدمت أيضًا غرَضًا آخَر؛ تغيير الحياة على كوكب الأرض من خلال شبكات الأقمار الصناعية التي أصبحت ضروريةً في وجودنا اليومي، بصرْف النظر عمَّا لهذا من مردودٍ إيجابي أو سلْبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤